كمال الجزائري
:: عضو مُشارك ::
- إنضم
- 14 أفريل 2009
- المشاركات
- 110
- نقاط التفاعل
- 0
- النقاط
- 6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد كفاء ما أرشد وعلم، وكفاء ما هدى من الضلالة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:فيا أيها الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وإني في فاتحة هذا اللقاء الذي ضاقت إليه النفس منذ زمن لأشكر لمعالي أخي الكريم الدكتور صالح العُبُود مدير الجامعة على دعوته الكريمة للإلقاء هذه الكلمة لطلاب الجامعة.
ولا شك أن الوقت -أعنى وقتكم- مشغول بأشياء؛ ولكن هي إشارات لأمور مهمة في هذا الوقت بالذات.
نظرتُ فيما أتكلم عنه ووجدتُ أن المسائل والعلوم كثيرة والدعوة والتوجيهات متنوعة الجوانب، فتأملت فإذا أمثلها أن نتدارس في منهج التفكير في القضايا والواقع المسْتقى من كلام السلف وسيرتهم، أو لك أن تقول: كيف نفكر على وفق منهج السلف؟
ومن المعلوم أن العلوم الشرعية الأصلية -التفسير والحديث والفقه واللغة العربية والسيرة النبوية وأشباه ذلك، والتوحيد والعقيدة- لكل منها أصولا من سار عليها أمن من الزلل في ذلك العلم، فمن عرف مصطلح الحديث أمِنَ من الزلل في تناوله للأحاديث النبوية من حيث الرواية والدراية، ومن علِمَ أصول التفسير وعلوم القرآن أدرك الطريقة التي بها يفسر بها القرآن، ومن علِمَ النحو والبلاغة -وهما علمان يُفهم بهما كلام العربي- فإنه يأمن ويصل إلى الصواب في فهم اللغة العربية، وكذلك أصول الفقه، وكذلك مصطلح التأريخ وهكذا في علوم كثيرة.
ومما تأملتح ورأيت أن الحاجة ماسة له أن يكون هناك تدارس للتفكير؛ لأن الناس اليوم أكثر ما يكونون يفكرون في أمورهم وفيما حولهم، وفي واقع الأمة وفي واقع الناس وفي الواقع العلمي وفي الواقع الدعوي والواقع السياسي والواقع الحركي والواقع كذا وكذا، وأكثر ما تكون مجالس الشباب في هذا الصدد.
ولهذا كان من العلوم المهمة التي ينبغي أن تؤصل اليوم لإدراك الصواب وللوقاية والعلاج أن يُوضع منهج للتفكير؛ وكما كان الأوائل يقولون: إن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح، والعقل الصريح يؤدي إلى الصواب في الفهم، أو كما قال اليونان لما ذكروا المنطق قالوا: هو علم أو قواعد السلوكُ عليها يعصم العقل من الغلط في تناول العلوم، فكذلك التفكير يحتاج إلى منهج وقواعد يكون فيها على بينة ويُعصم معها من الزلل، والتفكير أخطر وأخطر؛ لأن منه تتبنى المواقف وتتخذ الأمور ويحصل أشياء كثيرة في حياة المسلم في نفسه وكذلك في حياته وفي أسرته وفيما حوله ومجتمعه؛ بل وفي أمته.
ولذلك كان لزاما أن أدعو -عبر هذه الجامعة العريقة المتميزة- أن يكون هناك تدارس من ذوي العلم والحكمة والدعوة لهذا العلم -إن صحت التسمية- وهو منهج التفكير لدى المسلم في واقع الأمور.
لماذا نبحث في المنهج؟
أولا: لأن التقعيد يسهل معه إدراك الصواب دائما، فبدل ما إذا كان كل ما وقع شيء صار هناك اضطراب وسؤال كيف نعمل؟ ما هو الموقف الصحيح؟ ماذا نعمل؟ إلى آخره، فإنه نحتاج إلى منهج لتكون مواقفنا متقاربة دائما، وعلى وفق العلم النافع وهدي السلف.فإذن من فوائد وضع المنهج أن يكون هناك ثبات في المواقف وتقارب فيها.
الأمر الثاني: أن يقل الخلاف في الأمة تجاه الوقائع والواقع، ومعلوم أن العقول كثيرة ولذلك صارت الاتجاهات كثيرة والفئات كثيرة والجماعات كثيرة والمواقف كثيرة، وهذا مُنْذِرٌ بشر لهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما صح عنه لحذيفة في حديث طويل معروف قال «فاعتزل تلك الفرق كلها» لأن هناك عدد من الأقوال والآراء والأفهام، وجود المنهج يجمع.
الثالث: أنه يقيم التصور الصحيح الذي هو غاية المسلم، غايتنا أن نكون على بينة فيما نأتي وفيما نذر، وأن يكون التصور والحكم على الأشياء صحيحا نزدلف به إلى مرضاة الله جل وعلا؛ لأن القصد ليس هو إبراز النفس، وليس القصد من هو أقوى من فلان أو فلان، أو أبلغ من فلان، القصد القربى إلى الله جل وعلا بأن يكون العمل والقول والعمل صوابا في نفسه على وفق السنة، ومعلوم أن الاختلاف وقع، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبينا ضرورة وجود الهدي والطريقة والمنهج «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليك بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعظوا عليها بالتواجذ وإياكم ومحدثات الأمور» فبين لقوله (عليكم) وعليكم هنا من ألفاظ الوجوب، (بسنتي) وهو هدي وطريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن السنة الهدي والطريقة (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) كذلك.
من الفوائد: فوائد وضع المنهج أن تقل الفتن في الأمة، معلوم أن الفتن إنما ظهرت بكثرة الآراء التي لا مستند لها أو لا حجة راجحة مع أصحابها، فإذا كان هناك منهج للتفكير والوصول إلى الحق فإنه يكون حينئذ بعد عن الفتن.
والأخير: أنه لوجود المنهج نفرق بين الحقيقة وضدها، وما بين المحق والمبطل، وما بين المسارع في الفتنة وما بين الحكيم الذي يطلب نجاة نفسه ونجاة من حوله.
نرى أن السلف رضوان الله عليهم من الصحابة فمن تبعهم بإحسان تقلبت أمور كثيرة من الأحوال والفتن والأقوال والحروب والقتال إلى آخره؛ لكن كان المنهج متقاربا لأنهم صدروا عن منهج في التفكير متقارب.
لهذا نطوي بعض التفاصيل ونذكر شيئا من:المعالم المؤثرة في هذا المنهج
أولا الأصل في هذا المنهج هو الحرص على الاعتصام بالكتاب والسنة وهدي سلف الأمة.
الكتاب والسنة الكل؛ كل فئات الأمة تدعيه، كل يقول نحتج بالكتاب والسنة؛ لكن الشأن فيمن فهم فهما فاحتج بفهمه، فنقول له: هل كن هذا الفهم معروفا عند السلف؟ فإذا لم يكون معروفا دل على اطراحه.
ولذلك لما جاءت مسائل في العلم ممثل مسألة التبرك بالصالحين في حياتهم، عرض بلها عدد من أهل منهم الشاطبي في الموافقات وفي الاعتصام، وذكر أن مقتضى الإيمان أن يكون في المؤمن بركة، كما جاء في الأثر: ما هذه أول بركتكم يا آل أبي بكر. وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن من الشجر شجرة بركتها كبركة المسلم» مع هذا التبرك، قال الشاطبي: إلا أنه عارض ذلك متن مقطوعٌ به في نفسه وهو أن الصحابة لم يكونوا يفعلون بأبي ولا بعمر ولا بعثمان ولا بعلي ولا بالعشرة المبشرين بالجنة شيئا من ذلك، فدلّ أن التبرك بالذوات أو بالجسم بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقطوع بهجر السلف له، أو بعدم استعمالهم له، فدلّ على أنه ليس من الدين.
هذا المنهج في التفكير، كذلك في النظر للواقع تأتي قضايا كثيرة نعتصم بهذا بالكتاب والسنة وبسلف الأمة.
جاءت الفتنة في وقت عثمان رضي الله عنه وفي قوت علي رضي الله عنه جاء الخوارج واحتجوا، هل هناك كتب من كتب أهل العلم؟ ما كان، هل كان هناك مؤلفات؟ لم يكن، إنما كان عندهم الاحتجاج بالقرآن أو بحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحتجوا بالمتشابه منه، وتركوا الرجوع للصحابة في ذلك؛ فضلوا. وكما شهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنهم كلاب أهل النار، وكيف وقد قتلوا عثمان وعليا رضي الله عنهما.
فإذن في المواقف التي حصلت ضلوا بأنهم رجعوا إلى القرآن والسنة بالاستدلال بالمتشابه لا بالمحكم ولم يستضيئوا من العلم الموروث لدى الصحابة بنور ولم يأووا إلى ركن وثيق.
وهكذا في حالنا اليوم المنهج قائم، لابد من الاعتصام بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، والعلماء الربانيون يدلون على هذا الفهم.
المعْلم الثاني أن الله جل وعلا يبتلي الأمة بالفتن والشبهات؛ الشبهات العلمية والشبهات أيضا العملية في الفتن.
وهنا ما الموقف من الشبهات العلمية وكذلك من الفتن العلمية؟
هنا أن نعلم أنه كما جاء في الكتاب والسنة متشابه قال الله جل وعلا في القرآن ?هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ?[آل عمران:7]، فإذا كان كلام الله جل وعلا فيه محكم وفيه متشابه، كذلك كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه محكم وفيه متشابه، ضلت الخوارج المرجئة القدرية المعتزلة الفئات ضلوا لأنهم استدلوا بالمتشابه وتركوا المحكم في ذلك.
كذلك كلام أهل العلم فيما دوّنوه في الكتب من باب أولى لعدم إحاطتهم وعِلم بكل شيء؛ أن يكون في كلامهم محكم ومتشابه، فليس الشأن حينئذ في الخروج من الشبهات العلمية والمآزق التي ترى اليوم الكثير مما يأتي ويؤلف ويقول وينشر بأقوال، يستدل فيها ربما بالقرآن والسنة، وربما استدل بكلام السلف، وربما استدل بكلام العلماء في كتبهم؛ لكن هل الشأن وجود النقل؟ أو الشأن في دلالة النقل على المراد وإرجاع المتشبه من كلام أهل العلم إلى محكمه؟
أما إذا أتينا في كل مسألة وأخذنا كلام العلماء، في أي مسألة تريد نملأ عددا من الصفحات ونؤلف ونقول عن أهل العلم.
فإذن منهجك في التفكير إذا جاءت الشبهات العلمية أو المسائل المختلفة هي ألا تنظر إلى وجود النقول فحسب؛ بل تنظر إلى أن هذه النقول في فهمها قد دلّ الراسخون في العلم على أن هذا هو فهم السلف لها؛ لأن التعبد قائم علينا بأن نكون مجتنبين للشبهات في كلام الله جل وعلا.
لهذا في القرآن تجد أن الله جل وعلا بين أن الشبهات ليست هي سبب الزيغ قال ?فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ? فإذن الشبهات هي سبب الزيغ أو الزيغ وُجد أولا ثم صاحبه بحث عن الشبهات؟ قال ?فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ?[آل عمران:7].
وهكذا اليوم في النقول من كلام أهل العلم نجد أن الذي عنده زيغ في الأصل لأنه لم يتستقِ علمه الصحيح من مصدره الصحيح ويتبرأ من الهوى العلمي ويأخذ من معدنه ويصبر على ذلك، وتجد أنه وجد الزيغ عنده والاشتباه وهوى النفس؛ فبحث عما يستدل به، فتجده ينقل عن الإمام أحمد ينقل عن الصحابي كذا أو من العمل أو الفقيه الفلاني أو عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو عن فلان وفلان إلى آخره.
ليس الشأن في هذا، الشأن في أن يكون ما تنقل محكما أو المتشابه يرد إلى المحكم أهل العلم، فهذا منهج للتفكير مهم، في أنك تنتبه في ألا تقع في مشتبهات كلام أهل العلم.
أيضا الفتنة، الفتنة العملية تقع، الفتنة منها الاختلاف، اختلف الناس في أقوالهم، اختلف الناس في مواقفهم، اختلف الناس، تقاتلوا، حصل، وقعت أمور الفتنة، فهنا إذا حدثت هذه الفتن فما المنهج فيها؟ كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله حذيفة قال رضي الله عنه قال: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال «نعم وفيه دخن» قال: وما دخنه؟ قال «قوم يهدون يغير هديي ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر»؛ يعني إذا شفت جزء من أعمالهم أو أعجبتك أشياء وأشياء أخرى تنكرها، قال «تعرف منهم وتنكر»، قال: فما تأمروني؟ قال «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» لزوم جماعة والمسلمين؛ يعني القول العام في المسلمين؛ لأن يد الله مع الجماعة.
فإذن هذا منهج عام لزوم جماعة المسلمين -جماعة أهل العلم-؛ لأن الشاذ من الأقوال مطّرح، وكما هو معلوم لا يزال هناك طائفة تقوم بالحق ونبينه هي المنتصرة بالحجة البيان بموافقتها لكلام السلف.
من المعالم الرابع: أن الواقع في الأمة اليوم يحمل معه النفوس على أن تسير في اتجاه يضر بها أو مخالف لمقتضى العقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة، وذلك بسبب الضيق؛ ضيق النفس من هذا الواقع المظلم الصعب.
فمن منهج التفكير لدى المسلم أن يغلِّب جانب التفاؤل، ويحذر من القنوت واليأس الذي يحمله على عمل أشياء منكرة، التفاؤل والإيجابية هذه تعطيك انطلاقة، فإذا ما نظرت إلى الواقع اليوم ثق أن الإسلام سينتصر وسيعود عزيزا كما كان؛ لأن الله جل وعلا يقول لنا ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?[الفتح:8]، فمن الذي شهد بهذه الشهادة؟ هو الله جل وعلا.
فإذن الزمن لا ننظر إليه، مر خمس سنين، عشر سنين، عشرين، خمسين سنة، لا يهمنا، ولا أكثر، المهم أن يوافق علمنا الصواب ?لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء?[البقرة:272]، لو كان النصر والفتح ينزل على أحد لما معه من الحق لنزل مباشرة على نوح عليه السلام؛ لكن نوح عليه السلام كم مكث في قومه؟ تسعمائة وخمسين سنة؛ ألف سنة إلا خمسين عاما، هنا انتصر بعد ذلك بالله جل وعلا، وهنا الحظ في سورة العنكبوت قال الله جل وعلا ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ?[العنكبوت:14-15].
هنا السؤال: لماذا ذكرت قصة نوح في آيتين في سورة العنكبوت؟ وهذا مأخذ لابد لطلبة العلم أن يتأملوه ورود قصص الأنبياء في القرآن مرة طويلة، ومرة مختصرة، مرة قصيرة، مرة لغرض واحد في آية، مرة في آيتين، مرة في خمسين آية، لماذا؟
هذا له أسبابه المعروفة عند أهل العلم ومنها أن إيراد القصة والقدر المورود منها إنما هو لعبرة ?لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ?[يوسف:110] لتوافق المقصد من السورة؛ لأن كل سورة من القرآن لها مقصد.
سورة العنكبوت ما المقصد منها؟ التحذير من الفتنة ?الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?[العنكبوت:1-3]، فتنة الإنسان بوالديه ذكرها، ثم فتنته بمن حوله.
نوح عليه السلام أي فتنة في قصته؟ فتنة الزمن؛ تطاول الزمن، كيف يصبر واحد يريد الحق، يضايَق، يرى ما فيه، يصبر ألف سنة إلا خمسين عاما؟ نعم إن لم تصبر فقد أدركتك الفتنة، لابد أن يكون المنهج صحيحا والطريق الصواب، وإلا فالزمن لا عبرة به، ?لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء?.
هنا تأمل في أنه لا نستعجل ولا يستخفنا الذين لا يوقنون، أنظر لما جاء الأمر بالصبر جاء معه التحذير من الاستخفاف، قال الله جل وعلا ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ?[الروم:60] يعني مهما عملوا اصبر إن وعد الله حق اصبر حتى يأتي إذْن الله جل وعلا ثم قال بعدها ?وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60] والآية مكية، المشركون في مكة حصروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشعب سنة، فيه أعظم من هذا؟ يصلي يلقى عليه سَلَى الجزور، ضايقوه عاملوه، مضايقات نفسية، حرب، وضعوا الشوك، كل أنواع الأذى، ومع ذلك قال وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?، بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله لو شئت لملنا على أهل منى بأسيافنا. لاحظ أثر الاستخفاف، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم «لا لم نؤمر بعد».
فإذن التحذير من الزمن، والزمن يؤثر ،وواقع الأمة أو الواقع المؤلم أو الذي يعمل ضنكا يؤدي إلى أي شيء؟ يؤدي إلى الاستخفاف، من الذي يستخف الآن الناس؟ الذين لا يوقنون، يريدونهم أن يعملوا أعمالا؛ ولكن الصبر نصف الإيمان؛ لأن الإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر.
فإذن التفاؤل مطلوب، تفاءل، أدع، أثر في الناس دائما بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، كن متفائلا، لابد أن تحسن الظن بربك جل وعلا، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» وهذا يعطيك أوسع أبواب التفاؤل وله الأثر في الطمأنينة وله الأثر في العمل الإيجابي المثمر في الناس، لذلك تجد هدي السلف كيف كان؟ حصلت فتن وأمور وفساد، هل توقفوا عن التأثير النافع؛ في التعليم، في التأليف، في الدعوة؟ لا.
الدولة الفاطمية في مصر وما فيها من البلاء وما أصاب العلماء فيها من أفعال، أنظر المؤلفات التي ألفها العلماء في وقت وجود الدولة الفاطمية في مصر، تجد أنهم أقبلوا على العلم والتعليم والدعوة والخير بحسب الممكن لهم.
إذن فالتفاؤل يعطيك حسن الظن بالله جل وعلا، وحسن الظن بالله جل وعلا يحملك على أن تبذل ما فيه الخير.
من المعالم للتفكير الصحيح في واقع الناس واقع الدول واقع العلماء واقع الدعاة، من المعالم أن تنظر أنه ما من أحد يعمل عملا إلا وعنده –يعني من المسلمين- إلا وعنده خير يحمد عليه وذنب يذم به، حسنات وسيئات، ذنوب وأعمال صالحة.
لهذا لما جاء في قصة معاوية مع أحد الصحابة الذي كان يذم معاوية رضي الله عنه كثيرا في مجالسه ومعاوية عمل وعمل.
فاستدعاه معاوية قال: يا أخي بلغي أنك تقول كيت وكيت. قال: نعم.
قال: يا أخي أليس لك حسنات؟ قال: بلى.
قال: فما ترجو فيها؟ قال: أرجو القبول.
قال: أليس لك سيئات؟ قال: بلى.
قال: فما ترجو فيها؟ قال: أرجو فيها العفو وأخاف على نفسي.
قال: أفلا رجوت لأخيك ما رجوت لنفسك!!
الخيال أنه سيكون شيء صواب كامل لا غلط، فيه حسنات كاملة دون سيئات، في مجتمع في دولة أو في عالم أو في إنسان أو في صديق أو في نفسك، غير ممكن.
ولذلك من المنهج الحسن أننا نشيع الخير والحسنات في الناس فيتأثروا بها وتعظم في أنفسهم، ونقبل من الشر في الناس بذكر السيئات حتى لا يزيدوا شرا لذلك ثبت عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «من قال فسد الناس فهو أفْسَدُهُم» يعني هم أشدهم فسادا، وفي الضبط الثاني «فهو أفسَدَهُم»؛ لأنك إذا قلت الناس فسدوا، وهؤلاء فسدوا وهؤلاء فيهم وفيهم، سيزداد الفساد، لن ينقص، ولذلك في كثير من الأمور، إذا تداولها الناس من الأمور السيئة تزيد لا تنقص، بخلاف الحسنات فإنك إذا ذكرتها فإنها تزيد أيضا من الخير.
لهذا أننا نرجو هنا أن يكون النظر صوابا في وجود الحسنات والسيئات.
فإذا كان كذلك فموقفنا مع وجود السيئات في مكان في مجتمع في فئة إلى آخره، أن نُناصح، نبذل الدعوة، نبذل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أصول الشريعة؛ لكن نكتم وجود هذه الأشياء، أما الحسنات فننشرها لكي يتأثر الناس بذلك.
من المنهج في النظر ففي الواقع واختلافات الناس تحرّي العدل في الأقوال والحذر من المبالغات.
اليوم أنا استقرأت أحوال الناس فيما ينقلونه في الواقع، فتجد أن العدل والإنصاف قليل المبالغة والكذب كثير، فتجد أن فلانا أنا وأنت والثاني والثالث إذا أراد أن يذكر شيء لازم أن يزيد فيه، ما يتحرى اليقين فيما نقل.
والمبالغات هذه نوع من الكذب؛ بل هي كذب ربما تكون افتراء، ولهذا في مقدمة صحيح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع»؛ يأتي واحد يقول الثاني ووش الأخبار؟ إيش فيه؟ والله حصل كذا وعمل كذا، سمع، صحيح ما هو صحيح، وهذا الثاني يصدق قليل ويمشي ويزيد عليها، تنتشر أشياء لا حقيقة لها. وفي الحديث الآخر أيضا في مقدمة صحيح مسلم «من حدث بحديث يرى أنه كذب فإنه أحد الكاذبِين -أو الكاذبَين- » أحدث بحديث أنا ما أتوقع أنه صحيح لكن تقوله، فحينئذ أنت أحد الكاذبين بنص كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولذلك في الحديث «وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»، يقول الحكماء: ليس شيء أحق بطول سجن من اللسان. اللسان يرفع مقامك بالتوحيد وذكر الله جل وعلا وعبادته أو يجعلك تهوي في النار سبعين خريفا، والعياذ بالله.
ولذلك المبالغات الحذر منها، فإذا كان منهج التفكير عندنا التصديق بالمبالغات أو أن ننقل كل شيء، فحينئذ فالمنهج فيه خلل، وحينئذ الحكم على الأشياء سيكون خللا محضا ولا شك؛ لأن الله جل علا أمرنا بالعدل ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ?[النساء:135]، فإذا أمَرنا الله جل وعلا أن نكون ?قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ? يعني بالعدل في الأقوال والأعمال والأحكام المبالغة أيضا تضل وتؤثر وقال جل وعلا ?وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة:8] العدل سبيله أن تكون قليل الكلام متجنبا للمبالغات، ما تحدث بكل ما تسمع.
من معالم المنهج في التفكير الصحيح في الواقع أن يكون لدى المسلم محبة الخير لإخوانه المؤمنين، ولا يدّخر خيرا؛ بل يحب لهم الخير ويسعى في ذلك أشد السعي.
ومن أجمل ما يروى في ذلك ما نقله ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد أنه قال: وددتُ لو أني جسمي قُرّض بالمقاريض وأن الخلق أطاعوا الله جل وعلا. شوف محبة الخير لأهل الإيمان؛ يعني حتى ولو كانوا أطاعوا الله جل وعلا بتعبي بمرضي، فإنه هذا مما أوده وأحبه.
الله جل وعلا يقول ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ?[الحجرات:10] ويقول ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ?[التوبة:71].فإذن المنهج العام للتفكير المستقيم وسط بين الذين لا يهتمون بالأمة ولا بالمسلمين ولا يرعون لهم بالا أصلا، وبين أولئك الذين يكرهون أهل الإسلام ويكرهون المسلمين ويقولون هؤلاء أهل المصائب، فتفكر بأنك تحب الخير لهم، وإذا أحببت الخير لهم، فإنك ستسير فيهم على ضوء القواعد التي ذكرنا أولا، أو الضوابط والمنهج، لأنك تدعوهم في الاعتصام بالكتاب والسنة على وَفق منهج السلف تحذرهم من الفتن، تنتبه لما ينفعهم ولما يضرهم، تنشر حسناتهم، تستر سيئاتهم، محبة الخير للمسلمين يعطيك اندفاع وعمل صالح وانشراح في النفس ونور في الصدر وتوفيقا في القول والعمل.
من معالم المنهج أن الواقع كما ترون اليوم وكما سيأتي مضى وسيأتي أنه مضطرب وأنه ويقوم فيه أمور منكرة في الحال وربما في الآل، وهنا لابد من وجود الغيرة على الدين؛ لأن الغيرة على الدين تحمل المسلم على أن يستمسك بالذي أوحي إليه، وإذ لم عنده غيره على توحيد الله، لم بكن عنده غيرة على العقيدة الصحيحة، لم يكن عناده غيرة على منهج أهل السنة والجماعة، لم يكن عنده غيرة على دماء المسلمين التي تسفك على أموالهم على أعراضهم، لم يكن عنده غيرة على علماء المسلمين، لم يكن عنده غيرة على أمة الإسلام، لم يكن عنده غيرة على حرمات الله وعلى شعائر الله.
فإذن سيكون باردا ضعيف الإيمان، وربما لا يثبت على الإيمان؛ يعني على إيمان كامل، فالغيرة سبيل للثبات، لكن الغيرة قد تعصف، فلذلك نحتاج إلى غيرة منضبطة بضوابط الشرع، الغيرة التي تحمل على التقدم والعلم والعمل والحميّة؛ لكن منضبطة بضوابط الشرع.
غيرة لا تحمل على سلوك منهج الفرق الضالة في الموقف من الدول أو من ولاة الأمور أو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ممن خالف المسلم.
فإذن معالم هذه الضوابط في الغيرة يضيق المقام عن بسطها.
من معالم المنهج في التفكير أن الأمور تشتبه، ويكون فيها معضلات، أمور سياسية صعبة، أمور علمية مشكلة كبار، أمور دعوية، ترجيح بين المصالح، أولويات ماذا يُقدم؟
هنا كيف نفكر في حال وجود هذه الأشياء العظام.
نجد أن حال الكثيرين: أنه لا أحد يقول عن نفسه إنه قاصر عن تناول هذه المسائل العظام في الأمة؛ بل كل أحد يقول أنا أفهم فيها، أفهم في العلم بجميع أنواعه، أفهم في السياسة، أفهم في الأمور، أعرف مكائد الأعداء، أعرف المصالح والمفاسد، أعرف الأولويات، أعرف ماذا يقدم.
كل شيء يعرفه كل أحد. وهذا من الخلل الكبير في التفكير.
فإذن منهج التفكير في هذه الأمور أن نقتنع بأن لكل فن أو علم أو تخصص أو ميدان أهله وخاصته، وهذا في القرآن في قول الله جل وعلا ?وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ?[النساء:83]، أولي الأمر، كل في ميدانه.
في ميدان الولاية العامة وقيادة الأمة، ولاة الأمر الحكام.
في العلم الشرعي وما يأتي الإنسان وما يذر والقضايا العلمية في العقيدة في الجهاد في الأحكام أهل العلم الراسخون فيه.
في القضايا العملية في التخصصات، فهنا نرجع ونؤمن بضرورة مثل هذه التخصصات.
فأما إذا كان الشاب مثل ما ننظر اليوم تسعة عشر سنة عشرين سنة اثنين وعشرين سنة يسفّه من هم أعلم وأحكم منه في هذه الأمور، فهذا خلل في المنهج.
هنا لك أن تستشكل، تسأل، تطلب الصواب، وهذا يعطيك ملكة مع المستقبل مع الزمن لتكون عالما حكيما تدرك الأمور؛ لكن أن تعرض من أول الأمر ولا تعطي كل أهل اختصاص اختصاصهم، فإنه حينئذ يقع الخل في التفكير، وهذا ومن أعظم ذلك الرجوع إلى أهل العلم والثقة بأقوال الراسخين في العلم وأنهم أعلم بالمصالح والمفاسد في الأمور الشرعية وما يأتون وما يذرون من توجيه للأمة.
هناك معالم بالمقابل لهذه المعالم سلبية مؤثرة سلبا في تعاطي المنهج السليم في التفكير والنظر في الواقع، ذكرناها فيما سبق لكن أعدها باختصار.
المبالغات وذكرناها.
تصديق الشائعات ذكرت.
الثالث من المؤثرات السلبية على التفكير السليم التأثر بالشعارات والألفاظ الرنانة، يأتي واحد ويقول، يأتي بشعار جميل انقاذ الأمة، برنامج لإنقاذ الأمة، الإصلاح، الجهاد، إصلاح مناهج التعليم، التحذير من كذا، في الألفاظ مختلفة.
هنا المنهج السليم في التفكير يقول لك: العبرة بما تحت الألفاظ لا بالألفاظ، لا تغتر بشعار لا تدري ما تحته. واحد يقل لك الإصلاح، الإصلاح كيف؟ واحد يقول مثل الآن: إصلاح مناهج التعليم. بأي شيء؟ ما تفاصيل ذلك؟ إذا كان تعديل بما يوافق الصواب ويقوّي الحق ويعصم من الفتن والانحرافات، فهذا طيب إذا المراد منه شيء آخر، فإذن يكون فيه حذر.
لذلك يقول بعض الحكماء: كم نفذت أمور هي من [الخُرْق] بمكان في ظل ألفاظ حسنة الانتقاء.
يعني الواحد يأتي يريد أن يصرف الناس إلى شيء لابد أن يأتي بلفظ جميل يجعله شعار له حتى يتبع الناس؛ لأن أكثر الناس ما يفكر في التفاصيل، وليس أكثر الناس برهانيا يتبع الدليل ويفكر تفكيرا منهجيا صحيحا، إنما يصدقون بالشعار هذا كذا نعم فيأخذ، فإذن كم نفذت من أمور هي من الخرق بمكان في ظل ألفاظ حسنة الانتقاء.
فإذن نحذر حتى ولو كانت الألفاظ صحيحة؛ لكن ربما يكون تحتها أشياء فسرها أصحابها بتفسير مخالف للصواب فيقود الناس إلى تفسير مخالف للصواب.
من المؤثرات السلبية على التفكير السليم اعتقاد لأن الأشد والأغلظ والأقوى من المواقف هو الدين والحكمة في كل حال، وليس الأمر كذلك.
يأتي الآن بعض الناس كيف يفكر؛ يعني يؤثر على تفكيره الصحيح؛ لأنه يرى هذا الموقف أقوى، يقول ما دام أنه أقوى هذا الصحيح هذا الحق، يرى القول هذا أشد يقول ما دام هذا القول أشد في الدين معناه أنه هو الأصح، وهكذا.
ولو كان الأمر كذاك لكان الحكم واضحا حينما قال عمر رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديبية لما قالوا: أمح (الرحمن الرحيم) ولا تقل كذا، للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: «بلى» قال: فعلى ما نقبل الدنية في ديننا.
فهنا كان عمر رضي الله عنه في هذا الموقف هو الأشد، وعنده العزة الظاهرة التي يعجب بها الإنسان؛ لكن لم يكن الصواب معه، كان الصواب مع قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما عمل، فيما طلب المشركون فأجابهم إليه. لماذا؟ لأن الحكمة تقتضي ذلك، والله جل وعلا سمى الفعل من فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّلح سماه فتحا مبينا، فكانت الشدة في هذا المكان مخالفة؛ بل تؤدي إلى عدم حصول هذا الفتح المبين.
يأتي اختلاف الفتوى عند العلماء، يقول هذا الحق كذا ويأتي القول الأشد، فيأتي الواحد يفكر كيف ما ينظر للدليل، ما ينظر للقواعد العامة ما دام الشد هو الصواب، ليس قاعدةً، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما صح عنه في سنته والحديث: ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. «إن هذا الدين يسر ولم يشاد الدين أحد إلا غلبه».
أيضا من المؤثرات في التفكير تصديق القنوات الفضائية.
اليوم فيه فتنة أخبر بها النبي كما في صحيح البخاري، وهي فتنة القنوات الفضائية، قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لا تقوم الساعة حتى يقل العلم ويبث الجهل» لفظ (يبث) في البخاري كلمة (يبث) فيه عدة ألفاظ «لا تقوم الساعة حتى يقل العلم ويبث الجهل»، والجهل اليوم فينا في الناس من أسباب بثه أن يجعل هناك خلل في تفكيرنا، كيف نتلقى الأمور؟ ما عَادْ فيه مرجعية، الواحد ما عَادْ يسأل، ما يكون ملازما للجماعة مع علمائه يسأل، لا أصبح هناك بث للجهل بأن الإنسان يكون مجتهدا في كل شيء ويختار ما يشاء ويترك ما لا يشاء، وهلم وجر.
فإذن وجود القنوات الفضائية فيما تبثه من أخبار وإشاعات وأقوال، لا تستطيع أن تميز الصحيح من غير الصحيح، لا من جهة الأخبار السياسية ولا من جهة الفتاوى الشرعية، ولا من جهة كذا وكذا، ولا من جهة البحوث ولا اللقاءات ولا الحوارات.
فإذن تحذر من هذه أن تجعل عندك خللا في التفكير، وأن تكون مستفيدا منها عند الحاجة بشرط ألا يؤثر ذلك على منهج التفكير الصحيح المقرر بالاستقراء في منهج السلف.
على العموم المسائل كثيرة، ولدي ثلاثة عشرة نقطة لم أتحدث عنها، وقد تحدثت عن ستة عشرة نقطة باقي ثلاثة عشر، الجميع تسعة وعشرين لضيق المقام، وأنتم في أيام اختبارات عن التفصيل في كل ذلك لكنه لعله يكون هناك ميدان للتفصيل في هذا المنهج منهج التفكير في أمور بقيت في تفاصيل: فقه المنهج، وكيفية تعاطيه، وكيفية دراسة أصوله عند السلف ونحو ذلك.
وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا مسدَّدين فيما نأتي وفيما نذر، وأن يجعلنا ممن رضي عنه فأصلح له القول والعمل.
اللهم اغفر لنا ولولاة أمورنا ولوالدينا ولمن له حق لدينا، اللهم وفق علماءنا وارحم الأموات منهم ووفق الأحياء واجعلنا جميعا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى إنك على كل شيء قدير، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
منهج التفكير
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[شريط مفرغ]
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، فصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد كفاء ما أرشد وعلم، وكفاء ما هدى من الضلالة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:فيا أيها الإخوة الكرام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وإني في فاتحة هذا اللقاء الذي ضاقت إليه النفس منذ زمن لأشكر لمعالي أخي الكريم الدكتور صالح العُبُود مدير الجامعة على دعوته الكريمة للإلقاء هذه الكلمة لطلاب الجامعة.
ولا شك أن الوقت -أعنى وقتكم- مشغول بأشياء؛ ولكن هي إشارات لأمور مهمة في هذا الوقت بالذات.
نظرتُ فيما أتكلم عنه ووجدتُ أن المسائل والعلوم كثيرة والدعوة والتوجيهات متنوعة الجوانب، فتأملت فإذا أمثلها أن نتدارس في منهج التفكير في القضايا والواقع المسْتقى من كلام السلف وسيرتهم، أو لك أن تقول: كيف نفكر على وفق منهج السلف؟
ومن المعلوم أن العلوم الشرعية الأصلية -التفسير والحديث والفقه واللغة العربية والسيرة النبوية وأشباه ذلك، والتوحيد والعقيدة- لكل منها أصولا من سار عليها أمن من الزلل في ذلك العلم، فمن عرف مصطلح الحديث أمِنَ من الزلل في تناوله للأحاديث النبوية من حيث الرواية والدراية، ومن علِمَ أصول التفسير وعلوم القرآن أدرك الطريقة التي بها يفسر بها القرآن، ومن علِمَ النحو والبلاغة -وهما علمان يُفهم بهما كلام العربي- فإنه يأمن ويصل إلى الصواب في فهم اللغة العربية، وكذلك أصول الفقه، وكذلك مصطلح التأريخ وهكذا في علوم كثيرة.
ومما تأملتح ورأيت أن الحاجة ماسة له أن يكون هناك تدارس للتفكير؛ لأن الناس اليوم أكثر ما يكونون يفكرون في أمورهم وفيما حولهم، وفي واقع الأمة وفي واقع الناس وفي الواقع العلمي وفي الواقع الدعوي والواقع السياسي والواقع الحركي والواقع كذا وكذا، وأكثر ما تكون مجالس الشباب في هذا الصدد.
ولهذا كان من العلوم المهمة التي ينبغي أن تؤصل اليوم لإدراك الصواب وللوقاية والعلاج أن يُوضع منهج للتفكير؛ وكما كان الأوائل يقولون: إن العقل الصريح يوافق النقل الصحيح، والعقل الصريح يؤدي إلى الصواب في الفهم، أو كما قال اليونان لما ذكروا المنطق قالوا: هو علم أو قواعد السلوكُ عليها يعصم العقل من الغلط في تناول العلوم، فكذلك التفكير يحتاج إلى منهج وقواعد يكون فيها على بينة ويُعصم معها من الزلل، والتفكير أخطر وأخطر؛ لأن منه تتبنى المواقف وتتخذ الأمور ويحصل أشياء كثيرة في حياة المسلم في نفسه وكذلك في حياته وفي أسرته وفيما حوله ومجتمعه؛ بل وفي أمته.
ولذلك كان لزاما أن أدعو -عبر هذه الجامعة العريقة المتميزة- أن يكون هناك تدارس من ذوي العلم والحكمة والدعوة لهذا العلم -إن صحت التسمية- وهو منهج التفكير لدى المسلم في واقع الأمور.
لماذا نبحث في المنهج؟
أولا: لأن التقعيد يسهل معه إدراك الصواب دائما، فبدل ما إذا كان كل ما وقع شيء صار هناك اضطراب وسؤال كيف نعمل؟ ما هو الموقف الصحيح؟ ماذا نعمل؟ إلى آخره، فإنه نحتاج إلى منهج لتكون مواقفنا متقاربة دائما، وعلى وفق العلم النافع وهدي السلف.فإذن من فوائد وضع المنهج أن يكون هناك ثبات في المواقف وتقارب فيها.
الأمر الثاني: أن يقل الخلاف في الأمة تجاه الوقائع والواقع، ومعلوم أن العقول كثيرة ولذلك صارت الاتجاهات كثيرة والفئات كثيرة والجماعات كثيرة والمواقف كثيرة، وهذا مُنْذِرٌ بشر لهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما صح عنه لحذيفة في حديث طويل معروف قال «فاعتزل تلك الفرق كلها» لأن هناك عدد من الأقوال والآراء والأفهام، وجود المنهج يجمع.
الثالث: أنه يقيم التصور الصحيح الذي هو غاية المسلم، غايتنا أن نكون على بينة فيما نأتي وفيما نذر، وأن يكون التصور والحكم على الأشياء صحيحا نزدلف به إلى مرضاة الله جل وعلا؛ لأن القصد ليس هو إبراز النفس، وليس القصد من هو أقوى من فلان أو فلان، أو أبلغ من فلان، القصد القربى إلى الله جل وعلا بأن يكون العمل والقول والعمل صوابا في نفسه على وفق السنة، ومعلوم أن الاختلاف وقع، ولهذا قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مبينا ضرورة وجود الهدي والطريقة والمنهج «فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليك بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعظوا عليها بالتواجذ وإياكم ومحدثات الأمور» فبين لقوله (عليكم) وعليكم هنا من ألفاظ الوجوب، (بسنتي) وهو هدي وطريقة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن السنة الهدي والطريقة (وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي) كذلك.
من الفوائد: فوائد وضع المنهج أن تقل الفتن في الأمة، معلوم أن الفتن إنما ظهرت بكثرة الآراء التي لا مستند لها أو لا حجة راجحة مع أصحابها، فإذا كان هناك منهج للتفكير والوصول إلى الحق فإنه يكون حينئذ بعد عن الفتن.
والأخير: أنه لوجود المنهج نفرق بين الحقيقة وضدها، وما بين المحق والمبطل، وما بين المسارع في الفتنة وما بين الحكيم الذي يطلب نجاة نفسه ونجاة من حوله.
نرى أن السلف رضوان الله عليهم من الصحابة فمن تبعهم بإحسان تقلبت أمور كثيرة من الأحوال والفتن والأقوال والحروب والقتال إلى آخره؛ لكن كان المنهج متقاربا لأنهم صدروا عن منهج في التفكير متقارب.
لهذا نطوي بعض التفاصيل ونذكر شيئا من:المعالم المؤثرة في هذا المنهج
أولا الأصل في هذا المنهج هو الحرص على الاعتصام بالكتاب والسنة وهدي سلف الأمة.
الكتاب والسنة الكل؛ كل فئات الأمة تدعيه، كل يقول نحتج بالكتاب والسنة؛ لكن الشأن فيمن فهم فهما فاحتج بفهمه، فنقول له: هل كن هذا الفهم معروفا عند السلف؟ فإذا لم يكون معروفا دل على اطراحه.
ولذلك لما جاءت مسائل في العلم ممثل مسألة التبرك بالصالحين في حياتهم، عرض بلها عدد من أهل منهم الشاطبي في الموافقات وفي الاعتصام، وذكر أن مقتضى الإيمان أن يكون في المؤمن بركة، كما جاء في الأثر: ما هذه أول بركتكم يا آل أبي بكر. وكما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إن من الشجر شجرة بركتها كبركة المسلم» مع هذا التبرك، قال الشاطبي: إلا أنه عارض ذلك متن مقطوعٌ به في نفسه وهو أن الصحابة لم يكونوا يفعلون بأبي ولا بعمر ولا بعثمان ولا بعلي ولا بالعشرة المبشرين بالجنة شيئا من ذلك، فدلّ أن التبرك بالذوات أو بالجسم بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقطوع بهجر السلف له، أو بعدم استعمالهم له، فدلّ على أنه ليس من الدين.
هذا المنهج في التفكير، كذلك في النظر للواقع تأتي قضايا كثيرة نعتصم بهذا بالكتاب والسنة وبسلف الأمة.
جاءت الفتنة في وقت عثمان رضي الله عنه وفي قوت علي رضي الله عنه جاء الخوارج واحتجوا، هل هناك كتب من كتب أهل العلم؟ ما كان، هل كان هناك مؤلفات؟ لم يكن، إنما كان عندهم الاحتجاج بالقرآن أو بحديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاحتجوا بالمتشابه منه، وتركوا الرجوع للصحابة في ذلك؛ فضلوا. وكما شهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنهم كلاب أهل النار، وكيف وقد قتلوا عثمان وعليا رضي الله عنهما.
فإذن في المواقف التي حصلت ضلوا بأنهم رجعوا إلى القرآن والسنة بالاستدلال بالمتشابه لا بالمحكم ولم يستضيئوا من العلم الموروث لدى الصحابة بنور ولم يأووا إلى ركن وثيق.
وهكذا في حالنا اليوم المنهج قائم، لابد من الاعتصام بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة، والعلماء الربانيون يدلون على هذا الفهم.
المعْلم الثاني أن الله جل وعلا يبتلي الأمة بالفتن والشبهات؛ الشبهات العلمية والشبهات أيضا العملية في الفتن.
وهنا ما الموقف من الشبهات العلمية وكذلك من الفتن العلمية؟
هنا أن نعلم أنه كما جاء في الكتاب والسنة متشابه قال الله جل وعلا في القرآن ?هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ?[آل عمران:7]، فإذا كان كلام الله جل وعلا فيه محكم وفيه متشابه، كذلك كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه محكم وفيه متشابه، ضلت الخوارج المرجئة القدرية المعتزلة الفئات ضلوا لأنهم استدلوا بالمتشابه وتركوا المحكم في ذلك.
كذلك كلام أهل العلم فيما دوّنوه في الكتب من باب أولى لعدم إحاطتهم وعِلم بكل شيء؛ أن يكون في كلامهم محكم ومتشابه، فليس الشأن حينئذ في الخروج من الشبهات العلمية والمآزق التي ترى اليوم الكثير مما يأتي ويؤلف ويقول وينشر بأقوال، يستدل فيها ربما بالقرآن والسنة، وربما استدل بكلام السلف، وربما استدل بكلام العلماء في كتبهم؛ لكن هل الشأن وجود النقل؟ أو الشأن في دلالة النقل على المراد وإرجاع المتشبه من كلام أهل العلم إلى محكمه؟
أما إذا أتينا في كل مسألة وأخذنا كلام العلماء، في أي مسألة تريد نملأ عددا من الصفحات ونؤلف ونقول عن أهل العلم.
فإذن منهجك في التفكير إذا جاءت الشبهات العلمية أو المسائل المختلفة هي ألا تنظر إلى وجود النقول فحسب؛ بل تنظر إلى أن هذه النقول في فهمها قد دلّ الراسخون في العلم على أن هذا هو فهم السلف لها؛ لأن التعبد قائم علينا بأن نكون مجتنبين للشبهات في كلام الله جل وعلا.
لهذا في القرآن تجد أن الله جل وعلا بين أن الشبهات ليست هي سبب الزيغ قال ?فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ? فإذن الشبهات هي سبب الزيغ أو الزيغ وُجد أولا ثم صاحبه بحث عن الشبهات؟ قال ?فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ?[آل عمران:7].
وهكذا اليوم في النقول من كلام أهل العلم نجد أن الذي عنده زيغ في الأصل لأنه لم يتستقِ علمه الصحيح من مصدره الصحيح ويتبرأ من الهوى العلمي ويأخذ من معدنه ويصبر على ذلك، وتجد أنه وجد الزيغ عنده والاشتباه وهوى النفس؛ فبحث عما يستدل به، فتجده ينقل عن الإمام أحمد ينقل عن الصحابي كذا أو من العمل أو الفقيه الفلاني أو عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو عن فلان وفلان إلى آخره.
ليس الشأن في هذا، الشأن في أن يكون ما تنقل محكما أو المتشابه يرد إلى المحكم أهل العلم، فهذا منهج للتفكير مهم، في أنك تنتبه في ألا تقع في مشتبهات كلام أهل العلم.
أيضا الفتنة، الفتنة العملية تقع، الفتنة منها الاختلاف، اختلف الناس في أقوالهم، اختلف الناس في مواقفهم، اختلف الناس، تقاتلوا، حصل، وقعت أمور الفتنة، فهنا إذا حدثت هذه الفتن فما المنهج فيها؟ كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما سأله حذيفة قال رضي الله عنه قال: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال «نعم وفيه دخن» قال: وما دخنه؟ قال «قوم يهدون يغير هديي ويستنون بغير سنتي، تعرف منهم وتنكر»؛ يعني إذا شفت جزء من أعمالهم أو أعجبتك أشياء وأشياء أخرى تنكرها، قال «تعرف منهم وتنكر»، قال: فما تأمروني؟ قال «تلزم جماعة المسلمين وإمامهم» لزوم جماعة والمسلمين؛ يعني القول العام في المسلمين؛ لأن يد الله مع الجماعة.
فإذن هذا منهج عام لزوم جماعة المسلمين -جماعة أهل العلم-؛ لأن الشاذ من الأقوال مطّرح، وكما هو معلوم لا يزال هناك طائفة تقوم بالحق ونبينه هي المنتصرة بالحجة البيان بموافقتها لكلام السلف.
من المعالم الرابع: أن الواقع في الأمة اليوم يحمل معه النفوس على أن تسير في اتجاه يضر بها أو مخالف لمقتضى العقيدة ومنهج أهل السنة والجماعة، وذلك بسبب الضيق؛ ضيق النفس من هذا الواقع المظلم الصعب.
فمن منهج التفكير لدى المسلم أن يغلِّب جانب التفاؤل، ويحذر من القنوت واليأس الذي يحمله على عمل أشياء منكرة، التفاؤل والإيجابية هذه تعطيك انطلاقة، فإذا ما نظرت إلى الواقع اليوم ثق أن الإسلام سينتصر وسيعود عزيزا كما كان؛ لأن الله جل وعلا يقول لنا ?هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا?[الفتح:8]، فمن الذي شهد بهذه الشهادة؟ هو الله جل وعلا.
فإذن الزمن لا ننظر إليه، مر خمس سنين، عشر سنين، عشرين، خمسين سنة، لا يهمنا، ولا أكثر، المهم أن يوافق علمنا الصواب ?لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء?[البقرة:272]، لو كان النصر والفتح ينزل على أحد لما معه من الحق لنزل مباشرة على نوح عليه السلام؛ لكن نوح عليه السلام كم مكث في قومه؟ تسعمائة وخمسين سنة؛ ألف سنة إلا خمسين عاما، هنا انتصر بعد ذلك بالله جل وعلا، وهنا الحظ في سورة العنكبوت قال الله جل وعلا ?وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ?[العنكبوت:14-15].
هنا السؤال: لماذا ذكرت قصة نوح في آيتين في سورة العنكبوت؟ وهذا مأخذ لابد لطلبة العلم أن يتأملوه ورود قصص الأنبياء في القرآن مرة طويلة، ومرة مختصرة، مرة قصيرة، مرة لغرض واحد في آية، مرة في آيتين، مرة في خمسين آية، لماذا؟
هذا له أسبابه المعروفة عند أهل العلم ومنها أن إيراد القصة والقدر المورود منها إنما هو لعبرة ?لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ?[يوسف:110] لتوافق المقصد من السورة؛ لأن كل سورة من القرآن لها مقصد.
سورة العنكبوت ما المقصد منها؟ التحذير من الفتنة ?الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ?[العنكبوت:1-3]، فتنة الإنسان بوالديه ذكرها، ثم فتنته بمن حوله.
نوح عليه السلام أي فتنة في قصته؟ فتنة الزمن؛ تطاول الزمن، كيف يصبر واحد يريد الحق، يضايَق، يرى ما فيه، يصبر ألف سنة إلا خمسين عاما؟ نعم إن لم تصبر فقد أدركتك الفتنة، لابد أن يكون المنهج صحيحا والطريق الصواب، وإلا فالزمن لا عبرة به، ?لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء?.
هنا تأمل في أنه لا نستعجل ولا يستخفنا الذين لا يوقنون، أنظر لما جاء الأمر بالصبر جاء معه التحذير من الاستخفاف، قال الله جل وعلا ?فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ?[الروم:60] يعني مهما عملوا اصبر إن وعد الله حق اصبر حتى يأتي إذْن الله جل وعلا ثم قال بعدها ?وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?[الروم:60] والآية مكية، المشركون في مكة حصروا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الشعب سنة، فيه أعظم من هذا؟ يصلي يلقى عليه سَلَى الجزور، ضايقوه عاملوه، مضايقات نفسية، حرب، وضعوا الشوك، كل أنواع الأذى، ومع ذلك قال وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ?، بعض الصحابة قالوا: يا رسول الله لو شئت لملنا على أهل منى بأسيافنا. لاحظ أثر الاستخفاف، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم «لا لم نؤمر بعد».
فإذن التحذير من الزمن، والزمن يؤثر ،وواقع الأمة أو الواقع المؤلم أو الذي يعمل ضنكا يؤدي إلى أي شيء؟ يؤدي إلى الاستخفاف، من الذي يستخف الآن الناس؟ الذين لا يوقنون، يريدونهم أن يعملوا أعمالا؛ ولكن الصبر نصف الإيمان؛ لأن الإيمان نصفان نصف شكر ونصف صبر.
فإذن التفاؤل مطلوب، تفاءل، أدع، أثر في الناس دائما بالدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، كن متفائلا، لابد أن تحسن الظن بربك جل وعلا، قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يقول الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء» وهذا يعطيك أوسع أبواب التفاؤل وله الأثر في الطمأنينة وله الأثر في العمل الإيجابي المثمر في الناس، لذلك تجد هدي السلف كيف كان؟ حصلت فتن وأمور وفساد، هل توقفوا عن التأثير النافع؛ في التعليم، في التأليف، في الدعوة؟ لا.
الدولة الفاطمية في مصر وما فيها من البلاء وما أصاب العلماء فيها من أفعال، أنظر المؤلفات التي ألفها العلماء في وقت وجود الدولة الفاطمية في مصر، تجد أنهم أقبلوا على العلم والتعليم والدعوة والخير بحسب الممكن لهم.
إذن فالتفاؤل يعطيك حسن الظن بالله جل وعلا، وحسن الظن بالله جل وعلا يحملك على أن تبذل ما فيه الخير.
من المعالم للتفكير الصحيح في واقع الناس واقع الدول واقع العلماء واقع الدعاة، من المعالم أن تنظر أنه ما من أحد يعمل عملا إلا وعنده –يعني من المسلمين- إلا وعنده خير يحمد عليه وذنب يذم به، حسنات وسيئات، ذنوب وأعمال صالحة.
لهذا لما جاء في قصة معاوية مع أحد الصحابة الذي كان يذم معاوية رضي الله عنه كثيرا في مجالسه ومعاوية عمل وعمل.
فاستدعاه معاوية قال: يا أخي بلغي أنك تقول كيت وكيت. قال: نعم.
قال: يا أخي أليس لك حسنات؟ قال: بلى.
قال: فما ترجو فيها؟ قال: أرجو القبول.
قال: أليس لك سيئات؟ قال: بلى.
قال: فما ترجو فيها؟ قال: أرجو فيها العفو وأخاف على نفسي.
قال: أفلا رجوت لأخيك ما رجوت لنفسك!!
الخيال أنه سيكون شيء صواب كامل لا غلط، فيه حسنات كاملة دون سيئات، في مجتمع في دولة أو في عالم أو في إنسان أو في صديق أو في نفسك، غير ممكن.
ولذلك من المنهج الحسن أننا نشيع الخير والحسنات في الناس فيتأثروا بها وتعظم في أنفسهم، ونقبل من الشر في الناس بذكر السيئات حتى لا يزيدوا شرا لذلك ثبت عليه عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ أنه قال «من قال فسد الناس فهو أفْسَدُهُم» يعني هم أشدهم فسادا، وفي الضبط الثاني «فهو أفسَدَهُم»؛ لأنك إذا قلت الناس فسدوا، وهؤلاء فسدوا وهؤلاء فيهم وفيهم، سيزداد الفساد، لن ينقص، ولذلك في كثير من الأمور، إذا تداولها الناس من الأمور السيئة تزيد لا تنقص، بخلاف الحسنات فإنك إذا ذكرتها فإنها تزيد أيضا من الخير.
لهذا أننا نرجو هنا أن يكون النظر صوابا في وجود الحسنات والسيئات.
فإذا كان كذلك فموقفنا مع وجود السيئات في مكان في مجتمع في فئة إلى آخره، أن نُناصح، نبذل الدعوة، نبذل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أصول الشريعة؛ لكن نكتم وجود هذه الأشياء، أما الحسنات فننشرها لكي يتأثر الناس بذلك.
من المنهج في النظر ففي الواقع واختلافات الناس تحرّي العدل في الأقوال والحذر من المبالغات.
اليوم أنا استقرأت أحوال الناس فيما ينقلونه في الواقع، فتجد أن العدل والإنصاف قليل المبالغة والكذب كثير، فتجد أن فلانا أنا وأنت والثاني والثالث إذا أراد أن يذكر شيء لازم أن يزيد فيه، ما يتحرى اليقين فيما نقل.
والمبالغات هذه نوع من الكذب؛ بل هي كذب ربما تكون افتراء، ولهذا في مقدمة صحيح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع»؛ يأتي واحد يقول الثاني ووش الأخبار؟ إيش فيه؟ والله حصل كذا وعمل كذا، سمع، صحيح ما هو صحيح، وهذا الثاني يصدق قليل ويمشي ويزيد عليها، تنتشر أشياء لا حقيقة لها. وفي الحديث الآخر أيضا في مقدمة صحيح مسلم «من حدث بحديث يرى أنه كذب فإنه أحد الكاذبِين -أو الكاذبَين- » أحدث بحديث أنا ما أتوقع أنه صحيح لكن تقوله، فحينئذ أنت أحد الكاذبين بنص كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولذلك في الحديث «وهل يكب الناس على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم»، يقول الحكماء: ليس شيء أحق بطول سجن من اللسان. اللسان يرفع مقامك بالتوحيد وذكر الله جل وعلا وعبادته أو يجعلك تهوي في النار سبعين خريفا، والعياذ بالله.
ولذلك المبالغات الحذر منها، فإذا كان منهج التفكير عندنا التصديق بالمبالغات أو أن ننقل كل شيء، فحينئذ فالمنهج فيه خلل، وحينئذ الحكم على الأشياء سيكون خللا محضا ولا شك؛ لأن الله جل علا أمرنا بالعدل ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ?[النساء:135]، فإذا أمَرنا الله جل وعلا أن نكون ?قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ? يعني بالعدل في الأقوال والأعمال والأحكام المبالغة أيضا تضل وتؤثر وقال جل وعلا ?وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى?[المائدة:8] العدل سبيله أن تكون قليل الكلام متجنبا للمبالغات، ما تحدث بكل ما تسمع.
من معالم المنهج في التفكير الصحيح في الواقع أن يكون لدى المسلم محبة الخير لإخوانه المؤمنين، ولا يدّخر خيرا؛ بل يحب لهم الخير ويسعى في ذلك أشد السعي.
ومن أجمل ما يروى في ذلك ما نقله ابن الجوزي في مناقب الإمام أحمد أنه قال: وددتُ لو أني جسمي قُرّض بالمقاريض وأن الخلق أطاعوا الله جل وعلا. شوف محبة الخير لأهل الإيمان؛ يعني حتى ولو كانوا أطاعوا الله جل وعلا بتعبي بمرضي، فإنه هذا مما أوده وأحبه.
الله جل وعلا يقول ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ?[الحجرات:10] ويقول ?وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ?[التوبة:71].فإذن المنهج العام للتفكير المستقيم وسط بين الذين لا يهتمون بالأمة ولا بالمسلمين ولا يرعون لهم بالا أصلا، وبين أولئك الذين يكرهون أهل الإسلام ويكرهون المسلمين ويقولون هؤلاء أهل المصائب، فتفكر بأنك تحب الخير لهم، وإذا أحببت الخير لهم، فإنك ستسير فيهم على ضوء القواعد التي ذكرنا أولا، أو الضوابط والمنهج، لأنك تدعوهم في الاعتصام بالكتاب والسنة على وَفق منهج السلف تحذرهم من الفتن، تنتبه لما ينفعهم ولما يضرهم، تنشر حسناتهم، تستر سيئاتهم، محبة الخير للمسلمين يعطيك اندفاع وعمل صالح وانشراح في النفس ونور في الصدر وتوفيقا في القول والعمل.
من معالم المنهج أن الواقع كما ترون اليوم وكما سيأتي مضى وسيأتي أنه مضطرب وأنه ويقوم فيه أمور منكرة في الحال وربما في الآل، وهنا لابد من وجود الغيرة على الدين؛ لأن الغيرة على الدين تحمل المسلم على أن يستمسك بالذي أوحي إليه، وإذ لم عنده غيره على توحيد الله، لم بكن عنده غيرة على العقيدة الصحيحة، لم يكن عناده غيرة على منهج أهل السنة والجماعة، لم يكن عنده غيرة على دماء المسلمين التي تسفك على أموالهم على أعراضهم، لم يكن عنده غيرة على علماء المسلمين، لم يكن عنده غيرة على أمة الإسلام، لم يكن عنده غيرة على حرمات الله وعلى شعائر الله.
فإذن سيكون باردا ضعيف الإيمان، وربما لا يثبت على الإيمان؛ يعني على إيمان كامل، فالغيرة سبيل للثبات، لكن الغيرة قد تعصف، فلذلك نحتاج إلى غيرة منضبطة بضوابط الشرع، الغيرة التي تحمل على التقدم والعلم والعمل والحميّة؛ لكن منضبطة بضوابط الشرع.
غيرة لا تحمل على سلوك منهج الفرق الضالة في الموقف من الدول أو من ولاة الأمور أو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو ممن خالف المسلم.
فإذن معالم هذه الضوابط في الغيرة يضيق المقام عن بسطها.
من معالم المنهج في التفكير أن الأمور تشتبه، ويكون فيها معضلات، أمور سياسية صعبة، أمور علمية مشكلة كبار، أمور دعوية، ترجيح بين المصالح، أولويات ماذا يُقدم؟
هنا كيف نفكر في حال وجود هذه الأشياء العظام.
نجد أن حال الكثيرين: أنه لا أحد يقول عن نفسه إنه قاصر عن تناول هذه المسائل العظام في الأمة؛ بل كل أحد يقول أنا أفهم فيها، أفهم في العلم بجميع أنواعه، أفهم في السياسة، أفهم في الأمور، أعرف مكائد الأعداء، أعرف المصالح والمفاسد، أعرف الأولويات، أعرف ماذا يقدم.
كل شيء يعرفه كل أحد. وهذا من الخلل الكبير في التفكير.
فإذن منهج التفكير في هذه الأمور أن نقتنع بأن لكل فن أو علم أو تخصص أو ميدان أهله وخاصته، وهذا في القرآن في قول الله جل وعلا ?وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ?[النساء:83]، أولي الأمر، كل في ميدانه.
في ميدان الولاية العامة وقيادة الأمة، ولاة الأمر الحكام.
في العلم الشرعي وما يأتي الإنسان وما يذر والقضايا العلمية في العقيدة في الجهاد في الأحكام أهل العلم الراسخون فيه.
في القضايا العملية في التخصصات، فهنا نرجع ونؤمن بضرورة مثل هذه التخصصات.
فأما إذا كان الشاب مثل ما ننظر اليوم تسعة عشر سنة عشرين سنة اثنين وعشرين سنة يسفّه من هم أعلم وأحكم منه في هذه الأمور، فهذا خلل في المنهج.
هنا لك أن تستشكل، تسأل، تطلب الصواب، وهذا يعطيك ملكة مع المستقبل مع الزمن لتكون عالما حكيما تدرك الأمور؛ لكن أن تعرض من أول الأمر ولا تعطي كل أهل اختصاص اختصاصهم، فإنه حينئذ يقع الخل في التفكير، وهذا ومن أعظم ذلك الرجوع إلى أهل العلم والثقة بأقوال الراسخين في العلم وأنهم أعلم بالمصالح والمفاسد في الأمور الشرعية وما يأتون وما يذرون من توجيه للأمة.
هناك معالم بالمقابل لهذه المعالم سلبية مؤثرة سلبا في تعاطي المنهج السليم في التفكير والنظر في الواقع، ذكرناها فيما سبق لكن أعدها باختصار.
المبالغات وذكرناها.
تصديق الشائعات ذكرت.
الثالث من المؤثرات السلبية على التفكير السليم التأثر بالشعارات والألفاظ الرنانة، يأتي واحد ويقول، يأتي بشعار جميل انقاذ الأمة، برنامج لإنقاذ الأمة، الإصلاح، الجهاد، إصلاح مناهج التعليم، التحذير من كذا، في الألفاظ مختلفة.
هنا المنهج السليم في التفكير يقول لك: العبرة بما تحت الألفاظ لا بالألفاظ، لا تغتر بشعار لا تدري ما تحته. واحد يقل لك الإصلاح، الإصلاح كيف؟ واحد يقول مثل الآن: إصلاح مناهج التعليم. بأي شيء؟ ما تفاصيل ذلك؟ إذا كان تعديل بما يوافق الصواب ويقوّي الحق ويعصم من الفتن والانحرافات، فهذا طيب إذا المراد منه شيء آخر، فإذن يكون فيه حذر.
لذلك يقول بعض الحكماء: كم نفذت أمور هي من [الخُرْق] بمكان في ظل ألفاظ حسنة الانتقاء.
يعني الواحد يأتي يريد أن يصرف الناس إلى شيء لابد أن يأتي بلفظ جميل يجعله شعار له حتى يتبع الناس؛ لأن أكثر الناس ما يفكر في التفاصيل، وليس أكثر الناس برهانيا يتبع الدليل ويفكر تفكيرا منهجيا صحيحا، إنما يصدقون بالشعار هذا كذا نعم فيأخذ، فإذن كم نفذت من أمور هي من الخرق بمكان في ظل ألفاظ حسنة الانتقاء.
فإذن نحذر حتى ولو كانت الألفاظ صحيحة؛ لكن ربما يكون تحتها أشياء فسرها أصحابها بتفسير مخالف للصواب فيقود الناس إلى تفسير مخالف للصواب.
من المؤثرات السلبية على التفكير السليم اعتقاد لأن الأشد والأغلظ والأقوى من المواقف هو الدين والحكمة في كل حال، وليس الأمر كذلك.
يأتي الآن بعض الناس كيف يفكر؛ يعني يؤثر على تفكيره الصحيح؛ لأنه يرى هذا الموقف أقوى، يقول ما دام أنه أقوى هذا الصحيح هذا الحق، يرى القول هذا أشد يقول ما دام هذا القول أشد في الدين معناه أنه هو الأصح، وهكذا.
ولو كان الأمر كذاك لكان الحكم واضحا حينما قال عمر رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديبية لما قالوا: أمح (الرحمن الرحيم) ولا تقل كذا، للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: يا رسول الله ألسنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: «بلى» قال: فعلى ما نقبل الدنية في ديننا.
فهنا كان عمر رضي الله عنه في هذا الموقف هو الأشد، وعنده العزة الظاهرة التي يعجب بها الإنسان؛ لكن لم يكن الصواب معه، كان الصواب مع قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما عمل، فيما طلب المشركون فأجابهم إليه. لماذا؟ لأن الحكمة تقتضي ذلك، والله جل وعلا سمى الفعل من فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصّلح سماه فتحا مبينا، فكانت الشدة في هذا المكان مخالفة؛ بل تؤدي إلى عدم حصول هذا الفتح المبين.
يأتي اختلاف الفتوى عند العلماء، يقول هذا الحق كذا ويأتي القول الأشد، فيأتي الواحد يفكر كيف ما ينظر للدليل، ما ينظر للقواعد العامة ما دام الشد هو الصواب، ليس قاعدةً، النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما صح عنه في سنته والحديث: ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. «إن هذا الدين يسر ولم يشاد الدين أحد إلا غلبه».
أيضا من المؤثرات في التفكير تصديق القنوات الفضائية.
اليوم فيه فتنة أخبر بها النبي كما في صحيح البخاري، وهي فتنة القنوات الفضائية، قال عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ «لا تقوم الساعة حتى يقل العلم ويبث الجهل» لفظ (يبث) في البخاري كلمة (يبث) فيه عدة ألفاظ «لا تقوم الساعة حتى يقل العلم ويبث الجهل»، والجهل اليوم فينا في الناس من أسباب بثه أن يجعل هناك خلل في تفكيرنا، كيف نتلقى الأمور؟ ما عَادْ فيه مرجعية، الواحد ما عَادْ يسأل، ما يكون ملازما للجماعة مع علمائه يسأل، لا أصبح هناك بث للجهل بأن الإنسان يكون مجتهدا في كل شيء ويختار ما يشاء ويترك ما لا يشاء، وهلم وجر.
فإذن وجود القنوات الفضائية فيما تبثه من أخبار وإشاعات وأقوال، لا تستطيع أن تميز الصحيح من غير الصحيح، لا من جهة الأخبار السياسية ولا من جهة الفتاوى الشرعية، ولا من جهة كذا وكذا، ولا من جهة البحوث ولا اللقاءات ولا الحوارات.
فإذن تحذر من هذه أن تجعل عندك خللا في التفكير، وأن تكون مستفيدا منها عند الحاجة بشرط ألا يؤثر ذلك على منهج التفكير الصحيح المقرر بالاستقراء في منهج السلف.
على العموم المسائل كثيرة، ولدي ثلاثة عشرة نقطة لم أتحدث عنها، وقد تحدثت عن ستة عشرة نقطة باقي ثلاثة عشر، الجميع تسعة وعشرين لضيق المقام، وأنتم في أيام اختبارات عن التفصيل في كل ذلك لكنه لعله يكون هناك ميدان للتفصيل في هذا المنهج منهج التفكير في أمور بقيت في تفاصيل: فقه المنهج، وكيفية تعاطيه، وكيفية دراسة أصوله عند السلف ونحو ذلك.
وأسأل الله جل وعلا لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا مسدَّدين فيما نأتي وفيما نذر، وأن يجعلنا ممن رضي عنه فأصلح له القول والعمل.
اللهم اغفر لنا ولولاة أمورنا ولوالدينا ولمن له حق لدينا، اللهم وفق علماءنا وارحم الأموات منهم ووفق الأحياء واجعلنا جميعا وإياهم من المتعاونين على البر والتقوى إنك على كل شيء قدير، وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
منهج التفكير
للشيخ
صالح بن عبد العزيز آل الشيخ
-حفظه الله تعالى-
[شريط مفرغ]
أعدّ هذه المادة: سالم الجزائري