- إنضم
- 3 سبتمبر 2008
- المشاركات
- 8,454
- نقاط التفاعل
- 62
- النقاط
- 317
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله وبعد
فهذه عدة وقفات حول الفهم الشرعي لحديث المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " ( البخاري 2825 ، مسلم 3089 ) ، نسأل الله جل شأنه أن ينفع بها .
الوقفة الأولى :
ما المراد بالمشركين ؟
إن المراد بهم كل من لم يكن مسلماً ، وهذا ما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر رضي الله عنه : " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً " ( مسلم 3313 ، أبو داود 2635 ، الترمذي 1532 )
وقوله كذلك في حديث عائشة رضي الله عنها : " لا يُترك في جزيرة العرب دينان ( أحمد 25148 ، الطبراني في الأوسط 1116 ) ، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) 5 / 325 : " رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحق وقد صرح بالسماع " ، وقد صححه الدارقطني كما في نصب الراية 3 / 454 .
لذا .. فإن من الخطأ وسوء الفهم – بل وربما الهوى – أن يخصِّص البعضُ هذا الحديث على ببعض الجنسيات ( كالأمريكية والبريطانية ) دون بعض !
الوقفة الثانية :
هل يدخل فيهم من له عهد أو أمان ؟
لا شك أن أصحاب العهد أو الأمان غير داخلين في هذا الحكم ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أن الأمر بالإخراج نص عام والأمر بحفظ دم صاحب العهد نص خاص ، فيبقى الخاص مستثناً من هذا العموم ، قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً " ( البخاري 2930 ) .
الوجه الثاني :
أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحاجات بدخول جزيرة العرب ، فقد قال لرسولي مسيلمة : " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ( أبو داود 2380 ، وصححه الألباني ) .
الوجه الثالث :
أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لم يقوموا بإخراج الأجراء والعبيد ، فقد كان قتل عمر رضي الله عنه بالمدينة وكان قاتله عبداً مملوكاً للمغيرة بن شعبة وهو ( أبو لؤلؤة المجوسي ) ، فهذا إجماع من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فهم الحديث .
لذا .. فمن اعتدى على أصحاب العهد والأمان واستند على هذا الحديث فقد أخطأ في فهم الحديث وأتى بفهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
الوقفة الثالثة :
ما المراد بالإخراج ؟
المراد به الخروج على الحقيقة ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أنه المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن من الأمر بالإخراج .
الوجه الثاني :
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له ، وذلك حينما جاء إلى اليهود وقال لهم : " إني أريد أن أجليكم من هذه الأرض " ( البخاري 2931 ، مسلم 3311 ، أبو داود 2609 ) .
الوجه الثالث :
عمل عمر رضي الله عنه حينما أجلى اليهود ( البخاري 2124 ، مسلم 2899 ) .
فائدة :
الإجلاء هو الخروج مع المفارقة ( كما في النهاية لابن الأثير 1 / 803 ) .
لذا .. فإن من الخطأ أن يتم تطبيق الحديث بالاعتداء على المشركين، بل هو فهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
الوقفة الرابعة :
هل يدخل فيه ( أو : يلزم منه ) القتل ؟
لا يدخل فيه القتل ، بل لا يجوز ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أن النص إنما جاء بالإخراج، فلم يبح لنا ما سواه ، ومن أباح القتل فقد أباح أمراً زائداً على الإخراج فلزمه الدليل وإلا فلا اعتبار بما يقول .
الوجه الثاني :
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالخروج ولم يستبح دمائهم .
الوجه الثالث :
فعل عمر رضي الله عنه المطابق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أمرهم بالخروج ولم يقتلهم أو يقاتلهم ، وقد أقره الصحابة على ذلك فكان إجماعاً من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
لذا .. فإن من الخطأ الاستدلال بالحديث على قتل المشركين .
الوقفة الخامسة :
هل المراد منع دخولهم مطلقاً أم أمر آخر ؟
المراد بالأمر بإخراجهم أحد أمرين :
الأول : ألا تكون لهم إقامة دائمة في جزيرة العرب .
والثاني : ألا يكون في جزيرة العرب دين ظاهر بشعائره غير دين الإسلام .
فالأمر الأول: يعني جواز الإقامة المؤقتة غير الدائمة.
والأمر الثاني: يعني جواز بقاء من يدين بغير دين الإسلام في خاصة نفسه بحيث لا يظهر شعائر دينه .
والدليل على هذا من وجهين :
الوجه الأول :
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم : " لا يُترك في جزيرة العرب دينان " ، مع إذنه صلى الله عليه وسلم لبعض الكفار بالبقاء في جزيرة العرب حيث عامل يهود خيبر على أموالهم وقال : " نقركم ما أقركم الله " ( البخاري 2528 ) ، كما كان يأذن للرسل بدخول الجزيرة ، وقد قال الله تعالى : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ }التوبة6، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربط الأسير الكافر في المسجد .
الوجه الثاني :
لم يقم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بإخراج الأجراء والرقيق من جزيرة العرب .
لذا .. فمن الخطأ أن يحمل الحديث على وجوب إخراج كل مشرك في كل حال .
الوقفة السادسة :
من المخاطَب بهذا الحديث ؟
المخاطب بذلك هو ولي الأمر ، والدليل عليه من وجهين :
الوجه الأول :
أن الحديث جاء ب، ( واو ) الجمع ، والأصل في النصوص الشرعية التي تأتي بالجمع ويراد بها جماعة المسلمين فإنها تتوجَّه لمن يمثل جماعة المسلمين وهو ولي الأمر ، ونضير ذلك قوله في السارق والسارقة : " فاقطعوا أيديهما " ولا يقول أهل السنة بأن المأمور بإقامة الحدود هو كل أحد من أفراد المسلمين ، بل هو خطاب خاص بولي الأمر .
الوجه الثاني :
أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لم يعترضوا على ولي الأمر ، فلم يخرجهم أبو بكر رضي الله عنه ولا عمر رضي الله عنه في صدر خلافته ، ومع هذا فلم يفهم أحد من الصحابة أن الأمر يعود لكل أفراد المسلمين ، لذا لم يقوموا بإخراجهم ، بل جعلوا ذلك في يد ولي الأمر .
يقول الإمام بدر الدين العيني: «إذا كان للمسلمين ضرورة إليهم لا يتعرض لهم ألا يرى أنه –صلى الله عليه وسلم- أقر يهود خيبر بعد قهر المسلمين إياهم لإعمار أرضها للضرورة وكذلك فعل الصديق -رضي الله عنه- في يهود خيبر ونصارى نجران » عمدة القاري(15/90)
وما أجمل ماقاله ابن القيم – رحمه الله – في حاشيته على سنن أبي داود إذ يقول: وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم ، يحتجون بعموم نص على حكم ، ويغفلون عن عمل صحابة الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده ومن تدبر هذا علم به مراد النصـــــوص وفهم مــــعانيها. انتهى من حاشية شرح سنن أبي داود: 3/288
لذا .. فمن ظن ان الحديث يخاطب كل فرد من أفراد المسلمين فقد أخطأ وأتى بفهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
الوقفة السابعة :
ما الموقف من ولي الأمر فيما لو قصَّر في تطبيق هذا الحديث ؟
الموقف يتلخص في أربعة أمور :
الأمر الأول : الصبر .
قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه : « من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات ؛ فميتةٌ جاهلية » ( البخاري 7053 ، مسلم 7467 ) .
الأمر الثاني : الدعاء له .
فإن منهج أهل السنة والجماعة أن يدعون له بالصلاح ، فإن في صلاح ولي الأمر صلاح للبلاد .
الأمر الثالث : مناصحته بالتي هي أحسن .
جاء في حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدين النصيحة " قلنا : لمن ؟ قال : " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " ( مسلم ، أبو داود 4293 ، الترمذي 1849 ، النسائي 4126 ) .
الأمر الرابع : بقاء السمع والطاعة له وعدم الخروج عليه بالمعصية .
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : دعانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعناه . فكان فيما أخذ علينا : أن بايَعَنا على السمع والطاعة ؛ في منشطنا ، ومكرهنا ، وعسرنا ، ويسرنا ، وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهلَه . قال : « إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان » ( البخاري 7055 ، مسلم 4748 ) .
قال النووي رحمه الله : « وأما الخروج عليهم وقتالهم : فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين , وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته , وأجمع أهل السنة أنه : لا ينعزل السلطان بالفسق » ( شرح صحيح مسلم ، تحت الحديث رقم 4748 ) .
الوقفة الثامنة :
ما المراد بجزيرة العرب في الحديث ؟
اختلف العلماء في تحديد المراد بجزيرة العرب ، إلا أنهم متّفقون على أنها ليست هي الجزيرة العربية التي في اصطلاح الجغرافيين !
فقال الإمام الزهري: جزيرة العرب: المدينة، وقال المغيرة بن عبد الرحمن: جزيرة العرب: المدينة ومكة واليمن وقرياتها.
وقال مالك: هي مكة والمدينة واليمامة واليمن.
وقال الحنفية: يجوز دخول المشركين جزيرة العرب مطلقاً إلا المسجد، وقال مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة.
وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلاً إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة، ومنهم من قال: إن المراد بجزيرة العرب الحجاز خاصَّة. انتهى.
انظر: التمهيد لابن عبد البر(1/172), وفتح الباري(6/171) وألَّف الحسين بن محمد بن سعيد اللاعى المعروف بالمغربى، قاضي صنعاء ومحدثها رسالة في حديث: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب)) رجح فيها: أنه إنما يجب إخراجهم من الحجاز فقط محتجاً بما في رواية بلفظ: ((أخرجوا اليهود من الحجاز)) البدر الطالع(1/230)، والأعلام للزركلي(2/256).
وقال النووي رحمه الله : ( لكن الشافعي خصَّ هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو : الحجاز ، وهو [ أي : الحجاز ] – عنده – : مكة والمدينة واليمامة وأعمالها , دون [ أي : ما عدا ] اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب ) ( شرح صحيح مسلم ، تحت الحديث رقم 4208 ) .
بل قال ابن حجر عن قول الشافعي رحمهما الله أنه : ( مذهب الجمهور ) ( فتح الباري 6/198 ، تحت الحديث رقم 3053 )
وفي اختيارات ابن تيمية رحمه الله : ( ويُمنعون من المقام في الحجاز , وهو [ أي : الحجاز ] : مكة والمدينة واليمامة والينبع وفدك وتبوك ونحوها وما دون المنحني ، وهو عقبة الصوان من الشام كمعان ) ( اختيارات البعلي ص 264 )
وقال ابن تيمية رحمه الله : ( وقد أمر النبي في مرض موته أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب – وهي الحجاز – فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة وخيبر وينبع واليمامة ومخاليف هذه البلاد ) ( الفتاوى 28/630 )
فإن قال قائل :
ما الدليل على بطلان حمل الحديث على جزيرة العرب التي في اصطلاح الجغرافيِّين ؟
فالجواب :
ما حكاه ابن حجر رحمه الله من اتّفاق العلماء على إخراج اليمن من الحكم النبوي ، مع أنها داخلة في جزيرة العرب عند الجغرافيين .
قال رحمه الله عن جزيرة العرب : ( لكن الذي يُمنع المشركون من سُكناه منها : الحجاز خاصّة ؛ وهو : مكة والمدينة واليمامة وما والاها , لا فيما سوى ذلك مما يُطلق عليه اسم جزيرة العرب ؛ لاتّفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها مع أنها مِن جُملة جزيرة العرب ) ( فتح الباري 6/198 ، تحت الحديث رقم : 3053 )
فخروجها عن حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع دخولها في حكم الجغرافيين :
دليل قاطع على تباين الحكمين ، وبرهانٌ على سقوط الاستناد على الاصطلاح الجغرافي في فهم المراد النبوي .
الوقفة التاسعة:
هذا ما يسره الله من تأملات في فقه هذا الحديث ، نسأل الله أن يعز دينه ويعلي رايته وينصر سنة نبيه وأن يوفق جميع المسلمين لكل خير ، والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخوانكم في اللجنة العلمية لموقع وحملة واحة النصيحة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله الله وبعد
فهذه عدة وقفات حول الفهم الشرعي لحديث المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم : " أخرجوا المشركين من جزيرة العرب " ( البخاري 2825 ، مسلم 3089 ) ، نسأل الله جل شأنه أن ينفع بها .
الوقفة الأولى :
ما المراد بالمشركين ؟
إن المراد بهم كل من لم يكن مسلماً ، وهذا ما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمر رضي الله عنه : " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً " ( مسلم 3313 ، أبو داود 2635 ، الترمذي 1532 )
وقوله كذلك في حديث عائشة رضي الله عنها : " لا يُترك في جزيرة العرب دينان ( أحمد 25148 ، الطبراني في الأوسط 1116 ) ، قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) 5 / 325 : " رواه أحمد والطبراني في الأوسط ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحق وقد صرح بالسماع " ، وقد صححه الدارقطني كما في نصب الراية 3 / 454 .
لذا .. فإن من الخطأ وسوء الفهم – بل وربما الهوى – أن يخصِّص البعضُ هذا الحديث على ببعض الجنسيات ( كالأمريكية والبريطانية ) دون بعض !
الوقفة الثانية :
هل يدخل فيهم من له عهد أو أمان ؟
لا شك أن أصحاب العهد أو الأمان غير داخلين في هذا الحكم ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أن الأمر بالإخراج نص عام والأمر بحفظ دم صاحب العهد نص خاص ، فيبقى الخاص مستثناً من هذا العموم ، قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً " ( البخاري 2930 ) .
الوجه الثاني :
أذن النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الحاجات بدخول جزيرة العرب ، فقد قال لرسولي مسيلمة : " لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ( أبو داود 2380 ، وصححه الألباني ) .
الوجه الثالث :
أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لم يقوموا بإخراج الأجراء والعبيد ، فقد كان قتل عمر رضي الله عنه بالمدينة وكان قاتله عبداً مملوكاً للمغيرة بن شعبة وهو ( أبو لؤلؤة المجوسي ) ، فهذا إجماع من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم في فهم الحديث .
لذا .. فمن اعتدى على أصحاب العهد والأمان واستند على هذا الحديث فقد أخطأ في فهم الحديث وأتى بفهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
الوقفة الثالثة :
ما المراد بالإخراج ؟
المراد به الخروج على الحقيقة ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أنه المعنى الظاهر المتبادر إلى الذهن من الأمر بالإخراج .
الوجه الثاني :
تفسير النبي صلى الله عليه وسلم له ، وذلك حينما جاء إلى اليهود وقال لهم : " إني أريد أن أجليكم من هذه الأرض " ( البخاري 2931 ، مسلم 3311 ، أبو داود 2609 ) .
الوجه الثالث :
عمل عمر رضي الله عنه حينما أجلى اليهود ( البخاري 2124 ، مسلم 2899 ) .
فائدة :
الإجلاء هو الخروج مع المفارقة ( كما في النهاية لابن الأثير 1 / 803 ) .
لذا .. فإن من الخطأ أن يتم تطبيق الحديث بالاعتداء على المشركين، بل هو فهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم.
الوقفة الرابعة :
هل يدخل فيه ( أو : يلزم منه ) القتل ؟
لا يدخل فيه القتل ، بل لا يجوز ، وذلك من ثلاثة أوجه :
الوجه الأول :
أن النص إنما جاء بالإخراج، فلم يبح لنا ما سواه ، ومن أباح القتل فقد أباح أمراً زائداً على الإخراج فلزمه الدليل وإلا فلا اعتبار بما يقول .
الوجه الثاني :
أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرهم بالخروج ولم يستبح دمائهم .
الوجه الثالث :
فعل عمر رضي الله عنه المطابق لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث أمرهم بالخروج ولم يقتلهم أو يقاتلهم ، وقد أقره الصحابة على ذلك فكان إجماعاً من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
لذا .. فإن من الخطأ الاستدلال بالحديث على قتل المشركين .
الوقفة الخامسة :
هل المراد منع دخولهم مطلقاً أم أمر آخر ؟
المراد بالأمر بإخراجهم أحد أمرين :
الأول : ألا تكون لهم إقامة دائمة في جزيرة العرب .
والثاني : ألا يكون في جزيرة العرب دين ظاهر بشعائره غير دين الإسلام .
فالأمر الأول: يعني جواز الإقامة المؤقتة غير الدائمة.
والأمر الثاني: يعني جواز بقاء من يدين بغير دين الإسلام في خاصة نفسه بحيث لا يظهر شعائر دينه .
والدليل على هذا من وجهين :
الوجه الأول :
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة رضي الله عنها المتقدم : " لا يُترك في جزيرة العرب دينان " ، مع إذنه صلى الله عليه وسلم لبعض الكفار بالبقاء في جزيرة العرب حيث عامل يهود خيبر على أموالهم وقال : " نقركم ما أقركم الله " ( البخاري 2528 ) ، كما كان يأذن للرسل بدخول الجزيرة ، وقد قال الله تعالى : {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ }التوبة6، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربط الأسير الكافر في المسجد .
الوجه الثاني :
لم يقم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بإخراج الأجراء والرقيق من جزيرة العرب .
لذا .. فمن الخطأ أن يحمل الحديث على وجوب إخراج كل مشرك في كل حال .
الوقفة السادسة :
من المخاطَب بهذا الحديث ؟
المخاطب بذلك هو ولي الأمر ، والدليل عليه من وجهين :
الوجه الأول :
أن الحديث جاء ب، ( واو ) الجمع ، والأصل في النصوص الشرعية التي تأتي بالجمع ويراد بها جماعة المسلمين فإنها تتوجَّه لمن يمثل جماعة المسلمين وهو ولي الأمر ، ونضير ذلك قوله في السارق والسارقة : " فاقطعوا أيديهما " ولا يقول أهل السنة بأن المأمور بإقامة الحدود هو كل أحد من أفراد المسلمين ، بل هو خطاب خاص بولي الأمر .
الوجه الثاني :
أن الصحابة الكرام رضوان الله عليهم لم يعترضوا على ولي الأمر ، فلم يخرجهم أبو بكر رضي الله عنه ولا عمر رضي الله عنه في صدر خلافته ، ومع هذا فلم يفهم أحد من الصحابة أن الأمر يعود لكل أفراد المسلمين ، لذا لم يقوموا بإخراجهم ، بل جعلوا ذلك في يد ولي الأمر .
يقول الإمام بدر الدين العيني: «إذا كان للمسلمين ضرورة إليهم لا يتعرض لهم ألا يرى أنه –صلى الله عليه وسلم- أقر يهود خيبر بعد قهر المسلمين إياهم لإعمار أرضها للضرورة وكذلك فعل الصديق -رضي الله عنه- في يهود خيبر ونصارى نجران » عمدة القاري(15/90)
وما أجمل ماقاله ابن القيم – رحمه الله – في حاشيته على سنن أبي داود إذ يقول: وهذا موضع يغلط فيه كثير من قاصري العلم ، يحتجون بعموم نص على حكم ، ويغفلون عن عمل صحابة الشريعة وعمل أصحابه الذي يبين مراده ومن تدبر هذا علم به مراد النصـــــوص وفهم مــــعانيها. انتهى من حاشية شرح سنن أبي داود: 3/288
لذا .. فمن ظن ان الحديث يخاطب كل فرد من أفراد المسلمين فقد أخطأ وأتى بفهم لم يعرفه الصحابة الكرام رضوان الله عليهم .
الوقفة السابعة :
ما الموقف من ولي الأمر فيما لو قصَّر في تطبيق هذا الحديث ؟
الموقف يتلخص في أربعة أمور :
الأمر الأول : الصبر .
قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنه : « من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإن من فارق الجماعة شبراً فمات ؛ فميتةٌ جاهلية » ( البخاري 7053 ، مسلم 7467 ) .
الأمر الثاني : الدعاء له .
فإن منهج أهل السنة والجماعة أن يدعون له بالصلاح ، فإن في صلاح ولي الأمر صلاح للبلاد .
الأمر الثالث : مناصحته بالتي هي أحسن .
جاء في حديث تميم بن أوس الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الدين النصيحة " قلنا : لمن ؟ قال : " لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم " ( مسلم ، أبو داود 4293 ، الترمذي 1849 ، النسائي 4126 ) .
الأمر الرابع : بقاء السمع والطاعة له وعدم الخروج عليه بالمعصية .
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه : دعانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعناه . فكان فيما أخذ علينا : أن بايَعَنا على السمع والطاعة ؛ في منشطنا ، ومكرهنا ، وعسرنا ، ويسرنا ، وأثرة علينا ، وألا ننازع الأمر أهلَه . قال : « إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان » ( البخاري 7055 ، مسلم 4748 ) .
قال النووي رحمه الله : « وأما الخروج عليهم وقتالهم : فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين , وقد تظاهرت الأحاديث على ما ذكرته , وأجمع أهل السنة أنه : لا ينعزل السلطان بالفسق » ( شرح صحيح مسلم ، تحت الحديث رقم 4748 ) .
الوقفة الثامنة :
ما المراد بجزيرة العرب في الحديث ؟
اختلف العلماء في تحديد المراد بجزيرة العرب ، إلا أنهم متّفقون على أنها ليست هي الجزيرة العربية التي في اصطلاح الجغرافيين !
فقال الإمام الزهري: جزيرة العرب: المدينة، وقال المغيرة بن عبد الرحمن: جزيرة العرب: المدينة ومكة واليمن وقرياتها.
وقال مالك: هي مكة والمدينة واليمامة واليمن.
وقال الحنفية: يجوز دخول المشركين جزيرة العرب مطلقاً إلا المسجد، وقال مالك: يجوز دخولهم الحرم للتجارة.
وقال الشافعي: لا يدخلون الحرم أصلاً إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين خاصة، ومنهم من قال: إن المراد بجزيرة العرب الحجاز خاصَّة. انتهى.
انظر: التمهيد لابن عبد البر(1/172), وفتح الباري(6/171) وألَّف الحسين بن محمد بن سعيد اللاعى المعروف بالمغربى، قاضي صنعاء ومحدثها رسالة في حديث: ((أخرجوا اليهود من جزيرة العرب)) رجح فيها: أنه إنما يجب إخراجهم من الحجاز فقط محتجاً بما في رواية بلفظ: ((أخرجوا اليهود من الحجاز)) البدر الطالع(1/230)، والأعلام للزركلي(2/256).
وقال النووي رحمه الله : ( لكن الشافعي خصَّ هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو : الحجاز ، وهو [ أي : الحجاز ] – عنده – : مكة والمدينة واليمامة وأعمالها , دون [ أي : ما عدا ] اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب ) ( شرح صحيح مسلم ، تحت الحديث رقم 4208 ) .
بل قال ابن حجر عن قول الشافعي رحمهما الله أنه : ( مذهب الجمهور ) ( فتح الباري 6/198 ، تحت الحديث رقم 3053 )
وفي اختيارات ابن تيمية رحمه الله : ( ويُمنعون من المقام في الحجاز , وهو [ أي : الحجاز ] : مكة والمدينة واليمامة والينبع وفدك وتبوك ونحوها وما دون المنحني ، وهو عقبة الصوان من الشام كمعان ) ( اختيارات البعلي ص 264 )
وقال ابن تيمية رحمه الله : ( وقد أمر النبي في مرض موته أن تخرج اليهود والنصارى من جزيرة العرب – وهي الحجاز – فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من المدينة وخيبر وينبع واليمامة ومخاليف هذه البلاد ) ( الفتاوى 28/630 )
فإن قال قائل :
ما الدليل على بطلان حمل الحديث على جزيرة العرب التي في اصطلاح الجغرافيِّين ؟
فالجواب :
ما حكاه ابن حجر رحمه الله من اتّفاق العلماء على إخراج اليمن من الحكم النبوي ، مع أنها داخلة في جزيرة العرب عند الجغرافيين .
قال رحمه الله عن جزيرة العرب : ( لكن الذي يُمنع المشركون من سُكناه منها : الحجاز خاصّة ؛ وهو : مكة والمدينة واليمامة وما والاها , لا فيما سوى ذلك مما يُطلق عليه اسم جزيرة العرب ؛ لاتّفاق الجميع على أن اليمن لا يُمنعون منها مع أنها مِن جُملة جزيرة العرب ) ( فتح الباري 6/198 ، تحت الحديث رقم : 3053 )
فخروجها عن حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع دخولها في حكم الجغرافيين :
دليل قاطع على تباين الحكمين ، وبرهانٌ على سقوط الاستناد على الاصطلاح الجغرافي في فهم المراد النبوي .
الوقفة التاسعة:
هذا ما يسره الله من تأملات في فقه هذا الحديث ، نسأل الله أن يعز دينه ويعلي رايته وينصر سنة نبيه وأن يوفق جميع المسلمين لكل خير ، والله أعلى وأعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إخوانكم في اللجنة العلمية لموقع وحملة واحة النصيحة