مذكرات الجنرال نزار حول حروب الشرق الأوسط

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

programmeur

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
20 جويلية 2008
المشاركات
2,842
نقاط التفاعل
195
النقاط
159
الجنس
ذكر
مذكرات الجنرال الجزائري خالد نزار حول حروب الشرق الأوسط /*فريق النخبة*/

شهادات حول مشاركة اللواء المتحرك الثاني في حرب الإستنزاف

thumbnail.php


تنشر "الشروق" على مدار حلقات النص العربي لمذكرات الجنرال المتقاعد خالد نزار حول مشاركة الجزائر في الحروب العربية الإسرائيلية (حرب 6 أيام 1967)، عبر فصول عاينها الكاتب عندما كان ضابطا في الجيش الشعبي الوطني، وكذا انطباعه خلال حروب الاستنزاف التي حددت مصير الصراع في منطقة الشرق الأوسط بعد اتفاقيات كامب ديفيد ورسمت معالم خارطة جديدة استحوذ فيها الكيان الصهيوني على قصب السبق بعد سلسلة الهزائم العسكرية والنفسية العربية.


وتحدثت الفصول الأولى من الكتاب عن حرص الجزائر على المشاركة العسكرية في الصراع العربي الإسرائيلي رغم أن جيشها حينذاك لم يكن مهيكلا بالطريقة النظامية الكلاسيكية، لاسيما وأن الجيش الشعبي الوطني تشكل أساسا من جيش التحرير الوطني الذي اعتمد حرب العصابات كخطة لمواجهة الاستعمار الفرنسي، وأرجع الجنرال المتقاعد هذا الاندفاع إلى تأكيد الجزائر لانتمائها وهويتها العربية وتبنيها لقضايا العرب الذين كانت جزءا لا يتجزأ منهم، ثم تطرق إلى الحديث عن حروب الاستنزاف التي كانت من أجل الكرامة العربية، وكذا حرب ينويو 1967 التي شهدت اندلاع الحرب بين العرب والكيان الصهيوني، وموقف الضباط الجزائريين من الحرب وكيفية متابعتهم لها، وكذا مشاركات خالد نزار في هذه الحروب، وقضايا مرتبطة بالحدث مثل وفاة الجنرال عبد المنعم رياض وبعض مناورات اللواء الجزائري في الحرب ، ثم عرّج إلى الحديث عن الحروب العربية الإسرائيلية في الشرق الأوسط، كحرب 1956 التي قال إنها انتهت بـ"هزيمة عسكرية وانتصار سياسي"، ثم حرب 1967 التي كانت بمثابة "عد تنازلي" وكيفية مواجهة كل جبهة لهذه الحرب، وأخيرا حرب أكتوبر 1973، كما تطرق في الأخير إلى نشر إحصائيات متعلقة بخسائر سلاح الجو العربي في اليوم الأول من حرب 1967. ويعتبر الجنرال المتقاعد خالد نزار الشخصية العسكرية الوحيدة التي سجلت كثيرا من انطباعاتها حول قضايا سياسية وعسكرية عاشتها الجزائر وكان هو أحد أبرز المساهمين فيها، وجاء هذا الإسهام الجديد ليكشف جوانب مهمة من مشاركة الجزائريين في حرب 1967 والمعايشات اليومية للجيش الجزائري في الجزائر وفي الجبهة المصرية.

كانت الجزائر خارجة لتوها من حرب طويلة ومدمّرة عندما قررت الانضمام إلى جانب إخوانها العرب في الصراع الذي كان يجمعهم بإسرائيل، وإن لم تكن مستعدة لخوض حرب تقليدية مثل تلك التي كانت ترتسم في الشرق الأوسط

الحلقة الأولى

المصريون ضللونا بمناورات مفبركة وأوهمونا أن إسرائيل "شربة ميه"
بقلم اللواء المتقاعد: خالد نزار
ملامح تأسيس جيش تقليدي
كان الجيش الجزائري الذي وُلد من رحم جيش التحرير الوطني لا يزال غارقا في أسلوب حرب العصابات التي اعتمدها لمواجهة القوى الاستعمارية، ولكن الجزائر اغتنمت فرصة هذا الصراع العربي الإسرائيلي لتسجّل تضامنها مع منطقة لم تتوقف عن إعلان انتمائها إليها وارتباطها بها.وهكذا كانت مشاركة الجيش الجزائري في الحرب العربية الإسرائيلية رغم أنه لم يزل حينها في طوره الجنيني محفزة للتساؤل عن مدى امتلاك هذا الجيش للخبرة اللازمة من أجل الانخراط في حرب تقليدية، وما إذا كانت الجزائر التي أُنهكت في صراع مسلح طويل ومرير جاهزة لمواجهة حرب شاملة.
وهذه الأسئلة المطروحة تستدعي ضرورة الإجابة عليها.
مع انتهاء الحرب، وجدت الجزائر نفسها مقفرة على جميع الأصعدة، وفي كل بُناها، حيث انهار أسلوبها التنظيمي المستنسخ عن النموذج الإقليمي الفرنسي مثل قصر رملي، ولم تصبح الزراعة التي كان يُفترض أنها مصدر قوت الجزائريين سوى زراعة تكميلية موجهة بالأساس إلى تلبية حاجيات الفرنسيين فقط، إضافة إلى سياسة الأرض المحروقة التي نفّذها نشطاء "المنظمة الجزائرية السرية"، وهذا أدى بدوره إلى تجميد اتفاقيات إيفيان، ودفع فرنسا إلى إدارة ظهرها كلية للجزائر، تاركة هذا البلد يغرق في مشاكله. وكان ذلك إحدى الطرق التي اعتمدتها فرنسا لمعاقبة شعب خاض معركة تحرره واستقلاله. وهكذا نبذت فرنسا خلفها بلدا كاملا في العراء.
لم تكن الجزائر تملك مقومات كثيرة غداة تحررها من الاستعمار البشع؛ فعدد الطلبة لم يكن يتجاوز 500 طالب يدرسون في جامعتها الوحيدة، وهي الجامعة المركزية بالعاصمة، وكان الظرف يقتضي على هذا البلد المستقل حديثا ليس مجرد إعادة بنائه من جديد فحسب، ولكن أيضا النهوض بكل المؤسسات الضرورية في تسيير دولة جديرة بهذا الاسم.
وشرعت القيادة في ذلك الزمن بالعمل من أجل رفع هذا التحدي الكبير، ولكن بسبب ضخامة الأعباء وثقلها لجأت إلى تحديد الأولويات التي لم يكن الجيش في طليعتها.
غداة الاستقلال مباشرة، غيّر "جيش التحرير الوطني" تسميته ليصبح "الجيش الوطني الشعبي"، وتم هذا التغيير دون إمداد الجيش بدماء جديدة عدا الاستنجاد بالمتعاونين الأجانب الذين قدم أغلبهم من الاتحاد السوفييتي سابقا، وكان "جيش الحدود" يشكل النواة الأساسية لتنظيم عسكري لا زال يحتفظ بقيمه ومبادئه التي قادته إلى خوض معركة صائبة، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لكل جيش ثوري في العالم.
غير أن نقص الإطارات المحترفة فرض حينها تعيين الضباط الحائزين على أعلى الرتب في جيش التحرير الوطني الذين خاضوا الثورة، ولم يكونوا يحظون بخبرة كبيرة مرتبطة بأداء عملهم. أما الضباط القليلون الذين تكونوا في المشرق وفرنسا فقد تمت الاستعانة بهم في مجال التكوين والإدارة، وهذا الأمر شكّل نوعا من فقدان التوازن في الهرم التنظيمي للمؤسسة العسكرية، حيث اضطرت الإطارات الشابة التي كانت تملك مقاربة وتصورا مختلفا إلى بذل مجهودات كبيرة في ظرف قصير من أجل تكوين ضباط التأطير والتأهيل الذين لا غنى عنهم في تكوين الجيوش التقليدية. وازدادت حدة هذا الخلل بوقوع انحراف كبير قُرن الجيش بموجبه مع الحزب الواحد، وهو ما جعل قادة الجيش أكثر استعدادا للمشاركة في الحياة السياسية من استعدادهم للتكوين العسكري.
لقد تميّزت هندسة المؤسسة العسكرية عبر نصوصها الأساسية بهاجس إنقاذ أو إدامة امتيازات المرحلة الراهنة، أو ضمان هيمنة توجه أيديولوجي على غيره، وهذا كله كان يتم عن طريق التسابق بين القوى الموجودة على أرض الواقع. لقد كان الجيش يُستغل في أغلب الأحيان من أجل ثقله ورمزيته، وهو ما جعل المزاوجة بين الحزب والجيش تشكل دائما شراكة تتحكم بمصير البلد. وكانت طريقة التسيير هذه تحظى بمساندة رئيس الجمهورية هواري بومدين الذي كان في الوقت ذاته وزيرا للدفاع، بعد محاولة الانقلاب المجهضة في عام 1967. وهذا المفهوم نفسه برز إلى الوجود أيضا بفعل أن أوامره كانت تأتي من الجيش الشعبي الوطني بدافع العاطفة أكثر من دافع المهنة.
لقد أدت مشاركة الجيش في الأشغال ذات المنفعة العامة إلى ابتعاده أكثر فأكثر عن وظيفته الأساسية، كما أن الأولوية التي مُنحت للاقتصاد شغلت الإطارات القليلة الذين تم تكوينهم آنذاك، علما أن الحرص على الانخراط في سلك الجيش يُعتبر ضعيفا في جميع البلدان التي خرجت من حرب كلفتها كثيراً من الأرواح، ولم يحظ الجيش بدعم بشري جديد إلى غاية عام 1971 عن طريق المدارس والجامعات المختلفة في الجزائر، حيث أتيحت الفرصة لهذا الإمداد عن طريق سن قانون الخدمة الوطنية الذي فرض على كل مواطن جزائري متخرج من المدرسة تقضية عامين متتالين إما في وحدات القتال أو في تأدية أشغال ذات منفعة عامة. غير أنه هذه الجهود لم تكن لترتقي إلى تطلعات جيش عليه أن يؤدي مهامه المقررة مثلما عليه الحال في جميع العالم.
إضافة إلى ذلك، شاركت تلك الوحدات في عدة مهام مثل تشييد القرى الزراعية والأحياء السكنية، وكذا إنجاز الطرق والسكك الحديدية والمساهمة في حملات التشجير، ونحو ذلك. وكل ذلك أدى _ بشكل أو بآخر _ إلى إبعاد الجيش الوطني الشعبي عن مهمته الحقيقية. ولقد بدأت قدراته تتحسن في السبعينيات بعد التحاق أولى دفعات الضباط المحترفين، غير أن عدد الضباط لم يكن كافيا للأسف.
كانت الفرقة المدرعة الثامنة التي ذهبت إلى مصر عام 1973 الأكثر استعداداً والأفضل تجهيزاً من جميع وحدات الجيش الوطني الشعبي في تلك الفترة، وإن كانت بعيدة عن استيفاء المواصفات اللازمة، لكن رغم ذلك بقي مستوى التدريب والهياكل والقيادة غير كاف. وابتداء من عام 1965، قُرّر إرسال أولى دفعات الضباط التابعين لهيئة الأركان إلى مدارس الاتحاد السوفيتي، وإن كانت غالبيتهم تفتقد لأدنى تكوين عسكري قاعدي.
غداة الاستقلال، تم تنظيم فيالق جيش التحرير الوطني التي تحولت إلى فيالق الجيش الوطني الشعبي في عدة مجموعات، وضمت كل مجموعة ثلاثة فيالق تمثل ما يعادل تقريباً تعداد لواء.وبعد ذلك، كانت هذه الألوية نفسها هي التي ستشارك في حرب الاستنزاف بمصر بعدما تدعمت بوحدات دعم إسناد ونقل وأصبحت تعرف باسم فرق المشاة المتحركة، رغم أنها في الأصل أسست بهدف خوض حروب لا ترتبط ارتباطا كبيرا بالحروب التقليدية.
حرب من أجل الكرامة

لقد دامت حرب الاستنزاف عدة سنوات، وجاءت رداً على القصف الإسرائيلي الذي أجهز على قسم كبير من قيادة الجيش الثاني وأدى إلى مصرع قائد الأركان المصرية عبد المنعم رياض. ولم تكن حرب الاستنزاف بالنسبة للجيش المصري مجرد حرب بقاء فحسب، وإنما خاضت مصر الحرب على امتداد خط وقف النار 1967 الذي يربط قناة السويس ببور سعيد وبور فؤاد، وجزءا من سيناء. وإذا كانت إسرائيل هي التي فرضت الحرب في بداية المطاف، فإن المصريين الذين انكبوا على إعادة تشكيل جيشهم، وجدوا في هذا الاستفزاز من قبل الإسرائيليين فرصة لتحويل عدوهم إلى هدف حربي كما ذكر ذلك الفريق سعد الدين الشاذلي، قائد أركان الجيش المصري، حيث قال: "من الناحية العسكرية، كان هدفنا هو رفع معنويات جيشنا الذي كان محبطاً جراء هزيمته النكراء عن طريق تكبيد العدو خسائر فادحة في الأرواح".لم يكن المقصود بالعمليات الاستنزافية في الواقع إضعاف القوات الإسرائيلية المتموقعة على خط بارليف أساساً فحسب، وإنما منحت للمصريين الفرصة لاكتساب التجربة المفتقدة التي كانوا بأمسّ الحاجة إليها.لقد ألفت كتب كثيرة حول هذا الموضوع، غير أن القليل منها فقط أشارت إلى العامل الهام والحاسم الذي ساعد على القيام بالعبور الأكثر نجاحاً في هذا النوع من المناورات، بما فيها ما تم أثناء الحرب العالمية الثانية. وبفضل هذه التجربة استطاع المصريون النيل من كبرياء الجيش الإسرائيلي بعد أن شن عليه حرب الستة أيام. واندلعت هذه الحرب تحديدا يوم 11 مارس عام 1969، وامتدت إلى ما بعد 1969. أطلق على هذه المرحلة من الصراع العربي الإسرائيلي اسم "حرب الاستنزاف"، وكان الرئيس جمال عبد الناصر هو الذي أطلق عليها هذه التسمية حيث قال في خطاب له: "لا أستطيع أن أجتاح سيناء، لكني أستطيع تحطيم معنويات إسرائيل بالاستنزاف".وبدأت الحرب بقصف مدفعي ثم السلاح الجوي في حدود شهر جويلية 1969 بعدما بادرت إسرائيل إلى استعمال الطيران في هذه المواجهة. وأسند المصريون هذه العمليات بعمليات "كومندوس" في العمق بهدف جمع المعلومات.
قبل تلك الفترة كان الإسرائيليون يعيشون في سيناء حالة من اللاحرب واللاسلم معا. وكان الشباب يعتبر مدة الخدمة العسكرية المفروضة، وهي 33 شهرا، طويلة جدا، إلى درجة جعلت الجنرال موشيه ديان يعلن احتمال تقليص مدة الخدمة "طالما أنه لا يوجد أي خطر الآن يهدد البلد".
غير أنه لا قيادات الأركان التابعة للدول الغربية ولا حتى قيادة أركان الجيش الإسرائيلي ذاته تحدثوا عما جلبته هذه الحرب للمصريين من مزايا. فخلال هذه المرحلة اكتسب الضباط تجربة أكبر، وثابروا على أدائهم باستبسال نادر، ولم يُدرك الإسرائيليون الذين كانوا يردون الضربة بالضربة أن قناة السويس وجزءا من صحراء سيناء قد أصبحا بالنسبة للجيش المصري حقلاً فعلياً للتدريبات. ونصب الضباط أسلحتهم وفاجأوا كثيراً من الدول التي طالما رددت، منذ عام 1967، لمن يصغي إليها بأن الجنود المصريين فروا مثل الأرانب و"خلعوا نعالهم" لكي يركضوا بسرعة أكبر.
لقد أحاطت حرب الاستنزاف بحربي 1967 و1973، حيث محت الآثار التي تركتها حرب 1967 وساهمت في إنجاح حرب "الستة أيام" التي حققت هدفين هامين، ويتمثلان في عبور ثم هدم خط بارليف، وهو ما أعاد شيئاً من الكرامة للعرب ووضع حداً لأسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
كان المصريون يعانون من نقص فادح في المال وإلا لمنحوا لهذه الحرب المحدودة بعداً آخر دون أدنى شك رغم قدرة إسرائيل على استعمال السلاح النووي في هذا الصراع. لكن كيف يمكن للمصريين أن يفعلوا ذلك في حين أن غالبية المواطنين يفتقدون للحد الأدنى من مستوى المعيشة؟ أين يجدون المال الذي يُعتبر عصب الحرب؟ لقد كان هذا المال موجوداً بحوزة العرب وبالأخص دول الخليج، ولكن هل وُضع بين أيدي المصريين في هذه الحرب؟ إنني أشك شخصيا في ذلك، خاصة إذا علمنا كيف انتهت القمة العربية في الرباط، والتي عُقدت لتدارس الصيغ المناسبة لمساعدة دول الجبهة عسكرياً ومالياً.
كنا نعلم جميعا في تلك الأيام أن هذه القمة لم تكن في مستوى آمال وتطلعات الدول المعنية بشكل مباشر، ولاسيما فيما يتعلق بالاحتياجات الخاصة للحرب التي كنا ندرك بأن من يديرها كانوا هم الأمريكان وجزءا هاما من الدول الغربية.
كيف كان بإمكان مصر التي تفتقد للمال أن تنظم جبهتها الخلفية، خاصة وأنه مثلما هو معروف ومدروس في جميع المدارس العالمية، فإن الجبهة الخلفية تساند وتساعد الجبهة الأمامية على الاستقرار وتعزز الوضع النفسي والمعنوي لكل من الجنود والأهالي.
ولكن ما الذي يمكن أن نطالب به جنودا يجدون أنفسهم في احتكاك مباشر مع أهال أنهكهم البؤس ونراهم عندما يفاجئهم القصف المدفعي الإسرائيلي وهم منهمكون في حقولهم يهرعون في كل الاتجاهات ويصرخون : "يخرب بيتك يا جمال"
لقد كان الرئيس السادات مصيباً في قراره لما اختار طريق السلم لشعبه لأنه، في نظري، لم يكن يستطيع أن يتحمل لوحده عبء هذه الحرب. رغم أن مبادرته بزيارة إسرائيل قد كلفته حياته.
إننا سنتناول في هذه الصفحات المراحل التي قطعها هذا الجيش الذي سعى، بعدما مُني بهزيمة قاسية، إلى إعادة تشكيل ما سيمثل بعد ذلك الجيش الجديد. بل لقد نجح المصريون في تحويل جيش استعراضي إلى أداة عسكرية فاعلة وقادرة على مقارعة أعتى جيش في العالم، كما نجحوا جزئيا في رهانهم عن طريق إذلال أعدائهم بعبور مفاجئ رغم الإغلاق المُحكم "قناة السويس" بطريقة تُعتبر الأصعب في إطار الأحداث التي شهدها مسرح العمليات العسكرية الأوروبي.
ترجمة: مصطفى فرحات
 
الحلقة الثانية

المصريون قالوا إن إسرائيل "شربة ميّة"، لكن الواقع كذّبهم

في يوم 5 جوان 1967، اندلعت الحرب بين العرب والإسرائيليين. قبلها بخمسة عشر يوماً، كنت رفقة وفد عسكري جزائري في مدينة العريش، بصحراء سيناء، حيث حضرت لمناورة عسكرية كبيرة. كانت ثاني زيارة لي إلى مصر. الزيارة الأولى، كانت في إطار دعوة من الجيش المصري للبلدان الأعضاء في المنظمة العسكرية الأفريقية التي كان مقرها في أكرا عاصمة غانا. كانت أول مشاركة لنا لهذه المنظمة القارية التي انضممنا إليها فور الاستقلال. وكان عبد الرزاق بوحارة والعميد الراحل العربي سي لحسن عضوين فيها.
كنا في فجر الاستقلال نثير فضول الجميع من حولنا. ليس فقط لأن الثورة الجزائرية تخطت الحدود، لكن لأننا أيضاً كنا نرتدي البدلات القتالية، بحيث لم تكن قد سلمت لنا بدلات الخروج بعد. أتذكر أننا حينما كنا نتناول الطعام في مطعم فندق "شيبيردس" حيث كنا نقيم، كان هناك رجل يجلس ليس ببعيد عنا، يحدق فينا بشكل ملح وخفي، إلى أن جاء يوم كسر فيه العربي سي لحسن اللغز وكنا في انتظار المصعد. تبين لنا أن هذا الرجل الفضولي الذي ظل يلتهمنا بنظراته لأيام طويلة، كان فقط متشوق لرؤية جزائريين عن قرب، هو الذي سمع عنهم الكثير. كان هو عبد القادر إسكر، فرنسي من أصل جزائري، وهو مخرج سينمائي ذاع صيته بعد ذلك كثيراً، وكان سعيداً بلقاء أبناء وطنه.
رحلتي الثانية إلى مصر كانت أكثر أهمية. ذهبت، كما أسلفت القول، خلال شهر ماي 1967، قبيل اندلاع حرب الستة أيام، وذلك في إطار تكوين عسكري. بالإضافة إلى زيارة مدارس التدريب، دعونا لمشاهدة مناورة كانت تجري في سيناء، بالقرب من مدينة العريش. شارك فيها اللواء عبد الحكيم عامر، نائب الرئيس ووزير الدفاع المصري وألقى كلمة في ختام العملية بثت على الإذاعة. كان عرضاً ضخماً. أهداف الدبابات أصيبت كلها بحيث كان يتصاعد منها كل مرة نار ودخان. المستندات النارية، سواء كانت مدفعية أو جوية، كانت تتقدم كما لو أنا فوق حقول الرماية. وكانت تحركات القوات الأخرى تتم كما لو أنها في استعراض. كل ذلك كان يملأ الجمهور الحاضر اعتزازاً واطمئناناً.
ماي 1967، في صحراء سيناء
عند عودتي إلى الجزائر، رددت لمن في محيطي بأن المصريين كانوا الأقوى وأنهم، في حال نشوب نزاع، سوف ينتصرون بلا أدنى شك. كنت ناشئا في هذا المجال، وكنت مليئاً بالحماسة. وكان إيماني أن نهاية إسرائيل محتومة. وكان المصريون يرددون بقولهم "شربة مية"، من فرط ثقتهم في أنفسهم. كم كنت مخطئاً، لأني سرعان ما اكتشفت بأن المصريين اعتادوا تزييف الحقائق والمبالغة مما يعطي انطباعاً خاطئاً عن جيشهم. عرفت فيما بعد بأن ما هي في الأخير سوى مسرحية هزيلة. المصريون كانوا قد أخفوا براميل من الوقود خلف أهداف الدبابات وجميع الرميات كانت محددة ومهيأة سلفاً. وراء كل هذا السيرك كان هناك هدف واحد: كسب رضا القائد.
ورأينا تمثيلية أخرى، تتمثل في نشر وحدة مكافحة الغازات، حيث يتحرك الجنود شبه عراة تحت بالوعات من الماء الساخن. هل كان في نيتهم أن يدفعوا بالسيناريو أبعد من ذلك؟ يجب الإشارة إلى أنه كان بجانب المصريين آنذاك مدربون سوفييت لم يكن هدفهم نقل التكنولوجيا بقدر ما كان للإبقاء على نظام يسعى أولاً وقبل كل شيء لتمديد بقائه على الأرض وأيضاً لبيع تجهيزاتهم. لم يكن غريباً أن يكون السوفييت قد نقلوا مثل تلك الأساليب التمثيلية للمصريين بالقدر الذي يشتهون ويملأ لهم عيونهم.
كنت قائداً على الناحية العسكرية الثالثة، عندما عادت في ذهني ذكرى تلك الأيام أثناء مناورة للمدرعات حضرتها في منطقة بودو، في الناحية العسكرية الثانية. حضر المناورة عدد كبير من الضباط التابعين لمختلف النواحي العسكرية، ونظمت تحت الرعاية السامية وزير الدفاع آنذاك، الرئيس الشاذلي بن جديد. الجنرال السوفيتي المكلف بالمدربين جاء خصيصاً إلى الجزائر العاصمة. تعرفت عليه لأني التقيت به قبل ذلك بتندوف.
يومها في بودو، وبحضور هذا الجنرال، شهدت لإلقاء كمية هائلة من القذائف من نوع BM 21، المشهورة باسم "أراغن ستالين"، في حين كان يكفي إطلاق بضعة رميات لأن الأمر كان يتعلق بما يطلق عليه في اللغة العسكرية برميات تجريبية". وتقام لأهداف إيضاحية وتعليمية فقط، لاسيما وأن الذخائر نفيسة الثمن. كان الجنرال السوفيتي محصوراً بين الرئيس والضباط المنظمين لتلك المسخرة، غير مرتاح، وهو يختلس النظر باتجاهي. كان يعرف بأنه لن أجامله عندما تأتي لحظة تقييم التمرين. وهو في ذلك لم يخطئ. بعد انتهاء المناورة، عرضت عليه وجهة نظري وأبديت له عدم اقتناعي لهذا الأسلوب في العمل. أخذني الجنرال على انفراد وقال لي بالروسية دون أن يقنعني بكلامه: «No chto tavaritch younas Président !» (لكن يا رفيق الرئيس هنا). أصبت بالدهشة. لأنه بالأحرى صار مسموحاً أن تشوه الحقيقة، طالما أن الرئيس كان يحضر مناورة.
هل كان المصريون ضحايا سوء نية السوفييت أم أنهم كانوا متواطئين في هذه التزييفات غير النافعة وغير المجدية ؟ على أي حال، كان ذلك أحد عوامل هزائمهم المتكررة ضد الإسرائيليين. وفي يوم 6 جوان 1967، اكتشف العرب ذلك بما لا يدع مجالاً للشك. قبيل اندلاع حرب الستة أيام، علمت بأن المصريين الذين أرادوا أن يتخذوا المبادرة ويباغتوا الإسرائيليين، كانوا قد دعوا قادة أركان الدول العربية ليبلغوهم بذلك. لكن المفاجأة جاءت في الأخير من جانب الإسرائيليين الذين هاجموا الجيوش العربية على حين غرة وسمّروا طائراتهم الحربية منذ أولى ساعات الصباح.
في ذلك الحين، كنت في الجزائر العاصمة. كنت أتتبع جزء من وقائع المعركة انطلاقاً من مقر المحافظة السياسية، وكان المقر الوحيد الذي يتوفر على أجهزة الكتابة عن بعد. وكانت تصريحات المصريين الانتصارية تتوارد بشكل غير منقطع. مع ذلك قررت أن التحق بوحدتي في الجنوب الغربي في حالة ما إذا احتاجتني قيادة الأركان. في طريقي أرغمتني عطب في السيارة للتوقف في مدينة الأصنام (الشلف حالياً)، وهناك سمعت عبر الإذاعة بأن الجيش الإسرائيلي دخل مدينة العريش التي كنت قد زرتها في السابق.
فهمت بأنهم خسروا الحرب، لأن اجتياح العريش يعني أن الإسرائيليين تخطوا واقتحموا آخر صروح المصريين. في المساء وصلت إلى وحدتي. قائد أركاني، المرحوم محمد أوسليمان كان يتصنت إلى جهاز الراديو على مدار الساعة وكان يستمع أكثر للمحطات التي تنشر "الأخبار السارة". كان عارفاً بالنكسة، لكنه كان بنفس القدر يريد أن يوهم نفسه بنصر آت للعرب. محمد أوسليمان الذي عرف مدارس الشرق الأوسط، كان لحظتها منقسماً بين واقع الحرب المر وعواطفه الخاصة. مزيج من الحسرة والأمل الزائف.
في الغد ظهراً، علمنا بأن القاهرة قصفت وأن الجنود الإسرائيليين وصلوا قناة السويس. على الطاولة، كانت الإذاعة تقصفنا بالأخبار المفجعة. لم يكن لأوسليمان سوى أن يسلم بالأمر الواقع فراح يجهش بالبكاء. دخل الثورة وهو صغير السن، وكان ذلك منذ أول يوم من اندلاع ثورة نوفمبر 1954 فهذا الرجل الذي يعد من الرعيل الأول من المجاهدين، وكنت أقدره وأحترمه كثيراً، لم يكن يقوى على مقاومة دموعه أمام ما كان يعتبره مذلة لكل العرب. كان للخبر أثر الصاعقة على الجميع، إلى درجة أن هناك من مات بأزمة قلبية. كما علمنا عبر الإذاعة بأن هناك فتيات حاولن الانتحار بعد أن رمين أنفسهن من الأعالي.

القســم الثاني

استعدادات للحرب

كانت ترد إلينا أوامر تحضرنا للالتحاق بالشرق الأوسط. مجموعات حاشدة تحت قيادة النقيب عبد الرزاق بوحارة كانت تستعد للطيران إلى مصر، ولقد سبقه الرائد زرقيني وضباط آخرون أرسلوا كمستطلعين. كنا في حالة تأهب حينما أعلمنا بأن وجهتنا هي مصر. كنا آنذاك نملك ثلاث فرق مشاة متحركة، الأولى بقيادة النقيب عبد القادر عبد اللاوي، والثانية كانت تحت إمرتي، وأما الثالثة فكانت تحت قيادة النقيب محمد علاق. ولقد عيّنت فرقة رابعة، كوّنت لاحقاً ويقودها النقيب محمد علاهم، لاستخلافي في بحر شهر أكتوبر 1969.
كانت الجزائر العاصمة في تلك الفترة في حالة غليان.
تعزيزاً لمجموعة النقيب بوحارة، كانت هناك فرقة عتاد كبيرة بقيادة النقيب سليم سعدي، مدير النقل آنذاك، تبعت عبر الطريق البري. عند وصوله إلى ليبيا، تلقى النقيب سعدي أمراً بالعودة فور علم السلطات في الجزائر بنهاية الحرب. في طريق العودة، وجدوا استقبالاً آخر لدى التونسيين الذين كانوا في الذهاب قد استقبلوا القوافل بالزغاريد والأزهار والحلوى، ليس لأن الجيش الجزائري عاد من حيث أتى، وإنما لأن التونسيين مثلنا جميعاً شعروا بالذل والهوان لما علموا بأن العرب انهزموا بتلك السرعة. كانوا من شدة احتقانهم وقفوا طول الطريق مشيرين بأصابعهم المرفوعة باتجاه الشرق بحركة لم يخل من السخرية تدل أن رجالنا أخطأوا الطريق لأن مصر موجودة في الاتجاه المعاكس.
بالإضافة إلى قواتها البرية، قامت الجزائر أيضاً بإرسال قواتها الجوية. أثناء نقل طائراتنا "ميغ 21" و"ميغ 17"، اثنتان منها اضطرتا للنزول على الحدود الجزائرية التونسية لأسباب تقنية، نتيجة ربما تحضير سيء أو تسرع. كان للرئيس بورقيبة تعليق ساخر في الموضوع يقول فيه: "من حسن الحظ أنهم في حالة ما إذا حاولوا معنا لن يصلوا إلى تونس.." لأن جيراننا كانوا فعلاً يعتقدون بأن السلاح الذي تتزود به الجزائر قد يوجّه يوماً ضدهم. النقيب محمد بوزغوب، وهو حالياً عقيد متقاعد، كان يقلع من إحدى قواعد الجنوب الشرقي للجزائر مع سربين من طائرات "ميغ 17". بالإضافة إلى خمسة عشر طائرة من طراز ميغ 21 كنا اقتنيناها حديثاً. كان يقودها مصريون. كما أرسلت إلى الجبهة دبابات من طراز "تي 54" ومحركات آلية من نوع " SU 100" وآليات مدرعة. فور هبوط طائراتنا "ميغ 21"، حضرت بسرعة وأرسلت لتوها إلى مهمتها. الطائرات المصرية حطمت كلية على الأرض. إحدى الطائرات "ميغ 21 " الموشحة بالراية الجزائرية أسقطت فوق تل أبيب. والأدهى والأمر بالنسبة للمصريين، زيادة على كل الشائعات التي تروج حول نكساتهم، ما روي خطأ أن الطائرة الوحيدة التي مست إسرائيل كانت طائرة جزائرية. هذا الطيار المصري البطل يستحق منا وقفة نحييّ فيها ذكراه، لأنه رغم الهزيمة لم يتردد في إسقاط طائرته على طريقة الكاميكاز فوق عاصمة الدولة العبرية. في حديثنا عن هذا الشهيد المصري تعود إلى ذهني قصة هؤلاء الفلسطينيين الذين درسوا في الجامعات الجزائرية وفي المدرسة متعددة الأسلحة بشرشال والذين قررنا أن نجندهم ونعدّهم للقتال. بعضهم، وكانوا قلة، لم يستجيبوا للنداء. كانت فرصة لنا نحن الذين خرجنا مرفوعي الرأس من حربنا التحريرية.
في بداية السبعينيات، كنت ضمن وفد أرسل إلى مصر لتسليم بعض التجهيزات للقوات العسكرية المصرية. كان الوفد تحت قيادة العقيد محمد الصالح يحياوي. حملنا رسالة من هواري بومدين يبلغ فيها وزير الدفاع المصري، اللواء محمود فوزي، استعداد الجزائر لأن تضع في متناول بلده ستين طائرة حربية، و150 سيارة مصفحة وما بين 75 و100 دبابة سيسلمها الاتحاد السوفيتي. على أن تتفاوض الجزائر على مجموع ذلك تدفع ثمنه. وفي الحقيقة إن المساعدة التي قدمتها الجزائر لمصر لم تحسب أبداً.
لم ينقطع وصول المعدات والعتاد نحو بلاد الفراعنة رغم سوء التفاهم الذي حصل بخصوص 19 جوان 1965 والهجوم الذي فتحه الرئيس السادات على الدول المنضوية في جبهة الرفض في عام 1973، أثناء حرب الستة أيام، ونقلاً عن قائد أركان الجيش المصري، اللواء سعد الدين الشاذلي، انتقد الرئيس السادات البلدان العربية وبالأخص منها الجزائر ورئيسها هواري بومدين. يقول: "بومدين باع نفسه للأمريكان، سياسياً واقتصادياً. هو وقّع على عقد تسليم البترول والغاز المميع لشركات أمريكية. اقتصاده سيصبح مرهوناً كلياً بأمريكا." وهذا لم يمنع من أن نفس ذلك النفط وذلك الغاز استعملا كسلاح ضد الأمريكان بفضل مبادرات الجزائر ورئيسها. لكن الرئيس السادات وقع في تناقض، عند نهاية الحرب، في خطاب له قال: "لن نشكر أبداً الجزائر على ما قدمته من دعم لمصر.."
ظل سوء التفاهم يطبع العلاقات بين مصر والجزائر. منذ حرب التحرير، إثر التدخلات فتحي الذيب السافرة في شئون الجزائر الداخلية ومناوراته الكثيرة. وكان سوء التفاهم أيضا ناتج عن المحاولات الاستفزازية المصرية أثناء العملية التصحيحية 19 جوان 1965 وكذلك أثناء تفكيك مستودعاتنا التي تعود إلى زمن حرب التحرير. كان رد الفعل الوحيد للرئيس بومدين في عام 1971، أن عقد اجتماعا لمسئولي الفرق التي ذهبت إلى مصر مكلفة بإحصاء عدد الشهداء، وكانوا بضعة عشرات. لأن الجزائر دفعت ثمناً غالياً من أجل أن تعتز دائماً بماضيها العربي.
بعدما هضم الجميع الهزيمة، بدأت إعادة النظر في التعبئة العامة لوحدات الجيش الوطني الشعبي. وكان قرار الإبقاء بصفة دائمة على فرقة واحدة على مسرح العمليات المصرية، تم اتخاذه من باب بالاستخلاف. ولقد عينت فرقتي لأداء هذه المهمة. تمركزت في عين الصفراء، وكانت تتألف من ثلاثة فيالق، كل فيلق يتشكل من ستمائة رجل، ومن فيلق يضم 31 دبابة من طراز "تي 55"، ومن فوج مدفعية (بطاريتين ذات مدى بعيد معيار 122 ملم وبطارية قذائف 152 ملم)، ومن فوج دفاع مضاد للطيران وبطاريتين أنبوبيتين 35 ملم وبطارية 14,5 ملم فوق عربات رباعية. وكانت تتكون أيضاً من خمسة كتائب نقل وإرسال واستطلاع للقيادة والخدمات. وتلقينا في وقت لاحق كتيبة سادسة للهندسة.في أكتوبر عام 1968، تلقيت أمراً بالاستعداد للذهاب إلى مصر وباستخلاف الفرقة التي كانت يقودها النقيب عبد القادر عبداللاوي. بينما كانت مجموعة النقيب بوحارة وفرقة النقيب عبداللاوي تتناوبان على مدار كل ستة أشهر، كانت القيادة الجزائرية، ربما بعدما رأت أن الحرب قد يطول أمدها، قررت أن تكون الإقامة في المستقبل لمدة سنة لكل فرقة، على أن يبقى كل العتاد هناك. فالاستخلاف يخص فقط الرجال. كان قراراً حكيماً، لاسيما وأن الجزائر كانت جغرافياً بعيدة جداً عن الشرق الأوسط وأن وحداتها تلبي دائماً لنداء الواجب. كان ذلك الحال عام 1967، قبل أن يتكرر نفس السيناريو عام 1973.
لكن هذا بشرط أن تكون الثقة في الجزائر كبيرة. وهذا ما كان يراه الرئيس السادات قبل أكتوبر 1973 الذي قال، في اجتماع مع قائد أركانه وضباط الجيش المصري، بأسلوب تهكمي رداً على سؤال للشاذلي سأله إن كان سيتخذ مبادرة من أجل تجنيد الطاقات العربية أم أن المعركة ستكون مسئولية فدرالية بلدان الرفض وحدها: "إن المعركة ستكون من مسئولية مصر بالأساس. الدول العربية الأخرى ستبقى على الهامش، دون فعل شيء في البداية. لأنها ستقع فيما بعد في مشاكل كبيرة مع شعوبها، وموقفها سوف يتغير."
في عين الصفراء، كل العسكريين كانوا يعرفون أنهم ذاهبون إلى الجبهة في مصر. وكلهم راحوا يعلقون على الموضوع. وكلهم فرحين بالسفر إلى الخارج. كان عليهم بعض القلق، لكن ليس كثيراً لأن الحرب يعرفونها جيداً، هم الذين خاضوا كم من معركة في حياتهم. لأن معظم عناصر وحداتنا الذاهبين إلى الشرق الأوسط مروا بحرب التحرير.
 
الحلقة الثالثة - نزار يواصل حديثه عن حروب الإستنزاف.. ويكشف

وزراء وولاة يحجُّون إلى العرّافين لاستكشاف ما يخبئه المستقبل


كان القائد بوستّة يُشرفُ على وحدة مدفعية، ولما اقترب موعد سفرنا رأيته يتصرف بطريقة غير عادية، كان يبدو وكأن شيئا ما يُضايقه أو يُقلقه. واعترف لي أنه وبعضَ ضباط اللواء ذهبوا لمقابلة عرّاف مشهور في منطقة عين الصفراء، وأنه أخبره بأسراره الخاصة المتعلقة بعائلته، وهي أسرار لم يكن يعرفها سواه. وهذا ما أربكه.
العرّاف

بدأت في مداعبة القائد بوستة وأنا أثني عزمه عن التعاطي مع هذه الخرافات، ولكن ذلك لم يكن ممكنا. لقد كانت هذه المعتقدات الغيبية تزعجني غير أنني تجنبت توبيخه أو إظهار سخطي من إثارة هذه المواضيع. ولم أجد بُدّا من قطع حديثي معه.

أياما بعد ذلك، وعندما كنت عائدا من جولة قادتني إلى بعض المناطق المجاورة، وفي الوقت الذي علّقت فيه بندقيتي على الحائط، فإذا بطارق يقرع باب بيتي.
كنت حينها لا أزال أعزب، وقمت بتهيئة بيت من غرفتين في الثكنة نفسها. ولما فتحت الباب وجدت نفسي قبالة القائد بوستة الذي بدا مشوشا. وسألته، متفاجئا، عما حدث له، فاعترف على الفور بأنه عاد لتوه من عند ذلك العراف برفقة بعض رفقائه، وأن العراف خاطبهم بهذه الكلمات: "قائدكم لا يسلم بقدراتي.. أحضروه فقد دخل لتوه إلى الثكنة". فرددت عليه مازحا بأن أحد رفقائه هو الذي أخبر العراف مسبقا، لكن بوستة الذي كان أسير معتقداته الخاطئة دافع عنه وأقسم بجميع الأولياء على أنه لم يكن أحد على علم بأنني ذهبت إلى الصيد، رغم أن الجميع كانوا يرونني نهاية الأسبوع وأيام العطل سائحا في المنطقة، لاسيما "طكوت" المعروفة بمناظرها الخلابة. لقد كانت منطقة عين الصفراء مليئة بالطرائد التي تُصاد، ولهذا لم أكن أتخلى عن بندقية الصيد التي بحوزتي أبدا.
رافقت القائد بوستة إلى العراف بدافع الفضول، ودهشت من المكان الذي يتواجد به، فلقد كانت هناك قاعة استقبال وفي مدخلها أناس مكلفون باستقبال الزوّار، وتم إدخالنا بعد ذلك إلى قاعة كبيرة كانت بمثابة صالة الجلوس.
سلمت على العراف الذي تعرفت عليه بلا عناء بسبب مظهره المميز في نفس الوقت الذي لمحت فيه بعض الضباط وقد أسندوا ظهورهم إلى ظهر الحائط وجلسوا على كراسيّ صغيرة أو فوق الحصير. واستقبلني العراف الذي بدا بشوشا وحفيا بلطافة كبيرة. وتحفظت على أن أطلعه على رأيي في تنبؤاته التي يطالبه بعض الضباط بإعادتها، وأنني لا أؤمن بها أصلا، ثم أجلسني عن يمينه وطلب من ابنه إحضار الشاي. وقدّم له شخص ثان ـ وكان ابنه الآخر (وقد عرفتُ ذلك فيما بعد) ـ رزمة تشبه البريد. رحب بي العرّاف ورفض الانصياع للضباط رغم إلحاحهم، حيث كان يُكرر كثيرا بأنه ليس كاهنا.
كان العراف مثقفا باللغة العربية وذكيا، وهو ما دفعه إلى تجنب مصادمة معتقداتي بدهاء، وكان يكتفي بترديد عبارة "تروحوا بالسلامة وترجعوا بالسلامة". وبدأ يراجع بريده وكلما صادفته رسالة بالفرنسية ناولني إياها. ووقعت في يدي رسالة من فرنسا، فحتى المغتربون كانوا يستنجدون بهذا العرّاف. عندما قرأت الأسطر الأولى من الرسالة، شرعت في الضحك، فخطف صديقي العرّاف الرسالة من بين يديّ وصرخ: "هذا الرجل لا يعي ما يقول". لقد ترجاه كاتب الرسالة بأن يُعينه ليفوز في رهان سباق الأحصنة!
في حقيقة الأمر، كان العرّاف يستغل "موهبته في الكهانة" للتكسب التجاري المربح. وعرفت أن كثيرا من المسؤولين كانوا يزرونه، بمن فيهم وزراء وولاة.
واستحضرتُ كلمات هذا العراف سنوات بعد ذلك: "تروحوا بالسلامة وترجعوا بالسلامة". ولقد ظفر لمكره ودهائه بأحسن جواب، وهي عبارة رائجة عند الجميع وتبعث على الارتياح كما تعزز القدرات المتوهمة التي يحظى بها هذا الكاهن.
ودقت الساعة الحاسمة من أجل الذهاب. وكان مبدأ المناوبة واضحا وبسيطا، فالفوج الآتي يستلم مهام الفوج الذي انتهت مهمته وهكذا دواليك، ثم جاء الدور على وحدات القيادة وقيادة القوات نفسها. وكان قائد اللواء آخر من يسافر، لأنه مكلف بتحميل الجميع. وكانت العشرون يوما المخصصة للمناوبة كافية للجميع لأخذ التعليمات، سواء كانوا ضباطا أو ضباط صف أو رجال فرقة، وكان الوقت كافيا بالنسبة إليهم ليتعودوا على التجهز للحرب، في حين كان قائد اللواء آخر من يسافر لأن مهلة اليومين تُعتبر جد كافية لحفل تسليم المهام والصلاحيات.كانت وحدات الجيش المتواجدة بمصر تتقاضى راتبا مضاعفا وتحظى بتموينات غذائية لم تكن متواجدة في عين المكان. وكانت العلاوات التي تدفع للغذاء وغيره هي نفسها للجميع، وهي تماثل ما كان يُمنح لنا في الجزائر، وهو ما جعل مستوى المعيشة يتضاعف إلى ثلاث بل أربع مرات. وفي كل أسبوع، كانت طائرة من طراز "أنطونوف12" مكلفة بالتموين والبريد تحط في القاهرة، كما أن قائد اللواء كان يحظى بسيارة خدمة. وكان الإقلاع يتم من القاعدة الجوية بـ"طفراوي"، المحاذية لمدينة وهران في الغرب الجزائري.

استقرّيت في مصر منذ أيام من أجل التحضير لنقل اللواء إلى مصر رفقة قائد القاعدة امحمّد بن شرشالي، وهو عسكري مدرب لهذا النوع من المهام، وتولى اللواء الأول، علما أنه كان صديقا قديما لي.
كنت أعرف بعض الضباط الطيارين والبحريين من الجيش الجزائري، وكنا نشترك في أشياء كثيرة كانت تجمعنا، فلقد كنا لامبالين، وهذه اللامبالاة هي التي كانت تمنحنا اندفاع الشباب وحماسته، وكنا نحلم بمشاريع كثيرة.. لم نكن حينها نتجاوز 24 أو 25 سنة مع حوالي 4 إلى 5 سنوات من الخبرة والتمرس الذي حصلنا عليه في الجبال.
نُضج ووعينا ونحن لا نزال في مقتبل العمر يرجع إلى قيادتنا لآلاف الرجال "ذوي الشنبات" ممن ساهموا في الثورة التحريرية، ولم نعرف المراهقة ولهذا تشكلت في داخلنا رقابة ذاتية جعلتنا نختبئ إذا ما أردنا أن نقوم بما يقوم به الشبان في أعمارنا، مثل الجلوس في سطح مقهى أو الذهاب إلى مرقص.
كنت قبلها قد استقبلت امحمّد بن شرشالي، محاطا ببعض الضباط، في قاعدة "المشرية" أثناء التوقف للتزود بالوقود. وفي تلك الفترة، لم تكن وضعية حدودنا الغربية على ما يرام، ولم تكن جراح "حاسي البيضاء" قد التأمت بعدُ، وكان امحمّد يشيع طائرة استطلاع من طراز "ياك2" حول منطقة "تندوف" وكنت سعيدا بلقائه، لأنه قد كان إضافة إلى الصداقة التي تربطنا طريفا وجذابا ووديا، كما أنه كان سريع التجاوب وحاضر البديهة فيما يتعلق باختيار الكلمات المضحكة والطريفة.
استضافني امحمّد يوما ونحن عائدان إلى الجزائر وطلب مني التوقف في البليدة من أجل الغداء والتعرف على والديه، وقد كان سليل عائلة ميسورة الحال تشتغل في التبغ وتضررت من سياسات التأميم. وكان والده وطنيا من الطراز الأول ومنذ الساعات الأولى، وتحول من صاحب أملاك إلى موظف في مصنعه، وقد قدمت عائلة "بن شرشالي" الكثير للجزائر، حيث استشهد أخوه مصطفى في الجبل عام 1957، كما أن امحمّد نفسه كان مجاهدا، وكذا شقيقه نور الدين.
كنا نسافر أنا ورجالي على متن طائرة "أنطونوف12"، وكنا نُسند بطائرات مصرية. وكان الضباط طرابلسي وجيلالي تيمولغي، وهما حاليا طياران ضمن الخطوط الجوية الجزائرية، وسْليم بن عبد الله الذي شغل لفترة طويلة منصب طيار الرئيس وهو حاليا عميد لا يزال ضمن الخدمة، ورشيد بوتلّة ومحمد بولهزاز ومصطفى دواجي ودرّاجي وصويلح ضمن آخرين نسيتهم، وهم جميعا في التقاعد، كان أولئك هم الذين يقودون الطائرات الست التي كنا نملكها في ذلك الوقت.
كنا ونحن شبان نحلم، بُعيد الاستقلال الذي أخذناه بجدارة، بجزائر عظيمة. لقد كان أولئك الطيارون في زهرة عمرهم وهم يجوبون السماء معرّضين حياتهم للخطر وهم لا يملكن سوى بعض التجربة التي تحصلوا عليها بعد خروجهم من المدارس. لقد امتطوا طائراتهم دون تردد لأنهم اعتقدوا أن حلمهم حقيقي. وكانوا مرابطين على الثغور ليل نهار، على مدار تعاقب الوحدات العسكرية الجزائرية في الشرق الأوسط. لقد كانوا يحلقون في أوضاع جد مزرية، متحدين الأعاصير على علو 4000 متر من سطح الأرض، ولم يكن في طائراتهم سوى قمرة قيادة صغيرة مكيّفة الضغط ولا يمكن أن تحمل أكثر من عشرات الأشخاص الجالسين.
في يوم من الأيام كان الملازم الأول محمد بولهزاز على متن طائرة "أنطونوف12" وفجأة تعطّل رادار الملاحة منذ الإقلاع من المطار العسكري بطفراوي، وأكمل رحلته وهاجسه الوحيد هو الوصول في الوقت المحدد، وكان يأمل في أن يُجري الإصلاحات على الطائرة عند توقفه في بن غازي أو في طرابلس بليبيا، ولكن لما لم يتمكن من ذلك كما خطط له واصل رحلته إلى القاهرة مستعينا بجهاز إرساله اللاسلكي ليتجنب العواصف، وقد كان يتجنبها مناورا ذات اليمين وذات الشمال مستدلا عليها بالصوت الذي يصله عبر السماعات جراء الاضطرابات الكهربائية.
كنت متواجدا في الطائرة التي كان يقودها سْليم بن عبد الله، وبعد غفوة صغيرة وعلى مقربة من القاهرة دخلت إلى قمرة القيادة، وتفاجأت وأنا أرى ضوءا أزرق يغطي قبة الطيّار، وسألتُ الطيّار عن معنى ذلك فأكد لي بن عبد الله بأن هذا أمر عادي وهو عبارة عن الكهرباء الساكنة التي تتولد جراء بعض الظروف المناخية. وتعلمت، في نفس الموقف، أن الطائرة التي سبقتنا، وهي من نفس الطراز، قد أصيبت بصاعقة، وكان يقودها محمد طرابلسي الذي أعلمنا بالأمر فور حدوثه عبر جهاز اللاسلكي، واضطربت الطائرة كما تشكلت كرة نارية داخلها، مما أحدث هلعا في صفوف الـ90 جنديا المتواجدين بالداخل كادوا ويهربون إلى المقدمة لولا التدخل القوي للطاقم الذي حال دون حدوث اختلال توازن داخل الطائرة. وأعلمنا طرابلسي مرة أخرى عبر الجهاز اللاسلكي أن الأمور عادت إلى طبيعتها دون أي حادث.
عندما حطت بنا الطائرة بعد عشرات الدقائق من هذه الواقعة، تجمع حولنا ضباط جزائريون ومصريون، ولمحتُ مع سْليم بن عبد الله تمزقا في هيكل الطائرة التي تعرضت للصاعقة يمتد من أنفها إلى كافة الهيكل، فأصابنا الذهول وعرفنا أنهم كانوا جد محظوظين عندما لم يُصابوا بأي أذى.
وفي سفرية أخرى، اهتدى أحد أولئك الطيارين الشباب وقد وجد نفسه في أحوال جوية سيئة للغاية وعرف أنه لا يمكنه التحليق في هذه الظروف على هذا الارتفاع ولا يمكنه حتى الرجوع إلى القاعدة، اهتدى إلى تجميع كل الرجال المتواجدين داخل الطائرة في قمرة القيادة مكيفة الضغط وحلق بهم على ارتفاع 8000 متر، وهذا ما جعله يتجنب سوء الأحوال الجوية ويُنقذ طائرته وعددا كبيرا من الأرواح البشرية.
أثناء الفترة التي كان يتطلبها نقل الوحدات العسكرية نحو الشرق الأوسط، مكثت في مدينة وهران، حيث كنت أقيم أحيانا في مقر إقامة الضباط وأحيانا عند بعض الأصدقاء، وكنت أستريح في الصباح وألتحق بالوحدات العسكرية التي تصل إلى وهران بعد الزوال، وذلك في منطقة التجمع والانتظار. وكان ذلك يتم في ثكنة مجاورة لمدرسة "طفراوي" وقد وضعتها القيادة تحت تصرفنا. وكانت تتميز بكونها فسيحة الأرجاء ونظيفة، كما أنها كانت مجهّزة لتمكن الوحدات المارة من الإقامة فيها ليلة أو ليلتين من أجل الاستراحة، وكانت كذلك مهيئة لتحضيراتهم وتزويدهم بالمعدات.
كانت وهران في أوج ألقها وجمالها، وكان الفرنسيون قد غادروا مرسى الكبير قبل المدة المحددة ولم تجد بيوتهم المهجورة من يسكنها. وعندما أعلن بومدين النفير في "طفراوي" في عام1971، كانت شبابيك النوافذ في الشقق التي تخلى عنها المستعمر في "فالمي"، وهي قرية كنت أمر عليها مرتين في اليوم عندما كنت أتوجه إلى "طفراوي"، كانت شبابيك النوافذ تصطفق بفعل الرياح وبسبب عدم وجود السكان. وقتها، لم يكن الهجوم واقتحام البيوت والمساكن أمرا شائعا. ولم يبدأ "النزوح" إلا بعد 1971، غداة الثورة الزراعية.
 
الحلقة الرابعة:

المصريون لم يكونوا يهتمون بسلامة جنودهم وبعض خططهم لم تكن في مستوى الحرب


في العادة، كانت وحدات الجيش الجزائري التي تتجه نحو الجبهة تشغل المواقع القديمة. ولم يكن هناك مواقع بديلة ولم يفكر في ذلك أحد. وبناء على ذلك، اتخذت قرارا بحفر خنادق أخرى حتى أجنّب رجالي عنصر المباغتة من طرف العدو. واستضافني المساعد السياسي للجيش الثاني العميد عبد المنعم خليل ذات يوم في مقهى الضباط بمنطقة "فايد"، وهي مقاطعة صغيرة تقع على وادي عامر، قرب تموقعي الدفاعي. ترجاني خليل بالجلوس أمامه واغتنم الفرصة ليقول لي: "عندما كنت مارا رأيت رجالا يحفرون خنادق جديدة للتموقع، لا جدوى من هذا لأن العدو لن يحارب من هذه الجهة على الإطلاق.. أقترح عليك أن تنسحب إلى خلف الجبهة وتهتم بتكوين رجالك". وعلى وقع الذهول الذي أصابني، كدت أقول له: "حضرة العميد..."، ولكنني عدلتُ عن رأيي. تأملت طويلا بعد ذلك في كلماته، ولكنني لم أستجب لاقتراحه وتركت رجالي يواصلون تحضير المواقع الجديدة، وكان هذا من حسن حظنا لأن الإسرائيليين استقبلوا وصولنا بقصف مدفعي مكثّف أصاب كل مواقعنا القديمة. هل كان عليّ أن أذكّر العميد خليل أن القاعدة التي تحكم أساليب المواقع البديلة عندما تكون موجودة أو تهيئتها إن لم تكن كذلك تُدرّس في كل المدارس، سواء في باريس أو موسكو أو القاهرة؟ وماذا يعني حفر خنادق للتموقع عند وصولنا إلى مواقع جديدة من أجل إنقاذ الأرواح البشرية؟
في الجبهة

كانت علاقتي بكثير من الضباط المصريين محصورة في ميدان العمل، وكنت أتفاجأ أثناء زيارتي للجبهة مرة بعد أخرى من سلوك الجيش المصري. لقد كانوا يصرخون كلما أبصرونا ـ وكنا معروفين ببدلاتنا ذات اللون الأخضر الذي يشبه الزيتون ـ : "تشربوا حاجة؟". كان هذا التصرف المهذب الذي يكشف عن كرم أصحابه ينبعث منهم آليا حتى إذا لم يكن لديهم شيء لتقديمه. وبعد فترة، عرفنا أن هذا يُعتبر من باب الترحيب واللطافة. وعلى عكس كل القال والقيل الذي سمعناه، اكتشفنا من تلقاء أنفسنا أن الجنود المصريين يتحلون بالشجاعة والانضباط، ولم يكن ينقصهم سوى الإمكانيات المادية والتجهيزات الحديثة التي يحظى بها الإسرائيليون، إضافة إلى تكوين عسكري جيّد.

كان اللواء الذي كنت أشرف عليه مُلحقا بالوحدة الثامنة عشر للمشاة المتحركين الذين كانوا تحت قيادة العميد مصطفى شاهين. وكان قائد القوات هو العقيد أبو غزالة الذي أصبح فيما بعد القائد العام لقيادة القوات في فترة حكم الرئيس السادات.لقد كان أبو غزالة أحد أبرع المتخصصين في المدفعية وكتب حول ذلك عدة مؤلفات. وكان العميد مصطفى شاهين رغم كبر سنه رجلا حيويا ولا يُفارق جنوده، وكان يُقلّني في سيارته العسكرية لأزور وحداته العسكرية التي كانت في الجبهة، ولم تخلُ سيارته يوما من مختلف الهدايا التي كان يُكافئ بها أحسن الجنود.وفي أثناء زيارة قمت بها إلى اللواء الذي يقع تحت إمرتي، أُعجب العميد مصطفى بطريقة التنظيم التي اعتمدتها إلى درجة جعلته يستدعي قُوّاد الوحدات ليعاينوا طريقة تنظيمنا المحكمة. وقال العميد مخاطبا أحد ضباطه الذين كانوا يدّعون أنهم يمتلكون نقاط ارتكاز مماثلة لتلك التي نملكها، وقد تضايق من دعاويه: "هيّا فرّجوني"!

كنت أرى قائد عمليات هذه الوحدة بانتظام، وهو المُقدّم جلال، حيث كان عليّ أن ألجأ إليه كلما أردت مقابلة قائد الوحدة أو المسؤول الأول على قيادة القوات. لقد كان المقدّم جلال ظريفا، وكان يستقبلني بابتسامة ويبادرني بسؤاله المعتاد كلما أجلس: "تشرب إيش يا أخ خالد؟"، وعندما يطول الانتظار ـ وهذا أمر "طبيعي" ـ لا أجد بدّا من التسح بالصبر لعلمي المسبق بردة فعله: "وراك إيه يا أخ خالد؟".

وفي يوم من الأيام أثناء مروري بالوحدة، تم تعريفي بالعميد الذي جاء لاستخلاف العقيد أبو غزالة الذي استدعي لمهام أخرى. لقد كان يُمارس التعذيب على اللغة الفرنسية بدل التحدث بها وهو يظن أنه يرفع من شأن نفسه بالحديث بها. ومنذ ذلك اليوم، كان ذلك الأمر بمثابة تعذيب موجه لشخصي، لأنه لم يكن من الممكن تجنّبه ولا تجنّب كل الاهتمام الذي ينبغي عليّ إبداؤه أمامه من أجل فهم بعض فُتات رطانته بلغة موليير. وكنت أصاب بالصداع كلما التقيته بسبب المجهودات الخارقة التي كان عليّ بذلها من أجل فهم كلامه. وكان علي الالتقاء به أكثر فأكثر منذ توليه لقيادة الوحدة الثامنة عشر. وفي يوم من الأيام، جذبني على انفراد وقال لي: "لقد التقيت وأنا أمر على مقربة من فوج المدرعات الخاص بكم بأحد جنود الدبابة، لقد كان وجهه متغضنا.. "عجوز كِده". وتعرفت على الجندي مباشرة. ثم أردف: "كلّمته بالفرنسية ولم يفهمني، ثم بالعربية فلم يفهمني كذلك".

فوجئت واستأت لما لم يتلقّ العميد أجوبة على الأسئلة التي طرحها. وكان الأمر يتعلق بالملازم لحلو الذي كان بإمكانه الحديث مع العميد بسهولة. ولما رجعت إلى اللواء، توقفت لدى فوج المدرّعات المتواجد على مقربة من الطريق، وأعلمت الضابط المساعد للوحدة بأني أريد رؤية الملازم لحلو. ولما امتثل الملازم أمامي، قمت بتأنيبه لأنه لم "يعرف" كيف يجيب على أسئلة قائد قيادة قوات الوحدة الثامنة عشر، فأجابني مباشرة: "نعم، لقد التقيت عميدا، ولكنني لم أشأ كشف شيء أمامه لأني لا أعرف من يكون. ثم إنه يُفترض أن نُعلم بزيارة عميد قبل مقدمه، وإلا لكان في مقدور كل أحد أن يدّعي أنه عميد". لقد كان الملازم لحلو داهية، وعزمته لارتشاف قهوة معي وبحثت عن طريقة أعتذر بها للعميد الغاضب. كنا نقيم اجتماعات من فترة لأخرى مع قائد الوحدة. وفي يوم من الأيام، عندما كنا جلوسا في طاولة واحدة مع مجموع قواد اللواء وهذه الوحدة الكبيرة، تحدث قائد الوحدة، لمن أراد الإصغاء، بأن الجيش الثاني اضطر إلى تغيير قرار بناء على طلب "الأخ خالد"، قائلا: "أنا أضمن الأخ خالد لأن ثقتي فيه كاملة"، ثم ذكّرني بطلبي الذي قدمته له قبل ذلك، والمتعلق بتهيئة موقع دفاعي يمتد مباشرة إلى قناة السويس لتمكين جنودي من المشارمة حتى لا يقعوا فريسة للملل على طول وادي عامر، على بُعد 14 كم عن خطوط العدو.

أعطانا قائد الوحدة خارطة تتضمن مواقعنا الجديدة لأن الاستجابة لطلبي هذا أحدثت تغييرات كبيرة. ولأننا كنا مكدسين في ملجأ خاص بقائد الوحدة، لم نتمكن من نشر خرائطنا لمعرفة حدودنا الجديدة، وأرجأت ذلك إلى حين عودتي لمقر قيادتي، وواصلتُ تسجيل التوصيات التي وجهت لنا. لاحظت أن جيراني حول الطاولة كانوا يرمقونني بتعجب لأنني كنت أسجل ملاحظاتي باللغة الفرنسية في حين كان النقاش يدور باللغة العربية، فابتسمت وأوضحت لهم أن جيلنا لم يحظ بشرف تعلّم اللغة العربية ولكنه تمكن مع ذلك من طرد الفرنسيين خارج الجزائر.

ورجعت إلى مركز مقر قيادتنا رفقة المسؤول عن قيادة القوات رفقة النقيب رشيد عيسات وشرعنا مباشرة في العمل ونحن نرى مواقعنا الجديدة. ونشرتُ المخطط الجديد لأكتشف أن هناك خللا ما فيه.لم أعرف الطريقة التي تمكنني من إقامة وحداتي الرئيسية لأنني لم أكن أحظ بعمق كاف، وبدا الأمر وكأن واضعي هذه الخطة القاصرة، حتى على الصعيد المبدئي، أرادوا الحفاظ على قطعة كبيرة من الأرضية لصالح الجار.

ولما فرغنا من الغداء، شرعنا أن وقائدي بالعمل، فلقد كان يجب علينا تحضير مذكرة تحوي رأيا معاكسا وتشير إلى مقترحات جديدة. أكملنا العمل في ساعة متأخرة من الليل ثم توجهنا إلى مركز قيادة الوحدة لتقديم نظرتنا في المخطط والمقترحات اللازمة لتدارك الأمر. وبما أنه كان علينا أن نتحلى بالصبر، قررنا زيارة "الخبير السوفييتي" ـ مثلما يحلو للمصريين تسميته ـ لنرى تصوره حول الموضوع. وأدرك الخبير مكمن الخدعة بسرعة وقال لنا على البديهة: "توجهوا إلى قائد الوحدة فهو رجل مستقيم، وسيُنصفكم".

وفي الملجأ الذي كان يُتخذ كقاعة عمليات للوحدة، وبحضور صاحب الدسيسة العقيد جلال، طلبنا الحديث مع قائد الوحدة مباشرة. وطُلب منا الانتظائر بضعة دقائق قبل إدخالنا عنده. استقبلنا العميد مصطفى شاهين بلطف وبشاشة ثم سألنا عن سبب زيارتنا الصباحية. وقمت بتشخيص الوضع الذي لمسناه في اجتماع البارحة عليه باختصار، فألقى نظرة على مخططنا وأدرك المكيدة بسرعة، ثم صرخ بأقصى قوة: "جلال".. وأصدر أوامره: "ستكون قيادة اللواء 134 تحت يد الأخ خالد"، ثم التفت إليّ وقال: "هذه هي الحدود الجديدة، احذر من المصب فإنه جد حساس، وأنشئ مركز قيادتك ووحدات الإسناد خلفه"، ثم تمنى لنا حظا طيبا. لم نطلب شيئا آخر انسحبنا بسرعة، ثم حيينا العميد "جلال" الذي بدا منزعجين بعض الشيء ولكننا كنا سعداء لأننا أحبطنا مخططه ومخطط زميله، قائد اللواء 134 الذي تلقيت منه مكالمة هاتفية في ساعة متأخرة من الليل، حيث سألني إذا كان بالإمكان أن يزورني في مركز قيادتي، ففهمت أن قائد الوحدة شرع في المناورة وأراد إصلاح الأضرار بسرعة بسبب قلة النزاهة التي اكتشفها.

وحانت ساعة اللقاء المتوقعة في المساء، فقررت دعوته معنا إلى العشاء، ولكن العقيد الذي رفض عرضي، ملمحا إلى أنه يريد أن تتم مراسيم تسليم المهام بأكبر سرعة ممكنة. وكان هذا ما أردته، بصراحة. وبعد انتهاء الأمر قرر الاختفاء. وفي مراسيم تسليم المهام فهمت لم كان متشبثا بمركز قيادته. لقد كان هذا المركز ممونا بالكهرباء عبر خط عالي الضغط لا يبعد كثيرا عنه، وهو ما مكنه من تشغيل جهاز تلفزيون، وكان مسؤولو قيادة القوات يقيمون في ملاجئ مهيئة ومخبأة بصفة جيدة، تحت حاجز من أشجار البرتقال، واكتشفت أياما بعد ذلك أنه على قدر ما كان قائد القوات مقيما في مكان مريح، على قدر ما كانت رفقته تعاني من الإهمال والضياع، رغم أن ما بين الموضعين صف من أشجار البرتقال فقط، ولم يكن يتطلب التأكد من ذلك سوى الانتقال خطوتين أو ثلاثا فقط. ولم تحظ أي فرقة بملجأ، حيث كان لكل واحد من مجموع 600 رجل غطاء معدني طوله متر في متر كانوا يسمونه "غطاء الرأس"، رغم أنه لم يكن في حقيقة الأمر كذلك، لأن بعض الجنود كانوا يستعملونه كما يشاؤون، في حين كان يُفترض أن يقوم الجنود بتجميع هذه القطع المعدنية لتشكيل أخدود مغطى، وعند ملاحظة الوضع كان واضحا أن أولئك الرجال لم يحظوا بعناية كافية من طرف مسؤوليهم.

أيما بعد ذلك، تم إيقاظي فجأة في وقت الفجر، حيث جاءني ضابط ليُعلمني أن هناك عطلا عاما حدث في مجموع شبكتنا السلكية، وأن كثيرا من محاولات التصليح لربط الاتصال في داخل اللواء وخارجه قد باءت بالفشل، كما أعلمني بأنه من المستحيل إجراء اتصال بالوحدة أو بالجيش، وهو ما يعني بأن اللواء كان معزولا تماما عن العالم. وأصدرت تعليمات، وأنا منهار، بفتح شبكة الراديو والبقاء على أهبة الاستعداد وعدم استعمال الجهاز إلا بأمر مستعجل. ولم يأت مسؤولو الاتصال للاهتمام بالأمر سوى في حدود الساعة العاشرة أو الحادية عشر، واكتشفوا أن الأسلاك التي تصل اللواء بلاشبكة العامة للوحدة قد تم قطعها بالسكين على بُعد كيلومتر واحد ونصف، وكان واضحا أن هذا العمل هدف إلى إلحاق الضرر بنا. ورغم أن الإصلاحات كانت تجري على قدم وساق إلا أن ذلك أخذ يوما كاملا.

وتوجه نظري أياما بعد ذلك صوب رجلين سبق وأن رأيتهما من قبل ويظهر أنهما كانا يواصلان البحث عن دلائل تؤكد خيبة أملنا، وناديتهما وأنا على وقع الغضب وقلت لهما بلا تحفظ: "ما هذا.. ألم تفهموا بعد أن عناصر من اللواء 134 هم الذين قاموا بهذا العمل؟".

غير أن اللواء 134 أعاد توجيه الأنظار صوبه عند هجوم إسرائيلي استهدف مجموع مراكز المعاينة المدفعية المتوقعة على طول قناة السويس، وخاصة المراكز المتواجدة على جبهة الجيش الثاني من وادي عامر إلى مدينة "بور فؤاد"، بل إن هذه العملية مثل غيرها بقيت في سجلات حرب الاستنزاف. لقد استهدفت هذه العملية الجريئة والخفية والمتزامنة في نفس الوقت مجموع مراكز المعاينة التابعة للجيش المصري الثاني. وكان الجنود المصريون والجزائريون المعلقين فوق الأشجار باعتبارها نقطة المعاينة الوحيدة المتاحة تحت وقع المفاجأة جراء هذه الهجمات ولم ينجوا سوى بسبب الأغطية المعدنية التي كانت بحوزتهم حيث استعملوها كوسيلة للتزحلق مثل رجال الإطفاء لدى إعلان الحريق. وكان لواؤنا يملك مركو معاينة مجاور للواء 134، وهو ما جعلني أتابع هذه العملية بواسطة الرائد في بطارية المدافع ذات قذائف 152مم التي كنا نسميها "ارجى (انتظر)" نظرا لبطئها في إمدادنا بتصحيحات القذف. وكان ضابطنا أكثر حظا وحمى رجاله، على عكس رائد بطارية المدافع في اللواء 134 الذي تعرض رجاله للقتل والإصابة، وحتى هو نفسه أصيب. وكنت أطلب من الوحدة إرسال مساعدات نحو مركز المعاينة، وأرهقت بالاتصالات الهاتفية ولكن لم يسأل أحد عن الخسائر والجرحى، بل كل ما كان يهمهم هو معرفة وضع الضباط، أما رجال الفرق فلم يكن أحد ليهتم بهم.

وبعد ساعة تقريبا، ولأنني لم أر أي وحدة إنقاذ تصل إلى عين المكان، أمرت رائد فرقة الاستطلاع الخاصة بلوائنا، وهو النقيب العربي، بأخذ سيارة ونقلهم رغم كثافة النيران. وبعد ساعتين كان الجرحى في العيادات بمأمن، حيث تم تقطيب جراحهم في انتظار أن تأتي وحداتهم لاستلامهم. وفي نهار غد، توجهت إلى العيادة لمعاينة وضع رجالي واغتنمت الفرصة لزيارة الجنود المصريين الذين كانوا على مقربة منهم. ولما علموا بوجود ضابط جاء لزيارتهم اقتربوا مني وكلهم احترام وعرفان، فصافحتهم ورأيت أن بعض ملابسهم لا تزال مضرجة بدمائهم، كما عرفت عبر ضابط المدفعية الذي كان تحت قيادتي أن أصحاب الجراحات "الخفيفة" أعيدوا إلى مراكزهم مساء الحادثة.

ولم يعرف المصريون سوى بعد هذه الحادثة، أثناء حرب الاستنزاف، أهمية الجنود ووضعهم العقلي والنفسي في المعركة.
 
خلا صتها أخي أنها لم تكن لله بل فيها الكثير من الخيانة نعيشها إلى اليوم 0اللهم قيض لنا من لدنك ناصرا -آمين
__________
بورك فيك
 
خطأ عسكري فادح أدى إلى مقتل قائد أركان الجيش المصري وانطلاق حرب الاستنزاف


الحلقة الخامسة من مذكرات اللواء خالد نزار :

ملجأ الملازم رزقي:

تم استخلافنا للملازم الأول سماعين في الجيش المصري، وقد كان ملحقا باللواء الجزائري برتبة ضابط ارتباط، حيث كان يشغل هذا المنصب مع كل الألوية السابقة. كان الملازم الأول سماعين مهندسا في أصل تكوينه، وتم الاحتفاظ به من أجل الحرب عندما كان يؤدي الخدمة العسكرية، وكان يؤدي عمله بتفان وهو ما جعله موضع احترام كبير، كما أنه كان حييّا.

كنا نعرف أن الملازم الأول سماعين يتبع لمصالح الاستعلامات، ولكننا لم نأخذ ذلك في الحسبان، لأننا كنا متواجدين من أجل خدمة إخواننا العرب ولم يكن هناك شيء لنُخفيه. بعد ذلك تم تدعيمنا بالملازم الأول الدكتور فاروق، وهو طبيب جراح، وكنا نلتقي أثناء وجبات الغداء في مطعم للضباط تم تهيئته في أحد الأكواخ وكنا نستعمله في الأيام الحارة. لم نكن نرى بعضنا كثيرا أثناء الصباح لأننا كنا نتسلم وجباتنا بسرعة، أما في المساء بعد العشاء، فقد كنا نجلس لفترة أطول معا، نشاهد التلفاز أو نلعب الورق. وفي إحدى الأمسيات التي كنا نُقضي أوقات فراغنا بلعب الورق فيها، كان الملازم الأول فاروق يُحدّق فينا دون توقف وهو مُنزوٍ، ثم قال: "يا أخ خالد.. أنا أتابعك منذ أيام ولم أر شيئا مما حكاه عنك زملائي في السويس". وتساءلتُ مستغربا في قرارة نفسي عما يمكن أن يخبره زملائي عني وهو لا يوافقهم عليه.

أسندنا في يوم من الأيام إلى الملازم الأول فاروق مهمة مرافقة تابوت إلى القاهرة لنقله صوب الجزائر، وظننا أنه قد يتدخل لصالحنا مع زملائه لتجنّب معاملة توابيت موتانا كما تُعامل أي أمتعة مُبتذلة وأمام مرأى من الجميع، وهو ما كان يحدث غالبا. ولكن للأسف لم يفعل ذلك. وبقيت السلطات المصرية تفرض علينا إلى النهاية هذه الطريقة غير المحترمة ولا اللائقة في نقل موتانا الذين لهم علينا واجب التوقير والإجلال.

استيقظتُ في أحد الأيام على وقع دوي انفجار هائل وقع على بُعد مئات الأمتار من مركز قيادتي، وكان الهدف هو معسكر تمت إقامته من طرف كتيبة الاتصالات بالفرقة في الوحدة وكتيبة الهندسة. لقد فوجئ الجنود أثناء اجتماعهم بطائرتين من طراز "سكاي هاوك" قدمتا من الشرق حيث كانت أشعة الشمس تحجب الرؤية عن الجنود الذين يشغّلون المدافع المضادة للطائرات، وقد اختار الإسرائيليون هذه اللحظة الدقيقة للهجوم وإلقاء القنابل، مما أحدث مجزرة.

وبما أن هذا كله حدث على مقربة مني، ركبتُ سيارتي وتوجهت نحو مجموعتي المكلفة بالمدافع المضادة للطائرات، وهكذا أمكنني معاينة الوضع.

لقد كان المشهد مُحزنا، حيث تم حجز جميع السيارات لنقل الموتى والجرحى، وكان هناك ضباط لا يزالون بثياب النوم كانوا يمشون فيما كان قبل دقائق فقط ساحة للتجمع. وعندما وصلت إلى مركز مضادات الطائرات تساءلتُ وأنا على وقع الذهول: "هل يُدركون خطورة التجمع أمام العدو؟". لم يظهر الملازم الأول فاروق إلا 3 أيام بعد الحادثة بسبب انشغاله بالوضع، وقص علينا بعد ذلك أنه أحصى أكثر من 70 قتيلا دون احتساب الجنود الذين نُقلوا إلى أماكن أخرى، أما الجرحى فقد بلغوا المئات.

دعاني قائد الكتيبة 36 علي أبو غزالة إلى زيارة السرية التي كانت تحت قيادة الملازم رزقي، وكان مقر قيادته يقع في إحدى الملاجئ المشيّدة بقطع معدنية كما كنا نحلم أن تكون مقارّنا مثلها. كنا قد وصلنا لتونا إلى الجبهة وكان همنا هو الحصول على معدات مناسبة لحماية رجالنا، وكان ما نطلبه نادرا.

لقد خرج المصريون من حرب خسروا فيها كل شيء، حيث كان ينقصهم كثير من الوسائل، بما فيها الأساسية، وهذا ما حدثني به العميد مصطفى شاهين. وكان كيس الرمل يُستورد حينها ويُقدّر ثمنه بحوالي 50 سنتيما بالعملة الأجنبية.

نزلنا حوالي 3 أمتار تحت الأرض وجلسنا في الملجأ المصنوع من معدن "النيكل"، وهو ملجأ لا ينقصه أي شيء، فقد كان مشكلا من أقواس معدنية صغيرة وكان سقفه مطليا بالزفت، كما لاحظت ابتسامة قائد الكتيبة في الزاوية وهو يحدّث الملازم الأول رزقي بصوت منخفض: "هيّا، قل له من أين حصلت عليها". لكن رزقي لم ينبس ببنت شفة. وحاولت تشجيعه لكي يُجيبني، فرفع رأسه ورمقني بنظرات بدت مُحرَجة، ثم قال لي:

- لقد اشتريتها من قائد بطاريات 40 مم "بوفور" بمبلغ قدره 3 جنيهات.

- وسألته بإلحاح: من هو هذا القائد؟

- ذاك الذي يُشرف على البطاريات القريبة منا، والمتواجدة بين قرية "فايد" وفريق مدفعية 100مم التابعة للجيش 2.

ذهلت لما كنت أسمعه، وقارنت في أعماق نفسي بين ضابط يدفع من جيبه لكي يوفر الحماية لرجاله، وآخر...

كان هناك خط سكة حديدية يصل قريبا من مواقعنا فأمرت الضباط باستغلاله، ولم يكن ينبغي فعل أكثر من ذلك. وعلى امتداد قرابة شهرين، كانت الأصوات تملأ الأرجاء، حيث تم فك الخطوط الحديدية ونُقلت على ظهور الرجال إلى غاية مواقعهم لإنشاء ملاجئ تصمد أمام قذائف المدفعية والقنابل الإسرائيلية.

ومنذ ذلك الحين كانت المستلزمات تُؤخذ أينما وجدت، سواء في المعسكرات المُفرغة في "الأبيض" أو "زكريا" أو في أمكنة أخرى. وكنا نقتني ما ندفع ثمنه في السوق المحلي.

لقد كانت وتيرة العمل تسري بصفة جيدة إلى درجة جعلت قائد خلية المدفعية المضادة للطيران في الجيش 2 المصري يسألني في زيارة له عندما أدخلته إلى قاعة تحت الأرض مشيدة بالحجارة كلية: "هل لديكم مهندسون لكي يفعلوا هذا؟"، فأجبته: "يمكن لأي أحد منا في الجزائر أن يبني شيئا كهذا".

كنا نعتمد أسلوب الملاجئ المهيأة تحت الأرض، وهي ملاجئ لم تكن محمية بصفة كبيرة، وكان من خواصها أنها واسعة من أجل تسهيل راحة الجنود في ملاجئ مضادة للقنابل وبخنادق مغطاة تحوي كذلك أنابيب. وكانت هناك حفر صغيرة منتثرة هنا وهناك من أجل إعطاء الفرصة لأي جندي بالاحتماء بداخل أقربها عند أول إنذار. وتطلبت هذه التحضيرات ستة أشهر طويلة من العمل، ولم أغادر المكان طيلة هذه الفترة، وكان هاجسي الوحيد هو توفير الحماية اللازمة لرجالي، وهو ما جعل بعض الأشخاص المحيطين بي يتعجبون.

وإضافة إلى أعمال الهندسة، كان من الضروري السهر على المقاييس الصحية من أجل تجنيب رجالي ملاقاة المصير الذي لقيه بعض من سبقونا في هذه المهمة وإن كان المصابون قلة، مثل مرض البلهارسيا، وهو مرض مُقعد وينتشر كثيرا في مصر، وخاصة في مناطق دلتا النيل التي كنا متواجدين بها. لقد كان هناك قنوات صرف تمر على منطقتنا وتصب في الدلتا، وهذا مكان سريان المرض بنفسه. ولمقاومة هذا المرض الخطير، بدأنا بمنع الاقتراب من قنوات الصرف "الترعة" وزودنا كل قطاع بنصف برميل يحوي 200 لتر يُجبر الجنود على غلي ملابسهم بداخله ثم تنظيفه بالماء الساخن، وقد أثمرت هذه الإجراءات لأننا أثناء عودتنا إلى الجزائر لم نسجل حالة إصابة واحدة. وكان الجنود قبل كل إجازة تُمنح لهم للتوجه إلى القاهرة يصطفون أمام عيادات الوحدات، وكانوا يُحقنون بحقنة "بنسيلين مُعطّلة" Pénicilline retard حتى لا يكونوا عرضة لأي مرض، وكان الجنود يحترمون هذه الاحتياطات الصحية رغم كونها تعسفية، كما أن ما يرونه يصب يوميا عبر قناة "بانوراما" المصرية يدفعهم إلى الصرامة أكثر فأكثر. وكانت الصور الدعائية للحضارة الفرعونية التي كان قطاع السياحة يتبجح بها سرعان ما تترك مكانها لصور فلاحين يغتسلون أو يغسّلون أبقارهم داخل المياه المتعكرة في القناة، كما كان النساء يغسلون الملابس أو الأواني، في حين كان الأطفال يقتحمون، لا مبالين، الماء وهم عرايا.
موت الفريق الأول عبد المنعم رياض
لقد سلبت الحرب والبؤس، الذي هو نتيجة الحرب الطبيعية، الحياة من معناها، فالموت أضحى شيئا عاديا. وقد أخبرني قائد وحدة الدرك الخاصة بحاكم الصلح يوما أنه لما رأى جثة طافية في مياه قناة صرف ذهب ليُعلم الشرطة، فتلقى جوابا مخيبا أغاظه، حيث قيل له: "سيبك (لا تهتم)". ولأنني صُدمت بدوري من هذه الحادثة، أخبرتُ الرائد غازي، وهو ضابط فلسطيني كان لواؤه متواجدا قرب مواقعنا الخلفية فأجابني وهو مشدوه بتفاجئي: "ألا تعلم ذلك؟ إن هذا أمر مألوف هنا. وعندما نرى جثة فإننا نُمسكها من الشعر ونقلبها لنرى إن لم تكن لواحد من رجالنا"، وإذا كان الأمر بالعكس، فإنه شرح لي ببرودة أنهم يشقون طريقا في قناة الصرف للموتى ليلقيهم الماء بعيدا. وأصابني هذا الجواب المرعب بالقشعريرة، فالشرطة كان لديها من الوقاحة ما يجعلها تجرّم كل من يزعجها بتقديم هذه المعلومات المحزنة.
ورغم ضغط العمل، كان على الرجال أن يرتاحوا. ولهذا كنت أمنح، مثل المصريين، بعض التراخيص بمعدل 3 أيام في كل شهر ونصف لكل جندي، ضابطا كان أو ضابط صف. أما أنا، فقد أرجأت موضوع الاستراحة بسبب انشغالي بما يجب عليّ فعله. لقد كنت واعيا بثقل المسؤولية الملقاة على عاتقي، وقد كنت متضايقا من الوضع لأننا لم نكن لا في حالة حرب ولا في حالة سلم، وكذا هاجس حماية اللواء الذي يقع تحت يدي.
لم تصل الجرافات التي وُعدنا بها في الجزائر، فاقتصرتُ على المعدات المصرية القديمة التي تعود إلى الحرب العالمية الثانية.
كنت أنام قليلا، قلقا من فكرة اندلاع الحرب في حين أن رجالي ومعداتي متواجدة تحت الملاجئ، وشعرتُ بآلام معوية حادة ولم يتم تشخيص سبب ذلك في الجبهة، وكنت أعاني في صمت. لقد مرت ستة أشهر والآلام متواصلة، فقررت استشارة طبيب فور ضبط موعد مع دكتور من طرف سفارتنا في القاهرة، فتوجهت إلى العاصمة للراحة لمدة 3 إلى 4 أيام، وقضيتُ الليلة في الشقة التي وُضعت تحت تصرفنا. وفي الصباح، رافقني ممثل عن سفارتنا إلى الطبيب، وكانت جدران قاعة الانتظار مغطاة برسومات لمشاهد طبيعية أوروبية، وقد كان الطبيب أوروبيا، ولمحت ذلك بسبب لكنته رغم أنه كان يتكلم العربية جيدا، ثم زودني بأقراص مضادة للألم وطلب مني إجراء تحاليل. وعند خروجي من عيادة الطبيب قلت لمرافقي إنني أرجّح أن يكون الطبيب من أصل ألماني.
قضيتُ الأمسية برفقة الدليل الذي كان معي، وتوجهت بعد العشاء إلى شقتي. وفي حدود الساعة الحادية عشر ليلا سمعت دق الجرس، ففتحت الباب ووجدتني وجها لوجه مع الملازم الأول أحمد بنّاي، قائد سريّة الإدارة لللواء، وكان يبدو مضطربا لأن شيئا خطيرا قد حدث. لقد وقع تبادل قصف مدفعي بين الإسرائيليين والمصريين طيلة اليوم، وشاركت في القصف مدافعنا ولم نُصب بأي خسائر، ولكنّ قائد أركان الجيش المصري لقي حتفه. وفور سماعي لهذا الخبر حزمتُ أمتعتي وتوجهت صوب الجبهة.
ولم أعرف كيف سقط قائد الأركان سوى في اليوم الموالي، فلقد كان في مهمة تفتيش كعادته بعدما عُيّن حديثا في هذا المنصب، ولم يكن يدّخر جهدا في تأدية مهامه على أكمل وجه، وكان يحظى باحترام الرجال الذين يصرخون كلما رأوا طائرة مروحية تحوم فوقهم: "هذا هو قائد الأركان". وكان المصريون الذين اكتووا بهزائم كثيرة قد عقدوا آمالهم على هذا الضابط الذي كانوا يُقدّرونه، كما أن ملك الأردن عبد الله الذي عيّنه مستشارا له أثناء حرب 1967 لم يُخف ثناءه عليه في كتابه "حربي مع إسرائيل". وفي يوم وفاته ذهب للاستطلاع أمام الإسماعيلية، وكان مرفقا بأغلبية قواد خلايا قيادة الأركان الذين قُتل وُجرح أكثرهم. لقد ذهب قائد الأركان للتعرف عن بعد على جزيرة صغيرة في بحيرة التمساح قرب الإسماعيلية، حيث كان تتواجد مجموعة من الدبابات الإسرائيلية، ورغم أن رجاله كانوا متمرسين في الحرب إلا أنهم أخطأوا بالتنقل عبر سياراتهم التي كانت مخصصة للعمداء فقط، وهو ما كان غنيمة سهلة لم يتوقعها الإسرائيليون الذين أطلقوا نيران الدبابات والمدافع وأجهزوا على قيادة أركان الجيش 2 في طرفة عين. وأخبرني المستشار السوفييتي أن العميد عبد المنعم رياض توفي على إثر نزيف لأن وحدات الإنقاذ لم تصل بسرعة.
وفي نفس اليوم، أخبرني العميد مصطفى شاهين أن ضباطا بقوا في مراكز قيادتهم في الجيش اختلط عليهم صفير قذائف المدفعية مع أصوات الطائرات المقاتلة أثناء انقضاضها إلى درجة أنهم بعد ربع ساعة من الحادثة أرسلوا إلى مكتب عبد الناصر برقية تتحدث عن هجوم جوي. وقال شاهين مستغربا: "هل تعرفون ما الذي يمكن أن تؤدي إليه غلطة فادحة مثل هذه إذا صعّد الجيش المصري الموقف"؟ وهو ما يعني بعبارة أخرى أن سلاح الجو المصري لم يكن بمقدوره الرد لأنه كان في مرحلة التهيئة.
 
لحلقة السادسة لمذكرات اللواء خالد نزار

لماذا كانت بعض القوارب المصرية تتجه نحو إسرائيل وتعود بشكل يومي؟


كانت مراكز الملاحظة التابعة لنا متواجدة في الفيلات القديمة التي يملكها ضباط سابقون أو شخصيات مرموقة في البلد. وكنا مستقرين في منطقة كثيرة السقي وتعتمد على الزراعة، حيث كانت أغلبية الأراضي مزروعة بأشجار مثمرة، خاصة أشجار البرتقال وفواكه المانجو الممتدة على مد البصر. وكانت الأراضي لا تزال حينها في أيدي الملاك الكبار، ولم تُوزع سوى قطع صغيرة فقط في إطار الإصلاح الزراعي الذي انتهجه عبد الناصر. وكنا نعرف المستفيدين الجدد من هذه الأراضي بسواقيهم القديمة وأبقارهم الهزيلة التي لصق جلدها بالعظم.

وكانت إحدى هذه الفيلات من أملاك المشير عبد الحكيم عامر، وكان المطّلعون على هذا الأمر يسمونها "فيلّة المشير". وجاءنا ساع في إحدى الأيام وهو يحمل بريدا أرسله مُحام طلب منا دفع ثمن إيجار الفيلات الثلاث أو الأربع التي كانت بحوزتنا، فأبلغت رائد مقاطعة فايد "لكنني لم أتلق أي رد منه". وكانت هذه الفيلات مهيئة بطريقة حسنة، وزرت تلك التي كانت للمشير، ورغم الخراب الذي أصابها بعض الشيء بسبب الحرب، إلا أنها كانت إقامة فخمة، كما أن المشهد من السطح بدا أخّاذا، حيث كان بإمكاننا مشاهدة البواخر العديدة التي فاجأتها الحرب فاتخذت البحيرة كمرسى. وفي أوقات صفاء الجو كان "خط بارليف" يبدو قريبا جدا. وكنا بمساعدة مناظيرنا نستطيع مشاهدة تحركات الجنود الإسرائيليين. وفي الجنوب كان بإمكاننا مشاهدة ضواحي مدينة السويس ودروبها. أما في الشمال، فقد كان المصّب المشهور يمتد قبالتنا، كما تتراءى مدينة الإسماعيلية أمام أعيننا.

كان يحدث وأن استمتعنا بالشواطئ القريبة من هذه الفيلات، وأحيانا كنا نأخذ عناصر بطارية المدفعية للسباحة ونسيان قساوة الصحراء، ولو لفترة. وكان العائق الوحيد هو الألغام المضادة للقوارب البحرية الموضوعة على بعد متر ونصف من حافة البحيرة على امتداد الساحل.

وبما أن هذه الألغام كانت واضحة للعيان فإننا كنا نقوم بتنبيه الجنود قبل الترخيص لهم بالذهاب إلى البحيرة. وحدث وأن لمس أحد جنودنا صاعق لغم عن غير قصد فانفجر عليه ومزّقه إلى أشلاء لم نجمع منها سوى بقايا حمراء مختلطة بالرمل، ولم نكتشف إلا بعد حوالي ساعة بأن ما جمعناه هو ما تبقى من هذا الجندي المسكين. ورافقنا تابوته الذي لم يكن يحوي سوى علبة صغيرة مليئة بالرمل والبقايا التي أمكننا جمعها، وكان على المرافقين أن يشرحوا لعائلته ظروف موت ابنهم، وألزمناهم بعدم فتح التابوت. وبعد هذا الحادث المؤلم تم حظر السباحة في بحيرة عامر.

كانت الأرصفة تمتد على طول البحيرة لتمكين الصيادين من إرساء قواربهم، بما فيها تلك التي كانت في الخط الأمامي للواء.

كان الصيادون يدفعون قواربهم كل صباح نحو البحيرة للصيد، وفي حدود العاشرة صباحا تظهر مئات القوارب التي تحجب رؤية ماء البحيرة لكثرتها، وكانت هذه القوارب كلها متشابهة. وكان الصيادون يرجعون إلى بيوتهم قبل غروب الشمس ليبدأوا دورة حياتهم مرة أخرى في اليوم الموالي، وكان بعض هذه القوارب يستغل هذا الجو المضطرب ليرسو في الضفة الأخرى ويتواصل مع الإسرائيليين، قبل أن تتخفى بعد رجوعها مع مجموع القوارب في وسط البحيرة. وعندما أُبلغت بهذه المعلومة اتصلتُ بالمسؤول عن مصالح الأمن في القطاع الذي سُلمت فيه مركز القيادة، وأعلمته بأن هذا الأمر يُعتبر "خطيرا جدا"، لكنه لم يتفاجأ على الإطلاق، ثم وعدني بأن يُقدم لي جوابا عن الموضوع "في حدود 3 إلى 4 أيام" بعد قيامه بتحقيق. وأعلمني بعد أسبوع بأن أولئك الصيادين كانوا في "مهمة خاصة"، ولم أقتنع بهذا الجواب وأنا أتساءل في قرارة نفسي هل ما ذكره صحيح أو أنه اتخذ إجراءات لكي لا يتكرر الأمر. ولكن الأمر نفسه تكرر بعد ذلك. لم تعد الاتصالات مع الإسرائيليين تتم بنفس الوتيرة التي كانت عليها في السابق، لكنها كانت تولّد الشك في أذهان جنودنا، فقررتُ تعيين مترصدين بالمناظير وكلفتهم بمراقبة كل من يتواصل مع العدو، وكانت العقوبة واحدة على جميع المخالفين: ضرب مبرح ومصادرة القارب وحظر الدخول للبحيرة مرة ثانية، ولكن هذا لم يمنع صيادين آخرين من مخالفة التعليمات بشكل يومي انطلاقا من أرصفة أخرى.

كانت الحياة أبعد ما تكون عن الرتابة، وهو ما يستدعي الحذر الذي كان يأتي من تلقاء نفسه. وبدأت أعجب بهذه الحياة المثيرة التي كنت أقضي بعضها في زيارات تفتيش في الميدان وبعضها في مراقبة توجيهات الرجال دون تمييز بين رتبهم، سواء كانوا ضباطا أو ضباط صف أو جنودا. وكان ضباط مصريون من مختلف التخصصات موّفدين للقيام بمهمة التكوين في فترات مغلقة، وكنت إضافة إلى ذلك مطّلعا على كل ما كان يدور في جبهة الجيش المصري 2، حيث كنا نتابع كل ما يجري في الفضاء الجوي للجبهة ونشارك في العمليات الميدانية سواء كانت متعلقة بمواجهة الطائرات أو القصف بالمدفعيات والدبابات، وبما أننا لم نستطع استعمال الدبابات في الرمي المباشر، كنا نقوم باستعمالها في بعض الأحيان في التحضير للرماية المدفعية.

لقد كانت أهدافنا هي "تل السلام" ومصب النهر وخزان الماء الذي يمد جزءا من "خط بارليف"، وكنا نستهدف الأهداف المتحركة باستعمال الربط بين الجيشين الثاني والثالث أو باستغلال أهداف في العمق أو بتوجيه القذائف المضيئة.

ولما بدأت حرب الاستنزاف في التصعيد، لم يتحرج كل من الإسرائيليين والمصريين في استعمال الطيران. وبما أن الجيش الإسرائيلي كان هو الأقوى في هذا المجال، فقد اعتمد على سلاح الجو كطريقة أساسية في غاراته. وكانت الإنذارات الجوية اليومية لا تهدف إلى مهاجمة وتدمير الأهداف المتعددة بقدر ما كانت تهدف إلى زعزعة معنويات القوات المصرية. وقد كانت الطائرات الإسرائيلية تقذف القنابل المُحرقة أو تقوم بغارات في عمق مواقعنا، وكنا كثيرا ما نسمع صوت المروحيات الإسرائيلية التي كانت تطير فوق خطوطنا وتحاول استرجاع طياريها الذين تحطمت طائرتهم في نفس اليوم ولم يتم أسرهم، أو إنزال فرق "وحدات خاصة" للقيام بمهمات تم الإعداد لها سلفا.

وفي الصباح، شهدت الجبهة غليانا كبيرا. وبحسب الإذاعة المصرية فإن الإسرائيليين قاموا بتدمير المحطة الكهربائية في "نجا حمادي" عن طريق قصف جوي، لكن الإسرائيليين لم يتأخروا في توضيح الأمر حيث قالوا "إن المحطة لم تُقصَف بواسطة سلاحنا الجوي وإنما عبر فريق وحدات خاصة" منقولة عن طريق المروحيات". وكانت الدهشة تعلو كل وجوه الضباط المصريون الذين التقيت بهم، حيث تدور في أذهانهم الأسئلة التالية: كيف قام الإسرائيليون بهذا العمل ما دام أن "نجا حمادي" ليست في متناول فرق "الكومندو"؟ وكيف تجرّأوا على ذلك؟

لم يتوان الإسرائيليون عن استغلال المناسبة لتضخيم هذه العملية إعلاميا، وساعدهم في ذلك عموم الناس الذين جعلوا من هذه الواقعة محور حديثهم. وفي صبيحة اليوم الموالي لهذه العملية، استلمت "شفاف" الوضع الجوي لليلة أمس وفهمت منذهلا الطريقة التي لجأ إليها الإسرائيليون: لقد حلقت 8 طائرات مروحية من طراز "سوبر فرولون" شبه متلاصقة، وهي حاملات ضخمة صُنعت في فرنسا، وهذا ليوهموا المصريين بأنها أربع مروحيات فقط بدل ثمانية، وهو ما جعل شاشات الرادار لا تكشف إلا عن أربع أجسام فقط. وفي منتصف الطريق إلى "نجا حمادي"، عادت أربع مروحيات أدراجها وحطّت الأربع الباقية، فظن المصريون أنها محاولة اقتحام محدودة. وبعد هبوط المروحيات تمكنت سيارات "جيب" مليئة بالقوات الخاصة من التوجه نحو الهدف ووضع عبوات مؤقتة التفجير. وعند الفجر، ظهرت 4 بقع على شاشات الرادار، وهي للمروحيات الأربعة التي عادت أدراجها إلى الأراضي الإسرائيلية بعدما قامت بالعملية وأنجزت مهمتها في "نجا حمادي".
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top