كانت السنة العاشرة من الهجرة و لم يحجّ رسول الله صلى الله عليه و سلم بعد إذ أنّ الحج فرض في العام التاسع من الهجرة فأعلن النبي عليه الصلاة و السلام الحجّ و توافد الناس إليه و أخذ معه عائشة و سار باتجاه مكة فدخلها في شهر ذي القعدة .
و أحرم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحجّ إفرادا و في رواية قرانا و كان معه الهدي .
و طاف عليه الصلاة و السلام و أمر الناس أن يحرموا بعمرة لكي لا يشقّ عليهم فأحرم الناس بعمرة ثم أحلّوا و بقي محرما إلى يوم التروية فأمر الناس بالسير إلى منى فبات اليوم الثامن فيها ثم خرج إلى عرفة في اليوم التاسع حيث شهد أول موقف لدولة الإيمان حول رسول الله صلى الله عليه و سلم جند الله تعالى محرمين ملبّين بعد أن كادت تلك الأرض أن تيأس من أن يعبد الله تعالى وحده فوقها . و وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرى الناس مناسكهم و علّمهم حجّهم و وقف يخطب بهم في عرفات فحمد الله تعالى و أثنى عليه ثم قال :" أيها الناس اسمعوا قولي فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا .
أيها الناس إنّ دماءكم و أموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا و إنّ كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع و دماء الجاهلية موضوعة و إنّ أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث وربا الجاهلية موضوع و أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنّه موضوع كله .
أيها الناس إنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا و لكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به ممّا تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم فإنّ خطر المعاصي على القلوب لعظيم .
أيها الناس إنّ النّسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما و يحرّمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرّم الله فيحلّوا ما حرّم الله و يحرّموا ما أحلّ الله و إنّ الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات و الأرض السّنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات : ذو القعدة و ذو الحجّة. والمحرّم و مضر الذي بين جمادى وشعبان (أي رجب).
و بهذا يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أعلن في كلامه عن تطابق الزمن إذ ذاك مع أسماء الأشهر المقسّم عليها و ذلك بعد طول تلاعب بها من العرب في الجاهلية و صدر الإسلام فقد كانوا كما قال مجاهد و غيره يجعلون حجّهم كل عامين في شهر معيّن من السّنة فيحجّون في ذي الحجّة عامين ثم في المحرّم عامين و هكذا .
فلمّا حجّ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا العام وافق حجّه شهر ذي الحجة و أعلن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ ذاك أنّ الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات و الأرض أي فلا تتلاعبوا بالأشهر تقديما و تأخيرا و أنّه لا حجّ بعد اليوم إلا فيهذا الزمن الذي استقر اسمه "ذا الحجة". و ذكر بعضهم أن المشركين كانوا يحسبون السّنة اثنى عشر شهرا وخمسة عشر يوما فكان الحج في رمضان و في شوال و ذي القعدة ..و في كل شهر من السنة و ذلك بحكم استدارة الشهر بسبب زيادة الخمسة عشر يوما. و لقد كان حجّ أبي بكر في السنة التاسعة من الهجرة واقعا في شهر ذي القعدة بسبب ذلك فلمّا كان العام المقبل و فيه قام رسول الله صلى الله عليه و سلم بحجّ الوداع وافق حجّه ذا الحجة في العشر منه و طابق الأهلّة ن و أعلن حينئذ عليه الصلاة و السلام نسخ الحساب القديم للزمن و أنّ السّنة إنّما تعتبر بعد اليوم اثنى عشر شهرا فقط فلا تداخل بعد اليوم.
قال القرطبي : و هذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه و سلم : إنّ الزمان استدار .. أي إنّ زمان الحج قد عاد إلى وقته الأصلي الذي عيّنه الله تعالى يوم خلق السماوات و الأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه .
ثم قال صلى الله عليه و سلم : "فإنّ لكم على نسائكم حقاّ و لهنّ عليكم حقا لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه و عليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع و تضربوهنّ ضربا غير مبرّح فإن انتهين فلهن رزقهن و كسوتهن بالمعروف .
أيها الناس استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا و إنّكم إنّما أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا قولي إنّي قد بلّغت و قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا بعدي كتاب الله و سنّة نبيّه .
أيها الناس اسمعوا قولي و اعقلوه تعلمنّ أنّ كل مسلم أخ للمسلم و أنّ المسلمين إخوة فلا يحلّ لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمنّ أنفسكم اللهمّ هل بلّغت ؟ فقال الناس : نعم .
فقال : "اللهمّ اشهد عليهم". ثم أفاض الرسول المصطفى صلى الله عليه و سلم من عرفات و عاد إلى المدينة فأقام بها ثلاثة أشهر : ذي الحجّة و المحرّم و صفر ثم هيّأ جيش أسامة الحبّ ابن الحبّ ليغزوا فيه أرض فلسطين في المكان الذي قتل فيه سيدنا زيد بن الحارثة و جعفر بن أبي طالب و عبد الله بن رواحة رضوان الله عليهم في معركة مؤته.
بعد هذه الأشهر الثلاثة في وسط صفر-كما نقل أكثر الرواة - بدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشكوى من رأسه و كان ذلك بعد حجّة الوداع بإحدى و ثمانين يوما و أنزل الله تعالى قوله :
{إذا جاء نصر اللّه والفتح * ورأيت النّاس يدخلون في دين اللّه أفواجا * فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّابا} [النصر: 1-3]. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " نعيت إليّ نفسي " . فلمّا قالها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له جبريل : يا أخي و للآخرة خير لك من الأولى . و جاء سيدنا جبريل يستعرض معه القرآن فقرأه معه مرتين و اجتهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعبادة حتى صار كالثوب البالي من كثرة العبادة و كان كل يوم عندما يذهب و يجيء يقول : سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه . فقالت له أم سلمة : يا رسول الله إنّك تدعو بدعاء لم تدعه من قبل . فقال : " إنّ ربي أخبرني أنّني سأرى علما في أمّتي و أنني إذا رأيته أسبّح بحمده و أستغفره ثم قرأ قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله و الفتح ...} . و قبل وفاته صلى الله عليه و سلم بأيام خرج إلى قتلى أحد بعد ثمان سنين فوقف إليهم و سلم عليهم و حيّاهم و أكثر من الصلاة عليهم ثم عاد فصعد المنبر و جمع الناس فقال : أيها الناس إني بين أيديكم فرط و أنا عليكم شهيد و إنّ موعدكم الحوض و إني لأنظر إليه و أنا في مقامي هذا و إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض و إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي و لكني أخشى عليكم أن تنافسوا فيها كما تنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكتكمثم جلس ثم قام فقال : أيها الناس إنّ عبدا خيّره الله أن يؤتيه زخرف الدنيا و بين ما عنده فاختار ما عند مولاه . فقام أبو بكر و قال : فديناك بآبائنا و أمهاتنا يا رسول الله ! فتعجّب الناس من الصدّيق و قالوا لم فعل هذا ؟ إنّما يقول عن عبد خيّره الله تعالى و لكن الصدّيق فهم من هذا العبد المخيّر ثم قال الرسول صلى الله عليه و سلم : إنّ أمنّ الناس عليّ بصحبته و ماله أبو بكر كلّ من كان له عندنا يدا كافأناه عليها إلا الصدّيق فإنا نترك مكافأته لله لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتّخذت أبا بكر خليلا و لكن أخوّة الإسلام لا يبقى في المسجد باب إلا ويغلق ألا باب أبي بكر.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم فما رؤي بعدها على المنبر جالسا إلا مرة.
ثم دخل عليه الصلاة و السلام إلى بيته و في الليل خرج فرأى رجلا من الصحابة فقال : يا فلان إني أمرت أن أستغفر لأهل أحد فاخرج معي . فخرج في منتصف الليل إلى أحد فاستغفر لهم و دعا لهم ثم عاد إلى البيت فدخل فإذا بعائشة قد عصبت رأسها من الألم فقالت : يا رسول الله وا رأساه . قال : بل أنا يا عائشة وا رأساه .
ثم بدأ يدور على أزواجه حتى أتعبه المرض فاستأذن أن يمرّض في بيت عائشة فأذنوا له فحمله سيدنا العباس و سيدنا عليّ و إنّ رجلاه لتخطّان على الأرض خطا لا يستطيع الوقوف عليهما من شدة المرض فدخل بيت عائشة فقالت : بأبي أنت و أمي يا رسول الله . ثم جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتها و اشتدّت عليه الحمى فدعا عائشة و حفصة و طلب أن يأتوه بقرب من آبار متعددة لتكون باردة فجاءوا بسبع قرب فجلس في مخضب و وضع الماء عليه و هو يشير أن صبوا عليّ منها . يقول العباس : و كنت إذا لمسته ضربتني الحمّى فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزع كما ينزع الرجال من الناس .
و عن عبد الله بن عمر قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يوعك وعكا شديدا فقلت يا رسول الله إنّك توعك وعكا شديدا فقال عليه الصلاة و السلام : أجل إنني أوعك كما يوعك رجلان منكم قلت :ذلك أن لك لأجرين قال : أجل ذلك أن ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته .
و أخرج النسائي عن فاطمة بنت اليمان أنها قالت : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم في نساء نعوده فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمى وضعوا وعاء ماء يقطر عليه ليبرد عنه شدة الحمى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أشدّ الناس بلاء: الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" .
و روي عن عروة أنه صلى الله عليه و سلم قال : "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر من الشاة المسمومة " .
و قد توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم شهيدا فهو قد نال صفات كمال البشر جميعا وهو سيد الكرماء و سيد العقلاء و سيد الحكماء .
و كان ابن مسعود و غيره من الصحابة يرون أنه مات شهيدا بالسّمّ .
نقل البخاري عن عائشة قولها : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مرض أو اشتكى نفث على نفسه بالمعوّذات و كان ينفث فيمسح بها يده فلما مرض مرضته هذه كنت أنا أقرأ و أمسح على النبي صلى الله عليه و سلم. وقد جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما و كان المرض قد اشتد به أسكت فلم يعد قادرا على الكلام فدخل عليه سيدنا أسامة و كان قد جهز الجيش للمسيرة فتوقّف فأجلسه رسول الله صلى الله عليه و سلم بين يديه و هو غير قادر على الكلام فكان يضع يده على سيدنا أسامة ثم يرفع يديه إلى السماء قال سيدنا أسامة : فعرفت أنه يدعو لي ثم يضمني إلى صدره ثم يرفع يديه إلى السماء ثم يمسحني بيديه . ثم فتح عينيه و قال عليه الصلاة و السلام :" يا عائشة إنه ليهون عليّ الموت أني رأيتك في الجنة" ففرحت عائشة .
و كان في بيته حين مرضه سبعة دنانير فإذا أغمي عليه ثم أفاق صحا يقول : يا عائشة تصدّقي بها فإذا استيقظ قال ما فعلتم بالمال ؟ يقولون : يا رسول الله شغلنا بك يقول : ما ظنّ محمد بربّه لو لقي الله وعنده هذه الدنانير تصدّقوا بها كلها .ثم دعا النبي صلى الله عليه و سلم سيدتنا الزهراء فاطمة فلمّا دخلت عليه ابتسم و قرّبها منه وهمس في أذنها فسارّها بشيء فبكت ثم دعاها فسارّها بشيء فضحكت فسألتها عائشة فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه و سلم. وكان صلى الله عليه و سلم إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها و قبّلها وأجلسها في مجلسه فلما مرض ودخلت عليه لم يستطع القيام فأكبّت على يديه فقبّلتهما و قبّلته من وجنتيه فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "يا فاطمة إنّ جبريل كان يعاودني القرآن كل سنة مرة وإنه عاودني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي ويا فاطمة أبشري إنك أول أهل بيتي لحوقا بي".
و عن عائشة قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة : "يا فاطمة أخبرني جبريل أنه ليس من نساء المسلمين أعظم مصابا منك بي بعدي فلا تكوني أدنى امرأة منهم صبرا فاصبري يا ابنتي و احتسبي عند الله أجرك تكوني أول الناس لحوقا بي" فقامت فاطمة و قالت : احتسبتك عند الله " . و كانت رضي الله عنها قد توفيت بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بستة أشهر.
و في ليلة الوفاة و يقال ليلة الاثنين عند صلاة الفجر و المسلمون ينتظرون رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث السيدة عائشة و قال لها : " مري أبا بكر فليصلّ بالناس " فقالت: يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل ضعيف الصوت فقال عليه الصلاة و السلام : "إنّكن صويحبات يوسف مرن أبا بكر فليصلّ بالناس" فقالت: يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل رقيق لا يستطيع أن يقف مكانك و أنت مريض و إذا قرأ القرآن لا يسمع الناس قراءته من كثرة بكائه فقال عليه الصلاة و السلام : "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس" . فصلى أبو بكر سبعة عشر صلاة بالناس فلما ازداد مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعا امتلأ المسجد بالناس لا يغادرونه حتى يطمئنوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كان فجر ذلك اليوم الذي غادر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم الدنيا فوقف أبو بكر يؤمّ الناس فإذا برسول الله صلى الله عليه و سلم يفتح حجاب البيت و ينظر فيجد المسجد ملء فيبتسم و يقول الحمد لله ثم ينادي على عليّ و الفضل و العباس فيحملونه فيدخل المسجد و هو يخط بقدميه الأرض خطا . فابتسم الناس و علت أصواتهم بالحمد و أحسّ أبو بكر أن رسول الله خرج فتراجع و وقف مع المصلّين فأمره رسول الله بالوقوف و جلس بجانبه و اقتدى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي بكر و في رواية أخرى اقتدى أبو بكر بالرسول صلى الله عليه وسلم و اقتدى الناس بأبي بكر أي كان أبو بكر مبلّغا (و من هنا قال الشافعية الأدب مقدّم على الأمر ) .
ثم بعد أن انتهى من الصلاة أمرهم أن يصعدوه المنبر فجلس على أسفله لم يستطع أن يرتفع كثيرا ثم حمد الله تعالى و أثنى عليه و صلى على نفسه ثم قال : أيها الناس بلغني أنكم تخافون موت نبيّكم هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليهم فأخلد فيكم ؟ ألا و إني لاحق بربي ألا و إنكم لاحقون بي فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا و أوصيكم في ما بينهم خيرا فإنّ الله يقول : {والعصر * إنّ الإنسان لفي خسر * إلا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصّبر} [العصر: 1-3] إنّ الأمور تجري بإذن الله فلا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله إنّ الله لا يعجل بعجلة أحد و من غالب الله غلبه و من خادع الله خدعه فهل عسيتم أن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض و تقطّعوا أرحامكم .
أيها الناس أوصيكم بالأنصار خيرا فإنهم الذين تبوّأوا الدار و الإيمان من قبلكم و أن تحسنوا إليهم . أيها الناس ألم يشاطروكم في ثمارهم ألم يوسعوا لكم في ديارهم ألم يؤثروكم على أنفسهم و بهم الفقر و الخصاصة ؟!!!
ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم و ليتجاوز عن مسيئهم ألا ولا تستأثروا عليهم ألا و إني فرط لكم ( أي ذاهب قبلكم ) فأنتم لاحقون بي ألا إنّ موعدكم الحوض فمن أحبّ أن يرده عليّ غدا فليكف يده و لسانه إلا فيما ينبغي . يا أيها الناس إنّ الذنوب تغيّر النّعم و تبدّل القسم فإذا ضر الناس ضرهم أئمّتهم و إذا فجروا عقّهم أئمّتهم ثم قال : حيّاكم الله بالسلام رحمكم الله جبركم الله رزقكم الله نصركم الله رفعكم الله آواكم الله أوصيكم بتقوى الله أستخلفه عليكم أحذّركم الله إني لكم منه نذير مبين ألا تعلوا على الله في بلاده و عباده فإنه قال لي و لكم : {تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتّقين} [القصص: 83] . فقام رجل و قال : يا رسول الله متى أجلك ؟ قال : يا أخي دنا الفراق و المنقلب إلى الله و إلى الجنة المأوى .قلنا من يغسّلك ؟ قال : رجال أهل بيتي قلنا و بما نكفّنك ؟ قال : بثيابي و إن شئتم في ثياب بياض مصر . قلنا يا رسول الله : من يصلي عليك ؟ قال : إذا أنتم غسّلتموني و كفّنتموني فضعوني على سريري هذا على شفير قبري ثم انصرفوا عني ساعة فإنّ أول من يصلي عليّ جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت و أعوانه من جنود الملائكة ثم ادخلوا عليّ أفواجا أفواجا فصلوا عليّ و سلّموا تسليما . ثم ليبدأ بالصلاة عليّ رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم و أقرئوا السلام على من تبعني على ديني من يومي هذا إلى يوم القيامة .
تقول السيدة عائشة : لم يقبض نبي حتى يريه الله تعالى مقعده في الجنة تقول : فرأيت الرسول صلى الله عليه و سلم قد أغمض عينيه و رفع يده إلى السماء ففهمت أنه يقول ربي أريد ربي هنا دخلت فاطمة فرات أباها في النّزع فقالت : وا كرب أبتاه فقال صلى الله عليه وسلم : لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة ثم قبض روحه ملك الموت فسمع صوت في البيت يقول: " إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك و دركا من كل فائت فبالله فثقوا وإيّاه فارجوا وإنّما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله ". تقول عائشة : فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه بين صدري و نحري و طلب شيئا من الماء وضعه على شفتيه و قال : "اللهم سهّل عليّ سكرات الموت" . و بدأ ينزع عليه الصلاة والسلام وأنا أنظر إليه ما أدري ما الأمر فإذا به يثقل ويثقل ونظرت فإذا هو قد شخص ببصره إلى السماء فعرفت إنه قد قبض فوضعت رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم وخرجت وأنا أبكي فاستقبلني الناس وكان عمر على الباب فلمّا سمع خبل وجاءت النساء فرأوا الرسول صلى الله عليه وسلم شاخصا فإذا برجل يصيح من باب المسجد : وا رسول الله!!! فسمع أبو بكر الصوت على بعد من المدينة فإذا به يركض متّجها إلى المسجد و هو يهدّ الأرض هدّا و يصل إلى المسجد فإذا بعمر قد أخذ سيفه ووقف أمام الناس و هو يقول : من يقول إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات أضرب عنقه إنّه لم يمت و لن يموت!.
فجاء الصدّيق فدخل على الرسول صلى الله عليه و سلم و عيناه تنهمران و زفراته تتردد و كان قد غطّي وجهه الكريم صلى الله عليه و سلم فجلس على ركبتيه و كشف عن وجه صاحبه و مسحه و جعل يبكي ويقول : " بأبي أنت و أمي يا حبيبي طبت حيّا و ميتا لقد انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء جللت يا حبيبي عن البكاء و لو أنّ موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بأرواحنا يا حبيبي يا رسول الله لولا أنّك نهيتنا عن البكاء لأنفدنا عليك ماء العيون لا يبرحان بنا إلى أن نلقاك بأبي أنت و أمي يا رسول الله أمّا الميتة التي وعدك الله إيّاها فقد ذقتها فلا ألم عليك بعد اليوم". ثم رفع يديه وقال: "اللهم أبلغه عنّا السلام أذكرنا يا محمد عند ربك و لنكن في بالك فلولا ما خلّفت من السكينة لم نقم أبدا اللهم أبلغ نبيك عنّا و احفظه فينا " . ثم خرج فرأى عثمان يأتي المسجد و قد خرس لسانه أمّا سيدنا عليّ فكأن رجلاه قد شلت فلا يستطيع القيام . ثم دخل أبو بكر إلى المسجد و عمر يجول كالأسد و لا يرضى أن يقول أحد بأنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قد مات .
فصعد على المنبر و قال : إليّ إليّ أيها الناس فاجتمعوا حول الصدّيق فقال رضوان الله تعالى عليه : " أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله و أشهد أنّ الكتاب كما نزّل و أنّ الدين كما شرّع و أنّ الحديث كما حدّث و أنّ الله هو الحق المبين .
أيها الناس من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لن يموت إلا أنّ الله تعالى قبضه إلى ثوابه و خلّف فيكم كتابه و سنّة نبيّه فمن أخذ بهما عرف و من فرّق بينهما أنكر و لا يشغلنّكم الشيطان بموت نبيّكم و لا يلفتنّكم عن دينكم " . فلمّا فرغ من خطبته قال : يا عمر أنت تقول أنّ النبي صلى الله عليه و سلم ما مات ! قال : نعم يا أبا بكر . فقال أبو بكر : أنسيت قول الله تعالى : {إنّك ميّت وإنّهم ميّتون} [الزمر: 30] و في رواية أخرى تلا أبو بكر قوله تعالى: {وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران : 144]. فسقط سيدنا عمر مغشيّا عليه و تيقّن أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قبض.
ثم ذهب الناس و كأنّ المدينة قد غطتها سحابات الحزن و اجتمعوا في ثقيفة بني ساعدة و كانت الخلافة للصدّيق .
ثم دخل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم: العباس و عليّ بن أبي طالب يغسلون النبي صلى الله عليه و سلم . و حاروا كيف يغسّلونه أيجرّدونه ثيابه أم يتركونها عليه ؟ فجاءتهم سنة من النوم جميعا ( فناموا ) فما استيقظوا إلا وصوت يقول لهم : غسّلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثيابه.
فغسلوه عليه الصلاة و السلام في ثيابه ثم بدأوا بالتكفين بأثواب بيض فكفّنوه بثلاثة أثواب ثم بدأوا الصلاة فخرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركوه ساعة من النهار ثم صلوا على النبي عليه الصلاة و السلام ثم بدأ الناس يدخلون على رسول الله صلى الله عليه و سلم أفواجا أفواجا وهم يصلّون عليه بلا إمام فرسول الله صلى الله عليه و سلم إمام الأئمة.
ثم جاؤوا فحفروا القبر الشريف تحت فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم فلمّا فرغوا و أنزلوا النبي عليه الصلاة و السلام فيه و بدأوا بحثي التراب وبعد أن خرجوا إذ بفاطمة الزهراء تقبل فلمّا دخلت البيت ورأت القبر قد سمد استدارت إلى الصحابة و قالت: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على أبي!! ثم مالت على تربة أبيها وقالت:
ماذا على من شمّ تربة أحمد ألاّ يشم مدى الزمان غوالي
وصبّت عليّ مصائب لو أنّها صبّت على الأيام عدنا ليالي
فأخذها سيدنا عليّ وأقامها وأدخلها بيتها و هي تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أتحت التراب تكون؟!!!
يقول أنس رضي الله عنه : "ما رأيت أوضأ ولا أضوأ من يوم أن دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مهاجرا فلمّا دفنّاه ما رأيت أظلم من ذاك اليوم".
و يقول الصحابة بعد ذلك إذا أصيب أحدنا بمصاب كنّا نعزّيه فنقول يا أخي أذكر مصابك برسول الله صلى الله عليه و سلم فينسى مصابه.
إنّه لأعظم مصاب و لكن نحن رضينا بقضاء الله و قدره إنّ العين لتدمع و إنّ القلب ليحزن و إنّا على فراقك يا رسول الله لمحزونون و لا نقول إلا ما يرضي ربنا :
( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ) ثم ذهب بلال إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم أبي بكر فقال له : إني سمعت رسول الله يقول أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله .
قال له أبو بكر : فما تشاء يا بلال ؟ قال بلال : أردت أن أرابط في سبيل اللهتعالى حتى أموت . فقال أبو بكر: و من يؤذّن لنا؟ قال بلال و عيناه تفيضان من الدمع: إنّي لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال أبو بكر: بل ابق و أذّن لنا يا بلال .
قال بلال : إن كنت أعتقتني لأكون لك فليكن ما تريد و إن كنت أعتقتني لله فدعني و ما أعتقتني له . فقال أبو بكر : بل أعتقتك لله ! .
فنذر بلال بقية حياته و عمره للمرابطة في ثغور الإسلام مصمّما على أن يلقى الله تعالى و رسوله و هو على خير عمل يحبّانه . ولم يعد يصدح بالآذان صوته الشّجي الحنون المهيب ذلك أنه لم يكن ينطق في أذانه " أشهد أنّ محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذكريات فيختفي صوته تحت وقع أساه و تصيح بالكلمات دموعه و عبراته .و كان آخر أذان له أيام أن زار الشام أمير المؤمنين عمر و توسّل المسلمون إليه أن يحمل بلالا على أن يؤذّن لهم . و صعد بلال و أذّن فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و بلال يؤذن له بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا و كان عمر أشدهم بكاء .
و مات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد فرضي الله تعالى عنه و عن سائر الصحابة الكرام .
وفي الختام أقتبس هذا البيت من قصيدة حسان بن ثابت في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض التصرف فأقول :
كتبت ما يسر الله في وصفه لعلي في جنة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
(الصلاة والسلام عليك يا رسول الله)
و أحرم رسول الله صلى الله عليه و سلم بالحجّ إفرادا و في رواية قرانا و كان معه الهدي .
و طاف عليه الصلاة و السلام و أمر الناس أن يحرموا بعمرة لكي لا يشقّ عليهم فأحرم الناس بعمرة ثم أحلّوا و بقي محرما إلى يوم التروية فأمر الناس بالسير إلى منى فبات اليوم الثامن فيها ثم خرج إلى عرفة في اليوم التاسع حيث شهد أول موقف لدولة الإيمان حول رسول الله صلى الله عليه و سلم جند الله تعالى محرمين ملبّين بعد أن كادت تلك الأرض أن تيأس من أن يعبد الله تعالى وحده فوقها . و وقف رسول الله صلى الله عليه و سلم فأرى الناس مناسكهم و علّمهم حجّهم و وقف يخطب بهم في عرفات فحمد الله تعالى و أثنى عليه ثم قال :" أيها الناس اسمعوا قولي فإنّي لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا .
أيها الناس إنّ دماءكم و أموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا و إنّ كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع و دماء الجاهلية موضوعة و إنّ أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث وربا الجاهلية موضوع و أول ربا أضع ربا العباس بن عبد المطلب فإنّه موضوع كله .
أيها الناس إنّ الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا و لكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به ممّا تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم فإنّ خطر المعاصي على القلوب لعظيم .
أيها الناس إنّ النّسيء زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما و يحرّمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرّم الله فيحلّوا ما حرّم الله و يحرّموا ما أحلّ الله و إنّ الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات و الأرض السّنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات : ذو القعدة و ذو الحجّة. والمحرّم و مضر الذي بين جمادى وشعبان (أي رجب).
و بهذا يكون رسول الله صلى الله عليه و سلم قد أعلن في كلامه عن تطابق الزمن إذ ذاك مع أسماء الأشهر المقسّم عليها و ذلك بعد طول تلاعب بها من العرب في الجاهلية و صدر الإسلام فقد كانوا كما قال مجاهد و غيره يجعلون حجّهم كل عامين في شهر معيّن من السّنة فيحجّون في ذي الحجّة عامين ثم في المحرّم عامين و هكذا .
فلمّا حجّ رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا العام وافق حجّه شهر ذي الحجة و أعلن رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ ذاك أنّ الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات و الأرض أي فلا تتلاعبوا بالأشهر تقديما و تأخيرا و أنّه لا حجّ بعد اليوم إلا فيهذا الزمن الذي استقر اسمه "ذا الحجة". و ذكر بعضهم أن المشركين كانوا يحسبون السّنة اثنى عشر شهرا وخمسة عشر يوما فكان الحج في رمضان و في شوال و ذي القعدة ..و في كل شهر من السنة و ذلك بحكم استدارة الشهر بسبب زيادة الخمسة عشر يوما. و لقد كان حجّ أبي بكر في السنة التاسعة من الهجرة واقعا في شهر ذي القعدة بسبب ذلك فلمّا كان العام المقبل و فيه قام رسول الله صلى الله عليه و سلم بحجّ الوداع وافق حجّه ذا الحجة في العشر منه و طابق الأهلّة ن و أعلن حينئذ عليه الصلاة و السلام نسخ الحساب القديم للزمن و أنّ السّنة إنّما تعتبر بعد اليوم اثنى عشر شهرا فقط فلا تداخل بعد اليوم.
قال القرطبي : و هذا القول أشبه بقول النبي صلى الله عليه و سلم : إنّ الزمان استدار .. أي إنّ زمان الحج قد عاد إلى وقته الأصلي الذي عيّنه الله تعالى يوم خلق السماوات و الأرض بأصل المشروعية التي سبق بها علمه .
ثم قال صلى الله عليه و سلم : "فإنّ لكم على نسائكم حقاّ و لهنّ عليكم حقا لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه و عليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فإنّ الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع و تضربوهنّ ضربا غير مبرّح فإن انتهين فلهن رزقهن و كسوتهن بالمعروف .
أيها الناس استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا و إنّكم إنّما أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا قولي إنّي قد بلّغت و قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا بعدي كتاب الله و سنّة نبيّه .
أيها الناس اسمعوا قولي و اعقلوه تعلمنّ أنّ كل مسلم أخ للمسلم و أنّ المسلمين إخوة فلا يحلّ لامرىء من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمنّ أنفسكم اللهمّ هل بلّغت ؟ فقال الناس : نعم .
فقال : "اللهمّ اشهد عليهم". ثم أفاض الرسول المصطفى صلى الله عليه و سلم من عرفات و عاد إلى المدينة فأقام بها ثلاثة أشهر : ذي الحجّة و المحرّم و صفر ثم هيّأ جيش أسامة الحبّ ابن الحبّ ليغزوا فيه أرض فلسطين في المكان الذي قتل فيه سيدنا زيد بن الحارثة و جعفر بن أبي طالب و عبد الله بن رواحة رضوان الله عليهم في معركة مؤته.
بعد هذه الأشهر الثلاثة في وسط صفر-كما نقل أكثر الرواة - بدأ رسول الله صلى الله عليه و سلم بالشكوى من رأسه و كان ذلك بعد حجّة الوداع بإحدى و ثمانين يوما و أنزل الله تعالى قوله :
{إذا جاء نصر اللّه والفتح * ورأيت النّاس يدخلون في دين اللّه أفواجا * فسبّح بحمد ربّك واستغفره إنّه كان توّابا} [النصر: 1-3]. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " نعيت إليّ نفسي " . فلمّا قالها رسول الله صلى الله عليه و سلم قال له جبريل : يا أخي و للآخرة خير لك من الأولى . و جاء سيدنا جبريل يستعرض معه القرآن فقرأه معه مرتين و اجتهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بالعبادة حتى صار كالثوب البالي من كثرة العبادة و كان كل يوم عندما يذهب و يجيء يقول : سبحان الله و بحمده استغفر الله و أتوب إليه . فقالت له أم سلمة : يا رسول الله إنّك تدعو بدعاء لم تدعه من قبل . فقال : " إنّ ربي أخبرني أنّني سأرى علما في أمّتي و أنني إذا رأيته أسبّح بحمده و أستغفره ثم قرأ قوله تعالى : { إذا جاء نصر الله و الفتح ...} . و قبل وفاته صلى الله عليه و سلم بأيام خرج إلى قتلى أحد بعد ثمان سنين فوقف إليهم و سلم عليهم و حيّاهم و أكثر من الصلاة عليهم ثم عاد فصعد المنبر و جمع الناس فقال : أيها الناس إني بين أيديكم فرط و أنا عليكم شهيد و إنّ موعدكم الحوض و إني لأنظر إليه و أنا في مقامي هذا و إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض و إني لست أخشى عليكم أن تشركوا بعدي و لكني أخشى عليكم أن تنافسوا فيها كما تنافسوا فيها فتهلككم كما أهلكتكمثم جلس ثم قام فقال : أيها الناس إنّ عبدا خيّره الله أن يؤتيه زخرف الدنيا و بين ما عنده فاختار ما عند مولاه . فقام أبو بكر و قال : فديناك بآبائنا و أمهاتنا يا رسول الله ! فتعجّب الناس من الصدّيق و قالوا لم فعل هذا ؟ إنّما يقول عن عبد خيّره الله تعالى و لكن الصدّيق فهم من هذا العبد المخيّر ثم قال الرسول صلى الله عليه و سلم : إنّ أمنّ الناس عليّ بصحبته و ماله أبو بكر كلّ من كان له عندنا يدا كافأناه عليها إلا الصدّيق فإنا نترك مكافأته لله لو كنت متخذا خليلا غير ربي لاتّخذت أبا بكر خليلا و لكن أخوّة الإسلام لا يبقى في المسجد باب إلا ويغلق ألا باب أبي بكر.
ثم نزل رسول الله صلى الله عليه و سلم فما رؤي بعدها على المنبر جالسا إلا مرة.
ثم دخل عليه الصلاة و السلام إلى بيته و في الليل خرج فرأى رجلا من الصحابة فقال : يا فلان إني أمرت أن أستغفر لأهل أحد فاخرج معي . فخرج في منتصف الليل إلى أحد فاستغفر لهم و دعا لهم ثم عاد إلى البيت فدخل فإذا بعائشة قد عصبت رأسها من الألم فقالت : يا رسول الله وا رأساه . قال : بل أنا يا عائشة وا رأساه .
ثم بدأ يدور على أزواجه حتى أتعبه المرض فاستأذن أن يمرّض في بيت عائشة فأذنوا له فحمله سيدنا العباس و سيدنا عليّ و إنّ رجلاه لتخطّان على الأرض خطا لا يستطيع الوقوف عليهما من شدة المرض فدخل بيت عائشة فقالت : بأبي أنت و أمي يا رسول الله . ثم جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم في بيتها و اشتدّت عليه الحمى فدعا عائشة و حفصة و طلب أن يأتوه بقرب من آبار متعددة لتكون باردة فجاءوا بسبع قرب فجلس في مخضب و وضع الماء عليه و هو يشير أن صبوا عليّ منها . يقول العباس : و كنت إذا لمسته ضربتني الحمّى فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم ينزع كما ينزع الرجال من الناس .
و عن عبد الله بن عمر قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو يوعك وعكا شديدا فقلت يا رسول الله إنّك توعك وعكا شديدا فقال عليه الصلاة و السلام : أجل إنني أوعك كما يوعك رجلان منكم قلت :ذلك أن لك لأجرين قال : أجل ذلك أن ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إلا كفّر الله بها سيئاته .
و أخرج النسائي عن فاطمة بنت اليمان أنها قالت : أتيت النبي صلى الله عليه و سلم في نساء نعوده فإذا سقاء يقطر عليه من شدة الحمى وضعوا وعاء ماء يقطر عليه ليبرد عنه شدة الحمى فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : إن أشدّ الناس بلاء: الأنبياء ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" .
و روي عن عروة أنه صلى الله عليه و سلم قال : "ما أزال أجد ألم الطعام الذي أكلته بخيبر من الشاة المسمومة " .
و قد توفي رسول الله صلى الله عليه و سلم شهيدا فهو قد نال صفات كمال البشر جميعا وهو سيد الكرماء و سيد العقلاء و سيد الحكماء .
و كان ابن مسعود و غيره من الصحابة يرون أنه مات شهيدا بالسّمّ .
نقل البخاري عن عائشة قولها : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا مرض أو اشتكى نفث على نفسه بالمعوّذات و كان ينفث فيمسح بها يده فلما مرض مرضته هذه كنت أنا أقرأ و أمسح على النبي صلى الله عليه و سلم. وقد جلس رسول الله صلى الله عليه و سلم يوما و كان المرض قد اشتد به أسكت فلم يعد قادرا على الكلام فدخل عليه سيدنا أسامة و كان قد جهز الجيش للمسيرة فتوقّف فأجلسه رسول الله صلى الله عليه و سلم بين يديه و هو غير قادر على الكلام فكان يضع يده على سيدنا أسامة ثم يرفع يديه إلى السماء قال سيدنا أسامة : فعرفت أنه يدعو لي ثم يضمني إلى صدره ثم يرفع يديه إلى السماء ثم يمسحني بيديه . ثم فتح عينيه و قال عليه الصلاة و السلام :" يا عائشة إنه ليهون عليّ الموت أني رأيتك في الجنة" ففرحت عائشة .
و كان في بيته حين مرضه سبعة دنانير فإذا أغمي عليه ثم أفاق صحا يقول : يا عائشة تصدّقي بها فإذا استيقظ قال ما فعلتم بالمال ؟ يقولون : يا رسول الله شغلنا بك يقول : ما ظنّ محمد بربّه لو لقي الله وعنده هذه الدنانير تصدّقوا بها كلها .ثم دعا النبي صلى الله عليه و سلم سيدتنا الزهراء فاطمة فلمّا دخلت عليه ابتسم و قرّبها منه وهمس في أذنها فسارّها بشيء فبكت ثم دعاها فسارّها بشيء فضحكت فسألتها عائشة فقالت : ما كنت لأفشي سرّ رسول الله صلى الله عليه و سلم. وكان صلى الله عليه و سلم إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها و قبّلها وأجلسها في مجلسه فلما مرض ودخلت عليه لم يستطع القيام فأكبّت على يديه فقبّلتهما و قبّلته من وجنتيه فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : "يا فاطمة إنّ جبريل كان يعاودني القرآن كل سنة مرة وإنه عاودني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي ويا فاطمة أبشري إنك أول أهل بيتي لحوقا بي".
و عن عائشة قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة : "يا فاطمة أخبرني جبريل أنه ليس من نساء المسلمين أعظم مصابا منك بي بعدي فلا تكوني أدنى امرأة منهم صبرا فاصبري يا ابنتي و احتسبي عند الله أجرك تكوني أول الناس لحوقا بي" فقامت فاطمة و قالت : احتسبتك عند الله " . و كانت رضي الله عنها قد توفيت بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم بستة أشهر.
و في ليلة الوفاة و يقال ليلة الاثنين عند صلاة الفجر و المسلمون ينتظرون رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث السيدة عائشة و قال لها : " مري أبا بكر فليصلّ بالناس " فقالت: يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل ضعيف الصوت فقال عليه الصلاة و السلام : "إنّكن صويحبات يوسف مرن أبا بكر فليصلّ بالناس" فقالت: يا رسول الله إنّ أبا بكر رجل رقيق لا يستطيع أن يقف مكانك و أنت مريض و إذا قرأ القرآن لا يسمع الناس قراءته من كثرة بكائه فقال عليه الصلاة و السلام : "مروا أبا بكر فليصلّ بالناس" . فصلى أبو بكر سبعة عشر صلاة بالناس فلما ازداد مرض رسول الله صلى الله عليه و سلم وجعا امتلأ المسجد بالناس لا يغادرونه حتى يطمئنوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم حتى كان فجر ذلك اليوم الذي غادر فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم الدنيا فوقف أبو بكر يؤمّ الناس فإذا برسول الله صلى الله عليه و سلم يفتح حجاب البيت و ينظر فيجد المسجد ملء فيبتسم و يقول الحمد لله ثم ينادي على عليّ و الفضل و العباس فيحملونه فيدخل المسجد و هو يخط بقدميه الأرض خطا . فابتسم الناس و علت أصواتهم بالحمد و أحسّ أبو بكر أن رسول الله خرج فتراجع و وقف مع المصلّين فأمره رسول الله بالوقوف و جلس بجانبه و اقتدى رسول الله صلى الله عليه و سلم بأبي بكر و في رواية أخرى اقتدى أبو بكر بالرسول صلى الله عليه وسلم و اقتدى الناس بأبي بكر أي كان أبو بكر مبلّغا (و من هنا قال الشافعية الأدب مقدّم على الأمر ) .
ثم بعد أن انتهى من الصلاة أمرهم أن يصعدوه المنبر فجلس على أسفله لم يستطع أن يرتفع كثيرا ثم حمد الله تعالى و أثنى عليه و صلى على نفسه ثم قال : أيها الناس بلغني أنكم تخافون موت نبيّكم هل خلد نبي قبلي فيمن بعث إليهم فأخلد فيكم ؟ ألا و إني لاحق بربي ألا و إنكم لاحقون بي فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا و أوصيكم في ما بينهم خيرا فإنّ الله يقول : {والعصر * إنّ الإنسان لفي خسر * إلا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات وتواصوا بالحقّ وتواصوا بالصّبر} [العصر: 1-3] إنّ الأمور تجري بإذن الله فلا يحملنّكم استبطاء أمر على استعجاله إنّ الله لا يعجل بعجلة أحد و من غالب الله غلبه و من خادع الله خدعه فهل عسيتم أن تولّيتم أن تفسدوا في الأرض و تقطّعوا أرحامكم .
أيها الناس أوصيكم بالأنصار خيرا فإنهم الذين تبوّأوا الدار و الإيمان من قبلكم و أن تحسنوا إليهم . أيها الناس ألم يشاطروكم في ثمارهم ألم يوسعوا لكم في ديارهم ألم يؤثروكم على أنفسهم و بهم الفقر و الخصاصة ؟!!!
ألا فمن ولي أن يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم و ليتجاوز عن مسيئهم ألا ولا تستأثروا عليهم ألا و إني فرط لكم ( أي ذاهب قبلكم ) فأنتم لاحقون بي ألا إنّ موعدكم الحوض فمن أحبّ أن يرده عليّ غدا فليكف يده و لسانه إلا فيما ينبغي . يا أيها الناس إنّ الذنوب تغيّر النّعم و تبدّل القسم فإذا ضر الناس ضرهم أئمّتهم و إذا فجروا عقّهم أئمّتهم ثم قال : حيّاكم الله بالسلام رحمكم الله جبركم الله رزقكم الله نصركم الله رفعكم الله آواكم الله أوصيكم بتقوى الله أستخلفه عليكم أحذّركم الله إني لكم منه نذير مبين ألا تعلوا على الله في بلاده و عباده فإنه قال لي و لكم : {تلك الدّار الآخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتّقين} [القصص: 83] . فقام رجل و قال : يا رسول الله متى أجلك ؟ قال : يا أخي دنا الفراق و المنقلب إلى الله و إلى الجنة المأوى .قلنا من يغسّلك ؟ قال : رجال أهل بيتي قلنا و بما نكفّنك ؟ قال : بثيابي و إن شئتم في ثياب بياض مصر . قلنا يا رسول الله : من يصلي عليك ؟ قال : إذا أنتم غسّلتموني و كفّنتموني فضعوني على سريري هذا على شفير قبري ثم انصرفوا عني ساعة فإنّ أول من يصلي عليّ جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت و أعوانه من جنود الملائكة ثم ادخلوا عليّ أفواجا أفواجا فصلوا عليّ و سلّموا تسليما . ثم ليبدأ بالصلاة عليّ رجال أهل بيتي ثم نساؤهم ثم أنتم و أقرئوا السلام على من تبعني على ديني من يومي هذا إلى يوم القيامة .
تقول السيدة عائشة : لم يقبض نبي حتى يريه الله تعالى مقعده في الجنة تقول : فرأيت الرسول صلى الله عليه و سلم قد أغمض عينيه و رفع يده إلى السماء ففهمت أنه يقول ربي أريد ربي هنا دخلت فاطمة فرات أباها في النّزع فقالت : وا كرب أبتاه فقال صلى الله عليه وسلم : لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة ثم قبض روحه ملك الموت فسمع صوت في البيت يقول: " إن في الله عزاء من كل مصيبة وخلفا من كل هالك و دركا من كل فائت فبالله فثقوا وإيّاه فارجوا وإنّما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله ". تقول عائشة : فوضع الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه بين صدري و نحري و طلب شيئا من الماء وضعه على شفتيه و قال : "اللهم سهّل عليّ سكرات الموت" . و بدأ ينزع عليه الصلاة والسلام وأنا أنظر إليه ما أدري ما الأمر فإذا به يثقل ويثقل ونظرت فإذا هو قد شخص ببصره إلى السماء فعرفت إنه قد قبض فوضعت رأسه الشريف صلى الله عليه وسلم وخرجت وأنا أبكي فاستقبلني الناس وكان عمر على الباب فلمّا سمع خبل وجاءت النساء فرأوا الرسول صلى الله عليه وسلم شاخصا فإذا برجل يصيح من باب المسجد : وا رسول الله!!! فسمع أبو بكر الصوت على بعد من المدينة فإذا به يركض متّجها إلى المسجد و هو يهدّ الأرض هدّا و يصل إلى المسجد فإذا بعمر قد أخذ سيفه ووقف أمام الناس و هو يقول : من يقول إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مات أضرب عنقه إنّه لم يمت و لن يموت!.
فجاء الصدّيق فدخل على الرسول صلى الله عليه و سلم و عيناه تنهمران و زفراته تتردد و كان قد غطّي وجهه الكريم صلى الله عليه و سلم فجلس على ركبتيه و كشف عن وجه صاحبه و مسحه و جعل يبكي ويقول : " بأبي أنت و أمي يا حبيبي طبت حيّا و ميتا لقد انقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحد من الأنبياء جللت يا حبيبي عن البكاء و لو أنّ موتك كان اختيارا لجدنا لموتك بأرواحنا يا حبيبي يا رسول الله لولا أنّك نهيتنا عن البكاء لأنفدنا عليك ماء العيون لا يبرحان بنا إلى أن نلقاك بأبي أنت و أمي يا رسول الله أمّا الميتة التي وعدك الله إيّاها فقد ذقتها فلا ألم عليك بعد اليوم". ثم رفع يديه وقال: "اللهم أبلغه عنّا السلام أذكرنا يا محمد عند ربك و لنكن في بالك فلولا ما خلّفت من السكينة لم نقم أبدا اللهم أبلغ نبيك عنّا و احفظه فينا " . ثم خرج فرأى عثمان يأتي المسجد و قد خرس لسانه أمّا سيدنا عليّ فكأن رجلاه قد شلت فلا يستطيع القيام . ثم دخل أبو بكر إلى المسجد و عمر يجول كالأسد و لا يرضى أن يقول أحد بأنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قد مات .
فصعد على المنبر و قال : إليّ إليّ أيها الناس فاجتمعوا حول الصدّيق فقال رضوان الله تعالى عليه : " أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله و أشهد أنّ الكتاب كما نزّل و أنّ الدين كما شرّع و أنّ الحديث كما حدّث و أنّ الله هو الحق المبين .
أيها الناس من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لن يموت إلا أنّ الله تعالى قبضه إلى ثوابه و خلّف فيكم كتابه و سنّة نبيّه فمن أخذ بهما عرف و من فرّق بينهما أنكر و لا يشغلنّكم الشيطان بموت نبيّكم و لا يلفتنّكم عن دينكم " . فلمّا فرغ من خطبته قال : يا عمر أنت تقول أنّ النبي صلى الله عليه و سلم ما مات ! قال : نعم يا أبا بكر . فقال أبو بكر : أنسيت قول الله تعالى : {إنّك ميّت وإنّهم ميّتون} [الزمر: 30] و في رواية أخرى تلا أبو بكر قوله تعالى: {وما محمّد إلا رسول قد خلت من قبله الرّسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم} [آل عمران : 144]. فسقط سيدنا عمر مغشيّا عليه و تيقّن أنّ رسول الله صلى الله عليه و سلم قد قبض.
ثم ذهب الناس و كأنّ المدينة قد غطتها سحابات الحزن و اجتمعوا في ثقيفة بني ساعدة و كانت الخلافة للصدّيق .
ثم دخل أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و سلم: العباس و عليّ بن أبي طالب يغسلون النبي صلى الله عليه و سلم . و حاروا كيف يغسّلونه أيجرّدونه ثيابه أم يتركونها عليه ؟ فجاءتهم سنة من النوم جميعا ( فناموا ) فما استيقظوا إلا وصوت يقول لهم : غسّلوا رسول الله صلى الله عليه و سلم في ثيابه.
فغسلوه عليه الصلاة و السلام في ثيابه ثم بدأوا بالتكفين بأثواب بيض فكفّنوه بثلاثة أثواب ثم بدأوا الصلاة فخرجوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتركوه ساعة من النهار ثم صلوا على النبي عليه الصلاة و السلام ثم بدأ الناس يدخلون على رسول الله صلى الله عليه و سلم أفواجا أفواجا وهم يصلّون عليه بلا إمام فرسول الله صلى الله عليه و سلم إمام الأئمة.
ثم جاؤوا فحفروا القبر الشريف تحت فراش رسول الله صلى الله عليه و سلم فلمّا فرغوا و أنزلوا النبي عليه الصلاة و السلام فيه و بدأوا بحثي التراب وبعد أن خرجوا إذ بفاطمة الزهراء تقبل فلمّا دخلت البيت ورأت القبر قد سمد استدارت إلى الصحابة و قالت: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على أبي!! ثم مالت على تربة أبيها وقالت:
ماذا على من شمّ تربة أحمد ألاّ يشم مدى الزمان غوالي
وصبّت عليّ مصائب لو أنّها صبّت على الأيام عدنا ليالي
فأخذها سيدنا عليّ وأقامها وأدخلها بيتها و هي تقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أتحت التراب تكون؟!!!
يقول أنس رضي الله عنه : "ما رأيت أوضأ ولا أضوأ من يوم أن دخل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم مهاجرا فلمّا دفنّاه ما رأيت أظلم من ذاك اليوم".
و يقول الصحابة بعد ذلك إذا أصيب أحدنا بمصاب كنّا نعزّيه فنقول يا أخي أذكر مصابك برسول الله صلى الله عليه و سلم فينسى مصابه.
إنّه لأعظم مصاب و لكن نحن رضينا بقضاء الله و قدره إنّ العين لتدمع و إنّ القلب ليحزن و إنّا على فراقك يا رسول الله لمحزونون و لا نقول إلا ما يرضي ربنا :
( إنّا لله وإنّا إليه راجعون ) ثم ذهب بلال إلى خليفة رسول الله صلى الله عليه و سلم أبي بكر فقال له : إني سمعت رسول الله يقول أفضل عمل المؤمن الجهاد في سبيل الله .
قال له أبو بكر : فما تشاء يا بلال ؟ قال بلال : أردت أن أرابط في سبيل اللهتعالى حتى أموت . فقال أبو بكر: و من يؤذّن لنا؟ قال بلال و عيناه تفيضان من الدمع: إنّي لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم . قال أبو بكر: بل ابق و أذّن لنا يا بلال .
قال بلال : إن كنت أعتقتني لأكون لك فليكن ما تريد و إن كنت أعتقتني لله فدعني و ما أعتقتني له . فقال أبو بكر : بل أعتقتك لله ! .
فنذر بلال بقية حياته و عمره للمرابطة في ثغور الإسلام مصمّما على أن يلقى الله تعالى و رسوله و هو على خير عمل يحبّانه . ولم يعد يصدح بالآذان صوته الشّجي الحنون المهيب ذلك أنه لم يكن ينطق في أذانه " أشهد أنّ محمدا رسول الله" حتى تجيش به الذكريات فيختفي صوته تحت وقع أساه و تصيح بالكلمات دموعه و عبراته .و كان آخر أذان له أيام أن زار الشام أمير المؤمنين عمر و توسّل المسلمون إليه أن يحمل بلالا على أن يؤذّن لهم . و صعد بلال و أذّن فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله صلى الله عليه و سلم و بلال يؤذن له بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا و كان عمر أشدهم بكاء .
و مات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد فرضي الله تعالى عنه و عن سائر الصحابة الكرام .
وفي الختام أقتبس هذا البيت من قصيدة حسان بن ثابت في وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض التصرف فأقول :
كتبت ما يسر الله في وصفه لعلي في جنة الخلد أخلد
مع المصطفى أرجو بذاك جواره وفي نيل ذاك اليوم أسعى وأجهد
(الصلاة والسلام عليك يا رسول الله)