ويتمثل ذلك بأمرين :
الأول : أنه لا صراحة فيما استدل به من نصوص , مع علمه أن الأصل في الشريعـة هو الزجر عن مباشرة ما يتعلق بالسحر والسحرة والكهنة والعرافين .
الثاني : ضعف الاستنباط مما ذكر منها .
وعند عرض أدلته يتضح ذلك :
أولا : حديث سحر النبي عليه الصلاة والسلام .
وهو في صحيح البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن , قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا , فقال يا عائشة : أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه , أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل ؟ قال مطبوب , قال : ومن طبه ؟ قال : لبيد بن أعصم , رجل من بني زريق حليف ليهود كان منافقا , قال : وفيم , قال : في مشط ومشاقة ؟ قال : وأين ؟ قال : في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان , قالت : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم البئر حتى استخرجه , فقال : هذه البئر التي أريتها وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رءوس الشياطين , قال : فاستخرج , قالت : فقلت : أفلا - أي تنشرت - فقال : أما الله فقد شفاني وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا ) .
ومما استنبط العبيكان من ذلك :
1 – أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينكر على عائشة قولها : ( هلا تنشرت ) .
2 – أن عائشة لم تقصد بذلك النشرة الشرعية بل التي بفعل الساحر ..!
3 – أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بالرقية الشرعية .
4 – أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعرف مكان السحر إلا بوحي .
5 – أنه في الغالب لا يعرف مكان السحر لاستخراجه إلا الجن عن طريق الساحر .
والجواب عليه بما يلي :
أما قوله بعدم إنكار النبي عليه الصلاة والسلام لقول عائشة ( هلا تنشر ) فيقال :
أولا : أنه لا يسلم له أن معنى قول عائشة : ( هلا تنشرت ) هو حل السحر بالسحر , لأن لفظ الحديث دل على أن قولها هذا كان بعد أن ذهب ما يجده رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكيف يكون مقصودها من ذلك حل السحر وقد حل عنه .
ثانيا : أن بعض ألفاظ الحديث جاءت بغير تلك اللفظة فعند مسلم ( 4059 ) : ( أفلا أحرقته ) وفي نفس الرواية: ( فأخرِجه ) , وفي رواية للبخاري : ( استخرجته ) .
ثالثا : أن قول عائشة – إن دل على كلام العبيكان – فقد كان استفتاءا , وقد استفتاه الصحابة بأعظم من هذا كما في حديث ذات أنواط , وكما في استفتاء الصحابي له بأن يأذن له بالزنى ولم يعتبر ذلك مبيحا للشرك ولا للزنى .
رابعا : أن النبي عليه الصلاة والسلام لو كان قوله على ما أراد العبيكان فقد أفتاها بأنه شر كما في قوله ( وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا ) .
أما قوله إن عائشة لم تقصد الرقية الشرعية إنما تقصد التي بفعل الساحر قيل الجواب على وجهين :
الأول : يلزم العبيكان أن يقول إن عائشة رضي الله عنها تريد من النبي عليه الصلاة والسلام أن يذهب للساحر المشرك ليحل سحره , ومن ثم على النبي عليه الصلاة والسلام أن يصدق هذا الساحر المشرك بمن سحره وبمكان السحر , وهذا الكلام لا يقوله عاقل فضلا عن طالب علم .!!
الثاني : الألفاظ الأخرى تدل على أنها رضي الله عنها لم تقصد ذلك كما في رواية مسلم : ( أفلا أحرقته ) .
وأما كون النبي عليه الصلاة والسلام لم يكتف بالرقية الشرعية فلأنه لم يتضح له في بداية الأمر أنه مسحور - كما يأتي توضيحه من كلام ابن القيم - حيث ذكر أنه ظن أن الذي أصابه هو مرض في رأسه فمال إلى الحجامة , ثم رأى في المنام أنه مسحور .
وأما قوله إنه لم يعلم مكان سحره عليه الصلاة والسلام إلا بوحي فهذا نعم , لكنه غير لازم للعلم بالسحر , فقد يرقي الراقي ويتكلم الجني فيخبر عن السحر وهذا معلوم مجرب ولا غرابة فيه , وقد يرى في رؤيا المنام فيعلم مكانه كما في حديث سحر عائشة الأتي , ولهذا ذكر العبيكان في النقطة الخامسة هنا أن ذلك يكون غالبا , والمعنى - من كلامه - أنه من الممكن أن يعرف السحر ومكانه من غير الجن .
ثانيا : حديث سحر عائشة رضي الله عنها , فقد قال العبيكان ص 10 :
وروى مالك في الموطأ عن عائشة أنها أعتقت جارية لها على دبر منها ، ثم إن عائشة مرضت بعد ذلك ما شاء الله ؛ فدخل عليها سندي فقال : إنك مطبوبة ؛ فقالت: من طبني ؛ فقال امرأة من نعتها كذا وكذا ، وفي حجرها صبي قد بال ؛ فقالت عائشة : ادع لي فلانة لجارية لها تخدمها ، فوجدوها في بيت جيران لها في حجرها صبي قد بال ؛ فقالت : حتى أغسل بول الصبي ؛ فغسلته ثم جاءت فقالت لها عائشة : سحرتني ؟ قالت : نعم ؛ فقالت: لم ؟ قالت : أحببت العتق ؛ فقالت عائشة : أحببت العتق ؛ فو الله لا تعتقن أبدا ؛ فأمرت عائشة ابن أخيها أن يبيعها من الأعراب ممن يسيء ملكتها ، ثم قالت : ابتع لي بثمنها رقبة حتى اعتقها ففعلت .قالت عمرة : فلبثت عائشة ما شاء الله عز وجل من الزمان ثم إنها رأت في النوم أن اغتسلي من ثلاث آبار يمر بعضها في بعض فإنك تشفين ، قالت عمرة : فدخل على عائشة إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الرحمن ابن سعد بن زرارة فذكرت لهما الذي رأت فانطلقا إلى قباء فوجدا آبارا ثلاثا يمد بعضها بعضا فاستقوا من كل بئر منها ثلاث شخب حتى ملئ الشخب من جميعهن ثم أتوا به عائشة فاغتسلت به فشفيت. ( الاستذكار ج ٢٥ / ٢٣٨) .
فعلق العبيكان قائلا :
فعائشة - رضي الله عنها – سألت السندي عن حالها ، ولم تنكر فعله، إذن فهي ترى جواز سؤال الساحر وعدم قتله كما سيأتي عن ابن عبدالبر . ولم تقتصر على الرقية ، ولم تشف حتى دلت على ماء الآبار الثلاثة عن طريق رؤيا في المنام فشربت منها فشفيت . اهـ
وهذا الأثر لو تأمله القارئ لوجد أنه على العبيكان وليس له , والجواب عليه من وجوه :
الوجه الأول : أن عائشة رضي الله عنها لم تذهب للسندي كما في الأثر الذي نقله , بل هو الذي أتى إليها كما في قوله ( فدخل عليها السندي ) , بل اللفظ الآخر الذي عدل عنه العبيكان - كما سوف يأتي تبيينه - يبين أن بني أخيها هم الذي ذهبوا إلى السندي .
الوجه الثاني : أن العبيكان هداه الله قال إن عائشة رضي الله عنها سألت السندي وقد كذب على عائشة رضي الله عنها , فإن عائشة لم تسأل السندي , بل السندي هو الذي ابتدأ عائشة بالكلام , وقد نقل في الأثر : ( فدخل عليها سندي فقال : إنك مطبوبة ) فأين السؤال ابتداء ؟
فإن قال : إن السندي لما قال لها : انك مطبوبة , قالت من طبني ؟ .
قيل : إن عائشة لم تسأله عن السحر وبماذا سحرت ابتداءاً , وربما كان سؤالها له اختبارا له , ولهذا أرسلت من يسأل الجارية لكونها لم تكن بقول السندي متيقنة , وقد جاء في الأثر السابق : ( فقالت لها عائشة : سحرتني ؟ قالت : نعم ؛ فقالت : لم ؟ ) .
هذا فضلا عن أن القصة بلفظها الأخر جاء فيها أن بني أخيها هم من ذهب إلى الزط يسألونه عن ذلك , فروى البخاري في الأدب المفرد وغيره أن عائشة رضي الله عنها دبرت أمة لها , فاشتكت عائشة , فسأل بنو أخيها طبيبا من الزط , فقال : إنكم تخبروني عن امرأة مسحورة سحرتها أمة لها , فأخبرت عائشة .. ) فالأثر يذكر أن بني أخيها هم من ذهب للسندي ثم أخبرت عائشة رضي الله عنها بالأمر , وليست هي من سأله .
الوجه الثالث : أن عائشة رضي الله عنها لم تطلب من السندي حل السحر .
الوجه الرابع : أن عائشة رضي الله عنها لم تصدق السندي حتى لا يقول العبيكان إن عائشة صدقت الساحر , بل أرسلت للجارية تسألها لتتحقق من الموضوع كما في الأثر الذي نقله العبيكان نفسه .
الوجه الخامس : أن عائشة رضي الله عنها صبرت عن البحث عن شفائها كما في الأثر الذي نقله العبيكان : ( فلبثت عائشة ماشاء الله عز وجل من الزمان ثم إنها رأت في المنام .. ) وقد شفيت بسبب ما رأت في المنام كما في هذا الأثر الذي نقله المؤلف .
والغريب أن العبيكان يستغرب أن يطالب الناس بالصبر على ما أصابهم من ذلك , مستدلا بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأمر المريض بالصبر فقط بل قال : ( تداووا عباد الله ) وغيره , ولعله نسي أن من أمر بالصبر هو الرسول عليه الصلاة والسلام وليسوا مخالفيه , كما في حديث المرأة التي كانت تصرع وتتكشف , وقد أمرها النبي عليه الصلاة والسلام بالصبر على صرعها , واخبر أنها إن فعلت ذلك فإن لها الجنة .
فماذا سيقول العبيكان .!؟
الوجه السادس : أن السندي ليس هو الذي حل السحر .
الوجه السابع : أن العبيكان قال : إذن فهي ترى جواز سؤال الساحر وعدم قتله.
ونقول : أما السؤال فلم تسأله ابتداءا كما بينا .
وأما عدم قتله فيجاب عنه بأمور :
الأول : أن عائشة رضي الله عنها ليس لها أن تقيم الحدود والتعزيرات حتى يستدل بفعلها .؟!
الثاني : يقول الشافعي رحمه الله : وأما بيع عائشة الجارية ولم تأمر بقتلها فيشبه أن تكون لم تعرف ما السحر فباعتها .. ولو أقرت عند عائشة أن السحر شرك ما تركت قتلها إن لم تتب أو دفعتها إلى الإمام ليقتلها .
[FONT=خط لوتس الجديد][1][/FONT]
الثالث : أنه – كما يعلم العبيكان – ليس كل سحر كفر , فقد تكون سحرتها بنوع من الأدوية الضارة التي لا توجب كفرا أو قتلا , وقد أورد البيهقي هذا الحديث تحت عنوان : باب من لا يكون سحره كفرا ولم يقتل به أحدا لم يقتل ) . السنن 8/137
الرابع : لو فرض أن عائشة لا ترى قتل الساحر فقد رأى قتله خمسة من الصحابة رضي الله عنهم , على رأسهم الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه , كيف ولم يذكر عن عائشة قول مخالف لذلك , وسكوتها هنا لا يعني أنه قول لها بعدم قتله , بل نقل بعضهم إجماع الصحابة على قتل الساحر .
الوجه الثامن : أن الأثر في متنه تضارب , فمرة ذكر أن السندي هو الذي جاء إلى عائشة كما نقل العبيكان , و مرة أن بني أخي عائشة هم الذين سألوا رجلا من الزط , كما هو في الأدب المفرد و الدارقطني وغيرهما .
ضعف تقصيه لأدلة وأقوال مخالفيه
من ذلك :
أولا : عدم استيعابه لذكر أدلتهم :
مع أنها مشهورة متداولة صحيحة لا غبار عليها , وما نقل من أدلة فقد عرضها دون أن يعلق عليها في الغالب , وأدلة أخرى أعرض عنها ولم ينقلها :
1 - حديث جابر رضي الله عنه وهو عند احمد وأبي داود أنه عليه الصلاة والسلام سئل عن النشرة فقال : ( هو من عمل الشيطان ) , صححه ابن مفلح وحسن إسناده ابن حجر . وهذا جاء به في معرض نقله عن ابن حجر وسكت عنه ولم يعلق عليه .
2 - روى البزار والطبراني في الكبير بسند صحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له ) . وهذا لم يذكره .
3 – قول ابن مسعود رضي الله عنه : ( من أتى عرافا أو ساحرا أو كاهنا فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) . رواه الدارقطني وصحح وقفه على ابن مسعود و قال ابن كثير إسناده صحيح " وقال ابن حجر وسنده جيد ، ومثله لا يقال بالرأي . وقد اكتفى بتضعيف الحديث بقول الألباني كما يأتي .
4 – ما رواه احمد في المسند عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن خمر وقاطع رحم ومصدق بالسحر ) الحديث , وهذا لم يذكره .
5 – ما ذكره الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد باب ماجاء في النشرة : سئل أحمد عنها – أي النشرة - فقال : ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره ذلك كله , وهذا الأثر لم يعلق عليه .
6 - جميع الآثار التي جاءت بالمنع من النشرة كما هو قول الحسن واحمد ومجاهد والنخعي ومن نقل عنهم من أئمة التابعين , فابن مسعود قوله حجة في هذا الباب , أما التابعون فلم يأتي من يخالف رأيهم في ذلك سوى ما فهم من قول ابن المسيب وقد تعددت الاحتمالات عليه , وفسره أبو حيان والقرطبي والالوسي وسليمان بن عبدالله وغيرهم بغير تفسير العبيكان كما يأتي توضيحه.
7 – الإجماع الذي نقله ابن تيمية رحمه الله وقد قال : والمسلمون وإن تنازعوا في جواز التداوي بالمحرمات كالميتة والخنزير فلا يتنازعون في أن الكفر والشرك لا يجوز التداوي به بحال [FONT=خط لوتس الجديد][1]http://majles.alukah.net/showthread.php?p=262437&posted=1#_ftn1 .[/FONT]
وما نقله ابن حجر رحمه الله من إجماع أهل العلم على شروط الرقية .
ثانيا : في ضعف عرضه أقوال المانعين :
ويتمثل ذلك فيما يلي بأمور , منها :
الأول : ساق عدة أقوال لمن منع من النشرة في معرض كلامه , ولم يتعرض للإجابة عليها , منها على سبيل المثال :
1 – رأي ابن مسعود رضي الله عنه الذي ذكره الإمام احمد رحمه الله أنه كان يكره ذلك كله .
2 – تقسيم ابن القيم للممنوع منها والمسموح .
3 - القول الذي نقله الأثرم عن الإمام احمد حينما نفض يده كالمنكر .
4 – قول الحسن إنه كان يكره ذلك .
5 – قول الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في مسائل باب النشرة : النهي عن النشرة . [FONT=خط لوتس الجديد][2]http://majles.alukah.net/showthread.php?p=262437&posted=1#_ftn2[/FONT]
6 – رأي الشيخ ابن باز وأنه رجح التحريم .
الثاني : ضعفه في توجيه وتفسير معنى النشرة عند المبيحين و المانعين :
وقد فهم العبيكان أن النشرة تعني حل السحر بالسحر , مع أن من نقل عنهم عرفوها بخلاف ما فهمه كما سوف يأتي تبيينه عند توجيه كلام ابن المسيب وتفسير أهل العلم لكلامه , وكذلك ابن حجر الذي نقل العبيكان تجويزه ذلك , واعتمد بهذا الفهم في تفسيره لأقوال من نقل عنهم ابن حجر .
حتى من نقل عنهم جواز حل السحر , لم يذكروا أنه يحل بسحر , أو من قال إنه يجوز ضرورة كالخلال أطلقوا ذلك ولم يذكروا أن يكون حله بسحر , على ما يأتي من كلام احمد تخصيص الرقية بالقرآن , حتى من شذ من المذهب وقال إنه يجوز حله بسحر لم يذكروا أن يكون السحر بشرك .
ومع ذلك فهو محجوج بأمرين :
الأمر الأول : إما أن يبقى على فهمه للنشرة بأنها حل السحر بالسحر , وعندها فهو محجوج بحديث جابر : سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان , فتصبح من عمل الشيطان حتى لو قال بها سعيد بن المسيب , أو غيره .
الأمر الثاني : وإما أن يقول باختلاف معناها , فيكون من استدل به من كلام الأئمة وإطلاقاتهم عنوا بها معنى محتملا , وعندها ليس له أن يستدل بأقوال محتملة .
وبهذا الفهم الخاطئ استعرض أقوالهم في جواز النشرة بإطلاق وأنها حل السحر بسحر , حتى جعل قولهم هو المعتمد , فبنى عليه قوله , وأعل قول من خالف ذلك .