شعب الجزائري مسلم وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب التوقيع / عبد الحميد بن باديس ما هو الدور الذي إضطلعت به جمعية العلماء المسلمين في الجزائر ! وكيف إستطاعت هذه الجمعية أن تصون شخصية الجزائر العربية و الإسلامية ! وهل نجحت في مقاومة التغريب والفرنسة و الإستئصال الثقافي و الحضاري ! وهل كان فعلها الثقافي مقدمة لصناعة الفعل الثوري ! إلى أي مدى نجح الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح في الجزائر في تكريس البعد العربي والإسلامي و مقاومة الإستعمار الفرنسي ! أليس هو الذي قال : و الله لو طلبت مني فرنسا أن أقول لا إله إلا الله ما قلتها .
___________________________________________ لعب الشيخ عبد الحميد بن باديس و إخوته في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أكبر الأدوار في إعادة بناء الإنسان الجزائر و صقل شخصيته القائمة على بعدي العروبة والإسلام , وكان مؤسسّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يرى أنّه يستحيل على الجزائريين أن يحاربوا فرنسا وهم مستلبون حضاريّا وثقافيا , فعكف على إقامة المعاهد التعليمية و المدارس القرآنية و العربية التي ألغتها فرنسا وحاربتها من باب تجفيف المنابع , وقد نجح عبد الحميد بن باديس في إنشاء تيار عريض في الساحة الجزائرية يتخذ من هويته الثقافية عنوانا له , و إستطاع عبد الحميد بن باديس أن ينسف مقولة الفرنسيين الذين كانوا يعتبرون الجزائريين فرنسيين حيث كتب قائلا في جريدة الشهاب لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين : أيها الشعب الجزائري , أيها الشعب المسلم , أيها الشعب العربي الأبي حذار من الذين يمنونك و يخدعونك , حذار من الذين يأتونك بوحي من غير نفسك وضميرك , إستوح الإسلام ثمّ أستوح تارخك و قلبك و أعتمد على نفسك وسلام الله عليك .. وصعدّ باديس موقفه ضدّ فرنسا فأطلق قولته المشهورة , و الله لو طلبت مني فرنسا أن أقول لا إله إلا اللّه لما قلتها . ولد إبن باديس في شهر ديسمبر 1889 وسط أسرة من أكبر الأسر في مدينة قسنطينة , والتي يمتّد نسبها إلى أسرة المعز الصنهاجي وهي إحدى الأسر التي حكمت الجزائر , ورغم كونه من أصول أمازيغية إلاّ أنّ إبن باديس كان يفاخر بعروبته وإسلامه . أتمّ إبن باديس حفظ القرآن الكريم وعمره لم يتجاوز الثالثة عشرة ودرس مبادئ العربية و الفقه الإسلامي عن الشيخ حمدان لونيسي الذي هاجر فيما بعد إلى المدينة المنورّة وتوفيّ فيها . إنتقل بعد ذلك إلى جامع الزيتونة في تونس حيث درس من سنة 1908 وإلى سنة 1912 , و بعد رحلة قادته إلى المشرق العربي عاد وإستقر في مدينة قسنطينة حيث بدأ حركته الإصلاحية والثقافية والفكرية , و إلى جانب إنبرائه للتدريس فقد أسسّ جريدة المنتقد سنة 1925 , كما أسسّ المطبعة الجزائرية الإسلامية و التي ساهمت في طباعة المنتوج الفكري لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين و باللغة العربية كجريدتي الشهاب والبصائر . نجح إبن باديس أن ينسف كل المنطلقات الفكرية والإيديولوجية التي قامت عليها الحركة الإستعمارية الفرنسية , ففرنسا كانت تؤكّد أنّ الجزائريين لا يشكلون أمّة , و أكدّ إبن باديس أنّ الأمة الجزائرية موجودة و أنّ طرفي معادلة شخصيتها العروبة و الإسلامي , ورفع شعارها الذي تبنته الثورة الجزائرية في وقت لاحق : الإسلام ديني و العربية لغتي والجزائر وطني . وقد خاطب الشعب الجزائري قائلا : أيّها الشعب الجزائري إنّك بعملك العظيم الشريف برهنت على أنّك شعب متعشّق للحرية هائم بها , تلك الحريّة التي ما فارقت قلوبنا منذ كنّا الحاملين للوائها وسنعرف في المستقبل كيف نعمل لها , و كيف نحيا لأجلها . ولم يكن إبن باديس ليكون هذا المفكّر السياسي الإصلاحي العميق لو أنّه كان منفصلا عن الشعب بعيدا عنه , فإتصّال إبن باديس بالشعب الجزائري وإستلهامه منه هو الذي يفسّر هذا التوفيق في التعبير عن مطامح الشعب . فإبن باديس كان يرى أنّه وبعد إستكمال المعركة الثقافية و الفكرية و معركة الإنتصار للهوية العربية و الإسلامية لابدّ أن يستتبع ذلك بمقاومة شعبية مسلحة ولعلهّ عبر عن ذلك في قصيدته الخالدة : شعب الجزائري مسلم وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب إلى أن يصل إلى قوله : يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد إقترب و تشاء الظروف أن يكون هذا النشأ هو مفجّر الثورة الجزائرية في غرّة نوفمبر 1954 و من هذا النشأ العقيد عميروش الذي كانت تسميه فرنسا و قوات إحتلالها نمر الجبال و العربي بن المهيدي و أحمد زبانة و كل رعيل الثورة الجزائرية . و مثلما مهدّت جمعية العلماء المسلمين الجزائريّة فقد ساهم الإتحاد الوطني لمسلمي الشمال الإفريقي الذي كان يتزعمه المناضل الجزائري مصالي الحاج والذي رفض رفضا مطلقا مشروع فرنسا القاضي بإدماج الجزائر في فرنسا . وعندما حلّت فرنسا هذا الإتحّاد عاد مصالي الحاج وأسس حزب الشعب الجزائري إلى أن صدر قرار فرنسي بحلّه سنة 1939 , وبعدها أسس حركة إنتصار الحريات والتي كانت تطالب جهارا نهارا بضرورة محاربة الإستعمار الفرنسي وطرده من الجزائر . و كان لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي أسسها رائد الإصلاح في الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس في سنة 1931 أكبر الأدوار في الجزائر إبّان الإستعمار الفرنسي , فلقد نجحت هذه الجمعية في تكريس عروبة الجزائر وإسلاميته و نجحت في الحفاظ على اللغة العربية التي عمد المحتل الفرنسي على وأدها و إستئصالها من الواقع الجزائر فارضا لغته ومسلكيته الحضارية , و الإستعمار الفرنسي الذي حول المساجد إلى كنائس وإصطبلات لدى إحتلاله للجزائر سنة 1830 كان يراهن على تدمير مقومات الشخصية الجزائرية التي صاغها الإسلام على مدى 14 قرنا , و كان إستراتيجيو الإستعمار أنّ القضاء على الشخصية الجزائرية ذات البعدين العربي والإسلامي سيمهد لتكريس الإستيطان الفرنسي الذي أريد له أن يقوم على أنقاض الحضارة الإسلامية في الجزائر , و قد تنبّه الشيخ عبد الحميد بن باديس و رفاقه أنّ الجزائريين لا يمكنهم أن يثوروا على المستعمر الفرنسي الذي فرض عليهم لغته وثقافته وسياسته و أحاديته الحضارية بنيران النبالم ما لم يسترجعوا إسلامهم و لغتهم و إعتزازهم بوطنهم و لذلك كان يرددّ على الدوام الإسلام ديني و العربية لغتي و الجزائر وطني , و في سنة 1939 طلبت منه فرنسا أن يبعث رسالة تأييد لها عند دخولها الحرب ضدّ قوات المحور فقال قولته المشهورة , و الله لو طلبت مني فرنسا أن أقول لا إله إلاّ الله لما قلتها , و إستمر إبن باديس على رأس جمعية العلماء المسلمين حتى وافته المنية سنة 1940 قاد المسيرة بعده رفاقه المخلصون , لم ينجح إبن باديس في إرجاع الجزائر إلى إسلامها و لغتها الأصيلة فحسب بل ساهم في تكوين جيل الثورة الجزائرية الذي قال عنه يا نشء أنت رجاؤنا / و بك الصباح قد إقترب .... وبعد 14 سنة من وفاته إندلعت ثورة التحرير الجزائرية و التي قادها النشء الذي تتلمذ ودرس في معاهد الشيخ عبد الحميد بن باديس . و ما زال الجزائريون يحتفلون سنويا بذكرى إبن باديس و الذي عادت جمعية إلى النشاط مجددا لتحارب هذه المرة مظاهر الغزو الفكري و الثقافي الوافد مع التأثيرات الفرانكفونية و الإفرازات الأنجلوسكسونية .وكان إبن باديس يقول - إن كـل محـاولة لحمل الجزائريين على ترك جنسيتهم أو لغتهم أو دينهم أو تـاريخهم أو شيء من مقومـاتهم هي محـاولـة فـاشلة مقـضـي عليها بالخيبة...إن الحالة التعيسة التي بلغت إليها الأمة الجزائرية – وقـد اطلعتم عليها أنتم أكثر من غيركم – لا يمكن أبـدا أن يستمر صبر الأمة الجزائرية عليها أكثر مما صبرت «. وعن سؤال لرئيس اللجنة فحواه : ماذا يقع لو أصدرت فرنسا أمرا يعطي المسلمين حقوقهم ويجردهم من قانون الأسرة، والأحوال الشخصية أجاب ابن باديس بقوله : » إذا ألزمت فرنسا المسلمين برفض شريعتهم والتخلي عن ذاتيتهم كأنهم يشعرون بالضربة القاضية عليهم بالعدم التام... وأنا أحقق لكم أنكم إذا ألزمتم الأمة الجزائرية المسلمة برفض شريعتها والتخلي عن ذاتيتها فإنكم تكونون قد وضعتم أمرا يؤول بالجزائر إلى اضطراب أعظم لا تدري عاقبته «، (البصائر 25/02/1356 هـ)، كلمة اضطراب أعظم لا تدري عاقبته صريح في الثورة المسلحة ولكن لا يؤاخذ عليه القانون مثل كلمة (الثورة). و في مقال له تحت عنوان : » هل آن أوان اليأس من فرنسا « نشر بالشهاب في جمادى الآخرة 1356، جاء قوله : » لقد أخذ اليأس بتلابيب الكثير منا، وهو يكاد يعم، ولا نتردد أنه قد آن أوانه ودقت ساعته « ثم قال : » والله لا تسلمنا المماطلة إلى الضجر الذي يقعدنا عن العمل، وإنما تدفعنا إلى اليأس الذي يدفعنا إلى المغامرة والتضحية « اهـ. ما هي المغامرة المصحوبة بالتضحية أليست الثورة المسلحة التي تحقق الاستقلال ؟ إن الثورة لا تكون إلا بالتضحية الغالية بالأنفس والأموال، والمغامرة يقدم على مغامرته دون أن يحسب حسابا لربحه أو خسارته ويوازن بينهما. و في شهر سبتمبر 1937 م، أصدر بيانا ونداء إلى الشعب الجزائري وإلى النواب المنتخبين حرم فيه طرق أبواب البرلمان الفرنسي، ودعا إلى اتحاد الصفوف، وتكوين جبهة لا تكون المفاهمة إلا معها وجاء فيه : » أيتها الأمة الكريمة، أيها النواب الكرام : اليوم وقد يئسنا من غيرنا يجب أن نثق بأنفسنا، اليوم – وقد تجوهلت قيمتنا يجب أن نعرف نحن قيمتنا – اليوم وقد خرست الأفواه عن إجابة مطالبنا، يجب أن نقول نحن كلمتنا، اليوم وقد اتحد ماضي الاستعمار وحاضره علينا، يجب أن تتحد صفوفنا... حرام على عزتنا القومية وشرفنا الإسلامي أن نبقَى نترامى على أبواب برلمان أمة ترى – أو ترى أكثريتها – ذلك كثيرًا علينا... ويسمعنا كثير منها في شخصيتها الإسلامية ما يمس كرامتنا ويجرح أعز شيء لدينا، لندع الأمة الفرنسية ترى رأيها في برلمانها، ولنتمسك عن إيمان وأمل بشخصيتنا... قرروا عدم التعاون في النيابة بجميع أنواعها كونّوا جبهة متحدة لا تكون المفاهمة إلا معها، بَرْهنُوا للعالم أنكم أمةٌ تستحق الحياة...«. هذا نداء يدعو إلى العصيان المدني بعدم التعاون مع المحتل والعصيان المدني بداية الثورة المسلحة، وفيه فتوى شرعية قومية بحرمة الذهاب إلى برلمان فرنسا، لأن قبول النيابة فيه اعتراف بأن الجزائر عمالات فرنسية وأنها جزء من تراب فرنسا، وفيه دعوة صريحة إلى تكوين (الجبهة) الواحدة التي لا يكون أي تفاهم إلا معها، وهذا ما فعلته الجزائر أثناء الثورة، فهي التي أعلنت الجهاد، وحرمت على أي أحد أو أية هيئة التحرك إلا في ضمنها، والتكلم معها باسم الأمة وحصلت على استقلال الجزائر. و يفتخر الذين أطلقوا الثورة الجزائرية و الذين كانوا من صناع الثورة الجزائرية الذين بأنهم درسوا أو حضروا دورس الشيخ عبد الحمبد بن باديس وهم لا حصر لهم كما يقول عبد الرحمان الجيلالي وأبو القاسم سعد الله وتوفيق المدني و غيرهم من مؤرخي الجزائر ومن هؤلاء الثوّار : في ولاية قسنطينة – الشرق الجزائري - كشود محمد و بوكعباش سليمان أو عبد الحميد و بوالطمين الأخضر و نجار عل و معوش الطاهر ومرابط صالح و مجدوب الخوجة . و في ولاية سكيكدة : بوسنان بومنجل و بين أينال أحسن و ثابت عبد الحميد بوقادوم حسين و معطى الله مبار و قاص عمر وشليغم عبد المجيد و بوختالة محمد (شهيد) و كنيو عمار بوفامة أحمد و رايس محمد (القل) محافظ ومتقاعد و عبادة مصطفى (مدير التلفزة مغتال) و مطاطلة أحمد (القل) دكتور و خبابة محمد برج الغدير . ومن ولاية المسيلة بوديلمي رابح (لمطارفة) شهي قنفود الحملاوي (سلمان) و بورزقاين العابدين (بمعاضيد) و حامد محمد (أولاد ماضي) . ومن ولاية برج بوعريريج بن السعيد حفناوي (برج الغدير متوفى رحمه الله) و من ولاية بسكرة محمد الصادق دبابش ومن سيدي عقبة أبو بكر مسعودي (ضابط أول عضو منطقة) و محمد الطاهر مسعودي و أحمد شاذلي (شهيد) وعبد الحميد حوحو و الطاهر قدوي (شهيد ملازم أول) و السعيد فيراس (شهيد) و العربي برباري (شهيد) و محمد دغنوش (شهيد) و حسين غانم (شهيد) و الوردي الواعر (شهيد) . و مئات الشهداء و المجاهدين الذين ساهموا في إطلاق الثورة الجزائرية و كانوا منتشرين في كل الولايات الجزائرية , وفي موضوع الثورة المسلحة و اللجوء إلى الجهاد لإخراج المستعمر الفرنسي فقد روى بعض الأحياء من تلاميذه في هذا الموضوع ما أكده الشيخ محمد الصالح رمضان، أن الشيخ ابن باديس كان منذ 1356 هـ (1937 م) يصرح بعزمه على الثورة المسلحة، وفي بعض هذه التصريحات أنه يخشى أن يدفع الأمة إليها قبل كمال استعداد، لهذا يتجنب أن يتحمل مسؤولية الرئاسة السياسية المباشرة لبعض الأحزاب. وقد أكد الشيخ محمد الحاج بجة أحد تلاميذه الأقدمين – من دائرة آقبو – أنه كان تلميذا في أوائل الثلاثينات، وأن الشيخ رحمه الله كان يسأل تلاميذه الكبار : هل أديتم الخدمة العسكرية ؟ ومن أجاب بنعم ميزهم عن الآخرين وصرح لهم أننا سنحتاجكم يوما ما، وحثهم على عدم نسيان ما دربوا عليه من أعمال الحرب، ولعل هذه الشهادة تفسر شدة اتصاله رحمه الله بتلميذه الشيخ الفضيل الورتلاني رحمه الله، فقد كان من الذين أدوا الخدمة العسكرية قبل أن يتصل به فكان يقربه جدا، ويستصحبه معه في بعض رحلاته ويركن إليه في تربية صغار تلاميذه على الثورة، وقد عاش هذا الرجل ثائرا وصار يخشى جانبه الملوك والأمراء في الشرق العربي، وله أثر كبير في الثورة اليمنية ضد نظام الملك يحيى، وهذا معلوم، حتى جاءت الثورة الجزائرية فعمل في صفوفها ومات – وهو يمثلها – بتركيا، وله تلاميذ هناك يذكرونه بخير، وهو دفين أنقرة.ومن ذلك ما سمعته بأذني وحضرته بنفسي في إحدى أمسيات خريف 1939 م في مجلس بمدرسة التربية والتعليم الإسلامية بقسنطينة، وتطرق الحديث إلى موضوع الحالة السياسية بالجزائر بعد إعلان الحرب، وموقف بعض كبار رجال الأحزاب السياسية الذين جندوا –إجباريا أو تطوعا– في صفوف الجيش الفرنسي، وكان الشيخ رحمه الله متألما جدا من هذا الضعف فيهم، وقد صرح بما فحواه : » لو أنهم استشاروني واستمعوا إلي وعملوا بقولي لأشرت عليهم بصعودنا جميعا إلى جبال أوراس، وإعلان الثورة المسلحة «. سافرت إلى تونس لإتمام الدراسة ولم أحضر تطور هذه الفكرة الباديسية في نفسه، ولكني علمت أنها وصلت إلى حد الإنجاز لو لا معاجلة الموت، فقد حدّث الأستاذ حمزة بوكوشة – وهو من أقرب المقربين إلى الشيخ عبد الحميد والعاملين معه في ميادين العلم والإصلاح والسياسة – إنه دعاه ذات يوم للمبايعة على إعلان الثورة المسلحة، وحدد له تاريخ إعلانه بدخول إيطاليا الحرب بجانب ألمانيا ضد فرنسا، مما يحقق هزيمتها السريعة، فبايعتُه على ذلك، وكان بالمجلس غير الأستاذ حمزة منهم من تردد ومنهم من أقدم على المبايعة. وقد أكد الشيخ محمد بن الصادق جلولي هذه الرواية ودعمها. ولكن المنية أدركت ابن باديس قبل موعد إعلان الثورة ببضعة وخمسين يوما، فقد مات في 16 أفريل 1940 م، ودخلت إيطاليا الحرب في 10 يونيو 1940 م.
جامعة 20 أوث 1955سكيكدة
</SPAN> ملتقى المسرح والثورة:
يتعدد مفهوم لفظ الثورة بتباين سياقاته وغايات استعماله، و لكنه في الاستعمال السياسي يعني« قيام شعب بحركة سياسية أو عسكرية أو هما معا، من أجل تغيير وضع راهن سيئ، وإبداله بوضع جديد أفضل منه«و من هنا فإن أساس الثورة رفض الواقع القائم و السعي إلى تغييره نحو الأحسن، فمصطلح الثورة كما يرى« الشيخ صالح، يحي» يحمل معنى الرفض منطلقا و الحدة أسلوبا و التغيير الجدري الشمولي هدفها، و لذلك فإن النظرة الثورية- في رأيه- هي التي ترمي إلى رفض الأوضاع من أساسها و إلى مقاومة المستعمر و تحقيق الاستقلال .وتجدر الإشارة هنا إلى وجود فروقات جوهرية بين مفهوم الثورة والإصلاح من جهة وبين مفهوم الثورة والحرب من جهة ثانية. فبخصوص الثورة والإصلاح نلحظ أن الثورة تراهن على التغيير الجذري الشامل لكل مجالات الحياة وقطاعاتها، في حين أن الإصلاح ينشد التغيير في مجالات جزئية محددة اجتماعية أو دينية مثلا، وذلك على غرار الحركة الإصلاحية التي قامت بها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ تأسيسها سنة 1931. أما بخصوص الثورة والحرب، فالملاحظ أن الحرب تقوم على المواجهة العسكرية بين قوتين متحاربتين أو أكثر، في حين أن الثورة تتجاوز الطابع العسكري إلى خلق المواجهة الشاملة لكل القطاعات ضد القوة الأخرى والتي عادة ما تكون غازية أو احتلالية، ولذلك يرفض أغلب الباحثين في موضوع ثورة التحرير الجزائرية استخدام مصطلح « حرب الجزائر » لأن الصحيح هو أنها « ثورة » وليست مجرد حرب، ومع ذلك « فإن الثورة التحريرية الوطنية الجزائرية المظفرة لقاء ضريبة مأساوية جسيمة تزيد على مليون من الضحايا، ربما مليون ونصف، وإحراز شعب بأكمله على الاستقلال يظلان ينعتان بصفة غير لائقة ب « حرب الجزائر » بقلم أغلبية المؤرخين والصحافيين ورجالات السياسة الفرنسيين... إن اللجوء إلى هذا العنوان ينم عن الجهل أو الاستخفاف المقصود بالشرعية التاريخية لثورة تحريرية وطنية » إن مفهوم الثورة أشمل من مفهوم الإصلاح، وأكبر من مفهوم الحرب، إذ أن الإصلاح تغيير جزئي في حين أن الثورة تغيير شامل، كما أن الحرب رهان عسكري وهذا يعني أنها وسيلة من وسائل الثورة وليست كل الثورة. نستنتج مما تقدم أن غاية كل ثورة إنما هي تحقيق التغيير الجدري نحو الأفضل، وربما يكون أقرب رمز يدل على وسيلة الثورة هو الرصاصة، ذلك أن العنف أحد مميزاتها، غير أن الرصاصة ليست وحدها أداة الثورة فالفنون بأنواعها المختلفة لها إسهاماتها الفاعلة في الثورة، و التحريض عليها و نشرها، وتحقيق هدفها، وهو التغيير الجدري الشمولي. « و الحق أن فن المسرح هو أكثر الفنون قدرة على التحريض، لأنه إضافة إلى كونه فن الناس والساحات، فهو تجمع يقوم على المواجهة المفتوحة بين ثنائية العرض و الجمهور، بين الإنسان الممثل و الإنسان المتفرج، فالمسرح في جوهره خطاب سياسي يتبنى التحريض و الثورة فيوجه المرآة نحو الهدف المنشود بالتغيير » و من هنا نلاحظ أن كلا من المسرح والثورة يلتقيان في الهدف المنشود وهو التغيير، و لكنهما يختلفان من حيث الوسيلة، إذ أن وسيلة المسرح هي التمثيل في حين أن وسيلة الثورة هي الرصاصة. و في الحقيقة أن وجوه الصلة بين المسرح والثورة تتعدد وتتداخل فالمسرح يصنع الثورة إذ تصنعه، و الثورة تصنع المسرح إذ يصنعها فما « ثورة السياسة آخر الأمر إلا استجابة لثورة العقول والقلوب... ولست أعرف ثورة سياسية بالمعنى الحديث أو القديم للفظ الثورة إلا وقد سبقتها ثورة أدبية عقلية كانت هي التي أغرت الناس بها، ودفعتهم إليه » إن مستويات العلاقة بين الفن والثورة متداخلة ومتشابكة، فقد يسبق الفن ومنه المسرح الثورة فيمهد لها ويحرض عليها ويسعى إلى خلقها من خلال الدعوة إلى قيامها، وقد تسبق الثورة الفن فتمده من حوادثها ووحيها وقيمها ما يجعله يغرف من ينبوعها، وقد يلتحم الفن بالثورة فيواكبها ويكون صوتها وصداها، ومهما تباينت مستويات تلك العلاقة فإن الفن الأصيل لابد و أن يكون لسان الثورة ووسيلة هامة من وسائلها إذ لا فرق بين فاعلية الرصاصة وفاعلية الكلمة، والصحيح في مستويات العلاقة أنه في البدء كانت الكلمة، ففي حالة الثورة الجزائرية مثلا يقول « مرتاض، عبد الملك» : « إن من الناس من يعتقد اليوم في الجزائر أن ثورة فاتح نوفمبر 1954 لم يكن وراءها مفكرون، ولنكرر ذلك، فهي ثورة شعبية و كفى ! ونحن لم نر أخطل من هذا الرأي قيلا. ذلك بأن هذه الفكرة تحمل مغالطة تاريخية وفكرية لا تقبل. إنا لنعلم أن الفكر مصدره الدماغ، و أن الدماغ، من الوجهة العلمية، هو المتحكم في كل حركة من حركات الجسم، فالجسم يتلقى الأوامر أبدا من هذا الجهاز العجيب، و إذا تعطل الدماغ تعطلت الأوامر المصدرة إلى الجسم فيتوقف عن الحركة، ويعجز عن النهوض بأي وظيفة مادية، ولا يعقل أن تكون حركة ثورية عظيمة، كثورة التحرير العارمة، ولا يكون وراءها عقول مفكرة، و أدمغة مدبرة قبلها و أثناءها» إن تأثير المسرح في المتلقي عظيم جدا حتى أننا « نستطيع أن نمثل هذه العلاقة بمحرض و متحرض يتولد بينهما تيار ينقل الشحنة و يصب أهداف و خلاصات و حرارة نبض ما يجري على المسرح في أعماق نفس المتفرج الفرد، الذي يشعر بالشحنة الوافدة إليه من خشبة المسرح تفترس كيانه و تمتلك مشاعره، وتغرو روحه، فيعيش تحت تأثيرها كل مراحل العمل الفني، و يمنح نفسه لها برضى، و يتركها تنغرس في ذاته بارتياح و استسلام و تنمو بما تملك من قدرة ذاتية و مكتسبة على النماء حتى تصبح ذات قوة قادرة على أن تحرضه و تدفعه إلى سلوك ضمن الجماعة وفي حياته اليومية معها، يؤكد ويجسد الفكرة والاحساس، القناعة والقيمة، التي غرستها الشحنة الوافدة من المسرح في أعماقه. وهكذا يتحول الفرد إلى طاقة مشعة أو إلى محرض، يرسل شحنات جديدة، في جسم المجتمع الكبير، ويسهم في تغييره بالقول والعمل. ومن هنا جاءت أهمية ذلك الدور الكبير الذي يلعبه المسرح في حياة المجتمع، ويلعبه الفن فوق خشبة المسرح، ويلعبه الأديب والفنان في حياة الأفراد والشعوب» إن الدارس للمسرح الجزائري مند ولادته في العشرينات من القرن الماضي ليلاحظ تفاعله مع تطور الحركة الوطنية وتشكله بسماتها و امتزاجه بتياراتها و طروحاتها السياسية فكانت انطلاقته مواكبة لانطلاقة الحركة الوطنية بقيادة « الأمير خالد » الذي انخرط بنفسه في تفعيل النشاط المسرحي. فبعد مخاض عسير من الولادة انطلقت الحركة المسرحية الجزائرية ساعية إلى تجدير هذا الفن في أوساط الجماهير. فكان مسرحا جزائريا شعبيا مقاوما طرح بأسلوب فني أسئلة الذات الجزائرية العميقة بمواجهة الآخر الاستعماري كما أنه قام بدور المحرض على الثورة قبل اندلاعها، فكانت له صدامات عديدة مع إدارة الاحتلال، فمنعت نشاطاته حينا ووضعت نصوصه وعروضه تحت المراقبة أحيانا، و من مساحة الكوة التي سمحت بها إدارة الاحتلال استطاع المسرح الجزائري مرافقة خطوات المقاومة والتحريض على الثورة، إذ اتخذ كل فضاء يجده منبرا له وهكذا نشط المسرح في العمل السري والسجون والمعتقلات وفي الجبال و خارج الجزائر وعبر الأثير من خلال المسرحيات الإذاعية الثورية. إن المسرح يشخص الثورة ويشعلها، كما أن الثورة تفتح مجال الإبداع والخلق للمسرحي، فهي تمده بالمشاهد وتخلق له الرؤى، و إذا كانت ثورة كتاب المسرح في مختلف الآداب العالمية تتنوع بتنوع منطقاتهم الفكرية و رؤاهم العقيدية والإيديولوجية و هو ما تحدث عنه أحدهم حيث قال: « فالثورة الخلاصية تحدث عندما يثور الكاتب المسرحي على الرب ويحاول أن يأخذ مكانه: هنا يتأمل الكاهن خياله في المرآة، و تحدث الثورة الاجتماعية عندما يثور الكاتب على العرف و الأخلاق والقيم في التكوين الاجتماعي: هنا يوجه الكاهن المرآة إلى الجمهور، و تحدث الثورة الوجودية عندما يثور الكاتب على ظروف وجوده: هنا يوجه الكاهن المرآة إلى الفضاء» وإذا كان مصدر هذه الثورات في الآداب الأجنبية، مرتبط بثورة الكاتب ذاته و رؤيته للحياة والكون من حوله، فإن تفاعل المسرح العربي مع الثورة الجزائرية مند انطلاقتها في أول نوفمبر 1954 مصدره النوازع القومية التحررية، فليست الثورة هنا جزء من الكاتب المسرحي ولكنه هو الجزء منها إذ « تعتبر الثورة الجزائرية، بكل موضوعية، أكبر ثورة عرفت في إفريقية والعالم العربي إطلاقا. و هي من أكبر الثورات في العالم. و عظمة الثورة الجزائرية لا تتمثل في هزم أكبر جيش استعماري حاول أن يتحدى مسيرة التاريخ... و إنما يتمثل أيضا في استمراريتها و مواقفها المشرفة في المحافل الدولية. بحيث أصبحت الجزائر في عهد قصير ذات سمعة دولية محترمة وواسعة»لقد برهنت هذه الثورة العظيمة أن « الجزائر لم تكن قلبا ميتا و لا طائرا مكسر الجناحين بل هي قلب شاب ينبض بالحياة و الحيوية و النشاط، و صقرا لا تناله السهام و النبال و لا تفلت منه فريسته مهما كانت طاغية أو شرسة. إن ثورة أول نوفمبر 1954 من هذه الناحية هي البعث الجديد للجزائر الجديدة و الحديثة، بكل أبعادها و مفاهيمها، و قيمها الحضارية العريقة و أمجادها البطولية الخالدة » ونستخلص مما تقدم أن المسرح يتقاطع مع الثورة في مستويات عدة إذ « هناك من يقول بأن الأدب الثوري الحقيقي هو الذي يحس بحجم وعنف الحدث أو المأساة، قبل الوقوع، فيندفع إلى الأمام ليدق أبواب الغيب، ويستشف معالم المستقبل، يحلم بالثورة، ويمهد لها، قبيل وقوعها، فيرتفع إلى مستوى النبوءة. وهناك من يردد: بل هو ذاك الذي يأتي أو لا يأتي بعد مرور فترة من الزمن، قد تطول أو تقصر، حسب مقتضيات الظروف والأحوال، بعد أن تستقر الأوضاع، وتتضح الأمور، وتجتمر الأشياء والأفكار في الذاكرة، وتنمو تلك البذرة الطيبة فإذا هي شجرة مباركة جذورها في الأرض وفروعها في السماء، وهناك من يرى بأن أدب الثورة هو الذي يعيش معها ويعايشها عن قرب ملتحما بلحمها وعظامها، يحتضن همومها ومكاسبها يواكب عن كثب أحداثها ووقائعها، ويغمس قلمه في دمها ولهيبها( ). لكن ومهما كانت مستويات هذه العلاقة
فإن عظمة الثورة الجزائرية قد ألقت بظلالها و آثارها على الإبداعات الفنية، فعلى مستوى فن المسرح راحت هذه الثورة تمده بمواد المقاومة و تسلحه بعمق الصراع وقوة الخطاب الثوري فظهرت بعض الأعمال المسرحية الجزائرية والعربية و العالمية التي سعت إلى تصوير الثورة الجزائرية والتعبير عن حوادثها و قيمها و بالتالي تمجيدها وتخليدها في آثار مسرحية – على قلتها- إلا أنها حاولت توقيع حضور الثورة الجزائرية في الإبداع المسرحي. صدى الثورة الجزائرية في المسرح الجزائري: لا غرو أن أن يواكب فن المسرح- سواء على مستوى النصوص أو على مستوى العروض- الثورة الجزائرية فبين أيدينا بعض المصادر المسرحية التي تبرز صدى ثورة نوفمبر 1954 في المسرح الجزائري والعربي والعالمي، و كل هذه المصادر تستلهم حوادثها و تحاول تشخيص بطولاتها وقيمها فبالنسبة للمسرح الجزائري نشير إلى المسرحيات الآتية، وهي مسرحيات كتبت و عرضت إبان الثورة التحريرية. 1- مسرحية« الجثة المطوقة»(le cadavre encerclé) لكاتب ياسين« و التي نشرت أول مرة في مجلة (أسبري esprit ) الفرنسية في ديسمبر 1954 و جانفي 1955 و قد عرضت بمسرح موليير في بروكسل يومي 25 و 26 نوفمبر 1958 ثم بباريس في أفريل 1959 و هذا من طرف فرقة( جان ماري سيرو: jean mari serrou ) هذا الفنان الذي لعب دور لخضر»، ومن خلال هذه المسرحية التي تعد من بواكير المسرحيات التي تناولت الثورة الجزائرية، نجد « كاتب ياسين» وقد: « كشف أمام الرأي العام العالمي حقيقة مأساة الجزائر، لقد تغنى بالثورة و الجزائر، ووصف حرب الإبادة التي شنتها فرنسا، عبر عن آلام و آمال الشعب بقوة لم يستطع أحد قبله ولا بعده أن يعبر بها» 2- مسرحية: « الباب الأخير» للأشرف،مصطفى و هي تعد: «أول نص مسرحي جزائري نشر بتونس عن الثورة الجزائرية، صدر بمجلة الفكر خلال شهر جويلية 1957...وهذا النص كتب أصلا بالفرنسية، و أرسل به مؤلفه إلى هذه المجلة من سجن (لاسانتي) بباريس حيث كان معتقلا مع جملة زعماء الثورة الجزائرية... وقد ترجمتها أسرة المجلة»
ويعلق« سعد الله، أبو القاسم » على هذه المسرحية فيقول: « هي مسرحية تحمل سمات جديدة للواقع وللكفاح معا، إنها تصور الشعب الجزائري وقد تخلص من حيرته و بدأ يتحسس طريقه الشاق الذي يؤمن بأن اجتيازه لن يكون سهلا، والمسرحية تعطي الإشارة إلى بداية المعركة الفاصلة» و نظرا لأهمية هذا النص فقد أنشأ الطلبة الجزائريون الزيتونيون فرقة مسرحية، و قاموا بتمثيل هذه المسرحية بإشراف صالح الخرفي3- مسرحية: « حنين إلى الجبل » للخرفي صالح، وهي مسرحية مقاومة، تصور في أربعة فصول و بأسلوب أدبي يمزج بين بلاغة النثر و سحر الشعر، تضحيات و بطولات الشعب الجزائري خلال الثورة التحريرية هذه المسرحية كتبت حسب إفادة المؤلف نفسه في سنة 1957 و عرضت ضمن النشاط المسرحي للطلبة الجزائريين بتونس. 4- مسرحية :« مصرع الطغاة » « للركيبي عبد الله »، وهي مسرحية نشرت سنة 1959 وفيها يستعيد الكاتب فجر الثورة التحريرية، فتصور المسرحية في أربعة فصول، اللقاءات السرية للقادة وتعطي صورة عن الوضع السياسي والاجتماعي العام السائد في الجزائر عشية انطلاق الثورة، فتبرز يأس الشعب من السياسيين بسبب انقساماتهم ومن ثمة استعداد عموم الشعب لخوض الكفاح المسلح بعد فشل النضال السياسي، وتقدم المسرحية مشاهد انطلاق الثورة وتبرز ذعر الاستعمار وانتقامه البشع وتختتم المسرحية بمشهد مصرع الطغاة وتحرير الوطن.
5- مسرحيات الفرقة الفنية لجبهة التحرير الوطني: وهي الفرقة التي تأسست في مارس 1958 في المنفى بتونس بقيادة مصطفى كاتب وكانت تضم خمسة وثلاثين (35) عضوا موزعين على قسمين: قسم للمسرح وآخر للفنون الغنائية والرقص الشعبي. ولقد تمثل النشاط المسرحي لهذه الفرقة في تقديم أربعة مسرحيات هي على الترتيب: أ- مسرحية: « نحو النور » أنتجت في ماي1958 وهي من تأليف وإخراج« مصطفى، كاتب » و العرض « عبارة عن لوحات من كفاحنا الخالد، تبدأ القصة بمنظر شاب جزائري ألقي عليه القبض وعذب أشنع تعذيب ثم زج به في السجن وهو في حالة تجعل المتفرج يتوقع موته من لحظة إلى لحظة، فتغمض عيناه وتقتحم خاطره صور من وطنه في شكل ذكريات عن فصول حياته وزفاف أخيه الأكبر وتنقلاته... ومن خلال هذه المشاهد القصيرة، نشاهد معه نشأته وصباه فختانه... ومن خلال هذه الحوادث العادية نعبر كل أنحاء الجزائر ونسمع أغانيها ونفتن بجمالها ونأسى بآلامها ونزهو برقصاتها ونغماتها في عروض تتسم بالحيوية والألوان والتماسك والانسجام، ويتطلع الفتى الجريح إلى المستقبل فنعيش معه بكل إيمان آلامه النبيلة ويخرج من قلب لوحة ( قرنيكة) المشهورة لبيكاسو رمز المغرب الكبير مكللا بالزهور فيترك هذا المنظر أكثر من أثر في نفوس المتفرجين » ( ) ب- مسرحية: « أبناء القصبة » ( ) أنتجت سنة 1959 وهي من تأليف « عبد الحليم رايس » وإخراج « مصطفى كاتب » هذه المسرحية « التي جسدت عظمة الثورة التحريرية، وشخصت صورة التضحيات والقيم البطولية التي بذلها الشعب الجزائري من خلال هذه العائلة فلكأن كل فرد منها يمثل بطولات شريحة كاملة... فمسرحية ( أبناء القصبة) إذن ليست مجرد حكاية عائلة تحملت ثقل الثورة التحريرية، وشاركت فيها، بل إنها حكاية وطن يتلمس طريقه وسط ليل الاستعمار حالما بفجر الحرية و شمس الاستقلال » ج- مسرحية: « الخالدون » أنتجت في أفريل 1960 و هي من تأليف عبد الحليم، رايس وإخراج « مصطفى كاتب» وهي مسرحية تصور مشاهد حية من قلب المعارك التي يخوضها جيش التحرير الوطني ، « حيث كانت خير تعبير عن هذا الجانب النضالي من ثورة نوفمبر المجيدة، فسلطت الأضواء على الأحداث التي كانت تعيشها الثورة و عكست جانبا من واقع الجزائر الملتهبة » د- مسرحية « دم الأحرار»: أنتجت سنة 1961 و هي من تأليف « عبد الحليم رايس » و إخراج« مصطفى كاتب » هذه المسرحية تجسد « القيم و المبادئ العليا لثورة التحرير الجزائرية، معاناة المجاهدين في الجبال أيام المقاومة المسلحة، و تلاحم الثوار في العيش و في الأهداف، و تدور أحداث المسرحية في الجبل بمعقل مجموعة من الثوار... احترام المجاهدين لبعضهم البعض والتعايش فيما بينهم... قناعة الثوار بالاستمرارية الثورية إلى غاية نيل الاستقلال والسيادة الوطنية » 6- المسرحيات الإذاعية: التي كانت تبث عبر أمواج الإذاعات العربية و خاصة من تونس و القاهرة حيث « كان للثورة فضل كبير على المسرح إذ أحدثت الوثبة التي نقلته من مرحلة الهواة إلى مرحلة الاحتراف عبر مشوار طويل و عسير كانت فيه بعض العواصم العربية أهم محطاته إبتداءا من تونس و إنتهاءا بالقاهرة اللتين فتحتا الأثير للمسرحيات الثورية عبر البث الإذاعي و نشير إلى أن موضوع الثورة التحريرية قد استمر حضوره في المسرح الجزائري بعد الاستقلال مثلما نجد ذلك عند « نور الدين، عبة» في « استراحة المهرجين » و « هي مسرحية تعالج قضية تعذيب و استنطاق الجزائريين من طرف الجلادين المحتلين أيام الثورة التحريرية »، و كذا مسرحية « احمرار الفجر » و هي « من تأليف، آسيا جبار و اقتباس وليد غارن و إخراج مصطفى كاتب سنة 1969، و تعالج مسرحية احمرار الفجر مشاركة المرأة الجزائرية في الثورة التحريرية و التمرد على الاحتجاب في البيت و تفضيلها، الالتحاق بالثورة التحريرية، على أن تبقى حبيسة البيت تتعرض للكآبة و القلق » و إلى اليوم مازلنا نقرأ ونشاهد مسرحيات جزائرية تصور الثورة التحريرية و تستلهم حوادثها و قيمها، و مع ذلك فإن عظمة الثورة التحريرية مازالت تجل عن الوصف و التصوير فقد « ظل الأدب الجزائري دون مستوى نوفمبر» 3- صدى الثورة الجزائرية في المسرح العربي: أما فيما يخص تفاعل المسرح العربي مع ثورة التحرير الجزائرية، فإنه « مما لا شك فيه أن الثورة الجزائرية كانت من أكبر الثورات العربية التي حفزت وجدان المبدعين العرب مشرقا و مغربا، و فجرت أعماقهم، و استقطبت اهتمامهم فاستلهموا أحداثها في الكثير من إبداعاتهم » و يبدو أن رمزية الثورة الجزائرية قد تجسدت في المسرح العربي من خلال رمزية البطلة الأسطورة « جميلة بوحيرد » و لذلك نجد قصتها و صمودها و تحديها للاستعمار و زبانيته هي أكثر ما استهوى المسرحيين العرب الذين كتبوا عن الثورة التحريرية، و في هذا المجال يمكن أن نذكر المسرحيات الآتية: 1- مسرحية « البطلة» للكاتب التونسي محمد فرج، الشاذلي . 2- مسرحية« جميلة» للكاتب الليبي عبد الله، القويري،و المسرحيتان منشورتان بمجلة « الفكر » التونسية، بمناسبة إصدار المجلة لعدد خاص عن المسرح و تتناولان « موضوعا واحدا هو موضوع إسهام المرأة الجزائرية في الثورة، و مشاركتها الفعالة في النضال الوطني الجزائري، و تفردها بالبطولة في بعض المواقف » 3- مسرحية: « جميلة » للأديب السوري الأصل و الجزائري الجنسية « عبد الوهاب حقي » و هي مسرحية تمجد الثورة الجزائرية و تشيد بنضال « جميلة بوحيرد » و صمودها الأسطوري، حيث كتبت و عرضت بإخراج الكاتب نفسه إبان الثورة التحريرية إذ قام بأداء أدوارها فرقة « أصداء المسرح » في مدينة دير الزور بسوريا الشقيقة، و طافت هذه المسرحية في العديد من المحافظات السورية، ومنح ريع مداخيلها إلى جيش التحرير الجزائري كتعبير عن تضامن الشعب السوري مع الثورة الجزائرية. 4- مسرحية« جميلة » للشاعر المصري « كامل، الشناوي»، وهي أوبريت تصور بطولة المرأة في كفاحها من أجل تحرير الجزائر، فيستحضر الشاعر شخصية « جميلة، بوحيرد» ويبرز بشاعة التعذيب الذي لقيته حتى تبوح باسم قائد الفدائيين، ورغم أن القائد يرسل إليها رسالة يطلب فيها أن تبوح باسمه لأن الفرنسيين لا يعرفونه ولن يهتدوا إليه، إلا أنها ترفض الرضوخ لمطلب جلاديها وتفضل الصمود والتحدي وتختتم الأوبريت بحوار رائق بين « جميلة» وقائدها « باسل» إذ تتصوره أمامها يحدثها وتحدثه.
ومن الواضح كما ذكرنا آنفا تركيز المسرح العربي على شخصية « جميلة بوحيرد» واقعا ورمزا وأسطورة ولاغرو في ذلك فهي « شابة عزلاء، ثبثت للمحن والأرزاء بعزيمة وتحمل لكل ما أفتن فيه السجانون من وحشية وقسوة، وهي بعد في ربيع العمر ونضارة الزهر، فأذلت بثباتها، وقوة يقينها وحبها لوطنها الغشوم، وكانت رمزا للفتاة العربية المسلمة في جلدها وإيمانها وتضحيتها حتى صار ذكرها على كل لسان مثلا شرودا في البطولة والفداء» 5- مسرحية « مأساة جميلة» للكاتب عبد الرحمان الشرقاوي، وهي مسرحية من الشعر الحر كتبت و نشرت نصا عام 1961، قبل أن يتم عرضها من طرف فرقة المسرح القومي المصري في موسم 1962 و هي من إخراج الفنان « حمدي غيث »، حيث « تصور المسرحية مأساة البطلة الجزائرية جميلة بوحيرد، وتروي كيف اعتقلها الفرنسيون بعد أن ضبطوها وهي تشترك اشتراكا فعليا في النضال الجزائري المسلح، ثم تروي قصة تعذيبها بقصد إرغامها على كشف أسرار زملاء النضال، و لكنها ترفض ذلك كل الرفض، ثم تروي القصة حكاية محاكمة جميلة، و كيف كانت صامدة كل الصمود في المحكمة »
و صفوة القول فإن الفضاء المسرحي العربي قد احتضن الثورة الجزائرية و عبر عن حوادثها و بطولاتها « و مثلما صهرت الثورة جهود الكتاب و الشعراء من مختلف الأصقاع و خاصة كتاب المغرب العربي الذين كانوا في طليعة من اعتبر الثورة الجزائرية ثورته، و قضية الشعب الجزائري قضيته الشخصية و قضية المغرب العربي بأسره، فقد كان فعل هذه الأحداث واحد بالنسبة لكتاب المسرح، حيث رأينا بعض التونسيين و الليبيين يشاركون ببعض النصوص في التعريض بالثورة و نضالها جنبا إلى جنب مع كتاب الجزائر، و يسهمون بذلك في إرساء أسس المسرح الثوري الذي كانت الثورة آنذاك بحاجة إليه، و كانت تعتبره إحدى الوسائل الفنية الفعالة للتعريف بها على أوسع نطاق ». 4- صدى الثورة الجزائرية في المسرح العالمي: إن صدى ثورة نوفمبر 1954 لم يقتصر فقط على المسرح الجزائري و العربي، بل شمل المسرح العالمي أيضا و منه المسرح الفرنسي تحديدا، فقد ألف الكاتب « جان جينيه » مسرحية
« الستارات » عن الثورة الجزائرية، و قام « روجيه بلان » بإخراجها و عرضها في صالة الأوديون سنة 1966 و مند أول يوم لعرضها أحدثت هذه المسرحية ضجة سياسية عنيفة ليس لأن الكاتب«جان جينيه» راح فيها يمجد الثورة الجزائرية، و لكنه أكثر من ذلك راح يسخر من الجيش الفرنسي، ففي المسرحية مشهد « يقوم فيه العسكريون المحتلون بإحياء جنازة رفيق مات في الحرب، و أثناء الجنازة، ( يضرطون ) على وجهه ( ليتنسم آخر نفس من هواء بلاده )»، لقد كان هذا المشهد صادما، و هو ما جعل بعض المشاهدين من أعضاء منظمة الجيش السري التي شاركت في حرب الجزائر، يقومون باحتلال المسرح و منع متابعة المسرحية منادين « بالموت لجان جينيه » و على الرغم من تدخل وزير الثقافة الفرنسي « أندريه مالرو » لصالح المسرحية و دفاعا عن جينيه إلا أن عرض المسرحية لم يستمر سوى ثلاثة أسابيع و قدمتها غالبية العواصم العالمية لعدة أشهر مع حذف بعض المشاهد. و تنقسم مسرحية « الستارات » إلى أربعة مراحل، تصور في المرحلة الأولى حياة « سعيد » رفقة زوجته « ليلى » في فقر و بؤس تحت ظل الاحتلال الفرنسي، و في المرحلة الثانية، تتناول المسرحية صراع « سعيد » ضد إدارة الاحتلال، التي حولته إلى لص خارج عن القانون، و منبوذ من طرف الجميع. و قبل أن يتم القبض عليه، و يلقى مع زوجته في السجن، أما المرحلة الثالثة فإن الكاتب « جان حينيه » يخصصها لاندلاع الثورة التحريرية، حيث نرى أهل القرية يقبلون على بيت الشهيدة « خديجة » و يتلقون من وحي روحها التحريض على الانخراط في الثورة و دعمها و مساندتها، فيروي كل واحد منهم صراعه ضد المحتلين بطريقة رمزية، و في مواقف درامية تبرز انتشار الثورة في كل ربوع الوطن و في المرحلة الرابعة تصور المسرحية انتصار الثورة و طرد الاحتلال و بالتالي ولادة عهد جديد. و إذا كنا سنكتفي بذكر هذا النموذج المسرحي، فإنه من الواجب أن نشير إلى حضور الجزائر تاريخا و ثورة و فضاءا حضاريا و اجتماعيا في الأدب العالمي، « لقد انتج الكتاب الأوروبيون أدبا كثيرا صاغوه من وحي الجزائر... و من نافلة القول أن نعلن بأن ما كتبه هؤلاء عن الجزائر يفوقون بكثير ما كتبه الجزائريون عن أنفسهم أضعافا مضاعفة » 5- خلاصة: و خلاصة القول أنه ثمة تراكم مسرحي جزائري ـ بالعربية الفصحى و بالدارجة و بالفرنسية ـ و عربي و عالمي، تفاعل مع الثورة التحريرية الجزائرية، فواكبها و تفاعل معها ممجدا لتطلعاتها و قيمها و مقاوما للاستعمار، و ذلك انتصارا لروح الرفض، نظرا للطبيعة التفاعلية بين المسرح و المقاومة إذ « يكاد مسرح المقاومة أن يكون شكلا مستقلا من أشكال التعبير الدرامي ... و المقاومة في ذاتها صراع بين قوتين، لهذا كانت بطبيعتها خامة درامية »، و إنه مهما يكن المستوى الفني لذلك التراكم المسرحي، بحكم طابعه المناسباتي و إمعانه في الواقعية التسجيلية و سرعة إنتاجه لارتباطه بالدعاية للثورة و دعمها و مناصرتها، مهما يكن ذلك كله فإن تلك المسرحيات قد حاولت تصوير الثورة الجزائرية في لوحات فنية و إن كانت لا تفي عظمة حوادث الثورة و قيمها الخالدة إلا أنها تحاول أن تسجل حضور الثورة في التعبير المسرحي، و هذا في انتظار الكاتب الفذ الذي يسمو بثورة نوفمبر 1954 إلى مستواها الحقيقي كملحمة شعبية خالدة.