أم نضال.. خنساء فلسطينية
نذرت أولادها الستة لله
قلدت ابنها السلاح
ودعته الوداع الأخير
قبلها لآخر مرة
وجلست تلك الليلة تصلي منتظرة استشهاده
أم نضال ... خنساء فلسطين
قالت وقد علت وجهها ابتسامتها المعهودة: "أوصيته أن يستعين بالله، ويجعله في قلبه، وأن يذكر اسم الله على كل شيء، ويلتزم بتعليمات إخوانه المجاهدين، وينفذها بحذافيرها"..
قبل أن تسمع قولها لا بد أن تكون قد سمعت عنها.. يُخيل إليك أنها أتت من زمن غير الزمن، أو أنها استبدلت حب المقاومة والوطن بعاطفة الأمومة، ولكن عندما تجلس معها تشعر بدفء وحنان يلف الجميع.. دفعت بابنها "محمد" ليسابق زميله في نيل شرف مقاومة جيش الاحتلال.. وودعته وأوصته بالثبات حتى يلقى ربه شهيدا.
هذه صورة من جهاد السيدة "أم نضال فرحات" والدة شهيد.. ومطارَد.. ومعتقل.
"أم نضال" تتابع مع زائراتها مشاهد وداعها ابنها "محمد" على شاشة التلفاز عندما تم إذاعة الشريط المسجل بعد أن قام بعمليته الفدائية، كانت هي تحضنه تارة وتقبله أخرى بحنان قبل أن يفارقها إلى الأبد.
في فلسطين ألف ألف خنساء و ما على الأرض معتصم واحد
قاوم ولا تفزع
هي التي دفعت ابنها محمد للمشاركة في اقتحام مستوطنة صهيونية وقتل مستوطنيها المحتلين رغم صغر سنه، بعد أن نمّت الجرأة في قلبه، وهي تقول له: أريدك أن تقاتل بالسلاح لا بالحجر؛ لذلك سرعان ما فكر في البحث عن عمل ليدخر منه ثمن السلاح. وتضيف أم نضال: كان من أجمل أيام حياتي عندما امتلك محمد السلاح، فأحضره لي ليسعد قلبي به، ويؤكد لي أنه أصبح رجلا يمكن أن يسير في طريق المناضل الشهيد "عماد عقل" أحد قادة كتائب عز الدين القسام.
علمته من البداية أن يكون صادقا معي، ولا يخفي عني سر جهاده حتى أشجعه وأقويه، ومع حلول شهر رمضان الماضي (1422هـ) بشرني بالتحاقه بكتائب القسام، وأنه يستعد لخوض عملية استشهادية.
لا أنكر أني جزعت في البداية؛ لأني أيقنت أني أعُد الأيام الأخيرة لولدي الخامس، ولكن ما كان يزيد من فزعي أن يفشل في المعركة أو أن يتم القبض عليه قبل أن ينفذها كما حدث مع أخيه، فدعوت الله أن يقبله عنده شهيدا بعد أن يشفي صدور قوم مؤمنين.
لا تصدق دموعي
وقبل الشروع في العملية أخبرها ابنها محمد بأنه يوجد خلاف حول من سينفذ العملية، وأنه سيجري قرعة بينه وبين صديقه "محمد حلس"، فسارعت والدته، وأرسلت إلى قادة العملية تؤكد لهم أنها ترشح ابنها لنيل الشهادة وشرف الجهاد.
ونجحت في كبح جماح مشاعر الأمومة بداخلي؛ فمن أراد طريق الله والفوز بالجنان فلا بد أن يدفع أغلى ما يملك، وابني محمد أغلى ما أملكه.
وتصف أم نضال الساعات الأخيرة قبل استشهاد ولدها، فتقول: أخبرني قبل أسبوع بأن الموعد تحدد لتنفيذ العملية، وأخذ يصف لي بعض تفاصيلها العريضة حتى لا أجزع عند استشهاده، ولم أستطع عندها أن أتمالك دموعي، وغلبتني عاطفة الأمومة، وبكيت أمامه، ولكني قلت له: إياك أن تصدق دموعي؛ فإنها دموع أم تزف ابنها إلى الحور العين؛ فأطع ربك، وجاهد، واثبت حتى تلقى ربك، ولا تقطع اتصالك الهاتفي معنا.
ويوم تنفيذ العملية ودعته، وخرج إلى جنوب غزة بعد أن ودع جميع إخوانه، وبقيت أنتظر اتصاله وقلبي يدعو له بالسداد حتى جاء وقت الصفر "الساعة الخامسة مساء"، فأخبرني أنه سيقتحم المستوطنة الآن، وسيغلق الجوال، وأن هذا آخر عهدنا به.
وتضيف بنبرة حزينة: وبدأت أخوض الامتحان الحقيقي؛ صراعًا بين المبادئ وعاطفة الأمومة.. ست ساعات كأنها دهر طويل أعد خلالها أنفاس أحب أبنائي إلى قلبي كأم تشاهد الموت البطيء لابنها، وقلبي يخفق حتى أوشك على التوقف لشدة خوفي أن يتم القبض عليه، وأخذت أدعو الله أن ينعم عليه بالشهادة، ويسدد رميته حتى جاء فرج الله بخبر نجاح العملية وفوزه بالجنان؛ فهنئت نفسي، وتنفست الصعداء.
إيواء المجاهدين
أم نضال نذرت أولادها الستة لله منذ ما يزيد عن عشرة أعوام، وقتلت الخوف فيها، حيث دفعت بثاني أبنائها للالتحاق بكتائب الشهيد عز الدين القسام، والقيام بتنفيذ عملية استشهادية في قلب تل أبيب، ولكنه تم القبض عليه قبل تفجير الشاحنة التي كان يستقلها.
كما آوت الشهيد المطارَد "عماد عقل"، واستشهد في منزلها بعد أن خاض معركة مع ما يزيد عن مائتي جندي صهيوني في 24 فبراير 1993.
وتقول أم نضال: كنت كثيرا ما أسمع عن وضع الشباب المطاردين من جيش الاحتلال، وكيف لا يشعرون بالأمن في بيوت مستضيفيهم؛ فصممت أن أفوز بشرف إيوائهم، فاقترحت على ابني الأكبر "نضال" أن نحفر خندقًا خلف المنزل، وتحت حظيرة الحمام؛ ليصبح مأوى للشباب المطارَدين، وفعلا لاقت هذه الفكرة ترحيبا من زوجي وابني؛ فأعددنا الخندق، وعرضت الأمر على شباب المقاومة الذين كنا نعرفهم ليكرمنا الله بشرف خدمة المجاهد عماد عقل.
وتضيف أم نضال: كنت أشعر بقمة السعادة وأنا أشرف على خدمة عقل، وأتمنى أن يمكث أكبر قدر من الوقت في المنزل، وكان قلبي ينقبض وهو خارجه أدعو له أن يوفقه الله ويسدد رميته. حتى حاصر جيش الاحتلال المنزل، فخرجت أجري إلى عماد ليهرب من باب المطبخ إلى الخندق الخلفي، وعدت إلى الغرفة لأتفقدها فربما نسي سلاحه أو بعض الرصاص؛ فتدور الشبهات حول المنزل، وفعلا فقد نسي عماد مع السرعة سلاحه الشخصي على الأرض وبعض الرصاصات.
وهذه الحادثة ليست الوحيدة التي تعرض لها منزل السيدة "فرحات"؛ فقد حاصر المئات من جنود الاحتلال منزلها للقبض على عقل.
لكنها كانت تصبر، وتتمتم داعية الله أن يرزق جميع أولادها الشهادة