باكستان.. شلال الدماء على الثوب الإسلامي!!
أعمال العنف المستمرة تهدد وحدة باكستان
أعمال العنف المستمرة تهدد وحدة باكستان
- ما يحدث في وادي سوات ووزيرستان مؤامرة غربية لتفتيت الدولة
- التركيز الإعلامي يفضح مخططات تدمير القوة النووية الإسلامية
- الحرب على أفغانسان كانت بوابة الاختراق لجارة الهند اللدودة
"دماء على الثوب الإسلامي".. هكذا وصَّف بعض المراقبين الأوضاع الراهنة القائمة في باكستان؛ حيث لا تكاد الأوضاع تهدأ، إلا ويبدأ شيطان العنف في التحرك مرةً أخرى لإهراق دماء الآلاف من المسلمين مجددًا؛ حتى لا يكاد الكثيرون يظنون أنَّها حرب أهلية إسلامية، مثلما تمَّ توصيف حرب الخليج الثانية في العام 1991م، في وسائل الإعلام العالمية!!
وما بين التفجيرات الأخيرة في بيشاور، والتي أدت إلى مقتل أكثر من 80 وإصابة أكثر من 170، والمعارك الحالية في إقليم وزيرستان الجنوبية، وما بين الهجوم على مقر قيادة الجيش الباكستاني في روال باندي، والهجوم على مقر الأمم المتحدة في العاصمة الأفغانية كابول، خيوط غليظة وليست رفيعة، تربط ما بين كل هذه الأحداث!!
والحقيقة أنَّ هناك أكثر من مكمن للخطورة في الحالة الباكستانية؛ حيث إنَّ الكثير من الدلائل والمؤشرات التي تشير إلى أنَّ الكثير من التطورات الإقليمية والدولية في منطقة وسط وجنوب آسيا في مرحلة ما بعد الخروج السوفيتي الكبير من أفغانستان في العام 1989م، تستهدف باكستان.
وبعيدًا عن ضجيج إطلاق النار وقعقعة السلاح في وادي سوات ووزيرستان، وبعيدًا عن "تفنن" وسائل الإعلام في عرض الصورة بالألوان والحركة "من قلب الميدان"- كما يقولون-؛ حيث باتت المعركة الحالية هناك مجرد عرض صوتي وضوئي لمجرد إثبات القدرة الإعلامية، فإنَّ هناك الكثير من التفاصيل المخفية التي تقول إنَّ قلب الميدان ليس في وزيرستان، ولا في سوات ولا في ميادين جنوب وشرق أفغانستان، وإنما الميادين الحقيقية للصراع هناك، في قلب مؤسسات صنع القرار الحقيقية للأطراف الأساسية المعنية بالأزمة.
قضية قديمة!!
أحد ضحايا الصراع المتواصل في باكستان
يلجأ بعض المحللين في قياسهم للأوضاع في باكستان وأفغانستان إلى وصف الأمور بأنَّها تأتي نتاجًا لتطورات مرحلة ما بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، وأنَّها- أيضًا- في إطار الصراع على السلطة في باكستان، ولكن في حقيقة الأمر أنَّ الواقع الحالي في وسط آسيا وجنوبها يعود إلى بقعة زمنية أبعد قليلاً.
ولتقريب الصورة نميل قليلاً قبل تحليل الواقع في باكستان ومنطقة جنوب آسيا المسلمة إلى الكلام من صبغة عسكرية وليس سياسية؛ حيث نعرض أولاً مبدأً عسكريًّا مهمًّا، وهو أنَّه في الحروب، وقبل اندلاع العمليات، فإنَّ صانع القرار العسكري قبل أنْ يصدر الأمر ببدء العمليات، وقبل حتى أنْ يضع خطط الحركة الميدانية ذات الطابع التعرضي أو الهجومي، فإنَّه يهتم بالأساس بأمرين.
الأول هو كيف يحمي جنوده سواءً عن طريق الدروع أو الخنادق والنقاط الحصينة، أما الأمر الثاني الذي يضعه، هو خطة الانسحاب الآمن الذي يكفل للجنود العودة لخطوطهم الخلفية سالمين.
أما صانع القرار السياسي على المستوى الإستراتيجي، فإنَّه يهتم أيضًا بما بعد المعركة؛ حيث أول ما يفكر فيه هو كيفية تسريب القوة المسلحة التي تعمل على الجبهة بعد انتهاء المعارك، وإعادة دمجها في الحياة المدنية مجددًا، سواءً عن طريق إيجاد وظائف لهم، أو تكريمهم بالشكل اللائق.
وما جرى في العالم العربي بعد حربَي رمضان/ أكتوبر 1973م، والخليج الأولى 1981/1988م بين العراق وإيران، شهد أخطاء عديدة في هذا الأمر؛ حيث أدى في مصر إلى مشكلة اجتماعية وإنسانية؛ عندما تمَّ تجاوز حقوق المحاربين القدامى، أما في العراق فقد أدى الأمر إلى مشكلة أمنية وسياسية لنظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين.
وفي حالة باكستان وأفغانستان، وهما في حزمة واحدة في السياسة العالمية، فإنَّ كافة المؤشرات تشير إلى أنَّ ما يجري إنما يستهدف تصفية الترتيبات التي تمَّ تنظيمها في السنوات العشر التي احتل فيها الاتحاد السوفيتي السابق أفغانستان.
ومن هنا تبعد بنا النقطة الزمنية الخاصة بمبدأ الأحداث في آسيا الوسطى وجنوب آسيا أكثر وأكثر، ولكن كلها نقاط تلتقي وتصب عند الولايات المتحدة وفي إسلام أباد، فعندما أرادت الولايات المتحدة حصار الاتحاد السوفيتي من حدوده الجنوبية خلال الحرب الباردة، تحالفت مع العديد من الأنظمة الحاكمة في وسط وجنوب آسيا، وكان على رأسها نظام حزب الشعب الجمهوري العلماني في تركيا، ونظام شاه إيران محمد رضا بهلوي في إيران، ونظام حزب الرابطة الباكستاني.
وعندما أرادت واشنطن رد الصفعة السوفيتية التي تلقتها في فيتنام في الستينيات والسبعينيات الماضية، رفعت شعار "الجهاد العالمي" لمواجهة السوفيت في أفغانستان التي كانت تشهد إضرابات سياسية دامت أكثر من عشر سنوات ما بين الأحزاب الإسلامية والعلمانية والشيوعية.
في المقابل كانت إسلام أباد ترغب في خلق ظهير إستراتيجي لها في صراعها مع الهند، وكانت أفغانستان المسلمة السنِّية قليلة السكان هي المكان المثالي للبحث عن هذا الظهير، ومن هنا التقت أهداف إسلام أباد مع واشنطن.
ولا نقصد هنا إسلام أباد الحكومة وموظفيها، بل نقصد إسلام أباد الحقيقية، وهي المؤسسة العسكرية، وفي القلب منها جهاز المخابرات العسكرية الأسطوري (ISI)، كذلك لا نقصد واشنطن البيت الأبيض، وإنَّما حيث مراكز صناعة القرار الحقيقية، في الكونجرس ومجلس الأمن القومي، ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA).
وعندما تم حشد عشرات الآلاف من الشباب العربي والمسلم، بجانب الأفغان والباكستانيين في جبهة أفغانستان ضد السوفيت، لمحاربة الشيوعية الدولية و"قوى الإلحاد" في هذا البلد المسلم، كان هناك خطأ كبير ارتكبته قيادات المخابرات الأمريكية وصانع القرار الأمريكي في هذا المقام؛ حيث نسوا جميعًا التفكير في كيفية "صرف العفريت" الذي تمَّ استحضاره، حتى إنَّ استحضار الجِنِّي من قمقمه تمَّ بشكل خاطئ، وهنا نصل إلى صلب الأزمة في باكستان.
فعندما تمَّ حشد الشباب المسلم للحرب في أفغانستان، تمَّ، بل كان من الضروري، ربطهم بجهاز إداري وأمني قوي، لتنظيمهم، وتحسين مستوى تدريبهم، وضمان عدم إفلات الزمام في تلك السنوات العصيبة، وبطبيعة الحال كانت المخابرات الباكستانية جاهزة لذلك الدور، ولكن من حسن إتقان اللعبة في ذلك الوقت، كان من الضروري أنْ تكون باكستان نفسها عبارة عن قاعدة سياسية وعسكرية للعمل في أفغانستان.
كما تعاون جهاز آخر إقليمي قوي في هذا الأمر، وهو جهاز المخابرات العامة السعودية- إبان سنوات قيادة رئيسه الراحل كمال أدهم له- بقوة في هذا، عن طريق التمويل، وخلق قواعدَ خلفية لحشد وتسفير المجاهدين العرب إلى أفغانستان.
المهم أنَّ الجهاز الباكستاني- ومن ورائه الجيش- تماهى مع الأمر بشكل عميق، وتحول بدوره إلى مجاهدين حقيقيين، وساعد على ذلك حزمة من القوانين لأسلمة الدولة ومؤسساتها في باكستان، والتي تبناها الجنرال محمد ضياء الحق، حاكم باكستان القوي الذي لقي مصرعه في ظروف غامضة بعد انتهاء الحرب.
وكانت أولى الخطوات التي تمَّ تبنيها من جانب المخابرات الأمريكية لتفريق الجمع الذي تمَّ التنادي عليه من جميع أنحاء العالم، خلال الحرب نفسها؛ حيث تمَّ اغتيال الشهيد عبد الله عزام، ثم ضياء الحق، واستبداله ببنازير بوتو، إحدى "البنات" المخلصات لسياسة عائلة بوتو الصديقة لواشنطن.
ولكن تطورات الأوضاع فيما بعد هذه السنوات الدامية، حالت دون استكمال باقي خطة تسريب المجموعات التي تعاملت مع السياسة الأمريكية في هذه البقعة من العالم في آخر سنوات الحرب الباردة.
تفجيرات بيشاور أحد مشاهد الدماء المسالة في باكستان
فتفريق المجموعات التي حاربت وإعادة دمجها في الحياة المدنية في بلدانهم لاقتها صعوبات، من بينها رفض الكثير من بلدانهم الأصلية استقبالهم، وخصوصًا مصر والسعودية والجزائر، فاستقروا حيث هم في باكستان وأفغانستان؛ حيث كان ولا يزال للمقاتلين العرب وضع كبير لدى الباكستانيين والأفغان باعتبار الدور الذي لعبوه في تلك السنوات، والإخلاص الكبير الذي أبدوه للمبادئ الجهادية.
الأخطر من ذلك، أنَّ الجيش الباكستاني ومخابراته النافذة لم يعودا مشرفين على اللعبة فحسب، بل باتا جزءًا منها، لدرجة أنَّ مدير جهاز الـ(ISI) في العام 2001م، الفريق محمود أحمد، عندما طلبت منه حكومة الجنرال برويز مشرف تنفيذ ما جاء في الورقة الأمريكية التي تمَّ تسليمها لإسلام أباد بعد أحداث سبتمبر في العام 2001م بساعات، رفض، ولكنه لم يعلن رفضه، بل ذهب إلى الملا محمد عمر لإبلاغه رسالة الأمريكيين له، وكان من بينها تسليم زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن أو طرده إلى خارج البلاد، وطلب أحمد من الملا عمر رفض هذه المطالب!!
ولذلك بات من الواضح أنْ تصفية ميراث سنوات الثمانينيات لن يكون إلا بتصفية المؤسسة العسكرية الباكستانية برمتها، وهو ما يفسر الكثير من الأوضاع في الوقت الراهن.
الصورة الحالية
وطيلة عقد التسعينيات الماضي، وفي سنوات الألفية الجديدة، استمرت الأوضاع في باكستان تراوح مكانها، مع عدم رغبة الجيش في التخلي عن عقيدته الأساسية التي حددها له دستور الاستقلال، وهي حماية العقيدة الإسلامية، كما أنَّ العناصر التي باتت تسيطر على الجيش ومخابراته التي وُجدت في مختلف مفاصل مؤسسات الدولة، لم تتصور فقدانها مكانتها التي تحققت في سنوات الدماء والعرق الماضية، ولا الشرف الذي اكتسبوه من كونهم "حراس العقيدة".ولاقت باكستان مشكلة أخرى، وهي النظام الحالي للبلاد؛ حيث إنَّ نظام مشرف السابق كان قادرًا برغم كل شيء على الموازنة ما بين المطالب الأمريكية وما بين اعتبارات المواءمة الداخلية مع الأحزاب الإسلامية والجماعات المسلحة والجيش التي تسيطر على الدولة فعليًّا.
ولكن حكومة رئيس الوزراء الحالي يوسف رضا جيلاني، ورئيسه آصف علي زرداري- المتهم بالفساد وباغتيال زوجته رئيسة الوزراء السابقة بنازير بوتو قبل عامَيْن- تعاملت مع الموقف بحماقة عندما استجابت للمطالب الأمريكية من دون النظر للحساسيات القائمة في باكستان، ومن هنا دخل الجيش الباكستاني في معركة مزدوجة، ما بين محاربة حلفائه القدامى في وزيرستان الشمالية والجنوبية، وبين ضغوط حكومته المدنية عليه بفعل الإملاءات الأمريكية، التي كانت واضحة للغاية في رفض اتفاق تطبيق الشريعة الإسلامية صيف العام الحالي في وادي سوات.
ولذلك بات الجيش الباكستاني في رحى معركة دامية، وبات هدفًا لهجمات انتقامية من حلفائه القدامى، الذين اعتبروا ما يفعله الجيش ضدهم في جبال منطقة القبائل الغربية، بمثابة خيانة، وتتوَّجت المأساة بعملية الاقتحام التي تمت لمقر قيادته في روال باندي، واحتجاز المهاجمين عدد من الرهائن، قبل قتلهم جميعًا.
كما لا يمكن فصل الموقف الأمريكي في باكستان عن العامل النووي؛ حيث إنَّ امتلاك باكستان- كدولة إسلامية كبرى- للسلاح النووي بكل ما في ذلك من معان، مثل تحقيق باكستان لقفزة مهمة في مجال التقدم العلمي، يعني قفزة نوعية لميزان القوة الإسلامية، مع ولاء الجيش الباكستاني الشديد للعقيدة الإسلامية بموجب الدستور وبموجب عقيدته القتالية الرسمية.
وفي الوقت الراهن، تتعرض باكستان لضغوط ضخمة من الأمريكيين والهنود، وانضمت لهم إيران، لتسليم العناصر القيادية في جماعات مصنَّفة إرهابية، مثل: "جند الله" و"عسكر طيبة" و"جيش محمد"، ويبدو أنَّ الأمور مع عدم رشادة الحكومة الباكستانية، سوف تتجه إلى المزيد من التصعيد في الفترة القادمة، خصوصًا مع الزيارة المزمعة لوزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى إسلام أباد، بالمزيد من المطالب والمزيد من الإملاءات التي سوف تغضِب- بكل تأكيد- عناصر داخل الجيش والجماعات الإسلامية السياسية والمسلحة!!