الأيادي النظيفة... وشعار ''دعه ينهب دعه يمر''
عادت مجددا حملة ''الأيادي البيضاء'' بعد استراحة إرادية أو مفروضة دامت سنوات، ولكن عودتها هذه المرة جاءت من بوابة فضائح الوزارات الحكومية وليس من باب القروض البنكية المشبوهة، كما جرت العادة، وهو ما سوف يكشف عن ''كوم الزبالة'' الذي كانت تقف فوقه وترتكز عليه مؤسسات الدولة المختلفة. فهل سيؤدي الخلاف بين السراق لاكتشاف المال المسروق؟
لا يجب أن نظهر تفاؤلا كبيرا في أن حملة التطهير الجديدة لمحاربة الفساد ستمتد إلى غاية تنفيذ ''من أين لك هذا؟''، لأن كل مؤشراتها تقول أنها مؤقتة ولا تختلف عن الحملات السابقة لسبب بسيط، أن الإرادة السياسية في محاربة الفساد ليست موجودة لا كقناعة شخصية ولا كنظام حكم في أي مستوى من مستويات الدولة. وما يغذي أكثر هذه القناعة، أنه يتم التعامل مع قضايا الفساد والرشوة التي ضبط متلبسا بها أكثر من موظف حكومي سامي وفي أكثر من وزارة، وكأنه اكتشاف يحدث لأول مرة بالرغم من أن أغبى مواطن جزائري يعلم علم اليقين أن حجم الفساد تجاوز كل الحدود ولم تسلم منه أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، حتى أنه لم تعد منظمة ''شفافية دولية'' بحاجة إلى إعادة تنقيح تقاريرها السابقة بخصوص الفساد في الجزائر، لكون الوضعية لم تتغير أبدا، بل ازداد ما يسمى بـ''الثراء الفاحش'' بشكل مخيف وفي وقت قياسي.
ولكي لا ننخدع بحملة ''الأيادي النظيفة'' لمحاربة الفساد، على أهميتها، تشير العديد من المعطيات إلى أن أهم المتورطين أو المتهمين في مثل هذه القضايا سابقا موجودون في الخارج ولم تصل إليهم يد القصاص العادل، ولم يتم معاقبة سوى السمك الصغير منهم من شاكلة الموظفين المأمورين والإداريين البسطاء، وهو ما يعطي مفهوما آخر للعملية، أنه ما دام لم نتمكن من تحقيق التداول على السلطة، تم تعويضه بالتداول على ''الأكل'' وملء الحسابات الخاصة من الصفقات العمومية بواسطة تضخيم الفواتير والغش في المشاريع وغيرها.
وقد تكون كل هذه العملية سببها أن بعض المتورطين في الفساد والرشوة والاختلاس لم يحسنوا تنفيذ شعار ''كول.. أو وكل'' واكتفوا بالأكل لوحدهم مما أخل بقواعد اللعبة وأغضب من لم يصلهم نصيبهم من ''الكعكة'' الكبيرة، خاصة وأن العملية دخلت فيها شركات أجنبية وأخرى متعددة الجنسيات، مما يعني أن العمولات تدفع بـ''الدوفيز'' وليس بالدينار وتحول في حسابات في الخارج وليس في الداخل. لكن ما يلاحظ في أغلب حالات الفساد التي تم تسويقها من قبل الجهات الحكومية على أنها إنجازات تحسب لها في إطار ''الحكم الراشد''، تم التبليغ عنها من قبل مؤسسات أجنبية متضررة من استغلال السلطة ضدها ومن ابتزازها الذي تجاوز الحدود المقبولة، كما كان الشأن في قضية وزارة الأشغال العمومية أو في منح صفقة ملعب تيزي وزو، وهو ما يعني أن وضع البلاد مع الفساد لا يخرج عن نطاق ''الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها''.
الأمر الأخطر أنه لا يستبعد أن تتعرض الشركات الأجنبية التي أبلغت عن الفساد والرشاوي في الجزائر إلى عقوبات بحرمانها من الصفقات مستقبلا أو بالدفع من أجل ترحيلها من البلاد لرفضها تطبيق مقولة ''من عاشر قوما 40 يوما أصبح منهم''، بدليل تسجيل وسائل الإعلام المختلفة في الجزائر لأكثر من متابعة قضائية ضد أشخاص ذنبهم الوحيد أنهم ''بلغوا عن اختلاسات وسوء تسيير ورشاوي'' في القطاعات التي يشتغلون بها، قبل أن تنقلب عليهم الآية ويتهموا بـ''الوشاية الكاذبة''، بالرغم من أن قانون الوقاية من الفساد ومحاربته ينص في مواده، عن توفير الحماية للأشخاص المبلغين عن الفساد!
وتشبه عملية محاربة الفساد في الجزائر، إلى حد بعيد، آلة الحصاد التي تكتفي بقطع رؤوس السنابل الواقفة المحيطة بالحقول بينما لا تصل إلى تلك المائلة بفعل الرياح أو التي ''انثنت'' على الأرض من شدة ثقل حبات القمح في سنابلها، مما يجعل الحملة لا تأتي بكل ثمارها. ولذلك فإن حملة الأيادي النظيفة لا تطبق إلا بطريقة لا تختلف عن تلك التي تحدث عنها الشاعر زهير بن أبي سلمى ''رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته، ومن تخطئ يعمّر فيهرم!''. لكن بالرغم من الحسابات السياسية والفئوية والجهوية والزبائنية التي تحكم عمليات محاربة الفساد، وهو ما تجسد في أكثر من مناسبة، إلا أنه مع ذلك لا يسع المرء سوى تشجيعها من باب أن السمك الصغير قد يجر يوما إلى الشباك السمك الأكبر منه، فمن كان يقول أن شباك وزارة الصيد البحري ستلتف على رقاب بعض موظفيها، ومن قال أن الطريق السيار شرق غرب إشارات تقول ''دعه ينهب دعه يمر''. إن تداخل مثل هذه القضايا وتصفية الحسابات بين الزمر النافذة في الحكم وتضارب مصالحها، هو الكفيل بكشف جزء من المستور والمسكوت عنه، لأنه من دون أن يختلف السراق لن يظهر أبدا المال المسروق. ¯