رحلة الألم بقلم: سمير د - سطيف -
*رحلــــة الألــــــم *
في مساء أحد أيام الشتاء، عندما تعلن الرياح قدومها بعنف.. فتخاف منها الشمس وتبخل بأشعتها.. فيحجبها سحاب قاتم مرسوم عليه حالة الطوارئ.. ويختفي الحنان بين سطوره ويرتعش كالطفل العاري الذي يحتاج إلى التدفئة و هو بجانب النار...
غسلت الأمطار آخر بقايا الثلج الناصع البياض في الساحة، ووقف الشيخ العجوز. نعم ذلك الشيخ المجاهد ... العظيم حقا، والذي شاب رأسه ولم يشب قلبه ... وشاخ جسده ولم يشخ إيمانه ... وانحنى ظهره، ولكن عقله ظّل مستقيما سديدا.....
وقف متأملا، مسندا لجسمه الذي أنهكته سنين الحرب إلى عمود يراقب جداول المياه الرقيقة والسريعة تنصب من كل جانب... وعلى حين غرة وقعت عيناه على حذاء مطاطي عرفه من فوره، وكان قد قطع عند مشط القدم كما يناسب قدمي زوجته المنتفختين ... رفعه عن الأرض وأدخله إلى الغرفة، ومرة أخرى ملأ فؤاده فراغ رهيب مثل الذي طفى عليه حين حملوا نعشها بعيدا .... فقد كانت نعم الزوجة الوفية لهذا العجوز .... تقف معه أيام الشدة والفقر.
فهو يؤدي واجبه الوطني رفقة إخوانه المجاهدين ، وهي تعمل وتكدح وتعمر عش بيتها المتواضع بكد اليمين وعرق الجبين... متحدية بذلك كل ظروف هذه الحرب المزرية وكل مظاهر القهر والحرمان..
فقد عاش معها أحلى و أجمل أيام العمر، في ظلّ بيت متواضع جدا.. أوفي حقيقة الأمر كناية عن كوخ حقير لا يكاد يمنع الهواء ولا المطر. يدل مظهره على شدة الفاقة والحرمان... وكأنه ضاق بساكنيه.
هناك في تلك الوديان العابقة بالعطر والزهر، وألوان الطبيعة الساحرة، حتى هذه الأخيرة ترفض هذه الظروف القاسية من حرب.. ومعارك.. ودماء تسري هنا وهناك لتسقي الشجر والنبات بدلا من الماء.
فكانت تفرض نفسها فرضا. متحدية بذالك كل هاته المشاهد الدرامية من حزن.. ويأس.. وضنك.. وضيق..
وحتى هذا الشيخ كان راض بموقع بيته.. ويعشق هذه الطبيعة كل العشق، فرغم سنّه المتأخرة كان جد مرهف الإحساس وكأنه ولد صغير فتح عينيه للتوّ.. يحدق في الطبيعة من حوله كما يحدق الرضيع في وجه أمه إذ هو يكتشفه يوما بعد يوم..
كل هاته الألوان كانت تزيده بجمالها وسحرها قوة وشجاعة فيرى في بهائها وجمال خضرتها نوعا من التحدى لبشاعة هذا المستعمر وآلياته الفتاكة.. كما يرى فيها رغبة في الاستمرار، والشموخ رغم كل الأهوال.
وقد نشأت أواصر صداقة حميمة بينه وبين أشجار تلك المنطقة، وممراتها الضيقة، ومنعطفاتها الرطبة. فعايشها كلها بألفة وحب عميقين. فهي صديقته، وملهمته ودواءه السحري للكثير من ألوان المعاناة وصنوف الإحباط..
ولكنه وبعد فقدانه لزوجته وأنيسه الوحيد، لم يعد لهذه المظاهر ولهاته الألوان أيّ أثر في نفسه.. وكأنه امتلأ كله باليأس والقنوط حتى درجة التشبع. وكان لكل هذا تأثيره الواضح عليه..
هكذا كانت خالته كلما داعبت ذكرياتها أفكاره فيجلس ينتحب حتى انسدال العشية.
وفي ذلك المساء الممطر كان هذا الشيخ مع موعد أخر كله أحزان وأشجان ... فكم كانت الصدمة كبيرة إلى قلبه حين جاءه بعض الرفاق يحملون ابنه الوحيد وهو ينزف دما من كل جسمه.. وطرحوه أمام عتبة البيت، وهم يتمتمون بصوت خافت: لقد استشهد جميع رفاقه.. لكن جراحه بليغة يا عم... ثم نظر إليه بنظرات ملتمعة يؤكد بريقها الحاد على الرغبة في البكاء.. وقد أوشك أن يهمّ بالبكاء لكنه تشجع كعادته ولملم دموعه، واقترب من ابنه الطريح أمامه قائلا: لن أدعك تموت أمام بكل هذه السهولة...
وأضاف يكفيني أمك الشهيدة.. فيجب أن تعيش! ثم نادى بأعلى صوته: تعالوا ساعدوني على وضعه فوق كتفي.. وقبل وضعه كما أمر أمسك بيدي ابنه المرتعشين ووضع يده الحانية على جبهته التي كانت تتساقط منها قطرات دم ممزوجة بذرات عرق "الهلع" أو "الذعر" أو كليهما معا...
ثم وما إن أحسّ باستناده فوق كتفيه بادر بالخروج من قريته هذه، رغم ضعفه وعدم تحمل جسمه لهذا الوزن.. ناداه صديق من وراءه كان قد أيقن وعرف بغية ومقصد العجوز وابنه:" لكن الرحلة عمياء.. والدرب دماء".
فلم يحبه العجوز الذي مضى يمشي دون أي التفاتة إلى الوراء . وكان الجو مظلما وممطرا بعض الشيء
وبعد مدة من الزمن نادى على ابنه: أنت يا من تجثم هناك فوق.
أخبرني إن كنت تسمع شيئا أو تلمح ضوءا من أي جهة.
- لا أرى شيئا - قال الابن
- لابد أن نكونا قريبين- قال العجوز
- نعم لكن لا أسمع شيئا
استمر الخيال الطويل والأسود للرجلين يتحرك صعودا وهبوطا، يتسلق الحجارة، يصغر ويكبر..
كان خيالا واحد يتأرجح.
وبعد توقف المطر من الهطول منذ المساء،كان القمر يتصاعد من الأرض مثل كتلة مستديرة من اللهب.
- المفروض أن نكون قد وصلنا إلى تلك القرية الآن، أنت يا من لا يعوق أذنيك عائق، هناك فوق، أرهن السمع وانظر إذا كان يصل نباح الكلاب.
لا تنسى ذلك....لم أنسى لكنني لا أرى أثرا لشيء.
- التعب يقسم ظهري....أنزلني إذا - أجاب الابن.
نكص العجوز على عقبيه حتى أسند ظهره إلى جذع شجرة، وتوقف لدقائق استجمع أنفاسه وهناك عدلّ حمولته دون أن يلقيها على الأرض،لم يفكر في الجلوس على الرغم من ساقيه الخائرتين، لأنه لو فعل لما استطاع من جديد رفع جسد ابنه الجريح الذي عاونه الآخرين قبل ساعات، في تحميله على كتفيه، ومن وقتها وهو يسير به هكذا.
- كيف حالك؟
- في غاية السوء؟
كان يتحدث قليل كل مرة أقل من سابقتها. تمر عليه أوقات يبدو فيها نائما، وأوقات أخرى يتملكه فيها البرد. كان يرتجف.كان يستدل على الوقت الذي تمتلك فيه ابنه القشعريرة من هزاته له، ومن رجليه الملتصقتين بجنبيه، وأيضا من يديه الملفوفتين حول عنقه عندما تحركان رأسه حركات توقيعية... كان يصّر على أسنانه حتى لا يعض لسانه، وعندما يذهب هذا عن ابنه كان يسأله:
- تؤلمك جراحك كثيرا؟
- شيء من هذا القليل-كان يجيب
- كن قويا وتحمل هذه الآلام
وحتى والده المسن لم يعد يقوى على هذا الحمل.فبعد مضي ساعتين من المشي كان يحس وكأن جسمه تخدّر كليا ..
ولكن ستّون سنة لشيخ مثله تكفي وتزيد كي يتدرب على إستعاب الألم وكتمانه.
وأضاف قائلا: سوف تشفى وتقوى على مواجهة هذا المستعمر الكّلب..وضغط وبشدة على الكاف عند نطق هذه الكلمة.
قال له في البداية :" أنزلني هنا .. واتركني هنا .. أذهب وحدك.سألحق بك غدا أو عندما أسترد بعض عافيتي" .طلب منه هذا ما يقارب من الخمسين مرة.أما الآن فلم يعد يقوى حتى على مجرد طلب هذا.
كان القمر هناك، في مواجهتهما، ،قمر كبير ملون يغمر عيونهما بالضوء، ويبالغ في تسويد خياليهما على الأرض.
- لا أرى موضع قدمي ولا أدري إلى أين تأخذاني-قال العجوز.
- لم يحبه أحد.
فأراد أن يخفف عن ابنه بعض الشيء وحتى عن نفسه هو أيضا فأضاف: لكن لا بأس يا بني بين الحين والحين من آهة هنا.. وأنّة هناك.
وفي حقيقة الأمر كان يشعر بالأنّات وكأنها أبرا والآهات وكأنها خناجر.
- الآخر كان معتليا هناك فوق، ملفوفا كله بنور القمر، وبوجه ممتقع ينزف أحيانا بالدم، عاكسا ضوءا معتّما. وهو هناك تحت.
- ألم تسمعني؟ أقول لك: إنني لا أرى أمامي.
بقي الآخر صامتا.
واصل سيره متعثرا.كان ينكمش ثم يفرد قامته ليعود للتعثر من جديد. ثم يحني ظهره مجددا ويمشي كما لو كان مصابا في عموده الفقري..
- ليس هذا هو الطريق. أخبرونا أن القرية على مرمى حجر بعد الجبل، وها نحن قد تركناه وراء ظهرنا ولم تظهر بعد، ولا يسمع صوت يستدل به على قربها.
- أنزلني يا أبي.
- أتشعر بالألم؟
- نعم.
- سأوصلك إلى القرية مهما بعدت الشقة. سأجد هناك من يعتني بك.
يقولون إن بها طبيبا، وسأحملك إليه، احتملتك ساعات لأعتني بك ولن أترك طريحا لينال منك أعداؤك...هؤلاء الكلاب...
ترنح قليلا، خطى خطوتين أو ثلاث يمنة ويسرة، ثم انتصبت قامته من جديد.
- نعم سأحملك فكن قويا.
- أنزلني.
خرج صوته هذه المرة ضعيفا، قريبا من الهمهمة، أريد الاضطجاع ولو قليلا.
نم حيث أنت.. كان القمر يواصل صعوده، بلون يقترب من الزرقة، فوق سماء صافية، غمر الضوء وجه العجوز المبلل بالعرق، وأغمض عينيه لكي لا ينظر أمامه، وإذا لم يكن باستطاعته طأطأة الرأس الذي تتشبث به يدا ابنه.
- لا أفعل هذا من أجلك بل من أجل المرحومة والدتك، أفعله فقط لأنك كنت ابنها.
كانت ستؤنبني لو تركتك ممدا هناك، ولم أحماك لمن يداويك،كما أفعل الآن. وأراد أن يأمره ببعض الكلمات حتى لا يشعره بمسافة الطريق ولربما أنساه بعض آلام جراحه. وهنا عادت ذكريات زوجته الشهيدة تداعب أفكاره من جديد فكيف ينسى ذات القلب الحنون.. والتي كانت مدى بالقوة والشجاعة.
وأضاف: فهي التي تبث فيا روح العزيمة، وليس أنت.. فكم كانت بكلماتها العفوية وطبيبة قلبها تداوي ما تركته قسوة الحياة..والحرب، من ندوب في النفس. هذه النفس التي غرس فيها الحقد والكره لهذا المستعمر.. وكأنها فطرت على هاتين الخصلتين فقط، فلم نعد نعرف أي معنى للحب أو الحنان ولا الطمأنينة.. حتى الابتسامة البريئة سرقت من أعيّننا. أما والدته كانت عكس هذا كله. فرغم كل هذه الظروف والحياة القاسية التي عشناها ونعيشها اليوم، فقد كانت ذات نفس فطرت على الرقة وطبعت على الحب..
وأكمل قائلا: ما كان الله ليدع الرجل تحت أثقال الزمن ومشاق الحياة حتى يخلق له من كيان ذاته من يتحمل معه هموم نفسه. ويقف معه لكثير من شؤونه. وينير له ما يحيطه من وسائل العيش. وضربات الخطوب – حتى يخلق له زوجة يسكن إليها، ويحن بطبيعته إلى الأنس بها. فهي التي تقاسمه حياته، وهي سناد أمره وعدة بيته، وهي التي تجعله يقتحم المهالك، ويخوض غمار المعارك، من غير خوف ولا وجل.
وهنا أدرك الابن سرّ تلك القوة والشجاعة والتي عرف بها أبوه بين رفاقه. وكيف لا يزال محافظا على مشاعره وعواطفه التي تنبع بالحب والألم معا. وهو في سن متأخرة !!
وهو الذي لم يحمل كتابا يوما، ولا قلما. و هنا أدرك أن الحياة كفيلة بتعليم الكثير.. الكثير..
وتمر الأيام، وفي كل لحظة من لحظات الحياة أشعر أني بحاجة إلى تلك النفس الطيبة والقلب الرقيق، واليد الحنون.. أما اليوم فتتسارع الأنفاس وكأنها تسابق لحظات الزمن الأزلية.
وتترك القسوة آثارها على العين فتغشى، وعلى الجسد فتنتفض أطرافه.
كان يتصبب عرقا أثناء كلامه، ولكن هواء الليل كان يتكفل بتجفيف عرقه، ويعود فيعرق من جديد فوق عرقه الجاف. لقد بدا في تلك الكلمات التي ألقاها على مسمع ابنه وكأنه متحدا مع الطبيعة في مختلف مشهدها، فتخيل أن النسائم العليلة، والمياه المترقرقة، تشاطره على فراق زوجته وآلام ابنه.
- سينكر ظهري، لكني سأصل بك إلى القرية لكي يعالجوا هذه الجروح التي أحدثوها بك.
- أنظر حواليك لعلك ترى أو تسمع شيئا.. تستطيع فعل هذا من حيث مكانك، لأنني بدأت أشعر بالصمم.
- لا أرى شيئا.
- عاقبة هذا وخيمة بالنسبة إليك، يا بني.
- أنا عطشان.
- تحمل، لا بد أننا قريبن الآن، نحن في الثلث الأخير من الليل، ولا بد أنهم أطفؤو القناديل الليلة. لكن على الأقل لا بد أن يكون قد تناجى إلى أذنيك نباح الكلاب، أو صوت الرصاص.. لأن الثوار في هذه القرية في مواجهة دائمة مع قوات المستعمر.
لقد كان الليل طويل.. وطويل. ليل لا ينتهي طوله وفجر لا يبزغ... وتباشير الصبح لا تظهر.
- أرهن السمع جيدا. لكن الابن وكأنه مخذركليا.. فلم يعد باستطاعته سماع صوت عدا عزف الرياح ووقع المطر الذي بدأ ينهمر على جسديهما...
- أعطني ماءا.. قال الابن بصوت جد خافت
- المكان يخلو من الماء. لا يوجد سوى الحجارة، تحمل حتى ولو كان الماء موجودا فلن أنزلك لتشرب، لأنه لا يوجد أحد يساعدني على حملك ثانية وأنا وحدي لا أقدر.
الألم يزداد والعطش يقتلني والنعاس يثقل رأسي.
- أتذكر انك منذ ولادتك كنت هكذا كنت تصحو من نومك جائعا وتأكل ثم تعود للنوم، كانت أمك تعطيك الماء بعد أن تفرغ ما في صدرها من لبن لم تكن تمتلأ ولا تشبع قط، وكنت غضوبا.. لكن هذا ما كان.
وأمك عليها الرحمة كانت تريد تنشأتك قوي البنية.كانت تعتقد أنك ستكون سندها عندما تكبر. فلم يكن لها غيرك فالابن الثاني الذي كانت ستلد قتلها وكنت ستقتلها ثانية لو عاشت وشاهدت ما أنت عليه الآن.
وفي هاته اللحظات لم يعد الابن يحسّ بألام جسمه، ولكن هذه المرة كان الألم يقطع قلبه، ويمزق نفسه..
فبعد كل ما سمعه من أبيه. تعجب كيف لهذا الوالد الفّذ، والبطل الشجاع الذي كان كله حيوي وعزم كيف لهذا الحد يسيطر عليه هذا الشعور باليأس بمجرد فقدانه زوجته. وكيف تتبدى له وقائع الحياة التي يعيشها مظلمة قاتلة، لا يكاد يبرق فيها أمل ولا يبدو في بدر، وكيف يتحول هذا الشعور إلى نوع من المرارة المؤلمة.
أحسّ بتراخي ركبتي ابنه الذي اعتلى ظهره، وبعدم تحكمه بقدميه، وبشعوره في التمايل يمينا و شمالا. وبدا له الرأس الموجود هناك فوق ينتفض وكأنه ينتحب.. أحس بتساقط قطرات سميكة فوق شعره.
واستطاع أن يميزها على قطيرات المطر وعلم أنها دموع..
- أتبكى؟ أهيجت مشاعرك ذكرى والدتك حقا؟ إنس الأمر إذا.
حتى هو أيضا نطقت عيونه أخيرا ببعض الدمعات وصمت لسانه حيرة.
وسكت قليلا.. ثم أضاف في قرارة نفسه.. لو تعلم يا بني أنه عندما يضيق القلب بمخبآت الصدور.. وتتقره الأجفان من حرارة الدموع.. لا يجد المرء يا بني غير الكلام والشكوى..
- ولفت نظره امتزاج قطرات المطر مع قطرات الدم التي كانت تسيل من الأعلى دون توقف، منذ بداية رحلتهما.
- لقد أثخنوك بالجراح، و ماذا جرى لأصدقائك؟ قتلوهم على بكرة أبيهم. لكنهم مقطوعون من شجرة، دون أهل، وكأن لسان حالهم يقول:" لا يوجد من يهمه أمرنا أو يحزنه مصيرنا". أما أنت يا بني، أنت؟
يجب أن تسترد عافيتك، وتنتقم لأصدقائك يجب أن تكون شديدا على هؤلاء الكفار.. نعم ننتقم من هؤلاء الكلاب.. نعم كلاب أبناء كلاب، ولن نستسلم حيت تحقيق النصر أو الشهادة.. فمسيرتنا الجهادية كانت وستبقى طويلة.. وطويلة. فما أحلى المنون في سبيل الله.. والوطن.
لقد كانت الرحلة طويلة والليل بارد.. وفي الفجر لاحت القرية من بعيد.
- ها هي ذي القرية. شاهد أسقف المنازل وهي تلمع تحت سقوط الأمطار.
- تولد لديه الانطباع بأن ثقل ابنه يسحقه عندما أحس بإثناء مفاصله، وارتخاء عضلاته، ويداه اللتان لم تعدا متشبثتين بعنقه.
- أعلم أنك نائم يا بني.. فأغمض عينيك على الحلم الوردي فقد كان الليل طويل.. وطويل.. وطويل.
ولم يكن يعلم المسكين أن الثقل الذي أنهكه صار جثة هامدة فوق كتفيه.. بعد أن نفذت آخر قطرات الدم، والتي ظلت تنزف دون توقف.
وعندما وصل إلى أول بيت في القرية مال على أحد جدرانه، وانزل ابنه (جثة ابنه) بكل هدوء. وألقى بجسده.
هو الآخر- المنهك تماما، والمنكل الأوصال.
ثم أخذ نفسا عميقا، وأمعن النظر في نور الفجر المنسكب على الدنيا قائلا: ألم يإن للصباح أن يطلع !!
نظر إلى ابنه الممدد، وحاول إيقاظه من نومه- كما كان يعتقد- لكن لم يتلقى أي رد فعلم حينها أنه فارق الحياة، فاغرورقت عيناه. وأدرك أنّ رياح الردى العاتية قد هبّت منذ حين وأطفأت شعلته الأخيرة.. وحطمت قلبه مرة ثانية.
وصرخ صرختا كادت تخرج معها أنفاسه.
- صاح بأعلى صوته: ألم أقل لك تحمل.. ويجب أن تكون قويا. يكفيني فخرا أمك الشهيدة.. وقبّل جبينه الندّي، وحمله بين يديه، ودموعه تتساقط دون توقف.
وهذه المرة استطاع حمله دون أيّ مساعدة. ولم يحس أبدا بثقل جثته.
وتقدم بخطوات ثقيلة إلى الأمام مسترجعا بذاكرته آخر كلماته: كيف حالك؟ في غاية السوء.. لا أري شيئا.. أنا عطشان.. أعطيني ماءا.
- انتهت - أتمنى أن تنال اعجابكم......
*رحلــــة الألــــــم *
في مساء أحد أيام الشتاء، عندما تعلن الرياح قدومها بعنف.. فتخاف منها الشمس وتبخل بأشعتها.. فيحجبها سحاب قاتم مرسوم عليه حالة الطوارئ.. ويختفي الحنان بين سطوره ويرتعش كالطفل العاري الذي يحتاج إلى التدفئة و هو بجانب النار...
غسلت الأمطار آخر بقايا الثلج الناصع البياض في الساحة، ووقف الشيخ العجوز. نعم ذلك الشيخ المجاهد ... العظيم حقا، والذي شاب رأسه ولم يشب قلبه ... وشاخ جسده ولم يشخ إيمانه ... وانحنى ظهره، ولكن عقله ظّل مستقيما سديدا.....
وقف متأملا، مسندا لجسمه الذي أنهكته سنين الحرب إلى عمود يراقب جداول المياه الرقيقة والسريعة تنصب من كل جانب... وعلى حين غرة وقعت عيناه على حذاء مطاطي عرفه من فوره، وكان قد قطع عند مشط القدم كما يناسب قدمي زوجته المنتفختين ... رفعه عن الأرض وأدخله إلى الغرفة، ومرة أخرى ملأ فؤاده فراغ رهيب مثل الذي طفى عليه حين حملوا نعشها بعيدا .... فقد كانت نعم الزوجة الوفية لهذا العجوز .... تقف معه أيام الشدة والفقر.
فهو يؤدي واجبه الوطني رفقة إخوانه المجاهدين ، وهي تعمل وتكدح وتعمر عش بيتها المتواضع بكد اليمين وعرق الجبين... متحدية بذلك كل ظروف هذه الحرب المزرية وكل مظاهر القهر والحرمان..
فقد عاش معها أحلى و أجمل أيام العمر، في ظلّ بيت متواضع جدا.. أوفي حقيقة الأمر كناية عن كوخ حقير لا يكاد يمنع الهواء ولا المطر. يدل مظهره على شدة الفاقة والحرمان... وكأنه ضاق بساكنيه.
هناك في تلك الوديان العابقة بالعطر والزهر، وألوان الطبيعة الساحرة، حتى هذه الأخيرة ترفض هذه الظروف القاسية من حرب.. ومعارك.. ودماء تسري هنا وهناك لتسقي الشجر والنبات بدلا من الماء.
فكانت تفرض نفسها فرضا. متحدية بذالك كل هاته المشاهد الدرامية من حزن.. ويأس.. وضنك.. وضيق..
وحتى هذا الشيخ كان راض بموقع بيته.. ويعشق هذه الطبيعة كل العشق، فرغم سنّه المتأخرة كان جد مرهف الإحساس وكأنه ولد صغير فتح عينيه للتوّ.. يحدق في الطبيعة من حوله كما يحدق الرضيع في وجه أمه إذ هو يكتشفه يوما بعد يوم..
كل هاته الألوان كانت تزيده بجمالها وسحرها قوة وشجاعة فيرى في بهائها وجمال خضرتها نوعا من التحدى لبشاعة هذا المستعمر وآلياته الفتاكة.. كما يرى فيها رغبة في الاستمرار، والشموخ رغم كل الأهوال.
وقد نشأت أواصر صداقة حميمة بينه وبين أشجار تلك المنطقة، وممراتها الضيقة، ومنعطفاتها الرطبة. فعايشها كلها بألفة وحب عميقين. فهي صديقته، وملهمته ودواءه السحري للكثير من ألوان المعاناة وصنوف الإحباط..
ولكنه وبعد فقدانه لزوجته وأنيسه الوحيد، لم يعد لهذه المظاهر ولهاته الألوان أيّ أثر في نفسه.. وكأنه امتلأ كله باليأس والقنوط حتى درجة التشبع. وكان لكل هذا تأثيره الواضح عليه..
هكذا كانت خالته كلما داعبت ذكرياتها أفكاره فيجلس ينتحب حتى انسدال العشية.
وفي ذلك المساء الممطر كان هذا الشيخ مع موعد أخر كله أحزان وأشجان ... فكم كانت الصدمة كبيرة إلى قلبه حين جاءه بعض الرفاق يحملون ابنه الوحيد وهو ينزف دما من كل جسمه.. وطرحوه أمام عتبة البيت، وهم يتمتمون بصوت خافت: لقد استشهد جميع رفاقه.. لكن جراحه بليغة يا عم... ثم نظر إليه بنظرات ملتمعة يؤكد بريقها الحاد على الرغبة في البكاء.. وقد أوشك أن يهمّ بالبكاء لكنه تشجع كعادته ولملم دموعه، واقترب من ابنه الطريح أمامه قائلا: لن أدعك تموت أمام بكل هذه السهولة...
وأضاف يكفيني أمك الشهيدة.. فيجب أن تعيش! ثم نادى بأعلى صوته: تعالوا ساعدوني على وضعه فوق كتفي.. وقبل وضعه كما أمر أمسك بيدي ابنه المرتعشين ووضع يده الحانية على جبهته التي كانت تتساقط منها قطرات دم ممزوجة بذرات عرق "الهلع" أو "الذعر" أو كليهما معا...
ثم وما إن أحسّ باستناده فوق كتفيه بادر بالخروج من قريته هذه، رغم ضعفه وعدم تحمل جسمه لهذا الوزن.. ناداه صديق من وراءه كان قد أيقن وعرف بغية ومقصد العجوز وابنه:" لكن الرحلة عمياء.. والدرب دماء".
فلم يحبه العجوز الذي مضى يمشي دون أي التفاتة إلى الوراء . وكان الجو مظلما وممطرا بعض الشيء
وبعد مدة من الزمن نادى على ابنه: أنت يا من تجثم هناك فوق.
أخبرني إن كنت تسمع شيئا أو تلمح ضوءا من أي جهة.
- لا أرى شيئا - قال الابن
- لابد أن نكونا قريبين- قال العجوز
- نعم لكن لا أسمع شيئا
استمر الخيال الطويل والأسود للرجلين يتحرك صعودا وهبوطا، يتسلق الحجارة، يصغر ويكبر..
كان خيالا واحد يتأرجح.
وبعد توقف المطر من الهطول منذ المساء،كان القمر يتصاعد من الأرض مثل كتلة مستديرة من اللهب.
- المفروض أن نكون قد وصلنا إلى تلك القرية الآن، أنت يا من لا يعوق أذنيك عائق، هناك فوق، أرهن السمع وانظر إذا كان يصل نباح الكلاب.
لا تنسى ذلك....لم أنسى لكنني لا أرى أثرا لشيء.
- التعب يقسم ظهري....أنزلني إذا - أجاب الابن.
نكص العجوز على عقبيه حتى أسند ظهره إلى جذع شجرة، وتوقف لدقائق استجمع أنفاسه وهناك عدلّ حمولته دون أن يلقيها على الأرض،لم يفكر في الجلوس على الرغم من ساقيه الخائرتين، لأنه لو فعل لما استطاع من جديد رفع جسد ابنه الجريح الذي عاونه الآخرين قبل ساعات، في تحميله على كتفيه، ومن وقتها وهو يسير به هكذا.
- كيف حالك؟
- في غاية السوء؟
كان يتحدث قليل كل مرة أقل من سابقتها. تمر عليه أوقات يبدو فيها نائما، وأوقات أخرى يتملكه فيها البرد. كان يرتجف.كان يستدل على الوقت الذي تمتلك فيه ابنه القشعريرة من هزاته له، ومن رجليه الملتصقتين بجنبيه، وأيضا من يديه الملفوفتين حول عنقه عندما تحركان رأسه حركات توقيعية... كان يصّر على أسنانه حتى لا يعض لسانه، وعندما يذهب هذا عن ابنه كان يسأله:
- تؤلمك جراحك كثيرا؟
- شيء من هذا القليل-كان يجيب
- كن قويا وتحمل هذه الآلام
وحتى والده المسن لم يعد يقوى على هذا الحمل.فبعد مضي ساعتين من المشي كان يحس وكأن جسمه تخدّر كليا ..
ولكن ستّون سنة لشيخ مثله تكفي وتزيد كي يتدرب على إستعاب الألم وكتمانه.
وأضاف قائلا: سوف تشفى وتقوى على مواجهة هذا المستعمر الكّلب..وضغط وبشدة على الكاف عند نطق هذه الكلمة.
قال له في البداية :" أنزلني هنا .. واتركني هنا .. أذهب وحدك.سألحق بك غدا أو عندما أسترد بعض عافيتي" .طلب منه هذا ما يقارب من الخمسين مرة.أما الآن فلم يعد يقوى حتى على مجرد طلب هذا.
كان القمر هناك، في مواجهتهما، ،قمر كبير ملون يغمر عيونهما بالضوء، ويبالغ في تسويد خياليهما على الأرض.
- لا أرى موضع قدمي ولا أدري إلى أين تأخذاني-قال العجوز.
- لم يحبه أحد.
فأراد أن يخفف عن ابنه بعض الشيء وحتى عن نفسه هو أيضا فأضاف: لكن لا بأس يا بني بين الحين والحين من آهة هنا.. وأنّة هناك.
وفي حقيقة الأمر كان يشعر بالأنّات وكأنها أبرا والآهات وكأنها خناجر.
- الآخر كان معتليا هناك فوق، ملفوفا كله بنور القمر، وبوجه ممتقع ينزف أحيانا بالدم، عاكسا ضوءا معتّما. وهو هناك تحت.
- ألم تسمعني؟ أقول لك: إنني لا أرى أمامي.
بقي الآخر صامتا.
واصل سيره متعثرا.كان ينكمش ثم يفرد قامته ليعود للتعثر من جديد. ثم يحني ظهره مجددا ويمشي كما لو كان مصابا في عموده الفقري..
- ليس هذا هو الطريق. أخبرونا أن القرية على مرمى حجر بعد الجبل، وها نحن قد تركناه وراء ظهرنا ولم تظهر بعد، ولا يسمع صوت يستدل به على قربها.
- أنزلني يا أبي.
- أتشعر بالألم؟
- نعم.
- سأوصلك إلى القرية مهما بعدت الشقة. سأجد هناك من يعتني بك.
يقولون إن بها طبيبا، وسأحملك إليه، احتملتك ساعات لأعتني بك ولن أترك طريحا لينال منك أعداؤك...هؤلاء الكلاب...
ترنح قليلا، خطى خطوتين أو ثلاث يمنة ويسرة، ثم انتصبت قامته من جديد.
- نعم سأحملك فكن قويا.
- أنزلني.
خرج صوته هذه المرة ضعيفا، قريبا من الهمهمة، أريد الاضطجاع ولو قليلا.
نم حيث أنت.. كان القمر يواصل صعوده، بلون يقترب من الزرقة، فوق سماء صافية، غمر الضوء وجه العجوز المبلل بالعرق، وأغمض عينيه لكي لا ينظر أمامه، وإذا لم يكن باستطاعته طأطأة الرأس الذي تتشبث به يدا ابنه.
- لا أفعل هذا من أجلك بل من أجل المرحومة والدتك، أفعله فقط لأنك كنت ابنها.
كانت ستؤنبني لو تركتك ممدا هناك، ولم أحماك لمن يداويك،كما أفعل الآن. وأراد أن يأمره ببعض الكلمات حتى لا يشعره بمسافة الطريق ولربما أنساه بعض آلام جراحه. وهنا عادت ذكريات زوجته الشهيدة تداعب أفكاره من جديد فكيف ينسى ذات القلب الحنون.. والتي كانت مدى بالقوة والشجاعة.
وأضاف: فهي التي تبث فيا روح العزيمة، وليس أنت.. فكم كانت بكلماتها العفوية وطبيبة قلبها تداوي ما تركته قسوة الحياة..والحرب، من ندوب في النفس. هذه النفس التي غرس فيها الحقد والكره لهذا المستعمر.. وكأنها فطرت على هاتين الخصلتين فقط، فلم نعد نعرف أي معنى للحب أو الحنان ولا الطمأنينة.. حتى الابتسامة البريئة سرقت من أعيّننا. أما والدته كانت عكس هذا كله. فرغم كل هذه الظروف والحياة القاسية التي عشناها ونعيشها اليوم، فقد كانت ذات نفس فطرت على الرقة وطبعت على الحب..
وأكمل قائلا: ما كان الله ليدع الرجل تحت أثقال الزمن ومشاق الحياة حتى يخلق له من كيان ذاته من يتحمل معه هموم نفسه. ويقف معه لكثير من شؤونه. وينير له ما يحيطه من وسائل العيش. وضربات الخطوب – حتى يخلق له زوجة يسكن إليها، ويحن بطبيعته إلى الأنس بها. فهي التي تقاسمه حياته، وهي سناد أمره وعدة بيته، وهي التي تجعله يقتحم المهالك، ويخوض غمار المعارك، من غير خوف ولا وجل.
وهنا أدرك الابن سرّ تلك القوة والشجاعة والتي عرف بها أبوه بين رفاقه. وكيف لا يزال محافظا على مشاعره وعواطفه التي تنبع بالحب والألم معا. وهو في سن متأخرة !!
وهو الذي لم يحمل كتابا يوما، ولا قلما. و هنا أدرك أن الحياة كفيلة بتعليم الكثير.. الكثير..
وتمر الأيام، وفي كل لحظة من لحظات الحياة أشعر أني بحاجة إلى تلك النفس الطيبة والقلب الرقيق، واليد الحنون.. أما اليوم فتتسارع الأنفاس وكأنها تسابق لحظات الزمن الأزلية.
وتترك القسوة آثارها على العين فتغشى، وعلى الجسد فتنتفض أطرافه.
كان يتصبب عرقا أثناء كلامه، ولكن هواء الليل كان يتكفل بتجفيف عرقه، ويعود فيعرق من جديد فوق عرقه الجاف. لقد بدا في تلك الكلمات التي ألقاها على مسمع ابنه وكأنه متحدا مع الطبيعة في مختلف مشهدها، فتخيل أن النسائم العليلة، والمياه المترقرقة، تشاطره على فراق زوجته وآلام ابنه.
- سينكر ظهري، لكني سأصل بك إلى القرية لكي يعالجوا هذه الجروح التي أحدثوها بك.
- أنظر حواليك لعلك ترى أو تسمع شيئا.. تستطيع فعل هذا من حيث مكانك، لأنني بدأت أشعر بالصمم.
- لا أرى شيئا.
- عاقبة هذا وخيمة بالنسبة إليك، يا بني.
- أنا عطشان.
- تحمل، لا بد أننا قريبن الآن، نحن في الثلث الأخير من الليل، ولا بد أنهم أطفؤو القناديل الليلة. لكن على الأقل لا بد أن يكون قد تناجى إلى أذنيك نباح الكلاب، أو صوت الرصاص.. لأن الثوار في هذه القرية في مواجهة دائمة مع قوات المستعمر.
لقد كان الليل طويل.. وطويل. ليل لا ينتهي طوله وفجر لا يبزغ... وتباشير الصبح لا تظهر.
- أرهن السمع جيدا. لكن الابن وكأنه مخذركليا.. فلم يعد باستطاعته سماع صوت عدا عزف الرياح ووقع المطر الذي بدأ ينهمر على جسديهما...
- أعطني ماءا.. قال الابن بصوت جد خافت
- المكان يخلو من الماء. لا يوجد سوى الحجارة، تحمل حتى ولو كان الماء موجودا فلن أنزلك لتشرب، لأنه لا يوجد أحد يساعدني على حملك ثانية وأنا وحدي لا أقدر.
الألم يزداد والعطش يقتلني والنعاس يثقل رأسي.
- أتذكر انك منذ ولادتك كنت هكذا كنت تصحو من نومك جائعا وتأكل ثم تعود للنوم، كانت أمك تعطيك الماء بعد أن تفرغ ما في صدرها من لبن لم تكن تمتلأ ولا تشبع قط، وكنت غضوبا.. لكن هذا ما كان.
وأمك عليها الرحمة كانت تريد تنشأتك قوي البنية.كانت تعتقد أنك ستكون سندها عندما تكبر. فلم يكن لها غيرك فالابن الثاني الذي كانت ستلد قتلها وكنت ستقتلها ثانية لو عاشت وشاهدت ما أنت عليه الآن.
وفي هاته اللحظات لم يعد الابن يحسّ بألام جسمه، ولكن هذه المرة كان الألم يقطع قلبه، ويمزق نفسه..
فبعد كل ما سمعه من أبيه. تعجب كيف لهذا الوالد الفّذ، والبطل الشجاع الذي كان كله حيوي وعزم كيف لهذا الحد يسيطر عليه هذا الشعور باليأس بمجرد فقدانه زوجته. وكيف تتبدى له وقائع الحياة التي يعيشها مظلمة قاتلة، لا يكاد يبرق فيها أمل ولا يبدو في بدر، وكيف يتحول هذا الشعور إلى نوع من المرارة المؤلمة.
أحسّ بتراخي ركبتي ابنه الذي اعتلى ظهره، وبعدم تحكمه بقدميه، وبشعوره في التمايل يمينا و شمالا. وبدا له الرأس الموجود هناك فوق ينتفض وكأنه ينتحب.. أحس بتساقط قطرات سميكة فوق شعره.
واستطاع أن يميزها على قطيرات المطر وعلم أنها دموع..
- أتبكى؟ أهيجت مشاعرك ذكرى والدتك حقا؟ إنس الأمر إذا.
حتى هو أيضا نطقت عيونه أخيرا ببعض الدمعات وصمت لسانه حيرة.
وسكت قليلا.. ثم أضاف في قرارة نفسه.. لو تعلم يا بني أنه عندما يضيق القلب بمخبآت الصدور.. وتتقره الأجفان من حرارة الدموع.. لا يجد المرء يا بني غير الكلام والشكوى..
- ولفت نظره امتزاج قطرات المطر مع قطرات الدم التي كانت تسيل من الأعلى دون توقف، منذ بداية رحلتهما.
- لقد أثخنوك بالجراح، و ماذا جرى لأصدقائك؟ قتلوهم على بكرة أبيهم. لكنهم مقطوعون من شجرة، دون أهل، وكأن لسان حالهم يقول:" لا يوجد من يهمه أمرنا أو يحزنه مصيرنا". أما أنت يا بني، أنت؟
يجب أن تسترد عافيتك، وتنتقم لأصدقائك يجب أن تكون شديدا على هؤلاء الكفار.. نعم ننتقم من هؤلاء الكلاب.. نعم كلاب أبناء كلاب، ولن نستسلم حيت تحقيق النصر أو الشهادة.. فمسيرتنا الجهادية كانت وستبقى طويلة.. وطويلة. فما أحلى المنون في سبيل الله.. والوطن.
لقد كانت الرحلة طويلة والليل بارد.. وفي الفجر لاحت القرية من بعيد.
- ها هي ذي القرية. شاهد أسقف المنازل وهي تلمع تحت سقوط الأمطار.
- تولد لديه الانطباع بأن ثقل ابنه يسحقه عندما أحس بإثناء مفاصله، وارتخاء عضلاته، ويداه اللتان لم تعدا متشبثتين بعنقه.
- أعلم أنك نائم يا بني.. فأغمض عينيك على الحلم الوردي فقد كان الليل طويل.. وطويل.. وطويل.
ولم يكن يعلم المسكين أن الثقل الذي أنهكه صار جثة هامدة فوق كتفيه.. بعد أن نفذت آخر قطرات الدم، والتي ظلت تنزف دون توقف.
وعندما وصل إلى أول بيت في القرية مال على أحد جدرانه، وانزل ابنه (جثة ابنه) بكل هدوء. وألقى بجسده.
هو الآخر- المنهك تماما، والمنكل الأوصال.
ثم أخذ نفسا عميقا، وأمعن النظر في نور الفجر المنسكب على الدنيا قائلا: ألم يإن للصباح أن يطلع !!
نظر إلى ابنه الممدد، وحاول إيقاظه من نومه- كما كان يعتقد- لكن لم يتلقى أي رد فعلم حينها أنه فارق الحياة، فاغرورقت عيناه. وأدرك أنّ رياح الردى العاتية قد هبّت منذ حين وأطفأت شعلته الأخيرة.. وحطمت قلبه مرة ثانية.
وصرخ صرختا كادت تخرج معها أنفاسه.
- صاح بأعلى صوته: ألم أقل لك تحمل.. ويجب أن تكون قويا. يكفيني فخرا أمك الشهيدة.. وقبّل جبينه الندّي، وحمله بين يديه، ودموعه تتساقط دون توقف.
وهذه المرة استطاع حمله دون أيّ مساعدة. ولم يحس أبدا بثقل جثته.
وتقدم بخطوات ثقيلة إلى الأمام مسترجعا بذاكرته آخر كلماته: كيف حالك؟ في غاية السوء.. لا أري شيئا.. أنا عطشان.. أعطيني ماءا.
- انتهت - أتمنى أن تنال اعجابكم......