تحتل القدس موقعا متقدما في فكر حماس
تحتل قضية القدس في الآونة الأخيرة مكانة متقدمة في التفكير السياسي الفلسطيني، نظرا لما يحصل فيها من تطورات متسارعة من قبل الآلة الإسرائيلية، البلدية والحكومية والعسكرية. وبالرغم من خطورة الموقف الميداني في مدينة القدس وضواحيها، فمن الواضح أن السلوك السياسي الفلسطيني، بمختلف مكوناته الفكرية وتشكيلاته السياسية، لم يرتق بعد إلى مستوى هذه المرحلة المفصلية من تاريخ المدينة، باختلاف نسبة التقصير هنا وهناك.
ولما كان لحركة حماس ذلك الدور البارز في تصدر المشهد السياسي الفلسطيني، فقد بات ملحا إلقاء نظرة على مواقفها المعلنة من هذه المسألة الحساسة، لاسيما أن مدينة القدس تتجاوز في فكر حماس وعقيدتها الجانب السياسي البحت، وتتخطاه لتصل إلى جذور دينية وتعبدية.
النصوص والترجمة
يعتبر ميثاق حركة حماس الوثيقة الأبرز والأهم –حاليا على الأقل- الذي يعبر عن المواقف المبدئية للحركة، بعيدا عن التغيرات التكتيكية والتحولات الموسمية، الأمر الذي يحتم إلقاء نظرة سريعة عليه، وتفقد مواضع ذكر القدس فيه، وأبعاد ذلك على سلوك حماس السياسي.فقد جاء في المادة الخامسة عشرة أنه "لابد من ربط قضية فلسطين في أذهان الأجيال المسلمة على أنها قضية دينية، ويجب معالجتها على هذا الأساس، فهي تضم مقدسات إسلامية حيث المسجد الأقصى، الذي ارتبط بالمسجد الحرام -رباطا لا انفصام له ما دامت السماوات والأرض- بإسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ومعراجه منه".
وجاء في المادة الثالثة والثلاثين أن "حركة المقاومة الإسلامية وهي تنطلق من المفاهيم العامة المتناسقة والمتساوقة مع سنن الكون كما تتدفق في نهر القدر في مواجهة الأعداء ومجاهدتهم، دفاعا عن الإنسان المسلم والحضارة الإسلامية والمقدسات الإسلامية، وفي طليعتها المسجد الأقصى المبارك، لَتهيب بالشعوب العربية والإسلامية وحكوماتها وتجمعاتها الشعبية والرسمية أن تتقي الله في نظرتها لحركة المقاومة الإسلامية، وفي تعاملها معها، وأن تكون لها كما أرادها الله سندا وظهيرا يمدها بالعون والمدد تلو المدد، حتى يأتي أمر الله".
وهكذا يتبين للمراقب عن بعد أن القدس احتلت موقعا متقدما في فكر حماس، وربما جاء ذلك انطلاقا من عدة اعتبارات:
1- البعد الديني للصراع العربي الإسرائيلي كما تراه حماس، إلى جانب النزاع على الحدود والأرض، فهناك جانب ديني ينبغي عدم إغفاله بحال من الأحوال، والقدس تمثل ذروة هذا الجانب الديني، الذي لا يخضع لمساومات قد تفرضها وقائع السياسة في وقت من الأوقات.
2- ضرورة "التجييش" الشعبي و"الحشد" الجماهيري، لاسيما أن الحركة ما زالت ناشئة بعد حين صدر الميثاق، الأمر الذي حتم عليها تقديم خطاب سياسي جديد يضع القدس في قلب الصراع، بعيدا عن الخطابات السياسية التي دأبت عليها الخارطة السياسية الفلسطينية، وجعلت القدس كغيرها من الأراضي، في الضفة الغربية وقطاع غزة.
3- لاحقا، شكلت القدس بؤرة متقدمة من السلوك العسكري لحركة حماس من خلال تنفيذ سلسلة من العمليات الفدائية، وتحديدا الاستشهادية في وقت مبكر من بروز هذه العمليات أوائل تسعينيات القرن الماضي، وأسست فيها عددا من الخلايا الفدائية التي "أرقت" مضاجع الأمن الإسرائيلي.
وهكذا حظيت القدس باهتمام الحركة، وشكلت بالنسبة لها المنطلق الذي يقوّم من خلاله أي موقف، فهي القيمة التي تثبت "مقدار الإيمان بالإسلام، والتمسك بالعروبة، والإخلاص لهما، والموقف منها هو الموقف الذي يثبت مقدار الوفاء للشعب، وتحقيق أهدافه وأحلامه في الحرية".
ودأب قادة حماس في كل مناسبة وطنية أو قومية على ذكر القدس، لأنهم يعتبرونها حاضرة دائما في وجدان كل عربي، لأن قضيتها لا تنفصل عن أي قضية عربية أخرى.
وقد أكد ذلك جملة من القادة السياسيين لحركة حماس، وكأن لسان حالهم يقول: موقفنا المبدئي من القدس ليس بغريب، فالقدس هي قلب العرب النابض، وعاصمة فلسطين، ومهد السيد المسيح عليه السلام، ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهي أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين، وهي التي دخلها عمر بن الخطاب، فجعلها ملتقى الأديان، وأرسى فيها قواعد السلام، بل جعلها مدينة السلام، ثم غزاها من بعد الصليبيون، وظلوا فيها مائتي عام، حتى حررها فيما بعد صلاح الدين الأيوبي، ولعل جزءا هاما من المفردات السابقة وردت في نصوص ميثاق حماس في مواضع مختلفة.
دلالات العمليات الفدائية
تتعرض القدس لحملة تهويد شرسة
اعتقدت حركة حماس أن القضية الفلسطينية تمر في مرحلة حساسة، شكلت قضية القدس أحد أهم محاور الصراع فيها، لما لهذه المدينة من أهمية سياسية ودينية وثقافية وإستراتيجية، لكن المدينة المقدسة باتت تعاني خلال السنوات الماضية معاناة خطيرة بسبب الإهمال المقصود وغير المقصود لها، في ظل غياب أي إستراتيجية ناجعة تتعامل مع الواقع الميداني المتردي.وتشكل صعوبة الوضع في القدس –بنظر حماس- معضلة حقيقية نجحت إسرائيل في فرضها على الواقع من خلال سياسة الضم والتهويد من ناحية، والفصل والتطهير العرقي من ناحية أخرى، وأخيرا جاء جدار الفصل العنصري في محاولة أخيرة لتعزيز المكانة الإسرائيلية في القدس على حساب الحقوق الفلسطينية.
وفور اندلاع انتفاضة الأقصى، انشغلت حماس بالعمل المقاوم، ووجهت جزءا هاما منه باتجاه القدس –كما مر معنا-، إلى أن نجحت إسرائيل في إحاطة المدينة بالجدار الفاصل، وكثفت من عملياتها الأمنية وملاحقاتها المكثفة لخلايا المقاومة، الأمر الذي جعل القدس مدينة آمنة لليهود –نسبيا- قبل أن تندلع في الأشهر الأخيرة عمليات "الدهس" التي شكلت القدس بؤرتها الحقيقية، وسقط خلالها العشرات من الإسرائيليين، بين قتيل وجريح.
وقد أعربت مصادر أمنية إسرائيلية عن مخاوفها من تصاعد وتيرة العمليات التي تنفذها قوى المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حماس، في القدس المحتلة، ويقف وراءها مقدسيون في الفترة الأخيرة، لاسيما في أعقاب نجاح مقاومين فلسطينيين في تنفيذ عدة عمليات دهس بالجرافات والمركبات، أو عمليات إطلاق نار استهدفت جنودا إسرائيليين، ما أثار من جديد قلقا إزاء انعدام الإحساس بالأمن الشخصي لدى الإسرائيليين بعد عدة سنوات من الهدوء.
وكشفت معلومات الأجهزة الأمنية عن وقوع ست عمليات في القدس منذ مطلع العام الحالي، أدت لمقتل 13 إسرائيليا وإصابة العشرات، وبقراءة متأنية لما يرد في التقارير الأمنية الإسرائيلية، فإن قلقها من العمليات التي ينفذها مقدسيون ضد الاحتلال يعود لجملة أسباب:
1- أن هذه العمليات تتم بشكل متواصل خلال الشهور الماضية دون انقطاع، وأنه وجد بالتحقيق عدم وجود علاقة بين منفذي العمليات بعضهم ببعض، أو ما أسمته أجهزة أمنية إسرائيلية بـ"ظاهرة الإرهابي المنفرد"، وتدعي أنه في كل عملية من هذا النوع فإن المنفذ يستفيد من تجربة سابقه.
2- عدم وجود أي صلة "مثبتة" بين المنفذين السائقين وفصائل المقاومة، أي أن تحركهم "يتم بدون توجيهات من الخارج" في الضفة الغربية وقطاع غزة، في حين شهد السابق أن أشخاصا مقدسيين عملوا أساسا كوحدات دعم للهجمات بموجب تعليمات من شبكات خارجية في قطاع غزة والضفة الغربية، لكنه في الأشهر القليلة الماضية رصد تغيرا ملموسا، حيث ينفذ أشخاص من القدس هجمات بدون توجيه من الخارج.
3- سهولة تنفيذ عمليات الدهس بالمركبات المختلفة، وصعوبة التنبؤ بها والكشف عنها، وتدعي معطيات "الشاباك" أن الخلايا المقدسية تخطط لعمليات وتقوم بتنفيذها بناء على معرفتها بالمنطقة، ومن خلال استغلال البطاقة الشخصية الزرقاء الموجودة بحوزتهم، التي تتيح لهم التحرك بحرية وجمع المعلومات وحيازة وسائل ومواد لا تباع في الضفة الغربية.
وعلى صلة بسهولة تنفيذ هذه العمليات؛ قال محلل إسرائيلي: "من الممكن أن يكون الحصول على بندقية أو مسدس أمرا صعبا بدون إثارة انتباه قوات الأمن، إلا أن الجرافة سلاح في متناول اليد ولا يقل فتكا عن السلاح الحقيقي، مع الإشارة إلى أن منفذي العمليات الأخيرة اكتفوا بمركبات خاصة".
وبسبب كل الظروف والملابسات المحيطة بعمليات القدس الأخيرة؛ اضطر رئيس الحكومة السابق "إيهود أولمرت" للاعتراف بأنه ليس هناك طريق سهل لمنع "العمليات الاستشهادية"، بعد عملية القدس التي نفذها سائق فلسطيني، كان يستقل سيارة خصوصية، وأسفرت عن إصابة 19 جنديا، قبل أن يستشهد بعد إعدامه من قبل الشرطة.
وردا على من وصفهم بمطلقي "الشعارات الرنانة" حول أمن القدس، قال "أولمرت" مبررا الإخفاق في مواجهة المقاومة "المقدسية" التي ازدادت فاعليتها في الآونة مبتكرة وسائل جديدة للمقاومة: "علينا أن نعي وجود 270 ألف عربي يقيمون في القدس، يتحركون بحرية في سيارات بلوحات أرقام صفراء اللون"، مشيرا إلى أن الأمر لم يعد يتوقف على جرافة أو سيارة كبيرة، بل امتد إلى كل سيارة خاصة.
وفي محاولة لتحليل دوافع تنفيذ هذه العمليات الفدائية في القدس على نحو متواصل وفقا للتقديرات الإسرائيلية، أرجعت نخبة من المراقبين الإسرائيليين ذلك إلى رغبة حماس وسواها من القوى الفلسطينية، لاسيما الإسلامية منها، في تقليد نجاحات الآخرين، وفشل مفاوضات التسوية بين السلطة الفلسطينية وحكومة تل أبيب.
إلا أن التحليل الأقرب إلى الصواب، ما أعلنه جهاز المخابرات "الشاباك" عن هدف الفلسطينيين من خلال تنفيذ العمليات في القدس "أنهم يسعون لتأكيد أنهم لا يمكن أن يفرطوا في المدينة المقدسة، ولا يمكن أن يسلموا باستبعادها من جدول أعمال المفاوضات" في إطار ما يسمى بقضايا الوضع النهائي.
كما أن الوعي بجدار الفصل العنصري، يخلق انفصالا طويل المدى بين القدس والضفة الغربية، وأن بعض الهجمات الفلسطينية جاءت نتيجة رغبة الفلسطينيين في ضمان ألا تختفي القدس من على جدول الأعمال السياسي.
الخطاب السياسي
وبعكس ما درجت عليه القوى الوطنية الفلسطينية التي تطالب بدولة عاصمتها القدس الشرقية، فإن رؤية حركة حماس حول الدولة مغايرة، لا تفرق فيها بين القدس الشرقية والغربية، وكما جاء على لسان عدد من قادة الحركة ورموزها الدينية فـ"إذا كان البعض يفرق بين قدس شرقية وغربية، فحماس تراها قدسا واحدة إسلامية، غير قابلة للمساومة"، وإن كان هناك بعض القراءات المستجدة على خطاب حماس السياسي، انطلاقا من قناعتها بالحل المرحلي.وبالتالي فقد درج الخطاب السياسي لحركة حماس على التنديد بما يتهدد المسجد الأقصى ويعرضه لخطر التهويد والانهيار، ودأبت في بياناتها الإعلامية على التأكيد على جملة من المواقف الثابتة تجاه القدس أبرزها:
1- دعوة المجتمع الدولي إلى إصدار موقف واضح يدين فيه التهديدات التي يتعرض لها المسجد الأقصى، والضغط على إسرائيل كي توقف فورا الحفريات التي تشكل خطرا عليه، كما تدعو الأنظمة العربية والإسلامية إلى وقفة جادة في مواجهة المخططات الإسرائيلية التي تستهدف المسجد الأقصى وسائر المقدسات، وإلى تحمّل مسئولياتها بالحفاظ عليها.
2- تحميل إسرائيل كامل المسئولية عن أي اعتداء أو ضرر يصيب المسجد الأقصى المبارك، وكل ما قد يترتب عن الحفريات التي يقوم بها الاحتلال.
3- دعوة أبناء شعبنا الفلسطيني للتصدي لمخططات العدو التي تستهدف المساس بالمسجد الأقصى، ودعوة الشعوب العربية والإسلامية لنصرة الأقصى والمقدسات، والدفاع عنه بكل الوسائل المشروعة.
4- إن حركة حماس، لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء هذه التهديدات المتواصلة، وستحمي الأقصى والمقدسات بكل ما أوتيت من جهد، وتؤكد أن الرد على المساس بالمسجد الأقصى لابد أن يكون متناسبا مع القدسية التي يحتلّها في أفئدة أبناء الشعب الفلسطيني بشكل خاص، والأمة العربية والإسلامية بشكل عام.
ومع ذلك، فإن إنصاف الحقيقة يتطلب التأكيد على أن انشغال حماس المتواصل بالحصار المفروض عليها، والحرب التي تشن عليها يوميا عبر أكثر من محور ودائرة، قد تكون ساهمت بصورة أو بأخرى إلى "تراجع" نسبي في سلم أولوياتها السياسية والوطنية، لاسيما موضوع القدس.
وبالتالي فإن نجاح إسرائيل الأخير في تصعيد عملياتها الاستيطانية ومخططاتها التهويدية في المدينة المقدسة، لا يمكن بحال من الأحوال عزله عن القضايا الإستراتيجية التي تشكل إجماعا فلسطينيا كاملا، يتمثل في قضية القدس.
علما بأن هذا الانشغال لم يجعل حماس –إعلاميا وسياسيا- تغيب قضية القدس عن خطابها السياسي، وحضورها الإعلامي، على العكس من ذلك فقد بقيت المدينة تشكل محور اهتمامها بدرجة أو بأخرى، رغم أن المدينة تحتاج أكثر من ذلك بكثير، على الأقل في ضوء مكانتها وقيمتها الدينية والعقائدية لدى الحركة.
عدنان أبوعامر 11-05-2009