اهتم بالسياسة صغيرا.. وتزوج متأخرا
محمد الصديق بن يحيى- رحمه الله- كان واحدا من أنبل وأخلص وأطيب المناضلين الجزائريين فضلا عن كونه من الأكفاء القلائل الدين أنجبتهم ثورة نوفمبر الخالدة. مات شهيد الواجب الوطني المقدس. وهو يحمل رسالة السلام للأمة العربية والإسلامية، بلا كلل ولا ملل من ارض المليون شهيد لتسكت أصوات المدافع وتحقن دماء المسلمين لكن قضاء الله وقدره شاء أن تفقد الجزائر في 3 جوان 1982 محمد الصديق بن يحيى الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية وعضوا في المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني وكذلك الوفد المرافق له.
لمحة عن نشأته:
ولد محمد الصديق بن يحيى سنة 1932 بمدينة جيجل شارع سي الحواس رقم 37 rue MONTGNEMOONT سابقا وسط عائلة محترمة ذات سمعة طيبة. عاش في كنف أبيه فرحات الذي كان من أبرز تجار المدينة فأحاطه بالرعاية والعناية. ووفر له كل الحاجيات والرغبات التي يحلم بها كل طفل وهو في عمر الزهور. وأمه خلاف الصافبية التي كانت تفرط في حنانها عليه أكثر من أخوته لتعوضه نحافة الجسم التي كانت بادية عليه. وقد وجد محمد الصديق في وسطه العائلي المتوازن الذي ترعرع فيه كل الدفء والتفهم والمحبة من طرف لجميع. خاصة من قبل أخوته الثلاثة عبد الرحيم وبوعلام وأخته الوحيدة" حبيبة " إذ كانت أسرة بن يحيى عبارة عن مجموعة متكاملة العناصر متضامنة فيما بينها لا تقوى على تفكيكها إلا نكبات الزمن ومحنه. والمتفحص للمحيط العام الذي نشأ فيه محمد بن يحيى يكتشف انه تميز بالبساطة والحياة الهادئة وربما كانت عاملا مهما ساعد هدا الشاب غير العادي على نسج علاقات صداقة متينة ودائمة مع بعض أقرانه, لم تتأثر ولم تتغير بل ازدادت نموا ومودة حتى عندما تولى مناصب ومسؤوليات سامية في الحزب والدولة, بل ظل يحافظ على علاقته بأصدقائه في الطفولة ويعطي لهدا الجانب من حياته كل ما يستحقه من العناية. إن نمط التربية التي تلقاها محمد الصديق بن يحيى وكذلك المحيط الذي كبر فيه يفسر إلى حد كبير صلابة مواقفه وغزارة نضاله وعشقه الدائم للجزائر منذ نعومة أظافره. انها خصال الرجال الكبار الذين لم تنجب الجزائر الكثير منهم ومن نماذجهم وأمثالهم.
مساره الدراسي:
ذات صباح من سنة 1939م امسكه أبوه من يديه وأخذه إلى ملحقةGEORGE SAND الواقعة بالمحطة القديمة والتي كانت تتكون من ثلاثة أقسام فقط , تضم أبناء المعمرين وكذلك أبناء النبلاء والمحظوظين من العرب القاطنين بالمدينة. ومند الأيام الأولى أثار محمد الصديق انتباه معلمته السيدة قالزان GALSIN التي ما زالت على قيد الحياة بضواحي نيس الفرنسية حيث أشفقت عليه ثم لمست فيه استعدادات عقلية كبيرة قلما لاحظتها عند غيره. قضى محمد الصديق بن يحيى 03 سنوات بهذه الملحقة كلها جد واجتهاد وتحصيل مكنته من اكتساب قاعدة تعليمية متينة أهلته لمتابعة مشواره التعليمي بتفوق ونجاح. انتقل بعد هذه الفترة التعليمية التي قضاها في مسقط رأسه إلى مدينة سطيف لينضم إلى مدرسة" أوجان ايبرتيني COLLEG Eaugene tebertine ليقضي هناك 04 سنوات أخرى تعرف خلالها بالسيد عبد السلام بلعيد الذي كان يدرس بنفس الثانوية. ثم التحق بثانوية الأمير عبد القادر – باب الواديBIJOUX سابقا، ليتابع فيها دراسته إلى غاية حصوله على شهادة البكالوريا، ومن هناك التحق بجامعة الجزائر المركزية ليستكمل دراسته العليا بمعهد الحقوق ويتخرج بشهادة الليسانس وبالتوازي مع دراسته في الجامعة اشتغل مراقبا داخليا بثانوية بجاية.
الاهتمام بالسياسة مند الصغر:
اهتم محمد الصديق بن يحيى بالسياسة مند الصغر واحتك برجالها على المستوى المحلي وقد تأثر كثيرا بالسيد محمد رولة المدعو (MAITRE ROULA) الذي كان مناضلا متحمسا مستقلا, له إلمام كبير بالسياسة وقواعدها وحيلها والأحزاب المختلفة وأنشطتها، استمع بن يحيى إلى هذا الرجل وتناقش معه في مسائل شتى إذ يمكن القول إن الفضل الكبير يعود لهذا الرجل الذي وجهه توجيها صحيحا في وقت لا يسمح فيه للأطفال أو الشبان الخوض فيما لا يعنيهم بل يؤذيهم. وقد تأثر كذلك بأستاذ اللغة العربية الشيخ عمربوالدوحان المنتمي إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، و أخد عنه الكثير في حب الوطن والدفاع عنه وكذلك الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية وعدم السماح بطمسها من قبل الاستعمار وأتباعه...
رئيس الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين:
أول نشاط سياسي للسيد بن يحيى رحمه الله كان في الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي كان رئيسا له. وفي سنة 1956م تمكنت مصالح المخابرات العسكرية من اكتشاف حقيقة أمره، مما اضطره للاختفاء عند المحامي( عشوش) لمدة شهر بشارع الحرية وتم خلال هذه الفترة تدبير عملية إخراج محمد الصديق من الجزائر وتهريبه إلى مصر عن طريق تونس.
في مصر من 57 إلى 59:
لقد تولى ضمن خلايا العمل التي شكلتها قيادة الثورة الجزائرية فاشتغل محررا ومذيعا في صوت العرب الذي كان يبث من القاهرة. وقد شارك في الندوة الآفروأسياوية المنعقدة ب"باندونغ" اندونيسيا. وفي سنة 1958 م عين أمينا عاما لأول حكومة جزائرية برئاسة عباس فرحات فأدى هذه المهمة بتفان وإخلاص. وسرعان ما اكتشف أمره قادة الثورة آنذاك مواهبه الكبيرة وذكاءه الخارق. مما أهله وبسرعة للدخول في شؤون السياسة والدبلوماسية من بابها الواسع وعمره لا يتعدى 26 سنة. وقد كان له دورا حاسما في مختلف مراحل المفاوضات" لي روس واتفاقيات ايفيان" وكان أحد مهندسي اتفاقيات وقف القتال
مهمش من 62 إلى 65:
في 20 ديسمبر 1962 م شكلت أول حكومة جزائرية برئاسة السيد احمد بن بلة ولم يكن محمد الصديق بن يحيى عضوا فيها. بل بقي طول هذه الفترة بطالا مقيما في فندق السفير يناضل من أجل الجزائر ويساند قضايا التحرر في العالم, لم ييأس ولم يستسلم بل كان كله أمل في الجزائر التي كان يراها من خلال شبابها قوة ثائرة تشق طريقها نحو مستقبل زاهر, تشرق فيه الشمس على الجميع.
سفير في موسكو من 65 إلى 67:
مع الانقلاب الذي جرى في 19 جوان 1965 م استدعى محمد الصديق بن يحيى لأول مرة من طرف الرئيس هواري بومدين ليقوم بمهام سفير الجزائر في موسكو إلى غاية 1967 م حيث اقترح عليه نفس المنصب في بريطانيا لكنه رفض الالتحاق به بسبب الوقف المتحيز لبريطانيا من الحرب العربية الإسرائيلية التي كانت قد اندلعت آنذاك.
وزير الإعلام والثقافة من 67 إلى 70:
إن التجربة الطويلة لمحمد الصديق بن يحيى ومستواه العالي جدا وحبه للوطن جعل منه رجلا متعدد الخدمات لذلك تراه تقلد مسؤوليات شتى في عدة وزارات وأداها كلها بتفوق وامتياز أثار دهشة الخبراء والمتخصصين. لقد ترك أثاره بارزة في قطاع الثقافة والإعلام من خلال الانجازات والبرامج والمخططات التي تحققت وبالخصوص فيما بعد.
وزير التعليم العالي والبحث العلمي من 70 إلى 76:
كل الملاحظين الذين عاشوا أو عايشوا هذه المرحلة يجمعون بلا منازع على أن الجامعة الجزائرية في تلك الحقبة الزمنية عرفت تطورا ملموسا وتفتحا حقيقيا على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للبلاد. إذ بفضل الإرادة السياسية التي كانت سائدة تمكن ابن الفقير الفلاح من اقتحام مقاعد الجامعة ليزاول دراسته إلى نهايتها دون فرق بين هذا وذاك إلا بالقدرات العقلية. ومن المكاسب التي رسختها ديمقراطية التعليم انها أتاحت الفرصة لجميع أبناء الجزائر ليحصلوا على المعارف والعلوم التي حرموا منها لسنوات طويلة والقطيعة الفعلية مع حياة الفقر والجهل والأمية التي كانت مفروضة على الشعب الجزائري.
وزيرا للمالية من 76 إلى 78:
ولدى مروره بوزارة المالية لم يكن مبذرا ولا مبعثرا لأموال الأمة. بل كان متقشفا وحارسا أمينا على خزائنها, لا ينفق إلا ما يخدم الشعب والوطن وكان رحمه الله بعيد النظر شديد الاحتياط يوفر الدينار الأبيض لليوم الأسود.
وزير الخارجية من 78 إلى 82:
من ابرز أعماله كوزير للخارجية انه استطاع بفضل حنكته السياسية الشروع في استرجاع الجزء الأول من أرشيف الجزائر المسروق من طرف فرنسا إلى ارض الجزائر. وكذلك الدور الرئيسي الذي لعبه لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين الذين كانوا محتجزين في طهران ثم الشروع في الوساطة لإنهاء الحرب بين العراق وإيران .
سقوط الطائرة مرتين في ظرف سنة:
من الألغاز التي ما زالت عالقة أن تسقط طائرة محمد الصديق بن يحيى والوفد المرافق له في الأسبوع الأول من جوان 1981م ببماكو- مالي اثر تقلب مفاجئ في الأحوال الجوية ولحسن الحظ نجا محمد الصديق بأعجوبة وبعد مرور سنة بشهورها وأيامها تتكرر الحادثة لكن هذه المرة خبر المفاجأة جاء ليؤكد أن محمد الصديق وكل من معه هلكوا يوم 3 جوان 1982 م في حادث طائرة" كرومان 62" التي سقطت على الحدود التركية الإيرانية والتي كانت متوجهة من العراق إلى إيران في مهمة سلام . وقد سقطت هده الطائرة في ظروف غامضة لم يكشف عليها لحد الآن رغم الوعد الذي التزم به الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذلك الوقت أمام الشعب الجزائري.
الزواج المتأخر:
معروف على السيد بن يحيى انه تزوج في سن متأخرة جدا من حياته مثل ما فعل المرحوم هواري بومدين تماما ومن نفس الولاية أيضا تلمسان. تزوج تحت ضغوط الأصدقاء وإلحاح العائلة بالسيدة فوزية حمزة الشريف وخلف معها الولد سالم" ربما يتساءل الإنسان لماذا عزف عن الزواج في وقته المناسب. فالرجل غير عادي فلقد أحب الجزائر كل الحب ولم يعد في قلبه مكان شاغر سوى للجزائر والسياسة فقط. مات ولم يترك وراءه قصورا ولا أموالا وكل ما تركه دار عتيقة في شارع شعبي تركها أبوه إرثا على الشيوع.
الأوراق السرية في مقتل محمد الصديق بن يحيى:
يعتبر اغتيال محمد الصديق بن يحيى سابقة خطيرة في تاريخ الجزائر والعالم أجمع... فهو مهندس السياسة الجزائرية حتى مقتله بإيران سنة 1982 في ظروف مبهمة , وهو أيضا الوحيد الذي كان بمقدوره التوسط بين إيران والعراق لتوقيف الحرب التي دارت رحاها ثمان سنوات, وأزهقت فيها مئات الآلاف من الأرواح, ودمرت المدن و البنى التحتية لكلا الدولتين، وأكثر من هذا هو الذي حفظ وجه أمريكا من الدنس مع إيران... هكذا وبفقدانه فقدت الأسرة الدولية اكبر دعاة السلام والأخوة في العالم، ولم تعرف بعده للحل السلمي سبيلا... فمن قتل الرجل التاريخي للسلام؟...
الغموض الغريب
كان راديو طهران أول من ابلغ خبر تحطيم الطائرة المقلة للسيد بن يحيى وبعض كبار موظفي الدولة، والذي أعلن عن مصرع جميع الركاب بما فيهم طاقم الطائرة والمضيفة.. بعد راديو طهران تلقت وكالات الأنباء في العالم الخبر، و راحت تنسج حوله قصصا إخبارية هي اقرب إلى الخيال, فالحادث الخطير والقتيل الأول لا يقل خطرا ولا أهمية للعالم أجمع ذلك أن المهمة التي كان مقررا أن يقوم بها كانت تسترعي اهتمام كل مسؤولي العواصم الغربية بالإضافة إلى موسكو وتل أبيب...
وتعمدت وكالات الأنباء لف الحادث بهالة من الغموض الغريب. فلم تتهم علانية أحدا بالوقوف وراء مقتل الوسيط الجزائري، ومعه مقتل مهمة السلام بمعناها ومغزاها الأكثر شمولا، ذلك ما حدث بالرأي العام العربي والدولي أن يجتهد في إلقاء تهمة القتل بما يفيد المقاصد، ففي العالم العربي كان صوت الاتهام لإيران غير مسموع، لا في الدوائر الإعلامية ولا الرسمية( المغلقة). وكان التريث وانتظار النتائج عن التحقيق حجة لأصحاب الاتجاه المذكور، وأما الأصوات التي ارتفعت لاتهام العراق بأنها وراء الحادث المفجع فقد كانت أكثر علوا وأكثر صخبا وضجيجا، ودليلها على ذلك هو الصاروخ السوفياتي الذي أسقطت به الطائرة( غرومان ج2) التي يوجد على متنها وزير خارجية الجزائر، وجاءت من جانب سوريا التي طالبت الجزائر بالانتقام من العراق. وفي أوروبا وأمريكا صار التركيز على مقتل مهمة السلام وفقدان بن يحيى، وأصبحت مسألة إثارة المزيد من الغموض حول القاتل خطا ثابتا ومؤكدا،لا يتقدم خطوة حتى يظل الاتهام معلقا ومثيرا للجدل، ومقدم أيسر السبل لمزيد من الاتهامات المباشرة والمتبادلة وإشاعة جو أكثر فسادا في العالم العربي.
لماذا بن يحيى بالذات.. ؟؟
لم يسأل أحد في العالم العربي أو الغربي.. لماذا بن يحيى بالذات وليس غيره؟.. فكثيرون هم الذين ذهبوا وعادوا مرات عديدة من طهران إلى بغداد والعكس، ولم يتعرض احد منهم للقتل أو الخطف أو التهديد، منهم وسطاء الجامعة العربية، والمؤتمر الإسلامي ، وغيرهم كثيرون، كلهم عادوا بسلام إلا بن يحيى الذي قتل إلى جانب كبار موظفي الدولة والخارجية الجزائرية. وكان السؤال الآخر الذي يمكن من تقديم طريقا لمعرفة القتلة ومقاصدهم. الذي يمكن طرحه.. لماذا لم يقتل محمد الصديق بن يحيى قبل عام ونصف من ذلك؟ عندما كان يقوم بجولات مكوكية بطائرته الخاصة بين طهران والجزائر وواشنطن ونيويورك وباريس ولندن، وكان محط أنظار العالم كله، كان يقوم بمحاولة إيجاد مخرج لأعقد مشكلة دبلوماسية واجهتها الولايات المتحدة في عصرها الحديث، حيث أهينت أمام العالم كله، ورهائنها الخمسون من رعاياها محتجزين في مبنى السفارة الأمريكية بطهران. والسفارة محاصرة بجموع الطلبة الإيرانيين وقد فشلت كل الوساطات لفك أسرهم . حتى الحملة العسكرية الأمريكية المباغتة التي ذهبت إلى إيران في استعراض قوة فريد من نوعه باءت بالفشل الدر يع وعادت مكسورة الجناح حتى أن معظم الأمريكيين ارتدوا رابطات عنق سوداء تعبيرا عن الحزن والأسى والأصوات الغاضبة تعلو كل يوم مطالبة البيت الأبيض بإنقاذ الكرامة الأمريكية من تلطيخها بالوحل كل يوم في طهران. في تلك الظروف الكئيبة قام بن يحيى بدور وسيط السلام بين أمريكا وإيران، ولم يكن أحد يصدق داخل أمريكا ذاتها أن الوزير الجزائري سيتمكن من إحراز المستحيل، غير أن بن يحيى قام بالدور المنوط به بشكل فاق كل التوقعات، ونجح فيما لم ينجح فيه أحد، ليطرح اسمه كمرشح للفوز بجائزة نوبل للسلام. وهنا نعيد طرح السؤال بصيغة شاملة- لماذا تركوه ينجح في فك أسر الرهائن الأمريكيين وقتلوه ه قبل أن يحرز نجاحا مماثلا في فك مشكل الحرب الجارتين إيران والعراق؟
مقتل ابن يحيى في مصلحة من؟
مند اللحظات الأولى من إعلان خبر مقتل وزير الخارجية الجزائري والأوساط الإعلامية والرسمية تحلل ما يتوارد من معلومات عن الحادث في محاولة لتحديد الجهة التي قصفت الطائرة المقلة للوفد الجزائري، والتي هي بكل وضوح الجهة التي من مصلحتها استمرار الحرب بين العراق وإيران. خاصة وأن الوساطة الجزائرية لم تبدأ إلا بعد تأكد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد بان ظروف نجاحها قد توفرت.. والأطراف التي لها مصلحة في قتل الوساطة عبر قتل محمد الصديق بن يحيى هي كما جاء في مجلة " مرآة الأمة" الكويتية بقلم محمد شاكر لا تخرج عن أربع جهات وهي:
- الجهات المتشددة داخل النظام الإيراني والتي ترفض إنهاء الحرب مع العراق لأنها تعتبرها حرب دينية وحرب الإسلام ضد الكفر ولأن هذه الجهات تحارب من أجل تصدير الثورة الإسلامية بالقوة إلى الخارج أي خارج أراضي إيران وإقامة إمبراطورية شيعية في المنطقة خصوصا وأنها لم تستفد كثيرا من الوساطة السابقة للصديق بن يحيى مع واشنطن. على صعيد تقدم العلاقات الخارجية لإيران مع الدول الغربية كما أن النظام الإيراني تموله إسرائيل والولايات المتحدة ولا أدل على ذلك من فضيحة إيران غيت.
- الولايات المتحدة وإسرائيل وهذان الطرفان لهما عملاء هما المؤثرين داخل أنظمة المنطقة خاصة في إيران بدليل صفقات الأسلحة بين إسرائيل وإيران وفضيحة إيران غيت بعد ذلك وتهدف إسرائيل وتل أبيب من وراء ذلك إلى تحطيم قدرات كلا من العراق وإيران من خلال استمرار الحرب. وفي هذا الشأن يقول مهندس السياسة الخارجية الأمريكية " هنري كيسنجر": الولايات المتحدة الأمريكية تعمل من أجل أن يخرج واحد من حرب الخليج منهزم، لا أن يخرج الاثنان منهزمين فالولايات المتحدة و إسرائيل كانتا ترى في الرجل انه الوحيد الذي يقدر على إنهاء النزاع بما يكفل للدولتين قوة عسكرية وتكنولوجية تسيطر على منابع النفط في الخليج خاصة وانه استطاع حل اعقد مشكلة واجهت أمريكا ولم تنفع فيها دبلوماسيتها وآليتها العسكرية.
- سوريا التي عملت قيادتها على إسقاط نظام الحكم في العراق من خلال استمرار الحرب على أمل هزيمة القوات العراقية بفضل التفوق البشري الإيراني... هناك عناصر داخل النظام الإيراني تتعامل مع سوريا.. كما أن الطائرة التي تحمل وزير الخارجية الجزائر أصيبت بصاروخ سوفياتي الصنع مع الإشارة إلى أن دول المنطقة تمتلك كلها أسلحة سوفياتية الصنع وان كانت سوريا مستبعدة نظرا لعوامل جغرافية تعيق ضربتها الجوية.
العراق و هو المستبعد الكبير من إلقاء التهمة عليه على الرغم من الأضواء الإعلامية التي سلطت العربية منها والغربية وما يؤكد صحة عدم تورط العراق أن السلطة المركزية فيه والممثلة في شخص صدام حسين آنذاك سعت طويلا من أجل بداية الوساطة الجزائرية التي علق عليها الأمل الكبير لإنهاء الحرب. وكان بن يحيى قد زار العراق قبل الحادثة بأسابيع وتحادث مع المسؤولين العراقيين في جلسات وصفت بالمفيدة والناجحة. وكان بإمكان العراق أن ينفد جريمة في حق الوزير الجزائري ويلقي التهمة بما يخدم مصالحه السياسية وبالتالي فلا يعقل من الناحية النظرية أن يكون العراق هو المسؤول عن مقتل ابن يحيى وهو المنهزم عسكريا على كل الجبهات وطيرانه العسكري رابض في مخابئه، وكل طائرة تحلق تترصدها الرادارات الإيرانية ومنطقة العملية التي ذهب ضحيتها بن يحيى تقع إلى الشمال من الحدود العراقية – الإيرانية بحوالي 130 كلم وإيران حينذاك هي خامس أكبر دولة في العالم بناها الشاه المخلوع
محمد الصديق بن يحيى- رحمه الله- كان واحدا من أنبل وأخلص وأطيب المناضلين الجزائريين فضلا عن كونه من الأكفاء القلائل الدين أنجبتهم ثورة نوفمبر الخالدة. مات شهيد الواجب الوطني المقدس. وهو يحمل رسالة السلام للأمة العربية والإسلامية، بلا كلل ولا ملل من ارض المليون شهيد لتسكت أصوات المدافع وتحقن دماء المسلمين لكن قضاء الله وقدره شاء أن تفقد الجزائر في 3 جوان 1982 محمد الصديق بن يحيى الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية وعضوا في المكتب السياسي لجبهة التحرير الوطني وكذلك الوفد المرافق له.
لمحة عن نشأته:
ولد محمد الصديق بن يحيى سنة 1932 بمدينة جيجل شارع سي الحواس رقم 37 rue MONTGNEMOONT سابقا وسط عائلة محترمة ذات سمعة طيبة. عاش في كنف أبيه فرحات الذي كان من أبرز تجار المدينة فأحاطه بالرعاية والعناية. ووفر له كل الحاجيات والرغبات التي يحلم بها كل طفل وهو في عمر الزهور. وأمه خلاف الصافبية التي كانت تفرط في حنانها عليه أكثر من أخوته لتعوضه نحافة الجسم التي كانت بادية عليه. وقد وجد محمد الصديق في وسطه العائلي المتوازن الذي ترعرع فيه كل الدفء والتفهم والمحبة من طرف لجميع. خاصة من قبل أخوته الثلاثة عبد الرحيم وبوعلام وأخته الوحيدة" حبيبة " إذ كانت أسرة بن يحيى عبارة عن مجموعة متكاملة العناصر متضامنة فيما بينها لا تقوى على تفكيكها إلا نكبات الزمن ومحنه. والمتفحص للمحيط العام الذي نشأ فيه محمد بن يحيى يكتشف انه تميز بالبساطة والحياة الهادئة وربما كانت عاملا مهما ساعد هدا الشاب غير العادي على نسج علاقات صداقة متينة ودائمة مع بعض أقرانه, لم تتأثر ولم تتغير بل ازدادت نموا ومودة حتى عندما تولى مناصب ومسؤوليات سامية في الحزب والدولة, بل ظل يحافظ على علاقته بأصدقائه في الطفولة ويعطي لهدا الجانب من حياته كل ما يستحقه من العناية. إن نمط التربية التي تلقاها محمد الصديق بن يحيى وكذلك المحيط الذي كبر فيه يفسر إلى حد كبير صلابة مواقفه وغزارة نضاله وعشقه الدائم للجزائر منذ نعومة أظافره. انها خصال الرجال الكبار الذين لم تنجب الجزائر الكثير منهم ومن نماذجهم وأمثالهم.
مساره الدراسي:
ذات صباح من سنة 1939م امسكه أبوه من يديه وأخذه إلى ملحقةGEORGE SAND الواقعة بالمحطة القديمة والتي كانت تتكون من ثلاثة أقسام فقط , تضم أبناء المعمرين وكذلك أبناء النبلاء والمحظوظين من العرب القاطنين بالمدينة. ومند الأيام الأولى أثار محمد الصديق انتباه معلمته السيدة قالزان GALSIN التي ما زالت على قيد الحياة بضواحي نيس الفرنسية حيث أشفقت عليه ثم لمست فيه استعدادات عقلية كبيرة قلما لاحظتها عند غيره. قضى محمد الصديق بن يحيى 03 سنوات بهذه الملحقة كلها جد واجتهاد وتحصيل مكنته من اكتساب قاعدة تعليمية متينة أهلته لمتابعة مشواره التعليمي بتفوق ونجاح. انتقل بعد هذه الفترة التعليمية التي قضاها في مسقط رأسه إلى مدينة سطيف لينضم إلى مدرسة" أوجان ايبرتيني COLLEG Eaugene tebertine ليقضي هناك 04 سنوات أخرى تعرف خلالها بالسيد عبد السلام بلعيد الذي كان يدرس بنفس الثانوية. ثم التحق بثانوية الأمير عبد القادر – باب الواديBIJOUX سابقا، ليتابع فيها دراسته إلى غاية حصوله على شهادة البكالوريا، ومن هناك التحق بجامعة الجزائر المركزية ليستكمل دراسته العليا بمعهد الحقوق ويتخرج بشهادة الليسانس وبالتوازي مع دراسته في الجامعة اشتغل مراقبا داخليا بثانوية بجاية.
الاهتمام بالسياسة مند الصغر:
اهتم محمد الصديق بن يحيى بالسياسة مند الصغر واحتك برجالها على المستوى المحلي وقد تأثر كثيرا بالسيد محمد رولة المدعو (MAITRE ROULA) الذي كان مناضلا متحمسا مستقلا, له إلمام كبير بالسياسة وقواعدها وحيلها والأحزاب المختلفة وأنشطتها، استمع بن يحيى إلى هذا الرجل وتناقش معه في مسائل شتى إذ يمكن القول إن الفضل الكبير يعود لهذا الرجل الذي وجهه توجيها صحيحا في وقت لا يسمح فيه للأطفال أو الشبان الخوض فيما لا يعنيهم بل يؤذيهم. وقد تأثر كذلك بأستاذ اللغة العربية الشيخ عمربوالدوحان المنتمي إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، و أخد عنه الكثير في حب الوطن والدفاع عنه وكذلك الدفاع عن الهوية العربية الإسلامية وعدم السماح بطمسها من قبل الاستعمار وأتباعه...
رئيس الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين:
أول نشاط سياسي للسيد بن يحيى رحمه الله كان في الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين الذي كان رئيسا له. وفي سنة 1956م تمكنت مصالح المخابرات العسكرية من اكتشاف حقيقة أمره، مما اضطره للاختفاء عند المحامي( عشوش) لمدة شهر بشارع الحرية وتم خلال هذه الفترة تدبير عملية إخراج محمد الصديق من الجزائر وتهريبه إلى مصر عن طريق تونس.
في مصر من 57 إلى 59:
لقد تولى ضمن خلايا العمل التي شكلتها قيادة الثورة الجزائرية فاشتغل محررا ومذيعا في صوت العرب الذي كان يبث من القاهرة. وقد شارك في الندوة الآفروأسياوية المنعقدة ب"باندونغ" اندونيسيا. وفي سنة 1958 م عين أمينا عاما لأول حكومة جزائرية برئاسة عباس فرحات فأدى هذه المهمة بتفان وإخلاص. وسرعان ما اكتشف أمره قادة الثورة آنذاك مواهبه الكبيرة وذكاءه الخارق. مما أهله وبسرعة للدخول في شؤون السياسة والدبلوماسية من بابها الواسع وعمره لا يتعدى 26 سنة. وقد كان له دورا حاسما في مختلف مراحل المفاوضات" لي روس واتفاقيات ايفيان" وكان أحد مهندسي اتفاقيات وقف القتال
مهمش من 62 إلى 65:
في 20 ديسمبر 1962 م شكلت أول حكومة جزائرية برئاسة السيد احمد بن بلة ولم يكن محمد الصديق بن يحيى عضوا فيها. بل بقي طول هذه الفترة بطالا مقيما في فندق السفير يناضل من أجل الجزائر ويساند قضايا التحرر في العالم, لم ييأس ولم يستسلم بل كان كله أمل في الجزائر التي كان يراها من خلال شبابها قوة ثائرة تشق طريقها نحو مستقبل زاهر, تشرق فيه الشمس على الجميع.
سفير في موسكو من 65 إلى 67:
مع الانقلاب الذي جرى في 19 جوان 1965 م استدعى محمد الصديق بن يحيى لأول مرة من طرف الرئيس هواري بومدين ليقوم بمهام سفير الجزائر في موسكو إلى غاية 1967 م حيث اقترح عليه نفس المنصب في بريطانيا لكنه رفض الالتحاق به بسبب الوقف المتحيز لبريطانيا من الحرب العربية الإسرائيلية التي كانت قد اندلعت آنذاك.
وزير الإعلام والثقافة من 67 إلى 70:
إن التجربة الطويلة لمحمد الصديق بن يحيى ومستواه العالي جدا وحبه للوطن جعل منه رجلا متعدد الخدمات لذلك تراه تقلد مسؤوليات شتى في عدة وزارات وأداها كلها بتفوق وامتياز أثار دهشة الخبراء والمتخصصين. لقد ترك أثاره بارزة في قطاع الثقافة والإعلام من خلال الانجازات والبرامج والمخططات التي تحققت وبالخصوص فيما بعد.
وزير التعليم العالي والبحث العلمي من 70 إلى 76:
كل الملاحظين الذين عاشوا أو عايشوا هذه المرحلة يجمعون بلا منازع على أن الجامعة الجزائرية في تلك الحقبة الزمنية عرفت تطورا ملموسا وتفتحا حقيقيا على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للبلاد. إذ بفضل الإرادة السياسية التي كانت سائدة تمكن ابن الفقير الفلاح من اقتحام مقاعد الجامعة ليزاول دراسته إلى نهايتها دون فرق بين هذا وذاك إلا بالقدرات العقلية. ومن المكاسب التي رسختها ديمقراطية التعليم انها أتاحت الفرصة لجميع أبناء الجزائر ليحصلوا على المعارف والعلوم التي حرموا منها لسنوات طويلة والقطيعة الفعلية مع حياة الفقر والجهل والأمية التي كانت مفروضة على الشعب الجزائري.
وزيرا للمالية من 76 إلى 78:
ولدى مروره بوزارة المالية لم يكن مبذرا ولا مبعثرا لأموال الأمة. بل كان متقشفا وحارسا أمينا على خزائنها, لا ينفق إلا ما يخدم الشعب والوطن وكان رحمه الله بعيد النظر شديد الاحتياط يوفر الدينار الأبيض لليوم الأسود.
وزير الخارجية من 78 إلى 82:
من ابرز أعماله كوزير للخارجية انه استطاع بفضل حنكته السياسية الشروع في استرجاع الجزء الأول من أرشيف الجزائر المسروق من طرف فرنسا إلى ارض الجزائر. وكذلك الدور الرئيسي الذي لعبه لإطلاق سراح الرهائن الأمريكيين الذين كانوا محتجزين في طهران ثم الشروع في الوساطة لإنهاء الحرب بين العراق وإيران .
سقوط الطائرة مرتين في ظرف سنة:
من الألغاز التي ما زالت عالقة أن تسقط طائرة محمد الصديق بن يحيى والوفد المرافق له في الأسبوع الأول من جوان 1981م ببماكو- مالي اثر تقلب مفاجئ في الأحوال الجوية ولحسن الحظ نجا محمد الصديق بأعجوبة وبعد مرور سنة بشهورها وأيامها تتكرر الحادثة لكن هذه المرة خبر المفاجأة جاء ليؤكد أن محمد الصديق وكل من معه هلكوا يوم 3 جوان 1982 م في حادث طائرة" كرومان 62" التي سقطت على الحدود التركية الإيرانية والتي كانت متوجهة من العراق إلى إيران في مهمة سلام . وقد سقطت هده الطائرة في ظروف غامضة لم يكشف عليها لحد الآن رغم الوعد الذي التزم به الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد في ذلك الوقت أمام الشعب الجزائري.
الزواج المتأخر:
معروف على السيد بن يحيى انه تزوج في سن متأخرة جدا من حياته مثل ما فعل المرحوم هواري بومدين تماما ومن نفس الولاية أيضا تلمسان. تزوج تحت ضغوط الأصدقاء وإلحاح العائلة بالسيدة فوزية حمزة الشريف وخلف معها الولد سالم" ربما يتساءل الإنسان لماذا عزف عن الزواج في وقته المناسب. فالرجل غير عادي فلقد أحب الجزائر كل الحب ولم يعد في قلبه مكان شاغر سوى للجزائر والسياسة فقط. مات ولم يترك وراءه قصورا ولا أموالا وكل ما تركه دار عتيقة في شارع شعبي تركها أبوه إرثا على الشيوع.
الأوراق السرية في مقتل محمد الصديق بن يحيى:
يعتبر اغتيال محمد الصديق بن يحيى سابقة خطيرة في تاريخ الجزائر والعالم أجمع... فهو مهندس السياسة الجزائرية حتى مقتله بإيران سنة 1982 في ظروف مبهمة , وهو أيضا الوحيد الذي كان بمقدوره التوسط بين إيران والعراق لتوقيف الحرب التي دارت رحاها ثمان سنوات, وأزهقت فيها مئات الآلاف من الأرواح, ودمرت المدن و البنى التحتية لكلا الدولتين، وأكثر من هذا هو الذي حفظ وجه أمريكا من الدنس مع إيران... هكذا وبفقدانه فقدت الأسرة الدولية اكبر دعاة السلام والأخوة في العالم، ولم تعرف بعده للحل السلمي سبيلا... فمن قتل الرجل التاريخي للسلام؟...
الغموض الغريب
كان راديو طهران أول من ابلغ خبر تحطيم الطائرة المقلة للسيد بن يحيى وبعض كبار موظفي الدولة، والذي أعلن عن مصرع جميع الركاب بما فيهم طاقم الطائرة والمضيفة.. بعد راديو طهران تلقت وكالات الأنباء في العالم الخبر، و راحت تنسج حوله قصصا إخبارية هي اقرب إلى الخيال, فالحادث الخطير والقتيل الأول لا يقل خطرا ولا أهمية للعالم أجمع ذلك أن المهمة التي كان مقررا أن يقوم بها كانت تسترعي اهتمام كل مسؤولي العواصم الغربية بالإضافة إلى موسكو وتل أبيب...
وتعمدت وكالات الأنباء لف الحادث بهالة من الغموض الغريب. فلم تتهم علانية أحدا بالوقوف وراء مقتل الوسيط الجزائري، ومعه مقتل مهمة السلام بمعناها ومغزاها الأكثر شمولا، ذلك ما حدث بالرأي العام العربي والدولي أن يجتهد في إلقاء تهمة القتل بما يفيد المقاصد، ففي العالم العربي كان صوت الاتهام لإيران غير مسموع، لا في الدوائر الإعلامية ولا الرسمية( المغلقة). وكان التريث وانتظار النتائج عن التحقيق حجة لأصحاب الاتجاه المذكور، وأما الأصوات التي ارتفعت لاتهام العراق بأنها وراء الحادث المفجع فقد كانت أكثر علوا وأكثر صخبا وضجيجا، ودليلها على ذلك هو الصاروخ السوفياتي الذي أسقطت به الطائرة( غرومان ج2) التي يوجد على متنها وزير خارجية الجزائر، وجاءت من جانب سوريا التي طالبت الجزائر بالانتقام من العراق. وفي أوروبا وأمريكا صار التركيز على مقتل مهمة السلام وفقدان بن يحيى، وأصبحت مسألة إثارة المزيد من الغموض حول القاتل خطا ثابتا ومؤكدا،لا يتقدم خطوة حتى يظل الاتهام معلقا ومثيرا للجدل، ومقدم أيسر السبل لمزيد من الاتهامات المباشرة والمتبادلة وإشاعة جو أكثر فسادا في العالم العربي.
لماذا بن يحيى بالذات.. ؟؟
لم يسأل أحد في العالم العربي أو الغربي.. لماذا بن يحيى بالذات وليس غيره؟.. فكثيرون هم الذين ذهبوا وعادوا مرات عديدة من طهران إلى بغداد والعكس، ولم يتعرض احد منهم للقتل أو الخطف أو التهديد، منهم وسطاء الجامعة العربية، والمؤتمر الإسلامي ، وغيرهم كثيرون، كلهم عادوا بسلام إلا بن يحيى الذي قتل إلى جانب كبار موظفي الدولة والخارجية الجزائرية. وكان السؤال الآخر الذي يمكن من تقديم طريقا لمعرفة القتلة ومقاصدهم. الذي يمكن طرحه.. لماذا لم يقتل محمد الصديق بن يحيى قبل عام ونصف من ذلك؟ عندما كان يقوم بجولات مكوكية بطائرته الخاصة بين طهران والجزائر وواشنطن ونيويورك وباريس ولندن، وكان محط أنظار العالم كله، كان يقوم بمحاولة إيجاد مخرج لأعقد مشكلة دبلوماسية واجهتها الولايات المتحدة في عصرها الحديث، حيث أهينت أمام العالم كله، ورهائنها الخمسون من رعاياها محتجزين في مبنى السفارة الأمريكية بطهران. والسفارة محاصرة بجموع الطلبة الإيرانيين وقد فشلت كل الوساطات لفك أسرهم . حتى الحملة العسكرية الأمريكية المباغتة التي ذهبت إلى إيران في استعراض قوة فريد من نوعه باءت بالفشل الدر يع وعادت مكسورة الجناح حتى أن معظم الأمريكيين ارتدوا رابطات عنق سوداء تعبيرا عن الحزن والأسى والأصوات الغاضبة تعلو كل يوم مطالبة البيت الأبيض بإنقاذ الكرامة الأمريكية من تلطيخها بالوحل كل يوم في طهران. في تلك الظروف الكئيبة قام بن يحيى بدور وسيط السلام بين أمريكا وإيران، ولم يكن أحد يصدق داخل أمريكا ذاتها أن الوزير الجزائري سيتمكن من إحراز المستحيل، غير أن بن يحيى قام بالدور المنوط به بشكل فاق كل التوقعات، ونجح فيما لم ينجح فيه أحد، ليطرح اسمه كمرشح للفوز بجائزة نوبل للسلام. وهنا نعيد طرح السؤال بصيغة شاملة- لماذا تركوه ينجح في فك أسر الرهائن الأمريكيين وقتلوه ه قبل أن يحرز نجاحا مماثلا في فك مشكل الحرب الجارتين إيران والعراق؟
مقتل ابن يحيى في مصلحة من؟
مند اللحظات الأولى من إعلان خبر مقتل وزير الخارجية الجزائري والأوساط الإعلامية والرسمية تحلل ما يتوارد من معلومات عن الحادث في محاولة لتحديد الجهة التي قصفت الطائرة المقلة للوفد الجزائري، والتي هي بكل وضوح الجهة التي من مصلحتها استمرار الحرب بين العراق وإيران. خاصة وأن الوساطة الجزائرية لم تبدأ إلا بعد تأكد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد بان ظروف نجاحها قد توفرت.. والأطراف التي لها مصلحة في قتل الوساطة عبر قتل محمد الصديق بن يحيى هي كما جاء في مجلة " مرآة الأمة" الكويتية بقلم محمد شاكر لا تخرج عن أربع جهات وهي:
- الجهات المتشددة داخل النظام الإيراني والتي ترفض إنهاء الحرب مع العراق لأنها تعتبرها حرب دينية وحرب الإسلام ضد الكفر ولأن هذه الجهات تحارب من أجل تصدير الثورة الإسلامية بالقوة إلى الخارج أي خارج أراضي إيران وإقامة إمبراطورية شيعية في المنطقة خصوصا وأنها لم تستفد كثيرا من الوساطة السابقة للصديق بن يحيى مع واشنطن. على صعيد تقدم العلاقات الخارجية لإيران مع الدول الغربية كما أن النظام الإيراني تموله إسرائيل والولايات المتحدة ولا أدل على ذلك من فضيحة إيران غيت.
- الولايات المتحدة وإسرائيل وهذان الطرفان لهما عملاء هما المؤثرين داخل أنظمة المنطقة خاصة في إيران بدليل صفقات الأسلحة بين إسرائيل وإيران وفضيحة إيران غيت بعد ذلك وتهدف إسرائيل وتل أبيب من وراء ذلك إلى تحطيم قدرات كلا من العراق وإيران من خلال استمرار الحرب. وفي هذا الشأن يقول مهندس السياسة الخارجية الأمريكية " هنري كيسنجر": الولايات المتحدة الأمريكية تعمل من أجل أن يخرج واحد من حرب الخليج منهزم، لا أن يخرج الاثنان منهزمين فالولايات المتحدة و إسرائيل كانتا ترى في الرجل انه الوحيد الذي يقدر على إنهاء النزاع بما يكفل للدولتين قوة عسكرية وتكنولوجية تسيطر على منابع النفط في الخليج خاصة وانه استطاع حل اعقد مشكلة واجهت أمريكا ولم تنفع فيها دبلوماسيتها وآليتها العسكرية.
- سوريا التي عملت قيادتها على إسقاط نظام الحكم في العراق من خلال استمرار الحرب على أمل هزيمة القوات العراقية بفضل التفوق البشري الإيراني... هناك عناصر داخل النظام الإيراني تتعامل مع سوريا.. كما أن الطائرة التي تحمل وزير الخارجية الجزائر أصيبت بصاروخ سوفياتي الصنع مع الإشارة إلى أن دول المنطقة تمتلك كلها أسلحة سوفياتية الصنع وان كانت سوريا مستبعدة نظرا لعوامل جغرافية تعيق ضربتها الجوية.
العراق و هو المستبعد الكبير من إلقاء التهمة عليه على الرغم من الأضواء الإعلامية التي سلطت العربية منها والغربية وما يؤكد صحة عدم تورط العراق أن السلطة المركزية فيه والممثلة في شخص صدام حسين آنذاك سعت طويلا من أجل بداية الوساطة الجزائرية التي علق عليها الأمل الكبير لإنهاء الحرب. وكان بن يحيى قد زار العراق قبل الحادثة بأسابيع وتحادث مع المسؤولين العراقيين في جلسات وصفت بالمفيدة والناجحة. وكان بإمكان العراق أن ينفد جريمة في حق الوزير الجزائري ويلقي التهمة بما يخدم مصالحه السياسية وبالتالي فلا يعقل من الناحية النظرية أن يكون العراق هو المسؤول عن مقتل ابن يحيى وهو المنهزم عسكريا على كل الجبهات وطيرانه العسكري رابض في مخابئه، وكل طائرة تحلق تترصدها الرادارات الإيرانية ومنطقة العملية التي ذهب ضحيتها بن يحيى تقع إلى الشمال من الحدود العراقية – الإيرانية بحوالي 130 كلم وإيران حينذاك هي خامس أكبر دولة في العالم بناها الشاه المخلوع