أرخت جفنيها المشتاقتين للكرى بعد انتظار ثقيل كاد أن يعانق قلبها المخملي بالحنين والود والأحلام ، تجذرت فوق الكرسي تنتظر فارس الأمنيات بتوق وشوق وعتاب .. " آه منك يا وسيم ، أخذت لبي وتركتني جسدا ممدا على الذكريات أتلوها أناء الليل وأطراف النهار علك تستجيب لنداءاتي المبحوحة فتهرع لتنقذ ما تبقى من أوجاعي " قالت .
سيطر عليها وجع البرد الشديد على إثره صكت أسنانها تنشد تنغيمة الثلج تطلب لِحَافا ودفأً ، تعبت من الجلوس فنهضت تريد الحركة حتى انتبهت للذي وقف أمامها .. إنه فارس الأمنيات " وسيييييييييم " لم يحرك ساكنا ، دهشت المسكينة ، لم تكن عادته الوجوم.
-قال بصوت ملؤه الغضب :" أمي تطلب أن ننفصل وفورا ، وليس ضغطا عليّ بل هو أيضا صادر من أعماق وقرارة نفسي ، فتقلبي الأمر رجاءً ولا داعي لتذرفي دموعا كالتي تذرفها التماسيح فلم أعد أطيق نظرة الرجاء من عينيك " اتسع فاها من دهشة ما تسمع ، لم يكن لها خيار آخر تعبر به عن الوجع الذي بدأ للتو ينزف أكثر مما نزف في المرة الماضية .. لقد صرف عنها سلاحها المتين " الدموع " وجردها بجملة واحدة عن كل الأسلحة التي قد تخطر ببالها .. هذه المرة قسى فعلا عليها ، هذه المرة صدقا سيمحوهاليذهب لحبيبة وعشيقة أخرى بل ربما قد يتزوج عليها .. وأنا .. وأنا !
-" من فضلك يا وسيم .. أنا أرجوك لا تتركني ..لا ترمني في وحل الرمال يتقاذفني زبد الهجر بحلول القمر .. تُراني لا أبصر بعدك شيئا وقد تركتني للظلام المخيف فكيف بنفسي أن تتحمل ؟ " -"يا سمين .. يبدو أنكِ لا تفهمين .. كم مرة عليّ الإعادة .. تعِبَتْ مفاصل فكي فارحمني وارحميها وافهميني وافهمي أمي " -ببكاء حار ومر " نعم لا أفهم ، لا أفقه ، ببساطة لا أريد أن أستوعب هجرك لي .. ألا تحبني ؟ ألم تعهد لي برغد المشاعر وصفو الأحلام و سرمدية القرب ، ألم تعهد لي بذلك الحلم الصغير الذي اكتسح أوردة قلبي وصار ينبض بشرايين الامل .. اااا نعم إنه أمر والدتك ويجب أن تنفذ وإلا صرت بلا مأكل ومشرب ولا عمل وبيت ، تخافها لدرجة أنك ستستغني عني .. أنا لا أطلب بيتا ولا أكلا ولا شربا ، أطلب قربا وصفوا ونفسا تلفها على قلبي المتعب .. ففكر من جديد ولا تدع شيطان البعد يوسوس لك " -باستهزاء :" شيطان البعد ؟ مازلت كما أنت تحلمين بواقع وردي .. أفيقي أفيقي يا بنت أنا الآن رجل بكبريائه و عمره الثلاثني لم أعد فتى الطيش يلهو على أنغام الحب وترانيم العشق " -تستطعم مرارة الحزن في حلقومها :" إذن لماذا انفصلت عني المرة الماضية وعدت فوجدت بابي مشرعا على مصرعيه مفرشا بالزهور والابتسامات ، معطرا بالجوري والرياحين .. أتحسب أنني فندق تخرج وتدخل كما تحب وترضى ، طيب ، يبدو أنه لهنا وكفى بيدَ أنني سأكون في عداد الأموات إلا أن خافقي سيعلن حربا هوجاء من الآن ، وضعت كرامتي ومرامي بين يدين متقلبتي المزاج ، حسنٌ يمكنك المضي أرجو عدم الالتفات بل ولا تفكر في الرجوع فحينها اقرأ الوداع ووسمه بختم النهاية والسلام " حملت حقيبتها بعنف ومضت مضيا كعاصفة تعلن البدء ـ أما فتى الامنيات ابتسم لنفسه وطَفِقَ ينظر الأرْضَ عله يلملم كلماتها القاتلة .. " كانت على حق أنا لا أستطيع أن أكون مغامرا ولا أملك ثُمْنا من الشجاعة ، رباه كيف لي أن أحتويهما ؟ "
فتحت ياسمين باب غرفتها والعنف صار صفتها الملازمة -" معتوه ، مجنون ، غبي ، قد ترك أجمل فتاة في المجرة لأجل مأكل ومشرب ، أين يجد مثل طيبتي ووفائي "
القت بنفسها على السرير تكلم عقلها وتحاول إرضاء قلبها .. ثم وبنبرة المرارة قد رجعت لحلقومها
-" لماذا لماذا لماذا لا يتحدى الكون لأجلي ؟ "
دارت على أحد جنبيها وضمت نفسها حتى أصبحت كتلة واحدة وبصوت البكاء أخذت تشهق وتجهش وتصرخ صراخ الصمت
-" كيف ستأستنشق رائحة التراب ببعدك يا وسيم ، وكيف لقطرات المطر أن تنزل رحبا وسهلا على نافذة حبنا .. وكيف لعبق الشتاء أن يبحث عن أنفاس الحب من جديد ، أظنها حكاية خرافية تمر عليّ ، حكاية شتاء وأنين .." وغاصت في سلطان النفس " النوم " .
وعلى ضفة الوجع الأخرى .. تقلب وسيم ألف مرة على أريكة الدب كما يسميها ، كانت قبل هذا يعتبرها المريحة من أرائِك المنزل كلها .. أما وبقرار أمه ضاقت به الدنيا وما رحبت حتى أريكة الدب و حضن الأم وبسلم كلام الجدة ..
- " ليس قراري يا ياسمين إنها أمي ، اجبرتني على الانفصال ولقنتني تفاصيل الكلام معك حتى أبدو كالصارم الذي قرر وحده الابتعاد .. ياليت صوتي يصلك بأنني لست أنا من قرر , لست أنا " ثم تقلب على الجهة الأخرى " ولكنت صادقة ولم تكذبي ، متقلب المزاج أنا ، وماذا أفعل ، ماذا أفعل ؟ " وأطلق صرخة تحركت لها ساعة الحائط من الصدى
السلام عليكم بصراحة ممتازة جدا جدا بصراحة لم أجد مواطن نقص راقتني طريقتك في الوصف الدقيق لان هذه الطريقة مطلوبة جدا في كتابة القصة أو الرواية راقتني أيضا طريقة تنظيمك للحوار عالية الدقة راقتني كذلك انتقاؤك الموفق لبعض الألفاظ التي تتناسب و موضوع قصتك على العموم أكثر من رائعة حكايا الورد تشكر لك ابداعك و تتمنى لك كل التوفيق و في انتظار البقية بشوق
أصبحت ياسمين غارقة الهم والحزن ، شاحبة الكلام والمظهر ، عنيفة الرد والصفع ، تأكل الماء وتشرب الخبز يبدو أن حياتها انقلبت بمرور شهر على لُقياها لوسيم ، تنهدات ملأت حياتها وفراغ موحش سكن فؤادها وأنفاس عفنة بمضغة جوار قلبها
-" نعم قد عاش دوني ، أفيقي يا بنت ، اخرجي هذا المعتوه من رأسك "
وتضرب جبهتها إما بيدها أو على الحائط ، استسلمت للواقع المرير الذي لحق بها ، عاشت بعدها مسلوبة الحال والبال ، تمضي لعملها ترجع للبيت ، تستلقي على السرير تمارس هوايتها الحبيبة " التحديق في السقف " كان ما سليها في خضم هذه الوحشة " زجاج نافذة الحافلة " التي تتضبب بأنفاسها المريضة ، وكأنها تقول :
-" أَلْفظي ، ألفظي ما شئت فها أنا أسمعكِ "
-ثم ترد ياسيمن " يا ليتكَ يا زجاج ترأف ببخاري فلا تجعله ماءً تنظف به سطحك "
-" ألا تفهم يا أخانا ، إن هذه العلاقات محرمة ، كيف تريديني أن أتسخ بوحل حبك وأرتشف دناءة العشق ؟ افهمها إنه ليس بقراري أنه أمر رب العالمين "
اتسعت حدقتا ياسمين للكلمة الأخير ، قد سمعت هذه العبارة منذ أكثر من شهر لكن بصيغة لا بل بشيفرة أخرى [ ليس قراري إنه قرار رب العالمين ] ، ظلت تردد " أمر رب العالمين ، أمر رب العالمين .. "
توقفت الحافلة لتعلن نزول الراكبة التي نطقت بهذا الكلام ، دون إرادة انتفضت ياسمين من مكانها رغم أن محطتها مازالت على بعد بعيد ، تبعتهما ، الذي يحاول اقناعها أن تكون خليلته والفتاة تمشي بخطى واثقة غير مائلة وممائلة ، هو يترجاها وهي تستهديه الله ـ هو يملي عليها صفاته وخصاله وهي تذكره بتقى الله ، تعجبت ياسمين مما تفعله هذه الفتاة أنه فتى حسبما قال [ يحبها ] وهي ترفض رفضا ثابتا غير مبالية بما يقول :
-" اتق الله يا فتى لست من أهل الاهواء في شيء ألا تقرأ قوله تعالى " ولا متخذات أخذان " ونفس الشي ما قيل لكم " ولا متخذي أخذان " إنه أمر الله لا قراري "
ملّ الذي كان يتبعها فتوقف عن المشي وقال :" عنيدة ولا أخالل العنيدات " وسلك طريقا غير طريقها ، فتهدت الصعداء .
ياسمين ظلت تلحق بها إنه مغناطيس ، مغناطيس من نوع آخر ، توقفت الفتاة والتفت ظنا منها أن هناك مزيدا من الهاوين يتبعونها ،
-" الحمد لله لم يتبعني رجل هذه المرة .. الحمد لله "
-ياسمين :" عذرا لم أقصد أن أتبعك ولكن شدني ما قلت ، فتبعتك دون إرادة مني " - الفتاة : " وماذا قلت ؟ " -ياسمين :" اااا قلتِ أنه ليس قراري بل أمر الله " - الفتاة :" نعم وهو كذلك ، ولكن تعالي إلى هنا نجلس حتى نتخذ راحتنا في الكلام "
جلستا و تنهدت الفتاة تنهيدة متعبة وأردفت تقول :
-" هناك فرق بين أن تقرري وبين أن تتخذي أمرا أوجبه الله لك ، القرار قد يتدخل فيه من شاء وقابل للتغيير بتغير الحال والزمن والعباد والجياد ، أما أمر الله فصالح لكل زمان ومكان لا تنثني عنه وإن فعلتِ طرب الشيطان فرحا بإغوائك "
-ياسيمن :" كلامك درر أخيتي .. فكيف حالك دون خليل ؟ "
-الفتاة :"صدقا سؤال يستوعب كل أسئلة الحب والعشق ، ولأضرب لكِ بمثال حي ، أخي العزيز منذ أكثر من شهر انفصل عن خليلته طلبا في راحة القلب وهناء النفس والأهم : رضى الرب .. أخي لم يقتنع ومازال غير مقتنع ، إلا أن والدتي لم تُبْقي خيارا له فهددته بالرحيل إن لم يكن طوع أمرها ، وهو في الحقيقة أمر الله يا أختي .. "
التفتت الفتاة لترى قسمات وجه ياسمين من كلامها الأخير .. وجدتها تائهة مركزة نحو شيء ما ، عيناها لا تتحركان ، الدموع وكأنها غيثٌ يهطل ، إحساس آخر شيء ما تحرك في قلب ياسمين ، شيء ما وخزها ،
إن هذه الفتاة تتحدث عن " وسيم " وعن " أمه " أي أنها " أخته "
-قالت ياسيمن :" سبحــــــان الله "[ تقصد مصادفة لقائها مع أخت وسيم]
-الفتاة :" أرأيت رحمة الله ، إن من أراد طلب راحة قلبه عليه بأمر الله ، فالله أعلم بما ينفعنا وبما يضرنا فلماذا نمشي عكس ما أمر ؟ ، إنه لوالله خسران كبير ، آمل أنكِ لم تجربي إحساس التعلق بأحد ، فإن هذه النفس قد تصبح في لجج النيران بفقد ثقتها بالله و قنوط من رحمته ويأس وذنوب فوق ذنوب نسأل الله السلامة ، ألا تمعنتِ في قوله تعالى :" يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا " انظري رحمكِ الله لهذا الندم .. ندم وقد يقود لدركات جهنم ، إلا من رحمه الله وكان من التوابين "[ ظانة أن السبحلَ عن تأثرها بكلامها الأول ]
أنصتت ياسمين لهذه التذكرة التي طوتها ملذات السنين ، أين كانت من هذا الجلل ، ماقالته " أخت وسيم " ينطبق انطباق القمر على وجهه الثاني لحالتها بعد انفصالها عن وسيم ، والذي قَوَّى الشوكة التي غُرِزَتْ فيها ، إن والدته تريد إصلاحه وبسببها هي ، هددته ... " يا رب يارب "
حينها أدركت أنها تمشي في سبيل تحته نار جهنم وبئس المصير ، أمسكت ياسمين يد " اخت وسيم " وقلبها يهتف بالدعاء والخير وفمها يردد عبارات شكر والامتنان ضمتها وسلمت على رأسها و غدت تقطع الممرات والطرقات بقلب وعبق وحياة جديدة ، إنها للتو علمت كيف تثبت وتتقي شر هذه الترهات ومن علمها ؟.. " اخت وسيم " ، أنقذتها من قعر الخضيض نحو سطح الأمل
تعب وسيم من مناجاة نفسه بالصبر و الرضى -" لا ياسمين بعد الآن ، لا ياسمين بعد الآن "
لاجدوى ، حمل نفسه وألبس جسمه معاطفا و أوشحةً قاصدا ودون وعي إلى
" بيت ياسمين "
حاول الاتصال ، ذهب نحو بيتها ، انتظر لعلها تطل على نافذة حبهما ، لم تعد تنتظره هذه المرة ، التحف جيدا واستجمع زاده من الصبر آملا في أن تلقي نظرة للخارج أو تخرج من البيت ، المساء كله ، الليل ، اليوم ، اليوم التالي ...
-" مابها ؟ هل أصابها مكروه ما ؟ اللهم استر "
بدأ يدور حول المنزل ، يسأل عنها هذا ويتربص به ذاك
حتى قال له أحد بائعي الدكان : -" يا بني هل تريد خطبتها ؟ "
-وسيم :" إن شاء الله يا عم "
-العم :" الفتاة زَهُدَتْ في الحياة ، كل شيء دار بــ 360 درجة في حياتها ، كانت تتكلم مع هذا وتلعب مع ذاك وتمرح مع الآخر ، طريقة لباسها أصبحت حيية مستورة ، سبحان الله مغير الأحوال "
-وسيم في حيرة :" ومنذ متى هذا التحول يا عم "
-العم:" منذ أيام قليلة جدا "
-وسيم وازدادت حيرته حول وقت تغيرها " شكرا لك ياعم شكرا "
"شهر لايكفي لتعيد نفسها ، ليست هي ياسمين التي أعرفها ، شيء ما اطاح بما تملكه من وفاء لي "
في هذه اللحظة وحين هم وسيم الخروجَ من دكان العم ، دخلت ياسمين بلباسها السوداوي المحتشم وغَضّةُ بصرها لا تفارق الأرض .. ودون أن تنتبه أصلا لوجود وسيم قالت: -" السلام عليكم يا عم ، عساك بخير؟ "
-العم وهو ينظر لوسيم ووسيم لايصدق أنها هي " وعليك السلام يا ابنتي اتيت في وقتك ، إن هذا الفتى يسأل عنكِ .. "
أدارت بوجهها نحوه وهي تتفحص ملامحه وببرود شديد و كلامات دقيقة وثابتة قالت - " ماذا تريد أيها الفاضل ؟" -وسيم " فاضل ؟ ياسمين هل بكِ حمى ؟ " -ياسمين " باختصار من فضلك ماذا تريد ؟ " -وسيم " اااا ، هل الباب مغلق ؟ " -ياسمين : " ألا تفهم . يبدو أنكَ أصبت بالصمم ، لابأس سأعيد ، بابي أَغْلَقْتهُ بالتقوى وإن طرقته ولم أفتح فاقرأ الوداع ووسمه بختم النهائية والسلام " ثم قضت حاجتها عن العم وخرجت بسمتٍ ووقار ملحوظين ووسيم دارت به المنقلة التي نقلت حال ياسمين إلى هذه الحياة
-تذكرت ياسمين شيئا فرجعت حيث تركته مشدوها الفاه ، قائلة :" بلغ شكري و امتناني العميقين لأختكَ ولوالدتكَ خـــــــــاصة " -وسيم " أختي ؟ وكيف عرفتِ أن لي اختـــا ؟ " -ياسمين :" لترأف بحالك المسكينة يا فاضل ، وتذكر قوله تعالى :" ولا متخذي أخذان "" انهارت قوى وسيم ، وجد صعوبة في التنفس ، أظلمت عيناه وفقد سمعه للحظات ، إنه هذه الكلمات رددتها له والدته تريليون مرة وأختك ما لبثت تنصحه وتيعث بقلبه تقوى وإيمانا ، وهاهي ياسمين الغافلة تأخذ شعارهما ... وماذا عني ؟ استرجع نفسه بعد تلك الطعنة المنْقِذَة ، قد عـــــــــــــاد بــ " نفس جديدة "