النص الكامل لخطاب الرئيس بوتفليقة بمناسبة الافتتاح الرسمي لسنة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية" بتاريخ السبت 13 جانفي 2007 منقول عن وزارة الشؤون الخارجية الجزائرية
ألقى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة اليوم السبت خطابا لدى اشرافه على الافتتاح الرسمي لسنة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007" هذا نصه الكامل:
"بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين
أصحاب الدولة والمعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة رواد الفكر وحاملي مشعل الفن والإبداع
تغمرني السعادة والابتهاج والجزائر واسطة العقد في الجناح المغاربي لأمتنا العربية وجوهرة من لآلي المتوسط تتوج عاصمة للثقافة العربية لسنة 2007 وتحتضن ربوعها الرحبة من الشمال إلى الجنوب أعلام الثقافة وفرسانها من الموهوبين والمبدعين ممن تميزوا برهافة الحس والوجدان وتبنوا القضايا الكبرى لأمتنا العربية وكانوا وما زالوا ضميرها الأمين ولسانها المبين وسندها القوي المكين.
إني لأرحب بكم من صميم الفؤاد. وأنتم تبتهلون في هذا اليوم الموعود من شهر يناير سنة الثقافة العربية التي يلتقي طيلتها الأشقاء من مختلف أقطار الوطن العربي من أقصاه إلى أدناه للتعرف عن قرب على ما تزخر به الجزائر من مآثر وتراث وفنون متنوعة في وحدة ومتعددة في تناغم وانسجام وللتأكيد على ما يجمع بين شعوب أمتنا العربية والاسلامية من أواصر القربى التي دونها التاريخ المشترك وحفظتها
الحضارة ووحدها اللسان العربي المبين.
لعله من حسن الطالع أن يتوسط هذا اليوم من يناير عددا من الأعياد ومنها عيد الحرث والبذر والتفاؤل بالخصب الذي تحتفي به منذ القدم مجتمعاتنا الفلاحية وذلك بعد أن احتفينا بعيد الرحمة عيد الأضحى المبارك وأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام وأعياد رأس السنة الميلادية 2007 واستقبال رأس السنة الهجرية في الأول من محرم 1428 وكأن العناية الإلهية ودورة الزمان أرادت أن يكون في هذا الاقتران
والتتابع ما يذكرنا جميعا بوحدة الانسانية في المبدأ والصيرورة والمعاد.
إنه تزامن يدعونا من جديد للإخاء والتسامح بين الأديان والمذاهب والتواصل بين الحضارات وهو ما نادت به الشرائع السماوية وأقرته القوانين التي وضعها العقل السليم.
إني أرى في هذا اللقاء بين أهل الفكر والفن والإبداع على امتداد ساحتنا العربية الحبلى بالتحولات حدثا على درجة كبيرة من الأهمية في هذه الحقبة الحرجة من تاريخ أمتنا العربية وهي في حاجة إلى مراجعة وتقويم ماضيها القريب والبعيد والبحث عن مخرج من وضعية التخلف والاستضعاف والتبعية وما يتهددها من مخاطر كثيرة من الداخل والخارج وتدرك نخبنا المفكرة والمبدعة أن وطننا العربي على الرغم من ثرواته وموقعه الجيوسياسي الممتاز ونضالات شعوبه لايزال بعيدا عن مقدمة الركب.
لن يكون ذلك الموقع وتلك الثروات مصدر قوة ومناعة إلا إذا تظافرت الإرادات وتكاتفت الجهود لتحقيق تنمية تبدأ بالإنسان وتعود ثمارها إليه فردا وجماعة ولا شك في أنه لا تنمية بدون ازدهار الثقافة وتوطين المعرفة واحتضان المواهب والعناية بالنبغاء من الشباب في المدارس والجامعات ليجدد الخلف وينمي ما قام به السلف ويكون الغد أكثر تقدما ورقيا من الأمس.
إنكم أيها المثقفون من مفكرين وأدباء وفنانين وحفظة تراثنا المادي والمعنوي على امتداد الوطن العربي مهبط الأديان السماوية ومنبت الحضارة الانسانية منذ أقدم العصور إنكم بحق ثروة الأمة الباقية والمتجددة وعينها البصيرة بواقع حال مجتمعاتنا وما وراء الواقع من نذر وبشائر قد لا يراها الإنسان العادي.
إن النخبة لا تستحق هذا الاسم إلا إذا فهمت عصرها وتصدرت الصفوف الأمامية التي تصنع المستقبل وتمهد الطريق للتحولات الكبرى التي تنتظرها شعوبنا للخلاص من أغلال التخلف وترسيخ ثقافة الديمقراطية التي تقوم على حقوق وواجبات المواطنة وحرية الفرد في التعبير والتفكير والإبداع بلا حدود ولا قيود سوى تلك التي يقرها المجتمع وأخلاقياته المرعبة".
"إن دور ومكانة أهل الفكر والإبداع لا يقتصران على مناسبة أو مهرجان ولو تواصل لمدة أسابيع وشهور. بل ينبغي أن يكون في كل أوان وفي كل مكان وزمان.
فأنا على قناعة تامة وإيمان عميق بأهمية معيار الموهبة الخلاقة والكفاءة العالية والاستحقاق الذي يميز هذه الفئة من مجتمعاتنا فلم تحدث نهضة أو تقدم بدون أن يتصدرها ويبشر بها رواد من المفكرين والأدباء والفنانين الذي أدركوا متطلبات عصرهم وشخصوا أوضاعه شعرا ونثرا ومسرحا وغناء وأناشيد بالفصحى وبالعامية وبالنحت والرسم وأعادوا إحياء وإثراء التراث بما فيه من تصوف وعرفان.
قد يصيب الطليعة من تلك النخبة الضر. وقد يتجاهلهم قومهم إلى حين. وقد تغمرهم الطمأنينة والرضى إذا تحولت أفكارهم وإبداعاتهم إلى قبس من نور يوقظ الهمم ويستنهض المجتمع ويحرر العزائم من اليأس والوهن.
إن وراء وأمام كل التحولات الكبرى قادة من الفاتحين في ميادين العلم والفن والأدب كما يشهد على ذلك تاريخ الحضارة الإنسانية في الشرق والغرب منذ أقدم العصور وإلى يوم الدين هذا.
من الواجب وأنا أرحب بكم في هذا اليوم المشهود أن أؤكد لكم بأن عاصمة الجزائر الوفية لذاكرتها التاريخية ستبقى على الدوام مدينة لأولئك المفكرين والأدباء والفنانين الأحرار الذين وقفوا إلى جانب كفاح شعبنا العادل وسخروا فنون الأدب والفكر الصادق من روائع الشعر والقصة والرواية والمقالة والمسرحية إلى الصورة الفوتوغرافية والأفلام السينمائية وغيرها من أشكال الفن والقول الشعبي التي تمثل جزءا من ملحمة الثورة الجزائرية ينبغي أن نرى فيها تراثا مشتركا لأمتنا العربية ونموذجا يحتذى لوحدتها المعنوية وصفحات ناصعة في ذاكرتها الجماعية فقد كانت الثورة الجزائرية بسنواتها السبع والنصف المجيدة ملحمة العرب والمسلمين والشعلة التي وحدت الأمة.
إن جزائر الأمس واليوم لتذكر باعتزاز ذلك العطاء الرائع والغزيرالذي ساهم فيه إلى جانب المبدعين العرب العديد من أحرار العالم أنصار الحرية الذين واجهوا الكثير من التضييق والترهيب والوعيد في بعض البلدان الغربية وفي فرنسا بالذات.
ولكنهم واصلوا جميعا النضال بمختلف الوسائل والأشكال. واختاروا عن قناعة الوقوف إلى جانب الحق والعدل والحرية.
إن هذا الجمع من أصحاب المواقف الحرة والرسالة الانسانية سيبقون نجوما لامعة في ليل الظلم والقهر والعدوان. لقد كانوا أوفياء للمثل والمبادئ السامية فاستحقوا مقاما ساميا في سجل الضمير الحي للإنسانية.
لعلي لا أغالي إذا قلت بأن كتاب وأدباء ذلك الجيل والعديد من الرعيل الذي جاء بعده قد استلهموا أيضا من ملحمة الثورة الجزائرية وكفاح شعبها الطويل والمرير.
فقد أدركوا بحسهم المرهف وفكرهم الوقاد أن الجزائر كانت على موعد مع التاريخ. وأنها تخوض ثورة شعبية ذات أبعاد حضارية وإنسانية لا شبهة فيها. لا توجهها رياح من معسكر الشرق ولا تستعملها قوى من معسكر الغرب في صراعات الحرب الباردة والتنافس من أجل الهيمنة والنفوذ.
لقد كان الهدف الأول لثورة الجزائر وغاية مسعاها هو تحرير الجزائر من الكولونيالية الباغية واستعادة الكرامة والحرية لذلك كانت ثورة الجزائر القضية الأولى - ونتمنى ألا تكون الأخيرة - التي وحدت المثقفين العرب على اختلاف مذاهبهم الفكرية وانتماءاتهم الإيديولوجية وجنسياتهم القطرية لقد كان بين أولئك المثقفين ما يقترب من الإجماع على انتصار الثورة الجزائرية هو مكسب استراتيجي ورصيد عظيم للأمة العربية ولكل المقهورين في شتى أنحاء العالم من القارة الإفريقية إلى ربوع آسيا وأمريكا اللاتينية".
أصحاب الدولة والمعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة
إن الأمر واحد سواء أتعلق بالأمم أم تعلق بالأفراد: فاللهث الجنوني وراء تلبية الحاجات المادية يكسب حقا النمو والنماء لكنه يؤدي كذلك إلى الوقوع في العزلة.
والثقافة هي الترياق المتاح ضد العزلة بصفتها فضاء للتواصل ولإقامة الأواصر والصلات بين بني الإنسان الأواصر والصلات الحبلى بشتى أنواع التضامن والجالبة للتقدم والرقي.
إن الثقافة ليست ظاهرة ثانوية إنها تنبع من تملك المكون الإجتماعي للتراث المتعدد الأشكال لحضارة مشتركة بين جملة من الشعوب. فالخصوصية الثقافية لكل مجموعة إنما تكمن في فعل التملك هذا الإرادي والانتقائي. إن الأمر يتعلق بمكسب يتطور على مر القرون مكسب تتحكم فيه الظروف وتعتوره تحولات بل وحتى فترات انقطاع. لقد قال مالك بن نبي: "ليست الثقافة علما بل هي جو يتحرك ضمنه الإنسان الذي يحمل حضارة في حناياه. إنها وسط يكون فيه كل تفصيل من التفاصيل مؤشرا ينم عن مجتمع يسعى إلى مصير واحد".
ومن ثمة فإن الثقافة هي في رأيه تلك التركيبة من العادات والملكات والتقاليد والأذواق والأعراف والسلوكات والمشاعر التي تعطي لحضارة ما وجهها وملامحها وتزودها كذلك بقطبيه العبقرية والروح".
إنهما قطبان مولدان للأواصر والصلات مقاومان لعوادي الزمن وليس للمسافات عليهما تأثير. إنها أواصر من صلب مزايا وأفضال الثقافة العربية التي تفضلتم بجعل الجزائر العاصمة قلبها النابض في مطلع عام 2007 هذا.
إن الثقافة شفوية كانت أم حدسية أو شعبية أو مكتوبة أو مكتسبة لدى كل أمة من أممنا قد ضعف جانبها بفعل قصور في القدرة على التكيف مع التغيرات الشديدة غالبا التي تعرضت لها مجتمعاتنا ومع محيط خارجي تعددت مظاهره.
إن ارتفاع عدد السكان في بلداننا خلال بضعة عقود من الزمن إلى ضعفي بل ثلاثة أضعاف ما كان عليه قد أدى إلى تقهقر الثقافة الشعبية وتراجعها أمام الشعبوية.
وأدى زوال دولة المن والسلوى إلى إفقار شرائح بأكملها من الساكنة في حين أن اختفاء الإيديولوجيا والثقافة الرسميتين اللتين تروج لهما الدولة الأمة جردها مؤقتا من المعالم التي بها تسترشد وتهتدي.
إن الفراع الذي خلفه العجز الثقافي سرعان ما سدته رؤية دينية مختزلة وحاقدة سرعان ما سخرت لخدمة استراتيجيات عنيفة غايتها الاستيلاء على السلطة استراتيجيات تجلت في الجزائر بأقصى مظاهرها خلال "العشرية السوداء". إذ أصبح المثقفون الذين ينشطون الحياة الثقافية في البلاد الهدف المفضل لإرهاب عاث في الأرض فسادا بلا وازع ولا ضمير.
والسخط المتولد عن تفاقم الخروقات التي طالت أبسط حقوق الفلسطينيين الإنسانية وعن الاعتداءات الخارجية المتعددة المقترفة في الشرق الأوسط زاد الذهنيات راديكالية في العالم العربي بما لا يخدم الازدهار الثقافي ولا يتواءم معه.
يتبع
ألقى رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة اليوم السبت خطابا لدى اشرافه على الافتتاح الرسمي لسنة "الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007" هذا نصه الكامل:
"بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين
أصحاب الدولة والمعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة رواد الفكر وحاملي مشعل الفن والإبداع
تغمرني السعادة والابتهاج والجزائر واسطة العقد في الجناح المغاربي لأمتنا العربية وجوهرة من لآلي المتوسط تتوج عاصمة للثقافة العربية لسنة 2007 وتحتضن ربوعها الرحبة من الشمال إلى الجنوب أعلام الثقافة وفرسانها من الموهوبين والمبدعين ممن تميزوا برهافة الحس والوجدان وتبنوا القضايا الكبرى لأمتنا العربية وكانوا وما زالوا ضميرها الأمين ولسانها المبين وسندها القوي المكين.
إني لأرحب بكم من صميم الفؤاد. وأنتم تبتهلون في هذا اليوم الموعود من شهر يناير سنة الثقافة العربية التي يلتقي طيلتها الأشقاء من مختلف أقطار الوطن العربي من أقصاه إلى أدناه للتعرف عن قرب على ما تزخر به الجزائر من مآثر وتراث وفنون متنوعة في وحدة ومتعددة في تناغم وانسجام وللتأكيد على ما يجمع بين شعوب أمتنا العربية والاسلامية من أواصر القربى التي دونها التاريخ المشترك وحفظتها
الحضارة ووحدها اللسان العربي المبين.
لعله من حسن الطالع أن يتوسط هذا اليوم من يناير عددا من الأعياد ومنها عيد الحرث والبذر والتفاؤل بالخصب الذي تحتفي به منذ القدم مجتمعاتنا الفلاحية وذلك بعد أن احتفينا بعيد الرحمة عيد الأضحى المبارك وأداء فريضة الحج إلى بيت الله الحرام وأعياد رأس السنة الميلادية 2007 واستقبال رأس السنة الهجرية في الأول من محرم 1428 وكأن العناية الإلهية ودورة الزمان أرادت أن يكون في هذا الاقتران
والتتابع ما يذكرنا جميعا بوحدة الانسانية في المبدأ والصيرورة والمعاد.
إنه تزامن يدعونا من جديد للإخاء والتسامح بين الأديان والمذاهب والتواصل بين الحضارات وهو ما نادت به الشرائع السماوية وأقرته القوانين التي وضعها العقل السليم.
إني أرى في هذا اللقاء بين أهل الفكر والفن والإبداع على امتداد ساحتنا العربية الحبلى بالتحولات حدثا على درجة كبيرة من الأهمية في هذه الحقبة الحرجة من تاريخ أمتنا العربية وهي في حاجة إلى مراجعة وتقويم ماضيها القريب والبعيد والبحث عن مخرج من وضعية التخلف والاستضعاف والتبعية وما يتهددها من مخاطر كثيرة من الداخل والخارج وتدرك نخبنا المفكرة والمبدعة أن وطننا العربي على الرغم من ثرواته وموقعه الجيوسياسي الممتاز ونضالات شعوبه لايزال بعيدا عن مقدمة الركب.
لن يكون ذلك الموقع وتلك الثروات مصدر قوة ومناعة إلا إذا تظافرت الإرادات وتكاتفت الجهود لتحقيق تنمية تبدأ بالإنسان وتعود ثمارها إليه فردا وجماعة ولا شك في أنه لا تنمية بدون ازدهار الثقافة وتوطين المعرفة واحتضان المواهب والعناية بالنبغاء من الشباب في المدارس والجامعات ليجدد الخلف وينمي ما قام به السلف ويكون الغد أكثر تقدما ورقيا من الأمس.
إنكم أيها المثقفون من مفكرين وأدباء وفنانين وحفظة تراثنا المادي والمعنوي على امتداد الوطن العربي مهبط الأديان السماوية ومنبت الحضارة الانسانية منذ أقدم العصور إنكم بحق ثروة الأمة الباقية والمتجددة وعينها البصيرة بواقع حال مجتمعاتنا وما وراء الواقع من نذر وبشائر قد لا يراها الإنسان العادي.
إن النخبة لا تستحق هذا الاسم إلا إذا فهمت عصرها وتصدرت الصفوف الأمامية التي تصنع المستقبل وتمهد الطريق للتحولات الكبرى التي تنتظرها شعوبنا للخلاص من أغلال التخلف وترسيخ ثقافة الديمقراطية التي تقوم على حقوق وواجبات المواطنة وحرية الفرد في التعبير والتفكير والإبداع بلا حدود ولا قيود سوى تلك التي يقرها المجتمع وأخلاقياته المرعبة".
"إن دور ومكانة أهل الفكر والإبداع لا يقتصران على مناسبة أو مهرجان ولو تواصل لمدة أسابيع وشهور. بل ينبغي أن يكون في كل أوان وفي كل مكان وزمان.
فأنا على قناعة تامة وإيمان عميق بأهمية معيار الموهبة الخلاقة والكفاءة العالية والاستحقاق الذي يميز هذه الفئة من مجتمعاتنا فلم تحدث نهضة أو تقدم بدون أن يتصدرها ويبشر بها رواد من المفكرين والأدباء والفنانين الذي أدركوا متطلبات عصرهم وشخصوا أوضاعه شعرا ونثرا ومسرحا وغناء وأناشيد بالفصحى وبالعامية وبالنحت والرسم وأعادوا إحياء وإثراء التراث بما فيه من تصوف وعرفان.
قد يصيب الطليعة من تلك النخبة الضر. وقد يتجاهلهم قومهم إلى حين. وقد تغمرهم الطمأنينة والرضى إذا تحولت أفكارهم وإبداعاتهم إلى قبس من نور يوقظ الهمم ويستنهض المجتمع ويحرر العزائم من اليأس والوهن.
إن وراء وأمام كل التحولات الكبرى قادة من الفاتحين في ميادين العلم والفن والأدب كما يشهد على ذلك تاريخ الحضارة الإنسانية في الشرق والغرب منذ أقدم العصور وإلى يوم الدين هذا.
من الواجب وأنا أرحب بكم في هذا اليوم المشهود أن أؤكد لكم بأن عاصمة الجزائر الوفية لذاكرتها التاريخية ستبقى على الدوام مدينة لأولئك المفكرين والأدباء والفنانين الأحرار الذين وقفوا إلى جانب كفاح شعبنا العادل وسخروا فنون الأدب والفكر الصادق من روائع الشعر والقصة والرواية والمقالة والمسرحية إلى الصورة الفوتوغرافية والأفلام السينمائية وغيرها من أشكال الفن والقول الشعبي التي تمثل جزءا من ملحمة الثورة الجزائرية ينبغي أن نرى فيها تراثا مشتركا لأمتنا العربية ونموذجا يحتذى لوحدتها المعنوية وصفحات ناصعة في ذاكرتها الجماعية فقد كانت الثورة الجزائرية بسنواتها السبع والنصف المجيدة ملحمة العرب والمسلمين والشعلة التي وحدت الأمة.
إن جزائر الأمس واليوم لتذكر باعتزاز ذلك العطاء الرائع والغزيرالذي ساهم فيه إلى جانب المبدعين العرب العديد من أحرار العالم أنصار الحرية الذين واجهوا الكثير من التضييق والترهيب والوعيد في بعض البلدان الغربية وفي فرنسا بالذات.
ولكنهم واصلوا جميعا النضال بمختلف الوسائل والأشكال. واختاروا عن قناعة الوقوف إلى جانب الحق والعدل والحرية.
إن هذا الجمع من أصحاب المواقف الحرة والرسالة الانسانية سيبقون نجوما لامعة في ليل الظلم والقهر والعدوان. لقد كانوا أوفياء للمثل والمبادئ السامية فاستحقوا مقاما ساميا في سجل الضمير الحي للإنسانية.
لعلي لا أغالي إذا قلت بأن كتاب وأدباء ذلك الجيل والعديد من الرعيل الذي جاء بعده قد استلهموا أيضا من ملحمة الثورة الجزائرية وكفاح شعبها الطويل والمرير.
فقد أدركوا بحسهم المرهف وفكرهم الوقاد أن الجزائر كانت على موعد مع التاريخ. وأنها تخوض ثورة شعبية ذات أبعاد حضارية وإنسانية لا شبهة فيها. لا توجهها رياح من معسكر الشرق ولا تستعملها قوى من معسكر الغرب في صراعات الحرب الباردة والتنافس من أجل الهيمنة والنفوذ.
لقد كان الهدف الأول لثورة الجزائر وغاية مسعاها هو تحرير الجزائر من الكولونيالية الباغية واستعادة الكرامة والحرية لذلك كانت ثورة الجزائر القضية الأولى - ونتمنى ألا تكون الأخيرة - التي وحدت المثقفين العرب على اختلاف مذاهبهم الفكرية وانتماءاتهم الإيديولوجية وجنسياتهم القطرية لقد كان بين أولئك المثقفين ما يقترب من الإجماع على انتصار الثورة الجزائرية هو مكسب استراتيجي ورصيد عظيم للأمة العربية ولكل المقهورين في شتى أنحاء العالم من القارة الإفريقية إلى ربوع آسيا وأمريكا اللاتينية".
أصحاب الدولة والمعالي والسعادة
حضرات السيدات والسادة
إن الأمر واحد سواء أتعلق بالأمم أم تعلق بالأفراد: فاللهث الجنوني وراء تلبية الحاجات المادية يكسب حقا النمو والنماء لكنه يؤدي كذلك إلى الوقوع في العزلة.
والثقافة هي الترياق المتاح ضد العزلة بصفتها فضاء للتواصل ولإقامة الأواصر والصلات بين بني الإنسان الأواصر والصلات الحبلى بشتى أنواع التضامن والجالبة للتقدم والرقي.
إن الثقافة ليست ظاهرة ثانوية إنها تنبع من تملك المكون الإجتماعي للتراث المتعدد الأشكال لحضارة مشتركة بين جملة من الشعوب. فالخصوصية الثقافية لكل مجموعة إنما تكمن في فعل التملك هذا الإرادي والانتقائي. إن الأمر يتعلق بمكسب يتطور على مر القرون مكسب تتحكم فيه الظروف وتعتوره تحولات بل وحتى فترات انقطاع. لقد قال مالك بن نبي: "ليست الثقافة علما بل هي جو يتحرك ضمنه الإنسان الذي يحمل حضارة في حناياه. إنها وسط يكون فيه كل تفصيل من التفاصيل مؤشرا ينم عن مجتمع يسعى إلى مصير واحد".
ومن ثمة فإن الثقافة هي في رأيه تلك التركيبة من العادات والملكات والتقاليد والأذواق والأعراف والسلوكات والمشاعر التي تعطي لحضارة ما وجهها وملامحها وتزودها كذلك بقطبيه العبقرية والروح".
إنهما قطبان مولدان للأواصر والصلات مقاومان لعوادي الزمن وليس للمسافات عليهما تأثير. إنها أواصر من صلب مزايا وأفضال الثقافة العربية التي تفضلتم بجعل الجزائر العاصمة قلبها النابض في مطلع عام 2007 هذا.
إن الثقافة شفوية كانت أم حدسية أو شعبية أو مكتوبة أو مكتسبة لدى كل أمة من أممنا قد ضعف جانبها بفعل قصور في القدرة على التكيف مع التغيرات الشديدة غالبا التي تعرضت لها مجتمعاتنا ومع محيط خارجي تعددت مظاهره.
إن ارتفاع عدد السكان في بلداننا خلال بضعة عقود من الزمن إلى ضعفي بل ثلاثة أضعاف ما كان عليه قد أدى إلى تقهقر الثقافة الشعبية وتراجعها أمام الشعبوية.
وأدى زوال دولة المن والسلوى إلى إفقار شرائح بأكملها من الساكنة في حين أن اختفاء الإيديولوجيا والثقافة الرسميتين اللتين تروج لهما الدولة الأمة جردها مؤقتا من المعالم التي بها تسترشد وتهتدي.
إن الفراع الذي خلفه العجز الثقافي سرعان ما سدته رؤية دينية مختزلة وحاقدة سرعان ما سخرت لخدمة استراتيجيات عنيفة غايتها الاستيلاء على السلطة استراتيجيات تجلت في الجزائر بأقصى مظاهرها خلال "العشرية السوداء". إذ أصبح المثقفون الذين ينشطون الحياة الثقافية في البلاد الهدف المفضل لإرهاب عاث في الأرض فسادا بلا وازع ولا ضمير.
والسخط المتولد عن تفاقم الخروقات التي طالت أبسط حقوق الفلسطينيين الإنسانية وعن الاعتداءات الخارجية المتعددة المقترفة في الشرق الأوسط زاد الذهنيات راديكالية في العالم العربي بما لا يخدم الازدهار الثقافي ولا يتواءم معه.
يتبع