- إنضم
- 28 جانفي 2008
- المشاركات
- 3,616
- نقاط التفاعل
- 18
- النقاط
- 157
- الجنس
- ذكر
لماذا اخترت المنهج السلفي
لقد تضافرت الأدلةُ من كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأقوالِ الصحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم على مدحِ من اتبعَ سبيلَ السَّلَفِ وذمّ من لم يَفعل ذلكَ، وهذه أُمورٌ تؤكدُ وجوبَ ذلك، وأنَّه طريقُ النجاةِ وطوقُ الحياةِ.
وها نحنُ نرشقُ شكَّ المترتبِ ببضعة عشرَ سهماً؛ لتنداحَ سبيل المؤمنينَ عن شجرةِ اليقينِ، فنجني من أعلاها المغدقِ حلاوةَ الإيمانِ، ونتقلَّبَ تحتَ أسفلها المورقِ في أفوافِ روح وريحان.
* الأوَّلُ - قالَ تعالى: (والسابقونَ الأولونَ من المهاجرينَ والأنصار والَّذينَ اتبعوهم بإحسانٍ رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جنّاتٍ تجري مِن تحتَها الأنهارُ خالدينَ فيها أبداً ذلكَ الفوزُ العظيمُ) ]التوبةُ: 100[ .
وجه الدلالةِ: أنَّ ربّ البريةِ أثنى على من اتبعَ خيرَ البريّة، فعُلِمَ أنَّهم إذا قالوا قولاً فاتبعَهم متبعٌ، فيجبُ أن يَكونَ محموداً، وأن يستحقَّ الرضوانَ، ولو كانَ اتباعهم لا يتميزُ عن غيِرهم لا يستحقُّ الثناءَ والرضوان .
* الثاني- قالَ جلَّ ثناؤه: (كنتم خيرَ أُمّةٍ أُخرجت للنّاسِ تأمرونَ بالمعروفِ وتنهونَ عن المنكرِ وتُؤمنونَ باللهِ ]آل عمران: 110[.
لقد أثبَت اللهُ لهم الأفضليّةَ على سائرِ الأممِ، وذلكَ يَقتضي استقامتُهم على كلَّ حالٍ؛ لأنَّهم لن يَزيغوا عن البيضاءِ، فقد شهدَ اللهُ لهم أنَّهم يأمرونَ بكلَّ معروفٍ، وينهونَ عن كلَّ منكرٍ، وذلكَ يستلزمُ أنَّ فهمَهم حجةٌ على من بعدِهم حتّى يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.
فإن قيلَ: هذا عامٌّ في الأمةِ لا يَختصُّ بجيل الصحابةِ دونَ من بعدَهم.
قلتُ: هم المخاطبونَ ابتداءً، ولا يدخلُ من تبعهم بإحسانٍ إلاّ بقياسٍ، أو بدليلٍ
كما هو الدليلِ الأوّلِ .
وعلى تسليم العموم - وهو الصوابُ - فإنّ الصحابةَ أوّلُ داخلٍ في شُمولِ الخطابِ، فأنّهم أوّلُ من تَلقى عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بدونِ واسطةٍ، وهم المباشرونَ للوحي.
وهم أولى بالدخولِ من غيرهم إذ الأوصافُ التي وصفَهم اللهُ بها لم يتصف بها على وجه الكمالِ إلا هم، فمطابقةُ الوصفِ لواقعِ الحالِ شاهدٌ على أنَّهم أحقُّ من غيِرهم بالمدحِ يُوضحه:
* الثالث - قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خيرُ النّاسِ ( 1 ) قرني، ثمّ الّذينَ يَلونَهم، ثمَّ الّذينَ يَلونَهم، ثمَّ يجيءُ قومٌ تسبقُ شاهدةُ أحدِهم يمينه، ويمنينُه شهادتَه ( 2 ).
هل الخيريّةُ المُثبتةُ لجيلِ الصحابةِ في ألوانِهم أو أجسامِهم أو أموالهِم أو ...إلخ ؟
لا يشكُّ عاقلٌ فَقِه الكتابَ والسنّة أنَّ شيئاً من ذلكَ غيرُ مقصودٍ؛ ألبتَّة، لأنَّ الخيريّةَ في الإسلام مقياسُها تقوى القُلوبِ، والعملُ الصالحُ ، قالَ تعالى: (إنَّ أكرمَكم عندَ اللهِ أتقاكم)
]الحجرات: 13[.
وقالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إنَّ اللهَ لا يَنظرُ إلى صورِكم وأموالِكم ولكن يَنظرُ إلى قلوبِكم
وأعمالِكم ( 1 ).
ولقد نَظرَ اللهُ إلى قُلوبِ صحابةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فوجدها خيرَ قلوبِ العبادِ بعدَ قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فآتاهم فهماً لا يُدركه اللاحقون، ولذلكَ فما رآه الصحابةُ حسناً فهو عند الله حسنٌ، وما رآه الصحابةُ سيّئاً فهو عندَ اللهِ سيّىءٌ.
قالَ عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه: ( إنَّ اللهَ نَظَرَ إلى قلوبِ العبادِ؛ فوجدَ قلبَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم خيرَ قُلوبِ العبادِ فاصطفاه لنفسِه، فابتعثَه برسالتِه، ثمَّ نَظرَ في قُلوبِ العبادِ بعدَ قلبِ محمدٍ، فوجدَ قلوبَ أصحابِه خيرَ قُلوبِ العبادِ فجعلَهم وزراءَ نبيِّه، يُقاتلونَ على دينِه، فما رآه المسلمونَ حسناً فهو عندَ اللهِ حسنٌ، وما رأوه سيّئاً فهو عندَ اللهِ سيىءٌ )( 2 ) .
وعن أبي جُحيفة قالَ: قلتُ لعليّ: هل عندكم كتابٌ؟
قالَ: ( لا إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجلٌ مسلمٌ، أو ما في هذه الصحيفةِ ) ( 3 ).
قلتُ: فما في هذه الصحيفةِ؟
قالَ: ( العقل، وفكاكُ الأسير، ولا يُقتلُ مسلمٌ بكافرٍ ) ( 1 ).
وبذلكَ يكونُ فهمُ الصحابةِ للكتابِ والسنّةِ حجّةً على من بعدَهم إلى آخرِ هذه الأمةِ، ولذلكَ فهم شهداءُ اللهِ في الأرضِ، يوضحه :
* الرَّابع - قالَ الله تعالى: (وكذلكَ جعلناكم أُمةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكونَ الرَّسولُ عليكم شهيداً ]البقرة: 143[.
لقد جعلَهم المولى عزَّ وجلَّ خياراً عدولاً، فهم أفضلُ الأممِ، وأعدلُها في أقوالهِم وأفعالهِم وإرادتهِم، ولذلكَ استحقّوا أن يَكونوا شهداءَ على النّاسِ، فلهذا نوّه بهم، ورفعَ ذِكرَهم، وأثنى عليهم، وتقبلهم بقَبولٍ حسنٍ.
والشاهدُ المقبولُ عندَ اللهِ هو الذي يشهدُ بعلمٍ وصدقٍ، فيخبرُ بالحقَّ مستنداً إلى علمِه؛ كما قالَ تعالى: (إلا من شهدَ بالحقَّ وهم يَعلمونَ ]الزخرف: 86[.
فإذا كانت شهادتُهم مقبولةً عندَ اللهِ فَلا ريبَ أنّ فهمَهم للدينِ حُجّةٌ على من بعدهم،
لأنَّ هذه الآية أثبتت الدلالة مطلقاً.
والأمةُ لم تعدّل جيلاً مطلقاً إلاّ جيلَ الصّحابةِ، فإنَّ أهلَ السنةِ والجماعةِ عدَّلُوهم على الإطلاقِ والعمومِ، فأخذوا عنهم راويةً ودرايةً من غيِر استثناءٍ، ولا محاشاةٍ، بخلافِ غيِرهم فلم يعدَّلوا إلا من صحت إمامته، وثبتت عدالتُه، وهما لا يمنحانِ لإنسانٍ إلا إذا سارَ على قدمِ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم.
فثبتَ بهذا أنَّ فهمَ الصحابةِ حجّةٌ على غيِرهم في توجيه نصوصِ الكتابِ والسنّةِ، ولذلكَ أمَرَ باتباعِ سبيلِهم، يوضحه :
* الخامس - قالَ تعالى: (واتبع سبيلَ من أنابَ إليَّ ]لقمان: 15[.
وكلٌّ من الصحابةِ - رضي اللهُ عنهم - منيبٌ إلى اللهِ، فهداهم اللهُ إلى الطيّبِ من القولِ، والصالحِ من العملِ بدليلِ قولِه تعالى: (والَّذينَ اجتَنَبوا الطاغوتَ أن يَعبدوها وأنابوا إلى اللهِ لهم البشرى فبشر عباد الَّذينَ يستمعونَ القولَ فيتبعونَ أحسنَه أُولئكَ الَّذينَ هداهم اللهُ وَأولئكَ هم أُوْلوا الألبابِ) ]الزمر:17- 18[.
فوجبَ اتباعُ سبيلِهم في الفهمِ لدينِ اللهِ كتاباً وسنّةً، ولذلكَ هددَ اللهُ من اتبعَ غيرَ سبيلِهم بجهنَّمَ وبئسَ المصير، يوضحه :
* السادس - قالَ تعالى: (ومن يُشاقق الرّسولَ من بعدِ ما تبيّنَ له الهُدى ويتبع غيرَ سبيلِ المؤمنينَ نولّه ما تولّى ونُصله جهنَّم وساءت مصيراً)]النساء: 115[.
ووجه الدلالةِ: أنَّ اللهَ توعدَ من اتبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ، فدلَّ على أنَّ اتباعَ سبيلِهم في فهمِ شرعِ اللهِ واجبٌ، ومخالفتَه ضلالٌ.
فإن قيلَ: هذا استدلالٌ بدليلِ الخطابِ، وليسَ حجّةً .
قلتُ: هو دليلُ، ودونَكَ الدليلُ:
أ – عن يَعلى بنِ أُميّة قالَ: قلتُ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه(فليسَ علَيكم جُناحٌ أن تقصروا من الصلاةِ إن خِفتم أن يفتنَكم الَّذينَ كفروا) ]النساء: 101[، فقد أمن النّاسُ؟
قالَ عمر : عَجبتُ ممّا عَجبت فسألتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عن ذلكَ فقالَ : ( صدقة تصدَّقَ اللهُ بها عليكم فاقبلوا صدقتّه ( 1 ).
لقد فهمَ الصحابيّانِ يعلى بنُ أُميةَ ( 2 ) ، وعمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنهما من هذه الآيةِ أنَّ قَصْرَ الصلاةِ مقيدٌ بشرطِ الخوفِ؛ فإذا أمنَ النّاسُ فلا بدَّ من الإتمامِ، وهذا هو دليلُ الخطابِ المسمّى بـ "مفهوم المخالفة" .
وسألَ عمرُ رضي اللهُ عنه رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فأقرّه على فهمِه، ولكنّه بيَّنَ له أنَّ ذلكَ غير معتبرٍ هنا؛ لأنَّ اللهَ تصدَّقَ عليكم فأقبلوا صدقتَه.
ولو كانَ فهمُ عمرَ لا يصحُّ لما أقرَّه الرسولُ صلى الله عليه وسلم ابتداءً، ثمَّ وجهه هذا التوجيه، ولقد قيلَ: التوجيه فرع القَبولِ.
ب – عن جابر عن أُم مبشر رضي اللهُ عنهما أنَّها سمعتْ النبي يَقولُ عندَ حفصةَ :
( لا يَدخلَ أحدٌ النارَ إن شاءَ اللهُ من أصحابِ الشجرةِ الذينَ بايعوا تحتَها).
قالت: بلى يا رسولَ اللهِ، فانتهرها .
فقالت حفصةُ: (وإن مِنكم إلا واردُها) ] مريم: 71[.
فقال النبيّ : (عليه الصلاة والسلام قد قالَ عزَّ وجلَّ : (ثمَّ ننجي الَّذينَ اتقوا ونذرُ الظالمينَ فيها جثيا)
]مريم: 72[ ( 3 ).
لقد فهمت أمُّ المؤمنينَ حفصةُ رضي اللهُ عنها أنَّ الورودَ لجميعِ النّاسِ، وأنَّه بمعنى الدُّخولِ، فأزالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إشكالَها بتمامِ الآية (ثمَّ نُنجي الَّذينَ اتقوا ]مريم: 72[.
فرسولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام أقرَّها على فهمِها ابتداءً، ثمَّ وضَّح لها أنَّ الدخولَ المنفيَّ غيرُ الورودِ المُثبتِ، وأنَّ الأوَّلَ خاصٌّ بالصالحينَ المُتقينَ، والمرادُ به نفيُ العذابِ فهم يَمرُّونَ منها إلى الجنّةِ دونَ أن يمسَّهم سوءٌ وعذابٌ، وباقي النّاسِ على خلافِ ذلكَ.
فثبتَ ولله الحمدُ والمِنّةُ أنَّ دليلَ الخطابِ حجّةٌ يُعتمدُ عليه، ويعوّلُ في الفهمِ إليه.
ناهيكَ أنَّ قولَه تعالى: (ويتبعُ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ) ليسَ دليلَ خطابٍ، وإنَّما هو احتجاجٌ بتقسيمٍ عقلي؛ لأنَّه ليس بينَ اتباعِ سبيلِ المؤمنينَ واتباع غير سبيلِهم قسم ثالثٌ.
فإذا حرَّم اللهُ جلَّ جلاله اتباعَ غيِر سبيلِهم، وجبَ اتباعُ سبيلِهم، وهذا واضحٌ لا يشتبه.
فإن قيلَ: فإنَّ بينَ القسمينَ قسماً ثالثاً؛ وهو عدمُ الاتباعِ أصلاً.
قلتُ: هذا من أوهنِ ما نطقت به العقولُ؛ لأنَّ عدمَ الاتباعِ أصلاً هو اتباعٌ لسبيلِ غيِرهم قولاً واحداً؛ لقولِه تعالى: (فماذا بعدَ الحقِ إلا الضلالُ فأنَّى تُصرفونَ) ]يونس: 32[، فثبتَ أنَّهما قسمان لا ثالثَ لهما .
فإن قيلَ: لا نسلّمُ أنَّ اتباعَ غير سبيلِ المؤمنينَ موجبٌ لهذا الوعيدِ، بل هو مع مشاقّةِ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم ، فلا يَلزمُ حرمةُ اتباع غير سبيلِ المؤمنينَ مطلقاً بل إذا كان مع المشاقّةِ.
قلتُ: معلومٌ أنَّ المشاقّةَ محرمةٌ بانفرادِها، مستقلّةٌ بنفسِها، لإيجابِ الوعيدِ عليها، كما قالَ تعالى: (ومن يُشاققُ الله ورسولَه فإنَّ اللهَ شديدُ العقابِ) ]الأنفال: 13[.
فدلَّ أنَّ الوعيدَ على كلًّ منهما بانفرادِه، وأنَّ هذا الوصفَ يُوجبُ الوعيدَ بمفردِه، ويدلٌ على ذلكَ أُمورٌ منها:
أ – أنَّ اتّباعَ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ لو لم يَكن مُحرَّماً بانفراده، لم يُحرَّم مع المُشاقّةِ كسائرِ المناجاةِ.
ب – أنَّ اتباعَ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ لو لم يدخلْ بانفرادهِ في الوعيدِ، لكانَ لغواً لا فائدةَ من ذكرِه، فثبتَ أنَّ عطفَه علّةٌ مستقلّةٌ كالأوّلِ.
فإن قيلَ: لا نسلّمُ أنَّ الوعيدَ لمن اتبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ مطلقاً بل بعدَ ما تبيَّنَ له الهدى، لأنّه ذَكَرَ مشاقّةَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وشرطَ فيها تَبَيُّنَ الهدى، ثمَّ عطفَ عليها اتباعَ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ، فيجبُ أن يَكونَ تبيُّنُ الهدى شرطاً في الوعيدِ على اتباعِ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ.
قلتُ: قولُه تعالى: (ويتبع غيرَ سبيلِ المؤمنينَ) معطوفٌ على قولهِ: (ومن يُشاققِ الرسولَ من بعدِ ما تبيّنَ له الهدى) فَلا يَكونُ قيدُ الأوّلِ شرطَ الثاني، وإنَّما العطفُ لمطلقِ الجمعِ والمشاركةِ في الحكمِ، وهو قولُه تعالى: (نولّه ما تولّى ونصله جهنّمَ وساءت مصيراً)، فدلَّ على أنَّ كلا الوصفيِن يوجبُ الوعيدَ بانفرادِه.
ويدلُّ عليه ما يأتي:
أ – أنَّ تَبَيُّنَ الهدى شرطٌ في مشاقّةِ الرسولِ عليه الصلاة والسلام، لأنَّ من جهلَ هدى رسولِ الله عليه الصلاة والسلام
لا يُوصفُ بالمشاقّةِ، أما اتباعُ سبيلِ المؤمنينَ فهو هدى في نفسِه.
ب – أنَّ الآيةَ خرجت مخرجَ التعظيمِ والتبجيل للمؤمنينَ، فلو كانَ اتباعُ سبيلِهم مشروطاً بتبيَّنِ الهدى لم يَكن اتباعُ سبيلِهم لأجلِ أنَّه سبيلُهم بل لتبيُّن الهدى، وعندّئذٍ فإنَّ اتباعَ سبيلِهم لا فائدةَ منه .
وبهذا تبيَّنَ أنَّ اتباعَ سبيلِ المؤمنينَ منجاةٌ، فثبتَ أنَّ فهمَ الصحابةِ للدينِ حجّةٌ على غيِرهم، فمن حادَّ عنه فقد ابتغى عَوَجاً، وسلكَ مكاناً حرجاً، فحسبُه جهنَّمُ وساءت مستقرّاً ومُقاماً ومصيراً، هذا هو الحقُّ فاعتصم به، ودعني من بُنَيّاتِ الطريقِ، يوضحه:
* السابع – قالَ تعالى(ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراطٍ مُستقيمٍ)
]آل عمران:101[.
والصحابةُ رضي اللهُ عنهم معتصمونَ باللهِ؛ لأنَّ اللهَ وليُّ من اعتصمَ به لقولِه تعالى:
(واعتصموا باللهِ هو مولاكم فنعمَ المولى ونعمُ النَّصيرُ) ]الحج: 78[.
ومعلومٌ كمال تولي اللهِ لهم ونصره إيّاهم أتمَّ نصرةٍ وأعظمَها، ممّا يدلُّ أنَّهم معتصمونَ باللهِ، فهم مهديّونَ بشهادةِ اللهِ، واتباعُ المَهْدي واجبٌ شرعاً وعقلاً وفطرةً، ولذلكَ جعلَهم اللهُ أئمةً للمتقينَ يَهدونَ بأمرِ اللهِ؛ بما صَبروا وكانوا يوقنون، يوضحه:
* الثامن – قال تعالى (واجعلنا للمتقينَ إماماً) ]الفرقان: 74[.
فكلُّ تقيًّ يأتمُّ بهم، والتقوى واجبةٌ صرّحَ اللهُ بذلكَ في آياتٍ كثيرةٍ يَصعبُ حصرُها في هذا المقامِ، فعُلمَ أنَّ الائتمامَ بهم واجبٌ، والعنودَ عن سبيلِهم مظنّةُ الفتنةِ والمحنّةِ.
* التاسع – قال تعالى: (وجعلنا منهم أئمةً يَهدونَ بأمرنا لمّا صَبروا وكانوا بآياتِنا يُوقنون)
]السجدة: 24[.
هذا الوصفُ وردَ في أصحابِ موسى عليه الصلاةُ والسلامُ فأخبرَ المولى الحقُّ جلَّ جلالُه أنّه جعلَهم أئمّةً يأتمُّ بهم مَن بعدَهم لصبِرهم ويقينهم، إذ "بالصبِر واليقيِن تنالُ الإمامةُ في الدينِ".
ومعلومٌ أنَّ أصحابَ محمدٍصلى الله عليه وسلم أحقُّ وأولى بهذا الوصفِ من أصحابِ موسى، فهم أكملُ يَقيناً، وأعظمُ صبراً من جميع الأمم؛ فهم أولى بمنصبِ الإمامةِ، وهذا ثابتٌ بشهادةِ اللهِ لهم وثناءِ رسولِ اللهِ عَليهم، فلذلكَ فهم أعلمُ هذه الأمةِ؛ فوجبَ الرُّجوعُ إلى فتاويهم وأقوالِهم، والتقيّدُ بفهمِهم للكتابِ والسنّةِ؛ حِسَّاً وعقلاً وشرعاً، وباللهِ التوفيقُ.
* العاشر - عن أبي موسى الأشعريّ رضي اللهُ عنه قالَ:
صلّينا المغربَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثمَّ قلنا: لو جلسنا حتى نصلي معه العشاءَ، فجلسنا، فخرجَ علينا فقال: ( ما زلتم هنا؟ ) .
قلنا: يا رسولَ اللهِ صلينا معكَ، ثمَ قُلنا: نجلسُ حتّى نصليَ معكَ العشاءَ.
قال: ( أحسنتُم أو أصبتم ) .
قال: ثمَّ رفعَ رأسَه للسماءِ، وكانَ كثيراً ما يرفع رأسَه إلى السماءِ فقالَ: ( النجومُ أمنةٌ للسماءِ،فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ أمرُها،وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي،فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يُوعدونَ، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهبَ أصحابي أتى أمتي ما يوعدونَ ( 1 ).
لقد جَعَلَ رسولُ اللهِ عليه السلام نسبةَ أصحابِه رضي اللهُ عنهم إلى من بعدهم في الأمةِ الإسلاميّةِ كنسبته لأصحابِه، وكنسبةِ النجومِ إلى السّماء.
ومن المعلوم أنَّ هذا التشبيهَ النبويَّ يُعطى في وجوبِ اتباعِ فهمِ الصحابةِ للدين، نَظير رُجوعِ الأمّةِ إلى نبيها فإنَّه عليه أفضل الصلاة والتسليم المبيّنُ للقرآنِ، وأصحابه رضوانُ اللهِ عليهم ناقلوا بيانِه للأمةِ .
وكذلكَ رسولُ اللهِ معصومٌ لا ينطقُ عن الهوى، وإنَّما يصدرُ عنه الرشادُ والهدى، وأصحابُه عدولٌ لا ينطقونَ إلاّ صدقاً، ولا يَعملونَ إلا حقّاً.
وكذلكَ النجومُ جعلَها اللهُ رُجوماً للشياطينَ في استراقِ السَّمعِ، فقالَ تعالى: (إنَّا زيَّنَّا السماءَ الدنيا بزينةٍ الكواكب وحفظاً من كلَّ شيطانٍ مارد لا يسَّمَّعون إلى الملأ الأعلى ويُقذفونَ من كلَّ جانبٍ دُحوراً ولهم عذابٌ واصبٌ إلا من خَطِفَ الخَطفةَ فأتبعَه شِهابٌ ثاقبٌ) ]الصافات: 6-10[.
وقالَ سبحانَه وتعالى: (ولقد زيّنا السماءَ الدنيا بمصابيحَ وجعلناها رُجوماً للشياطينَ)
]الملك: 5[ .
وكذلكَ الصحابة رضي اللهُ عنهم زينةُ هذه الأمةِ كانوا رصداً لتأويلِ الجاهلينَ، وانتحالِ المبطلينَ وتحريفِ الغالينَ؛ الَّذينَ جعلوا القرآنَ عضين، واتبعوا أهواءَهم، فتفرَّقوا ذاتَ اليمينِ وذات الشمالِ، فكانوا عزين.
وكذلكَ فإنَّ النجومَ منارٌ لأهلِ الأرضِ، ليهتدوا بها في ظلماتِ البرَّ والبحرِ؛ كما قالَ تعالى:
(وعلاماتٍ وبالنجمِ هم يَهتدونَ) ]النحل: 16[.
وقالَ جلّ شأنه(وهو الّذي جعلَ لكم النجومَ لتهتَدوا بها في ظلماتِ البرَّ والبحرِ(
] الأنعام: 97[ .
وكذلكَ الصحابةُ يُقتدى بهم للنجاةِ من ظلمات الشهواتِ والشبهاتِ، ومن أعرضَ عن
فهمِهم فهو في غيّه يتردّى في ظلماتٍ بعضُها فوقَ بعض إذا أخرجَ يدَه لم يَكد يَراها.
وبفهمِ الصحابةِ نحصنُ الكتابَ والسنّةَ من بدعِ شياطين الإنسِ والجنَّ الَّذينَ يَبتغونَ الفتنةَ ويَبتغونَ تأويلهما؛ ليفسدوا مرادَ اللهِ ورسولِه، فكانَ فهمُ الصحابةِ حرزاً من الشرَّ وأسبابِه، ولو كانَ فهمهم لا يحتجُّ به لكانَ فهمُ مَن بعدَهم أمَنَةً للصحابةِ وحرزاً لهم، وهذا محالٌ.
* الحادي عشر – والأحاديثُ في إيجابِ محبتِهم وذمِ من أبغضَهم – وكمال محبتِهم في اقتفاءِ أثرِهم، والسيِر على هداهم في فهمِ كتابِ اللهِ وسنةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم - كثيرةٌ.
ومن هذه الأحاديثِ قولهُ صلى الله عليه وسلم لا تسبّوا أصحابي فلو أنَّ أحدَكم أنفقَ مثلَ أحدٍ ذهباً ما بَلَغَ مدَّ أحدِهم ولا نَصيفَه ) ( 1 ).
وما ذاكَ من جهةِ كونهم رأوه أو جاوروه أو حاوروه فقط، فإنَّ ذلكَ لا مريةَ فيه، وإنَّما هو لشدّةِ متابعتهم له، وأخذِهم العملَ على سنته كان بهذه المثابةِ، فحقيقٌ أن يُتَّخَذَ فَهْمُهم سَبيلاً، وتجعلَ أقوالُهم قبلةً يولي المسلمُ وجهه شطرَها ولا يلتفتُ لغيرِها، وذلكَ واضحٌ في سببِ ورودِ الحديثِ حيثُ أنَّ الخطابَ لخالد بنِ الوليدِ رضي اللهُ عنه وهو صحابيٌّ ( 2 )، فإذا كانَ مدُّ بعضِ الصحابةِ أو نصيفه أفضلَ عندَ اللهِ من أُحُدٍ، وذلكَ لفضلِهم وسبقهم فلا شكَّ أنَّ بينَّ الصحابةِ ومن بعدَهم مفاوزَ، فإذا كان الأمُر بهذهِ المنزلةِ فكيفَ يُجيزُ ذو مسكةِ عقلٍ أن لا يَكونَ فهمُهم لدينِ اللهِ طريقَ رشدٍ يهدي للتي هي أقومُ ؟
* الثاني عشر - ومنها قولُه عليه الصلاة والسلام (عليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ الرّاشدينَ عضّوا عليها بالنواجذِ ) .
وجه دلالتهِ: أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أمرَ أُمَّتَه عند الاختلافِ بالتمسكِ بسنته بفهم صحابتِهِ كما سبقَ بيانُه.
ومن النكتِ اللَّطيفةِ في هذا الحديثِ: أنَّ رسولَ اللهِ عليه السلام بعدَ أن ذكرَ سنتَه وسنةَ الخلفاءِ الرَّاشدينَ المهديينَ قالَ عضّوا عليها ) ولم يَقل( عضّوا عليهما ) للدلالةِ على أنَّ سنتَه وسنةَ الخلُفاءِ الرّاشدينَ منهجٌ واحدٌ، ولن يَكونَ ذلكَ إلا بهذا الفهمِ الصحيحِ الصريحِ وهو: التمسكُ بسنتِه صلى الله عليه وسلم بفهمِ صحابتِه رضي اللهُ عنهم.
* الثالث عشر – ومنها قولُه ( في وصفِ منهجِ الفرقةِ الناجيةِ والطائفةِ المنصورةِ:
( ما أنا عليه اليومَ وأصحابي ) .
فإن قيلَ: ليسَ من شكٍ أنَّ فهمَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم وفهمَ أصحابِه من بعدِه هو المنهجُ الّذي
لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِه، لكن ما الدَّليلُ على أنَّ المنهجَ السَّلفيَّ هو فهمُ الرَّسولِ صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟
قلتُ: الجوابُ من وجهينِ:
أ - إنَّ المفاهيمَ المذكورةَ آنفاً متأخَّرةٌ عن عهدِ النُّبوّةِ والخلافةِ الرَّاشدةِ، ولا يُنسبُ السَّابقُ للاحقَّ بل العكس، فتبيّنَ أنَّ الطائفةَ الَّتي لم تسلك هذا السُّبلَ، ولم تتبّع هذه الطُّرق، هي الباقيةُ على الأصلِ.
ب - لسنا نجدُ في فرقِ الأُمّةِ من هم على موافقةِ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم غيرَ أهلِ السنّةِ والجماعةِ من أتباعِ السَّلفِ الصالحِ أهلِ الحديثِ، دونَ سائرِ الفرقِ:
فأمَّا المعتزلةُ، فكيفَ يَكونونَ موافقينَ للصَّحابةِ وقد طعنَ رؤوسُهم في جِلّةِ الصحابةِ، وأسقطوا عدالتَهم، ونسبوهم إلى الضلالِ كواصلِ بنِ عطاءٍ الَّذي قالَ: ( لو شهدَ عليٌّ، وطلحةُ، والزُّبيرُ على باقةِ بَقلٍ لم أحكم بشهَادَتِهم )( 1 ).
وأمّا الخوارجُ؛ فقد مَرقوا من الدينِ، وشذّوا عن جماعةِ المسلمينَ؛ فمن ضروريّاتِ مذهبِهم أن يَكفَّروا عليّاً وابنيه، وابنُ عبّاسٍ وعثمان، وطلحة، وعائشة، ومعاوية، ولا يَكونُ على سمتِ الصحابةِ من اتَّخذَهم غَرضاً وكفَّرهم.
وأمَّا الصوفيّةُ؛ فَسَخِروا من ميراثِ الأنبياءِ، وأسقطوا نَقَلَةَ الكتابِ والسنّةِ، ووصفوهم بالأمواتِ، فقال كبيرُهم: ( أنتم تأخذونَ عِلمَكم؛ ميّت عن ميّت، ونحنُ نأخذُ علمنا عن الحيّ الّذي لا يموت ) ولذلك يقولون – فضّت أفواههم، معارضين إسنادَ أهل الحديث - :
(حدَّثني قلبي عن ربّي ).
وأمَّا الشيعةُ؛ فقد زعمت أنَّ الصحابةَ رضوانُ اللهِ عليهم ارتدّوا بعدَ النبيَّ سوى نفرٍ قليلٍ.
فهذا الكشيُّ – أحدُ أئمتِهم – يَروي في "رجالهِ" (ص12و13) عن أبي جعفرٍ أنه قالَ:
"كانَ الناسُ أهلَ ردَّة بعدَ النبيَّ إلا ثلاثة".
فقلتُ: من الثلاثةُ؟
فقال: المقدادُ بن الأسودِ، وأبوذرًّ الغِفاريّ، وسلمان الفارسيّ".
ويروي (ص13) عن أبي جعفرٍ أنّه قال :
"المهاجرونَ والأنصارُ ذهبوا إلا ثلاثة" ( 1 ) .
وها هو الخُمينيُّ – آيتهم في هذا العصرِ – يَطعنُ ويلعنُ الشيخين أبا بكرٍ وعمرَ في كتابِه "كشف الأسرارِ" (ص131) فيقولُ: "فإنَّ الشيخين ... ومن هنا نَجدُ أنفسنا مضطرّينَ على إيرادِ شواهدَ من مُخالفتِهما الصريحةِ للقرآنِ لنثبتَ بأنهما كانا يُخالفانِ ذلكَ" .
وقالَ (ص137) : "... وأغمضَ عينيه ( 2 ) ، وفي أُذنيه كلماتُ ابنِ الخطابِ القائمة على الفرية، والنابعة من أعمالِ الكفرِ والزندقةِ، والمُخالفةِ لآياتٍ وردَ ذكرها في القرآنِ الكريمِ".
وأمّا المرجئةُ، فيَزعمونَ أنَّ إيمانَ المنافقين الَّذينَ مردوا على النفاقِ كإيمانِ السَّابقينَ الأولين من المهاجرينَ والأنصارِ.
فكيفَ يَكونُ هؤلاءِ موافقينَ للصحابةِ رضي اللهُ عنهم وهم:
أ – يَكفرونَ خيارَهم .
ب – لا يَقبلونَ شيئاً ممّا رووا عن رسولِ اللهِ عليه الصلاة والسلام في العقائدِ والأحكامِ.
ج – يتبعونَ نفاياتِ حضارةِ الرومانِ وفلسفةِ اليونانِ.
وبالجُملةِ؛ فهذه الفرقُ تُريدُ إبطالَ شهودِنا على الكتابِ والسّنَةِ وجرحَهم؛ فهم بالجرحِ أولى،
وهم زنادقة.
وبذلكَ يتبيَّن أنَّ الفهمَ السَّلفيَّ هو منهجُ الفرقةِ النّاجيةِ والطائفةِ المنصورةِ في الفهمِ والتَّلقَّي والاستدلال.
والمقتدونَ بالصحابةِ رضي اللهُ عنهم مَن يعملُ بالروايةِ الصحيحةِ الثابتةِ في أحكامِهم وسيِرهم وفهمهم، وذلكَ سنةُ أهلِ الحديثِ دونَ ذوي البدعِ والأهواءِ، فصحَّ بصحةِ
ما عرضنا، وقوة إذ ذكرنا تحقيق نجاتِهم لحكمِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام بنجاةِ المقتدينَ بسنته وسنةِ الخلفاءِ الرّاشدينَ المهديينَ من بعدِه.