عدلان باب الواد
:: عضو منتسِب ::
- إنضم
- 29 ماي 2007
- المشاركات
- 80
- نقاط التفاعل
- 1
- النقاط
- 7
- العمر
- 35
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، الحمد لله الّذي أسكن عباده هذه الدّار، وجعلها لهم منزلةَ سفرٍ من الأسفار، وجعل الدار الآخرة هي دار القرار، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، الملك الواحد القهّار، سبقت رحمتُه غضبَه وهو الرّحيم الغفّار، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، وصفيّه وخليله، النبيّ المختار، اللهمّ صلّ عليه وسلّم وبارك صلاة وسلاما يتجدّدان بالعشيّ والإبكار، )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ( [آل عمران:102] )يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً( [النساء:1] )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً (71)( [الأحـزاب]..
ألا إنّ أصدق الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى هدى محمّد r، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، أمّا بعد:
فإنّ الله تعالى يقول في محكم تنزيله، وأصدق قيلهوَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ( [آل عمران:133].. وقالسَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( [الحديد:21]..
فهذا نداء من العليّ الكبير المتعال إلى سباق إلى دار السّلام والجمال .. إلى دار الدّوام الّتي تستحقّ الاهتمام .. دار فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ..
يا غـافلا عمّـا خُلقت له انتبـه جدّ الرّحيل ولست باليقظـان
سار الرفاق وخلّفـوك مـع الألى قنعوا بذا الحظّ الخسيس الفاني
ورأيت أكثر من تـرى متخلّـفا فتبعتهم، ورضيت بالحـرمـان
مّنتك نفسك باللّحاق مع القعـو د، عن المسير وراحـة الأبـدان
ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا ماذا صنعت ؟ وكنت ذا إمـكان
والنّتيجة عباد الله !..) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)( [الواقعة].
السّابقون بصدق القدم، وعلوّ الهِمم .. إنّهم هم هم وكفى .. مقام لا يزيده الوصف شرفا ..
أولئك المقرّبون .. ولله ما أحلى لفظ القرآن وأجمله !.. وما أعظمه وأكمله ! فكم من الفرق بين المقرّبين والمتقرّبين .. فقد سيقت إليهم الجنّة سوقا، واشتاقت إليهم دارهم شوقا ..
وإن أردت أن تنظر إليهم فهم في المقام الأحلى، والرّتبة الأغلى، والمكان الأعلى ..
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ tعَنْ النَّبِيِّ rقَالَ: « إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ ؟! قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنّهم رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ ».
فالرّحيل الرّحيل أيّها المؤمنون والمؤمنات !! روى التّرمذي والحاكم وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: « مَنْ خَافَ أَدْلَجَ- من خاف الفوت وإدراك الموت فليَسِر بالدُّلجة وهو أوّل اللّيل والنّاس غافلون- وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ».
أيّها الإخوة والأخوات !.. إنّ موضوع خطبتنا اليوم إن شاء الله: كيف تعلو همّتك ؟..
كيف تعلو همّتك لخوض هذا السّباق ؟.. كيف تعلو همّتك قبل حلول ساعة الفراق ؟ كيف تعلو همّتك للّحاق بركب الصّالحين ؟ كيف تعلو همّتك لتفوز مع الفائزين ؟
وينصبّ كلامنا في نقطتين اثنتين:
الأولى: بيان خطر دناءة الهمّة والفتور ..
الثّانية: أسباب علوّ الهمّة.
بيان خطر الفتور:
إنّ من أفتك الأمراض الّتي حلّت بين أظهرنا فتور قد أصاب قلوبنا فلم تعُد تنبض بالشّوق إلى دار الخلود ..
فتور أصاب جوارحنا فلم تعد تتحرّك إلى مرضاة الرّحيم الودود .. ولكي تضع يدك على ضرره، وتقف على خطره، فإليك هذه الأمور:
- أنّ أكثر النّاس ما عاد يشعر بالفتور الّذي أصابه، وإنّ أخطر الأمراض هي الّتي لا يشعر بها المرء، حتّى إذا عمِلَت عملها في الجسد، وكانت عليه كحبل من مسد، جاءه النّذير، وحينها لا عاصم من أمر الله العليّ القدير.
- بل أعجب من ذلك كلّه أنّك ترى أكثر من أُصيب بهذا المرض الخطير لا يستطيع أن يبادر إلى علاج نفسه، وينفض الغبار عن رأسه، فقد أصِيبوا بفتور في علاج الفتور، وكأنّ الله قد طبع على قلوبهم ..
- أنّ الفتور من أمراض المنافقين، فالله تعالى ذكر أنّهم لا يقفون من الصّالحات إلاّ فاتِرين، ففي الصّلاة قال عنهم: )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً( [النساء:142]، وفي الصّدقات: )وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ([التوبة: من الآية54]، وفي الجهاد أخبر عنهم: )فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ( [التوبة:81]، بل إنّهم لا يستعدّون له أصلاوَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ( [التوبة:46].. ومع كلّ ذلك فهم لا يشعرون ..
- أنّ الفتور سبيل إلى سوء الخاتمة، فمن عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بُعِث عليه، فلا بدّ من العمل، حتّى إذا ضعُف المرء يوما رأى من نفسه أنّه ما ترك الواجبات وما وقع في المحرّمات، وإنّما ترك المستحبّات، وفعل المكروهات، ومصداق ذلك ما رواه أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: « لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ»..
- إنّ الفتور إنّما هو فتور عن الله .. عن لقاء الله .. عن رضوان الله .. فالله قد أعلن السّباق إليه، والإقبال عليه، ثمّ لا يراك تزاحم المتسابقين، ولا تنافس المتنافسين، فهل بعد هذا الغبن غبن ؟!
قال بعض الصّالحين: " لو أنّ رجلا سمع برجل أطوع لله منه فانصدع قلبه فمات لم يكن ذلك بعجب"..
وقال وُهيب بن الورد رحمه الله: " إن استطعت ألاّ يسبقك أحد إلى الله فافعل "..
وقال رجل لمالك بن دينار: رأيت فيما يرى النّائم مناديا ينادي: الرّحيل الرّحيل ! فما رأيت أحدا يرتحل إلاّ محمّد ابن واسع، فصاح مالك بن دينار وغُشِي عليه ..
وقام أحد التّابعين من اللّيل فتعب فجلس، ثمّ ضرب فخذيه وقال: قُومَا ! والله لأزاحمنّ بكما أصحاب رسول الله y ..
وقيل للحسن البصريّ رحمه الله: إلى متى تُتعِب نفسك ؟ فقال: راحتها وكرامتها أريد ..
فكيف الخلاص والنّجاة من هذه الغمّة .. وما أسباب علوّ الهمّة ؟
1-الدّعـاء والافتقار إلى ربّ الأرض والسّماء:
فالدّعاء هو سؤال أكرم الأكرمين، والرّغبة فيما يدي أرحم الرّاحمين، إنّه سؤال من لا يردّ السّائلين، ويستحي أن يردّ عباده وقاصديه خائبين ..
روى الطّبراني وأبو يعلى عن أبي هريرة t أنّ النبيّ r قال: « إنّ أعجز النّاس من عجز عن الدّعاء ».. وإنّ الله قد فتح بابا واسعا لبلوغ مرضاته، روى التّرمذي وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَtعَنْ النَّبِيِّr قَالَ: « لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ ».
فالدّعاء يورث القلب لله انكسارا، ولربّه افتقارا، يرمي بك إلى الله، فيفتح الله به عليك ما لا يمكن التّعبير عنه.
قال مالك بن يخامر: لمّا حضرت معاذَ الوفاةُ، بكيت، فقال: ما يبكيك ؟ قلت: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللّذين كنت أتعلّمهما منك. فقال: إنّ العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، اطلُب العلمَ عند أربعة: أبي الدّرداء، وسلمان الفارسيّ، وعبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام y ، ثمّ قال: " فإن عجز عنه هؤلاء، فسائر أهل الأرض عنه أعجزُ، فعليك بمعلّم إبراهيم u! قال: فما نزلت بي مسألة عجزت عنها إلاّ قلت: يا معلّم إبراهيم!.
وقال ابن القيّم رحمه الله في "مدارج السّالكين":
" ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرا: ما لي شيء، ولا منّي، شيء، ولا فـيّ شيء. وكان كثيرا ما يتمثّل بهذا البيت:
أنا المكـدّي وابن المكـدّى وهكذا كان أبـي وجـدّي
وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول: والله إنّي إلى الآن أجدّد إسلامي كلّ وقت، وما أسلمت بعدُ إسلاما جيّدا. وبعث إليّ في آخر عمره قاعدةً في التّفسير بخطّه، وعلى ظهرها أبياتٌ بخطّه من نظمه:
أنا الفـقـيـر إلـى رب البريّـات أنا المسيكين فى مجموع حالاتى
أنا الظّـلـوم لنفسـي وهـي ظـالـمتي والخير إن يأتنا من عنده ياتـــي
لا أسـتـطـيـع لنـفسى جلب منفعة ولا عن النفس دفع المضـــرّات
ولـــيـس لـي دونهمولى يدبرني ولا شفيع إذا حاطـــت خطيئاتي
إلا بإذن مــن الرحـمـن خـالــقـنا إلى الشفيع كما جاء في الآيات
ولست أملك شيئا دونـه أبــــــدا ولا شـريـك أنا فــي بعض ذرات
والفقر لى وصــف ذات لازم أبـدا كما الغنى أبــدا وصـف لــه ذاتـي
وهذه الحال حال الخلق أجعمهم وكـلـّهــم عـــنـده عـبـد له آتـي
فمن بغى مطـلـبا مـن غيـر خالقه فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكــون أجـمعـه ما كان منه وما من بـعـد قـد ياتـى
وكثيرا ما كان يأتي الدّيار الخربة إذا أشكلت عليه مسألة فيمرّغ رأسه في التّراب ويقول: يا معلّم إبراهيم علّمني، ويا مفهّم سليمان فهّمني ..
فأحبّ القلوب إلى الله أكثرها له انكسارا، قيل لبعض العارفين: " أيسجد القلب ؟" قال: " نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا ".. بالدّعاء تنال التّوفيق فتسير بسير النّاس فتسبقهم:
عجبا من سيرك المدلّل تمشي رويدا وتجي في الأوّل
2-كثرة الذّكر:
روى البخاري ومسلم عن عَلِيٍّ t أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أُتِيَ بِسَبْيٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ r فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا » فَقَالَ: « أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ ؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ ».
قال عليٌّ: فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ. قِيلَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ.
وكيف لا تعلو الهمّة بالذّكر، وقد أمر الله به في أحلك المواطن فقاليَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ([الأنفال:45] ؟..
كيف لا تعلو الهمّة بالذّكر وهو الّذي يُحرّك الرّوح والجسد ؟ روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى tقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: « مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ » .
قال ابن القيّم رحمه الله في "الوابل الصيّب" (63):
" إنّه قوت القلب والرّوح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرّة صلّى الفجر، ثمّ جلس يذكرالله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النّهار، ثمّ التفت إليّ، وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغدّ الغداء سقطت قوّتي ".
كيف لا تعلو الهمّة بالذّكر وهو يطرد الشّيطان، والشّيطان هو وراء ضعف الهمم ؟.
3-مجاهدة النّفس وهواها:
فإنّ الله تعالى قالوَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ([العنكبوت:69]، فإنّ الصّالحات لا تُنال بالرّاحة، ولا تُعطى الغنيمة إلاّ لمن كان بالسّاحة ..
فقد أجمع النّاس على معنى قوله تعالىإِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ( [يوسف:53]..
فينبغي للمسلم أن لا يكون طفلا في حجر العادة، محصورا بقماط الهوى، فإن كان كذلك فما له ومزاحمة الرّجال ؟
فمن جدّ وجد، وليس من سهر كمن رقد، والفضائل تحتاج إلى وثبة أسد، وترك راحة الجسد ..
قال الإمام عيسى بن موسى: " مكثتُ ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامّة في أكل هريسة السّوق، فلا أقدر على ذلك، لأجل البكور إلى سماع الحديث "..
قيل لأحد الصّالحين: فلان يمشي على الماء ! فقال: "إنّ من مكّنه الله تعالى من مخالفة هواه، لهو أعظم من المشي على الماء" وقال أبو بكر بن الضّرير: دافعت الشّهوات حتّى صارت شهوتي المدافعة.
فاخرج من الدّنيا قبل أن تُخرج منها.
ولا يمكن مدافعة الهوى وحبّ الدّنيا إلاّ إذا حقّقت الأمر الرّابع.
وهذا ما سنتعرّض إليه بعد حين إن شاء الله.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله، الحمد على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة حقّ تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلِّ عليه وسلّم وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع طريقه وسار على منواله، أمّا بعد:
فإنّه لا يمكن لأحد أن يدافع هواه إلاّ إذا أتى بأمر رابع:
4-قِصر الأمل وكثرة ذكر لقاء الله:
فتخيّل لو كنت تعلم أنّك تموت هذا المساء، هل كنت ستخلُد إلى الرّاحة والقعود، والنّوم والرّقود ؟! فكيف وأنت لا تعلم إن كنت ستعيش بعد ساعة ؟!
فلا تعجب من علوّ همّة الصّالحين وهو يستمعون إلى إمام المرسلين ينهاهم عن طول الأمل، لأنّه يُضعِف عن العمل .. روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ r بِمَنْكِبِي فَقَالَ: « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: ( إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ).
وروى البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَt قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: « لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الْأَمَلِ ».
قال الرّبيع بن خثيم: " لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة واحدة لفسد ".
وما أحسن قول ماجدة القرشيّة عن أصحاب الهمم الدّنيئة: ( بسطُوا آمالهم، فأضاعوا أعمالهم، ولو نصبوا الآجال، وطووا الآمال، لخفّت عليهم الأعمال ).
عن محمّد بن أبي توبة قال: أقام معروف الكرخي الصّلاة وقال لي: تقدّم ! فقلت: إن صلّيت بكم هذه الصّلاة لم أصلّ بكم غيرها. فقال معروف: أوتحدّث نفسك أن تُصلِّي غيرها ؟ نعوذ بالله من طول الأمل !.
5-التحوّل من البيئة المثبّطة:
وأشدّ النّاس حاجة إلى ذلك هو حديث العهد بالتّوبة، ويظهر لنا هذا من وجوه:
- ما أشار به العالم على قاتل المائة نفس: « وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ ».
- لعلّك تلاحظ أنّ من عقوبة الزّاني زيادة على الجلد النّفي ففي صحيح البخاري ومسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r « أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ ».
- إنّ الماء والهواء والجماد يفسد إذا كان بقُرب الجيف، فكيف بأنفاس العصاة ؟! والنبيّ r أمر بإلقاء ما جاور النّجاسة فقال عن السّمن الذي وقعت فيه الفأرة الميتة: « أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ وَكُلُوا سَمْنَكُمْ » رواه البخاري ومسلم عَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها.
بل جاء في صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ( أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَاعْتَجَنُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ r أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ ). هذا بعد آلاف السّنين..
فاصحب من يعظك بلحظه قبل وعظه بلفظه، ومن كان بمعالي الأمور موصوفا لا وصّافا، فإنّ الواو والرّاء والدّال لا تشمّ منها رائحة الورد.
روى الطّبراني عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله r قال: « أولياء الله تعالى الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله تعالى » [الصّحيحة رقم 1732].
قال عبد الله بن المبارك:" إذا نظرت إلى الفضيل جدّد لي الحزن ومقتُّ نفسي ".
وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحقٍّ سأل عنه، وأحبّ أن يجري بينه وبينه معرفة.
أنـت فـي النّـاس تقـاس بالـذّي اختـرتَ خـلـيـلا
فاصحب الأخيـار تعـلـو وتـنــل ذكـرا جـمـيـلا
6-البعد عن المعاصي والسّيئات:
شكا أحدهم إلى الحسن: " لا أقوى على قيام اللّيل ؟" فقال: كبّلتك خطيئتك بالنّهار ..
وقيل لوهيب بن الورد: أيجد حلاوة الطّاعة من عصى ؟ قال: لا، ولا من همّ بها.
والمقصود بالمعاصي هو الإدمان عليها أن تكون في جدول أعمالك، وترافقك في حال من أحوالك، وإلاّ فإنّ العصمة محال.
فكثير من النّاس لديه في ذهنه معصية لا بدّ من زيارتها، ولا بدّ من أن يقرّب شيئا من وقته إليها .. ومعلوم أنّ هذا يورث وحشة في القلب، والإيمان يزيد بالطّاعة وينقص بالمعصية.
7-قراءة تراجم وسِير السّلف:
وذكركم في المسامع خير هـادٍ يُكرّر في الجمـوع فلا يُـمـلّ
فدتكم نفوسنا عن كلّ هـول ويَفديـكم الحجيج إذا أهـلّـوا
فماذا يفعل الواحد منّا وقد تبدّل الزّمان وأهله ..
حالـت لفقدكم أيّـامنا فغدت سُودا وكانت بكم بِيضا ليالينا
لِيُسْقَ عهدكم عهد السّرور فما كنتم لأرواحـنا إلاّ رياحـينا
وممّا يدل على أنّ دراسة تراجمهم فيه كلّ الخير، تلكم القصص التي ذكرها الله تعالى في القرآن، وأمر بالاقتداء بهم أهل الإيمان )أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه([الأنعام: من الآية90]..فهذا الصّحابي الجليل-كما رواه أحمد في "الزّهد" (118)- عثمان بن أبي العاص t تزوّج امرأة من نساء عمر بن الخطّاب t، فقال: " والله ما نكحتها رغبة في مال ولا ولد، ولكنّي أحببت أن تُخبِرني عن ليل عمر t".
وذكر الذّهبي رحمه الله في "السّير" (1/33)، وابن حجر رحمه الله في "الإصابة" (6/178) عن ابن أبي ليلى: تزوّج رجل امرأة ابن أبي رواحة، فقال: والله ما تزوّجتها إلاّ لتُخبِرني عن صنيع عبد الله في بيته.
فأخبار الصّالحين جند من جنود الله يُثبّت الله بها قلوب أوليائه. وكان أبو حنيفة يقول: أخبارهم أحبّ إلينا من كثير من الفقه.)وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ(..
8-واقع المسلمين اليوم: فهذا يصنع الرّجال..
وهذا-والله-كافٍ في أن ينفُض كلّنا الغبار عن رأسه، ويفدي هذا الدّين بنفسه، فمن آلامنا تبزغ آمالنا..
روى البخاري عَنْ أَنَسٍ t قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ-يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ-يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ ! الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ ! إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ.
قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِمِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ(إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
يقولون: مع أيّ الفريقين تضلع فلم يبق للإحجام والصّبر موضع
فقلت: أما والله ما في قلوبـنا لغير جلال الله، والحقّ موضـع
فقد تصبح الدّنيا لإبليس شيعة ونحن لغـير الحقّ لا نتشـيّـع
أنعدِل بالله العظيم وشـرعـه أباطيل يجلوها الخـداع فتلمـع
فأيـن إذن عهد قطعناه لربّـنا بأنّا له دون الخليـقـة خُضَّـعُ
بلى، نحن جند الله بعناه واشترى فلا هو يعفينا، ولا نحن نرجـع
فاللهمّ أنت أصلحت الصّالحين، فأصلح قلوبنا، وأعلِ هممنا، واجعلنا كما تريد لا كما نريد، واجعل أنفاسنا وحركاتنا وسكناتنا وقفا علييك، وخذ بأيدينا إليك
يا نـفـسُ سـُحّي أبـدا يا نـفـسُ مـوتي كـمـدا
ولا تُـحــبّي أبـــدا إلاّ الـجـليـل الصّـمـدا
المقالة للشيخ عبد الحليم توميات
ألا إنّ أصدق الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدى هدى محمّد r، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ محدثة بدعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار، أمّا بعد:
فإنّ الله تعالى يقول في محكم تنزيله، وأصدق قيلهوَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ( [آل عمران:133].. وقالسَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ( [الحديد:21]..
فهذا نداء من العليّ الكبير المتعال إلى سباق إلى دار السّلام والجمال .. إلى دار الدّوام الّتي تستحقّ الاهتمام .. دار فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ..
يا غـافلا عمّـا خُلقت له انتبـه جدّ الرّحيل ولست باليقظـان
سار الرفاق وخلّفـوك مـع الألى قنعوا بذا الحظّ الخسيس الفاني
ورأيت أكثر من تـرى متخلّـفا فتبعتهم، ورضيت بالحـرمـان
مّنتك نفسك باللّحاق مع القعـو د، عن المسير وراحـة الأبـدان
ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا ماذا صنعت ؟ وكنت ذا إمـكان
والنّتيجة عباد الله !..) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)( [الواقعة].
السّابقون بصدق القدم، وعلوّ الهِمم .. إنّهم هم هم وكفى .. مقام لا يزيده الوصف شرفا ..
أولئك المقرّبون .. ولله ما أحلى لفظ القرآن وأجمله !.. وما أعظمه وأكمله ! فكم من الفرق بين المقرّبين والمتقرّبين .. فقد سيقت إليهم الجنّة سوقا، واشتاقت إليهم دارهم شوقا ..
وإن أردت أن تنظر إليهم فهم في المقام الأحلى، والرّتبة الأغلى، والمكان الأعلى ..
روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ tعَنْ النَّبِيِّ rقَالَ: « إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَتَرَاءَوْنَ أَهْلَ الْغُرَفِ مِنْ فَوْقِهِمْ، كَمَا يَتَرَاءَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الْغَابِرَ فِي الْأُفُقِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! تِلْكَ مَنَازِلُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَبْلُغُهَا غَيْرُهُمْ ؟! قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنّهم رِجَالٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وَصَدَّقُوا الْمُرْسَلِينَ ».
فالرّحيل الرّحيل أيّها المؤمنون والمؤمنات !! روى التّرمذي والحاكم وغيرهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: « مَنْ خَافَ أَدْلَجَ- من خاف الفوت وإدراك الموت فليَسِر بالدُّلجة وهو أوّل اللّيل والنّاس غافلون- وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ».
أيّها الإخوة والأخوات !.. إنّ موضوع خطبتنا اليوم إن شاء الله: كيف تعلو همّتك ؟..
كيف تعلو همّتك لخوض هذا السّباق ؟.. كيف تعلو همّتك قبل حلول ساعة الفراق ؟ كيف تعلو همّتك للّحاق بركب الصّالحين ؟ كيف تعلو همّتك لتفوز مع الفائزين ؟
وينصبّ كلامنا في نقطتين اثنتين:
الأولى: بيان خطر دناءة الهمّة والفتور ..
الثّانية: أسباب علوّ الهمّة.
بيان خطر الفتور:
إنّ من أفتك الأمراض الّتي حلّت بين أظهرنا فتور قد أصاب قلوبنا فلم تعُد تنبض بالشّوق إلى دار الخلود ..
فتور أصاب جوارحنا فلم تعد تتحرّك إلى مرضاة الرّحيم الودود .. ولكي تضع يدك على ضرره، وتقف على خطره، فإليك هذه الأمور:
- أنّ أكثر النّاس ما عاد يشعر بالفتور الّذي أصابه، وإنّ أخطر الأمراض هي الّتي لا يشعر بها المرء، حتّى إذا عمِلَت عملها في الجسد، وكانت عليه كحبل من مسد، جاءه النّذير، وحينها لا عاصم من أمر الله العليّ القدير.
- بل أعجب من ذلك كلّه أنّك ترى أكثر من أُصيب بهذا المرض الخطير لا يستطيع أن يبادر إلى علاج نفسه، وينفض الغبار عن رأسه، فقد أصِيبوا بفتور في علاج الفتور، وكأنّ الله قد طبع على قلوبهم ..
- أنّ الفتور من أمراض المنافقين، فالله تعالى ذكر أنّهم لا يقفون من الصّالحات إلاّ فاتِرين، ففي الصّلاة قال عنهم: )إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً( [النساء:142]، وفي الصّدقات: )وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ([التوبة: من الآية54]، وفي الجهاد أخبر عنهم: )فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ( [التوبة:81]، بل إنّهم لا يستعدّون له أصلاوَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ( [التوبة:46].. ومع كلّ ذلك فهم لا يشعرون ..
- أنّ الفتور سبيل إلى سوء الخاتمة، فمن عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بُعِث عليه، فلا بدّ من العمل، حتّى إذا ضعُف المرء يوما رأى من نفسه أنّه ما ترك الواجبات وما وقع في المحرّمات، وإنّما ترك المستحبّات، وفعل المكروهات، ومصداق ذلك ما رواه أحمد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: « لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي، فَقَدْ أَفْلَحَ، وَمَنْ كَانَتْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ»..
- إنّ الفتور إنّما هو فتور عن الله .. عن لقاء الله .. عن رضوان الله .. فالله قد أعلن السّباق إليه، والإقبال عليه، ثمّ لا يراك تزاحم المتسابقين، ولا تنافس المتنافسين، فهل بعد هذا الغبن غبن ؟!
قال بعض الصّالحين: " لو أنّ رجلا سمع برجل أطوع لله منه فانصدع قلبه فمات لم يكن ذلك بعجب"..
وقال وُهيب بن الورد رحمه الله: " إن استطعت ألاّ يسبقك أحد إلى الله فافعل "..
وقال رجل لمالك بن دينار: رأيت فيما يرى النّائم مناديا ينادي: الرّحيل الرّحيل ! فما رأيت أحدا يرتحل إلاّ محمّد ابن واسع، فصاح مالك بن دينار وغُشِي عليه ..
وقام أحد التّابعين من اللّيل فتعب فجلس، ثمّ ضرب فخذيه وقال: قُومَا ! والله لأزاحمنّ بكما أصحاب رسول الله y ..
وقيل للحسن البصريّ رحمه الله: إلى متى تُتعِب نفسك ؟ فقال: راحتها وكرامتها أريد ..
فكيف الخلاص والنّجاة من هذه الغمّة .. وما أسباب علوّ الهمّة ؟
1-الدّعـاء والافتقار إلى ربّ الأرض والسّماء:
فالدّعاء هو سؤال أكرم الأكرمين، والرّغبة فيما يدي أرحم الرّاحمين، إنّه سؤال من لا يردّ السّائلين، ويستحي أن يردّ عباده وقاصديه خائبين ..
روى الطّبراني وأبو يعلى عن أبي هريرة t أنّ النبيّ r قال: « إنّ أعجز النّاس من عجز عن الدّعاء ».. وإنّ الله قد فتح بابا واسعا لبلوغ مرضاته، روى التّرمذي وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَtعَنْ النَّبِيِّr قَالَ: « لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الدُّعَاءِ ».
فالدّعاء يورث القلب لله انكسارا، ولربّه افتقارا، يرمي بك إلى الله، فيفتح الله به عليك ما لا يمكن التّعبير عنه.
قال مالك بن يخامر: لمّا حضرت معاذَ الوفاةُ، بكيت، فقال: ما يبكيك ؟ قلت: والله ما أبكي على دنيا كنت أصيبها منك، ولكن أبكي على العلم والإيمان اللّذين كنت أتعلّمهما منك. فقال: إنّ العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما، اطلُب العلمَ عند أربعة: أبي الدّرداء، وسلمان الفارسيّ، وعبد الله بن مسعود وعند عبد الله بن سلام y ، ثمّ قال: " فإن عجز عنه هؤلاء، فسائر أهل الأرض عنه أعجزُ، فعليك بمعلّم إبراهيم u! قال: فما نزلت بي مسألة عجزت عنها إلاّ قلت: يا معلّم إبراهيم!.
وقال ابن القيّم رحمه الله في "مدارج السّالكين":
" ولقد شاهدت من شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه من ذلك أمرا لم أشاهده من غيره، وكان يقول كثيرا: ما لي شيء، ولا منّي، شيء، ولا فـيّ شيء. وكان كثيرا ما يتمثّل بهذا البيت:
أنا المكـدّي وابن المكـدّى وهكذا كان أبـي وجـدّي
وكان إذا أثنى عليه في وجهه يقول: والله إنّي إلى الآن أجدّد إسلامي كلّ وقت، وما أسلمت بعدُ إسلاما جيّدا. وبعث إليّ في آخر عمره قاعدةً في التّفسير بخطّه، وعلى ظهرها أبياتٌ بخطّه من نظمه:
أنا الفـقـيـر إلـى رب البريّـات أنا المسيكين فى مجموع حالاتى
أنا الظّـلـوم لنفسـي وهـي ظـالـمتي والخير إن يأتنا من عنده ياتـــي
لا أسـتـطـيـع لنـفسى جلب منفعة ولا عن النفس دفع المضـــرّات
ولـــيـس لـي دونهمولى يدبرني ولا شفيع إذا حاطـــت خطيئاتي
إلا بإذن مــن الرحـمـن خـالــقـنا إلى الشفيع كما جاء في الآيات
ولست أملك شيئا دونـه أبــــــدا ولا شـريـك أنا فــي بعض ذرات
والفقر لى وصــف ذات لازم أبـدا كما الغنى أبــدا وصـف لــه ذاتـي
وهذه الحال حال الخلق أجعمهم وكـلـّهــم عـــنـده عـبـد له آتـي
فمن بغى مطـلـبا مـن غيـر خالقه فهو الجهول الظلوم المشرك العاتي
والحمد لله ملء الكــون أجـمعـه ما كان منه وما من بـعـد قـد ياتـى
وكثيرا ما كان يأتي الدّيار الخربة إذا أشكلت عليه مسألة فيمرّغ رأسه في التّراب ويقول: يا معلّم إبراهيم علّمني، ويا مفهّم سليمان فهّمني ..
فأحبّ القلوب إلى الله أكثرها له انكسارا، قيل لبعض العارفين: " أيسجد القلب ؟" قال: " نعم، سجدة لا يرفع رأسه منها أبدا ".. بالدّعاء تنال التّوفيق فتسير بسير النّاس فتسبقهم:
عجبا من سيرك المدلّل تمشي رويدا وتجي في الأوّل
2-كثرة الذّكر:
روى البخاري ومسلم عن عَلِيٍّ t أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها اشْتَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ الرَّحَى مِمَّا تَطْحَنُ، فَبَلَغَهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r أُتِيَ بِسَبْيٍ، فَأَتَتْهُ تَسْأَلُهُ خَادِمًا فَلَمْ تُوَافِقْهُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ r فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ لَهُ، فَأَتَانَا وَقَدْ دَخَلْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْنَا لِنَقُومَ فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا » فَقَالَ: « أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ ؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا فَكَبِّرَا اللَّهَ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمَا مِمَّا سَأَلْتُمَاهُ ».
قال عليٌّ: فَمَا تَرَكْتُهَا بَعْدُ. قِيلَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ ؟ قَالَ: وَلَا لَيْلَةَ صِفِّينَ.
وكيف لا تعلو الهمّة بالذّكر، وقد أمر الله به في أحلك المواطن فقاليَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ([الأنفال:45] ؟..
كيف لا تعلو الهمّة بالذّكر وهو الّذي يُحرّك الرّوح والجسد ؟ روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي مُوسَى tقَالَ: قَالَ النَّبِيُّ r: « مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُ رَبَّهُ مَثَلُ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ » .
قال ابن القيّم رحمه الله في "الوابل الصيّب" (63):
" إنّه قوت القلب والرّوح، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرّة صلّى الفجر، ثمّ جلس يذكرالله تعالى إلى قريبٍ من انتصاف النّهار، ثمّ التفت إليّ، وقال: هذه غدوتي ولو لم أتغدّ الغداء سقطت قوّتي ".
كيف لا تعلو الهمّة بالذّكر وهو يطرد الشّيطان، والشّيطان هو وراء ضعف الهمم ؟.
3-مجاهدة النّفس وهواها:
فإنّ الله تعالى قالوَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ([العنكبوت:69]، فإنّ الصّالحات لا تُنال بالرّاحة، ولا تُعطى الغنيمة إلاّ لمن كان بالسّاحة ..
فقد أجمع النّاس على معنى قوله تعالىإِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ( [يوسف:53]..
فينبغي للمسلم أن لا يكون طفلا في حجر العادة، محصورا بقماط الهوى، فإن كان كذلك فما له ومزاحمة الرّجال ؟
فمن جدّ وجد، وليس من سهر كمن رقد، والفضائل تحتاج إلى وثبة أسد، وترك راحة الجسد ..
قال الإمام عيسى بن موسى: " مكثتُ ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامّة في أكل هريسة السّوق، فلا أقدر على ذلك، لأجل البكور إلى سماع الحديث "..
قيل لأحد الصّالحين: فلان يمشي على الماء ! فقال: "إنّ من مكّنه الله تعالى من مخالفة هواه، لهو أعظم من المشي على الماء" وقال أبو بكر بن الضّرير: دافعت الشّهوات حتّى صارت شهوتي المدافعة.
فاخرج من الدّنيا قبل أن تُخرج منها.
ولا يمكن مدافعة الهوى وحبّ الدّنيا إلاّ إذا حقّقت الأمر الرّابع.
وهذا ما سنتعرّض إليه بعد حين إن شاء الله.
الخطبة الثّانية:
الحمد لله، الحمد على إحسانه، وعلى جزيل نعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له شهادة حقّ تعظيما لشانه، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانه، اللهمّ صلِّ عليه وسلّم وعلى أصحابه وآله، وعلى كلّ من اتّبع طريقه وسار على منواله، أمّا بعد:
فإنّه لا يمكن لأحد أن يدافع هواه إلاّ إذا أتى بأمر رابع:
4-قِصر الأمل وكثرة ذكر لقاء الله:
فتخيّل لو كنت تعلم أنّك تموت هذا المساء، هل كنت ستخلُد إلى الرّاحة والقعود، والنّوم والرّقود ؟! فكيف وأنت لا تعلم إن كنت ستعيش بعد ساعة ؟!
فلا تعجب من علوّ همّة الصّالحين وهو يستمعون إلى إمام المرسلين ينهاهم عن طول الأمل، لأنّه يُضعِف عن العمل .. روى البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ r بِمَنْكِبِي فَقَالَ: « كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ » وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: ( إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ ).
وروى البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَt قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ r يَقُولُ: « لَا يَزَالُ قَلْبُ الْكَبِيرِ شَابًّا فِي اثْنَتَيْنِ: فِي حُبِّ الدُّنْيَا، وَطُولِ الْأَمَلِ ».
قال الرّبيع بن خثيم: " لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة واحدة لفسد ".
وما أحسن قول ماجدة القرشيّة عن أصحاب الهمم الدّنيئة: ( بسطُوا آمالهم، فأضاعوا أعمالهم، ولو نصبوا الآجال، وطووا الآمال، لخفّت عليهم الأعمال ).
عن محمّد بن أبي توبة قال: أقام معروف الكرخي الصّلاة وقال لي: تقدّم ! فقلت: إن صلّيت بكم هذه الصّلاة لم أصلّ بكم غيرها. فقال معروف: أوتحدّث نفسك أن تُصلِّي غيرها ؟ نعوذ بالله من طول الأمل !.
5-التحوّل من البيئة المثبّطة:
وأشدّ النّاس حاجة إلى ذلك هو حديث العهد بالتّوبة، ويظهر لنا هذا من وجوه:
- ما أشار به العالم على قاتل المائة نفس: « وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ مَعَهُمْ، وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ ».
- لعلّك تلاحظ أنّ من عقوبة الزّاني زيادة على الجلد النّفي ففي صحيح البخاري ومسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ t عَنْ رَسُولِ اللَّهِ r « أَنَّهُ أَمَرَ فِيمَنْ زَنَى وَلَمْ يُحْصَنْ بِجَلْدِ مِائَةٍ وَتَغْرِيبِ عَامٍ ».
- إنّ الماء والهواء والجماد يفسد إذا كان بقُرب الجيف، فكيف بأنفاس العصاة ؟! والنبيّ r أمر بإلقاء ما جاور النّجاسة فقال عن السّمن الذي وقعت فيه الفأرة الميتة: « أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ وَكُلُوا سَمْنَكُمْ » رواه البخاري ومسلم عَنْ مَيْمُونَةَ رضي الله عنها.
بل جاء في صحيح البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما ( أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r أَرْضَ ثَمُودَ الْحِجْرَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَاعْتَجَنُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ r أَنْ يُهَرِيقُوا مَا اسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا، وَأَنْ يَعْلِفُوا الْإِبِلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ الْبِئْرِ الَّتِي كَانَتْ تَرِدُهَا النَّاقَةُ ). هذا بعد آلاف السّنين..
فاصحب من يعظك بلحظه قبل وعظه بلفظه، ومن كان بمعالي الأمور موصوفا لا وصّافا، فإنّ الواو والرّاء والدّال لا تشمّ منها رائحة الورد.
روى الطّبراني عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله r قال: « أولياء الله تعالى الذين إذا رُؤوا ذُكِر الله تعالى » [الصّحيحة رقم 1732].
قال عبد الله بن المبارك:" إذا نظرت إلى الفضيل جدّد لي الحزن ومقتُّ نفسي ".
وكان الإمام أحمد رحمه الله إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحقٍّ سأل عنه، وأحبّ أن يجري بينه وبينه معرفة.
أنـت فـي النّـاس تقـاس بالـذّي اختـرتَ خـلـيـلا
فاصحب الأخيـار تعـلـو وتـنــل ذكـرا جـمـيـلا
6-البعد عن المعاصي والسّيئات:
شكا أحدهم إلى الحسن: " لا أقوى على قيام اللّيل ؟" فقال: كبّلتك خطيئتك بالنّهار ..
وقيل لوهيب بن الورد: أيجد حلاوة الطّاعة من عصى ؟ قال: لا، ولا من همّ بها.
والمقصود بالمعاصي هو الإدمان عليها أن تكون في جدول أعمالك، وترافقك في حال من أحوالك، وإلاّ فإنّ العصمة محال.
فكثير من النّاس لديه في ذهنه معصية لا بدّ من زيارتها، ولا بدّ من أن يقرّب شيئا من وقته إليها .. ومعلوم أنّ هذا يورث وحشة في القلب، والإيمان يزيد بالطّاعة وينقص بالمعصية.
7-قراءة تراجم وسِير السّلف:
وذكركم في المسامع خير هـادٍ يُكرّر في الجمـوع فلا يُـمـلّ
فدتكم نفوسنا عن كلّ هـول ويَفديـكم الحجيج إذا أهـلّـوا
فماذا يفعل الواحد منّا وقد تبدّل الزّمان وأهله ..
حالـت لفقدكم أيّـامنا فغدت سُودا وكانت بكم بِيضا ليالينا
لِيُسْقَ عهدكم عهد السّرور فما كنتم لأرواحـنا إلاّ رياحـينا
وممّا يدل على أنّ دراسة تراجمهم فيه كلّ الخير، تلكم القصص التي ذكرها الله تعالى في القرآن، وأمر بالاقتداء بهم أهل الإيمان )أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه([الأنعام: من الآية90]..فهذا الصّحابي الجليل-كما رواه أحمد في "الزّهد" (118)- عثمان بن أبي العاص t تزوّج امرأة من نساء عمر بن الخطّاب t، فقال: " والله ما نكحتها رغبة في مال ولا ولد، ولكنّي أحببت أن تُخبِرني عن ليل عمر t".
وذكر الذّهبي رحمه الله في "السّير" (1/33)، وابن حجر رحمه الله في "الإصابة" (6/178) عن ابن أبي ليلى: تزوّج رجل امرأة ابن أبي رواحة، فقال: والله ما تزوّجتها إلاّ لتُخبِرني عن صنيع عبد الله في بيته.
فأخبار الصّالحين جند من جنود الله يُثبّت الله بها قلوب أوليائه. وكان أبو حنيفة يقول: أخبارهم أحبّ إلينا من كثير من الفقه.)وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ(..
8-واقع المسلمين اليوم: فهذا يصنع الرّجال..
وهذا-والله-كافٍ في أن ينفُض كلّنا الغبار عن رأسه، ويفدي هذا الدّين بنفسه، فمن آلامنا تبزغ آمالنا..
روى البخاري عَنْ أَنَسٍ t قَالَ: غَابَ عَمِّي أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! غِبْتُ عَنْ أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ الْمُشْرِكِينَ، لَئِنْ اللَّهُ أَشْهَدَنِي قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَانْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ-يَعْنِي أَصْحَابَهُ- وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ-يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ- ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: يَا سَعْدُ بْنَ مُعَاذٍ ! الْجَنَّةَ وَرَبِّ النَّضْرِ ! إِنِّي أَجِدُ رِيحَهَا مِنْ دُونِ أُحُدٍ. قَالَ سَعْدٌ: فَمَا اسْتَطَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا صَنَعَ. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ أَوْ طَعْنَةً بِرُمْحٍ أَوْ رَمْيَةً بِسَهْمٍ وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَقَدْ مَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ فَمَا عَرَفَهُ أَحَدٌ إِلَّا أُخْتُهُ بِبَنَانِهِ.
قَالَ أَنَسٌ: كُنَّا نُرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِمِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ(إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
يقولون: مع أيّ الفريقين تضلع فلم يبق للإحجام والصّبر موضع
فقلت: أما والله ما في قلوبـنا لغير جلال الله، والحقّ موضـع
فقد تصبح الدّنيا لإبليس شيعة ونحن لغـير الحقّ لا نتشـيّـع
أنعدِل بالله العظيم وشـرعـه أباطيل يجلوها الخـداع فتلمـع
فأيـن إذن عهد قطعناه لربّـنا بأنّا له دون الخليـقـة خُضَّـعُ
بلى، نحن جند الله بعناه واشترى فلا هو يعفينا، ولا نحن نرجـع
فاللهمّ أنت أصلحت الصّالحين، فأصلح قلوبنا، وأعلِ هممنا، واجعلنا كما تريد لا كما نريد، واجعل أنفاسنا وحركاتنا وسكناتنا وقفا علييك، وخذ بأيدينا إليك
يا نـفـسُ سـُحّي أبـدا يا نـفـسُ مـوتي كـمـدا
ولا تُـحــبّي أبـــدا إلاّ الـجـليـل الصّـمـدا
المقالة للشيخ عبد الحليم توميات