بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
فرانتز فانون.. المناضل المنتمي في ثمانينية ميلاده
مراد بطل الشيشاني ~ جريدة الغد ~ 22/6/2005
لعل أشهر من نادى بالزنوجة، كتعبير أساسي عن هوية الزنوج في العالم، كان الافريقي "ماركوس غارفي"، الذي بدأ من الغرب حركة الهوية الافريقية منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين، تزامناً مع حركة الاستقلال في افريقيا. وهي الفترة التي عرفت بـ"عقد التنمية"، ثم لاحقا وصفت بـ"العقد الضائع" كتعبير عن فشل نماذج الدول الافريقية في الاستقلال والتنمية.
ومن الصحيح تاريخياً أن ذوي البشرة السوداء كانوا هدفاً للاضطهاد والتمييز العرقي في معظم انحاء العالم. وقد كانت محاولة "غارفي" سعي لاعادة الاعتبار للهوية الزنجية، رغم أن هذه المحاولة تميزت بالعصبية والتطرف، كرد فعل على الاضطهاد الممارس ضد السود.
أما الذي وضع الزنوجة في سياق أممي، وأبرزها كمعبر عن نصرة الشعوب المضطهدة في كل العالم، وعن مقاومة الاستعمار "باعتباره شراً كله"، فهو الطبيب النفسي المارتنيكي "فرانتز فانون"، الذي صادف يوم الإثنين الماضي، العشرين من حزيران، ذكرى ميلاده الثمانين، الأمر الذي يستدعي إعادة البحث في طروحات هذا المناضل الأممي، والذي كان لفكره أثر كبير في توجيه حركات التحرر الوطني في الستينيات والسبعينيات.
لفانون ارتباط وثيق بالعالم العربي-الإسلامي، وقد رثاه الرئيس الجزائري الأسبق "أحمد بن بيلا" قائلاً: "لم يكن فانون رفيقاً في المعركة وحسب، بل كان مرشداً وموجهاً، لأنه ترك لنا من انتاجه الفكري والسياسي ما هو ضمانة للثورة الجزائرية".
وقد دفن فرانتز فانون في الجزائر بتاريخ السابع من كانون الثاني 1961، وفقاً لوصيته، وشيّعه آلاف الجزائريين، وكفن بالعلم الجزائري.. كل ذلك يدفعنا للحديث عن علاقته بالجزائر وثورة الجزائر؟
أصول "فانون" تعود إلى جزر المارتنيك التي كانت من المستعمرات الفرنسية، والتي يحمل سكانها الجنسية الفرنسية. وقد عانت هذه الجزر، كما المستعمرات كافة في العالم، من الاضطهاد، الذي كان فانون شاهداً عليه، مما شكل في نفسه ثورة لا على فرنسا المستعمرة وحسب، بل على كل الاستعمار.
سافر فانون إلى "ليون" في فرنسا، ودرس فيها الطب، وتخرج بعد حياة حافلة بالنضال الطلابي، كطبيب متخصص في الأمراض العصبية والنفسية. وقد عين في مدينة "بليدة" في الجزائر التي كانت قد بدأت بتقديم شهدائها المليون في سبيل الاستقلال.
وفي الجزائر انضم للثورة، ورأى فيها ثورة أساسية ضد الاستعمار الفرنسي. إذ ساهمت فحوصاته النفسية والعصبية كطبيب في استخلاص أن الاستعمار يشوه النفس البشرية، بسبب التنكيل والاضطهاد، ورأى أن العلاج الوحيد لذلك التشويه هو المقاومة، باعتبارها بحسب وصفه "تطهر النفسية التي شوهها الاستعمار". وفي هذا السياق، ألف "فراتنز فانون" العديد من الدراسات والابحاث العلمية، والكتب الفكرية، لكنه أصر على أن يشارك في النضال بدنياً، دون الاكتفاء بالتنظير، فترك عمله وانضم إلى الثورة الجزائرية.
لم يكن فانون عنصرياً يكره البيض، بل كان يكره الاستعمار الذي يمارسه البيض (أنظر مقدمة المترجمين لكتابه "معذبو الأرض"، دار القلم، بيروت، 1972). وكان يعد الزنوجة شكلاً عنصرياً، بل دافعاً وتعبيراً عن الثورة ضد الاستعمار.
ولعل من أهم مؤلفات فانون المتعددة، كتابه "معذبو الأرض"، الذي كتبه وهو على سرير المرض، معانياً من مرض السرطان. وقد كان نقل إلى إحدى مستشفيات سويسرا، حيث ألف الكتاب قبل أن يتوفى متأثراً بمرضه، وهو لم يبلغ الأربعين بعد.
كتابه هذا بات في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بمثابة "مانفيستو" لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث. وقد رأى فانون في كتابه أن الاستعمار لن يزول إلا بالمقاومة المسلحة، والتي رأى بوجوب أن تكون شعبية، أي أن يتولاها الشعب، ولا تترك "للانتهازيين من الأحزاب السياسية الموجودة"، التي لا تعرف -برأي فانون- سوى القاء الوعود السياسية، وحماية مصالحها.
كما أن فانون في كتابه، يشير إلى ذلك التحالف القائم بين الاستعمار ورجالاته في الداخل، الذين يسميهم، وفقاً لايديولوجيته اليسارية، بـ"البرجوازية الوطنية"، ويحذر فيه من مرحلة لاحقة لهذا التحالف، ذلك أن المستعمر لا يرحل إلا بايجاد فئة داخل البلاد التي خرجت منها، والتي تحيل بدورها معظم النتاجات الاقتصادية والفوائد إلى هذا المستعمر القديم.
كما أن "فانون"، ومن ناحية أخرى، ورغم أن قضية التفريق بين الارهاب والمقاومة المشروعة والتعريف بهما لم تكن مسألة ذات الأهمية آنذاك كما هي اليوم، إلا أنه قدم تصوراً للتفريق بينهما منذ ذلك الحين. فمقاومة المستعمر لديه هو عنف موجه ضد المستعمر، وهدفه سياسي يتمثل بإنهاء الاستعمار، وتأسيس نموذج العدالة الرافض للاضطهاد والاستبعاد والتمييز، على النقيض من الإرهاب الذي هو عبثي ومغيب الأهداف. ولعل في هذه الرؤية لفانون ما يفيد الكثيرين ممن انتهجوا الارهاب ضد المدنيين، وهم يعتقدون بأنهم مناضلون.
هذان الجانبان من رؤية "فرانتز فانون" يعدان من الأهمية بمكان لاستغلال الظروف القائمة لدى المعنيين كافة بالشأن السياسي، لاعادة التفكير والبحث في النتاج الفكري للمناضل الذي قضى شاباً، وتعريف الأجيال الجديدة به. ومراكز البحث مدعوة وبقوة إلى اعادة البحث في "فانون"، على مستويات مقاومة الاضطهاد والتمييز، ومناهضة الاستعمار الجديد، والتي بات يتخذ أشكالاً وصيغا جديدة.
مراد بطل الشيشاني ~ جريدة الغد ~ 22/6/2005
لعل أشهر من نادى بالزنوجة، كتعبير أساسي عن هوية الزنوج في العالم، كان الافريقي "ماركوس غارفي"، الذي بدأ من الغرب حركة الهوية الافريقية منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين، تزامناً مع حركة الاستقلال في افريقيا. وهي الفترة التي عرفت بـ"عقد التنمية"، ثم لاحقا وصفت بـ"العقد الضائع" كتعبير عن فشل نماذج الدول الافريقية في الاستقلال والتنمية.
ومن الصحيح تاريخياً أن ذوي البشرة السوداء كانوا هدفاً للاضطهاد والتمييز العرقي في معظم انحاء العالم. وقد كانت محاولة "غارفي" سعي لاعادة الاعتبار للهوية الزنجية، رغم أن هذه المحاولة تميزت بالعصبية والتطرف، كرد فعل على الاضطهاد الممارس ضد السود.
أما الذي وضع الزنوجة في سياق أممي، وأبرزها كمعبر عن نصرة الشعوب المضطهدة في كل العالم، وعن مقاومة الاستعمار "باعتباره شراً كله"، فهو الطبيب النفسي المارتنيكي "فرانتز فانون"، الذي صادف يوم الإثنين الماضي، العشرين من حزيران، ذكرى ميلاده الثمانين، الأمر الذي يستدعي إعادة البحث في طروحات هذا المناضل الأممي، والذي كان لفكره أثر كبير في توجيه حركات التحرر الوطني في الستينيات والسبعينيات.
لفانون ارتباط وثيق بالعالم العربي-الإسلامي، وقد رثاه الرئيس الجزائري الأسبق "أحمد بن بيلا" قائلاً: "لم يكن فانون رفيقاً في المعركة وحسب، بل كان مرشداً وموجهاً، لأنه ترك لنا من انتاجه الفكري والسياسي ما هو ضمانة للثورة الجزائرية".
وقد دفن فرانتز فانون في الجزائر بتاريخ السابع من كانون الثاني 1961، وفقاً لوصيته، وشيّعه آلاف الجزائريين، وكفن بالعلم الجزائري.. كل ذلك يدفعنا للحديث عن علاقته بالجزائر وثورة الجزائر؟
أصول "فانون" تعود إلى جزر المارتنيك التي كانت من المستعمرات الفرنسية، والتي يحمل سكانها الجنسية الفرنسية. وقد عانت هذه الجزر، كما المستعمرات كافة في العالم، من الاضطهاد، الذي كان فانون شاهداً عليه، مما شكل في نفسه ثورة لا على فرنسا المستعمرة وحسب، بل على كل الاستعمار.
سافر فانون إلى "ليون" في فرنسا، ودرس فيها الطب، وتخرج بعد حياة حافلة بالنضال الطلابي، كطبيب متخصص في الأمراض العصبية والنفسية. وقد عين في مدينة "بليدة" في الجزائر التي كانت قد بدأت بتقديم شهدائها المليون في سبيل الاستقلال.
وفي الجزائر انضم للثورة، ورأى فيها ثورة أساسية ضد الاستعمار الفرنسي. إذ ساهمت فحوصاته النفسية والعصبية كطبيب في استخلاص أن الاستعمار يشوه النفس البشرية، بسبب التنكيل والاضطهاد، ورأى أن العلاج الوحيد لذلك التشويه هو المقاومة، باعتبارها بحسب وصفه "تطهر النفسية التي شوهها الاستعمار". وفي هذا السياق، ألف "فراتنز فانون" العديد من الدراسات والابحاث العلمية، والكتب الفكرية، لكنه أصر على أن يشارك في النضال بدنياً، دون الاكتفاء بالتنظير، فترك عمله وانضم إلى الثورة الجزائرية.
لم يكن فانون عنصرياً يكره البيض، بل كان يكره الاستعمار الذي يمارسه البيض (أنظر مقدمة المترجمين لكتابه "معذبو الأرض"، دار القلم، بيروت، 1972). وكان يعد الزنوجة شكلاً عنصرياً، بل دافعاً وتعبيراً عن الثورة ضد الاستعمار.
ولعل من أهم مؤلفات فانون المتعددة، كتابه "معذبو الأرض"، الذي كتبه وهو على سرير المرض، معانياً من مرض السرطان. وقد كان نقل إلى إحدى مستشفيات سويسرا، حيث ألف الكتاب قبل أن يتوفى متأثراً بمرضه، وهو لم يبلغ الأربعين بعد.
كتابه هذا بات في حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بمثابة "مانفيستو" لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث. وقد رأى فانون في كتابه أن الاستعمار لن يزول إلا بالمقاومة المسلحة، والتي رأى بوجوب أن تكون شعبية، أي أن يتولاها الشعب، ولا تترك "للانتهازيين من الأحزاب السياسية الموجودة"، التي لا تعرف -برأي فانون- سوى القاء الوعود السياسية، وحماية مصالحها.
كما أن فانون في كتابه، يشير إلى ذلك التحالف القائم بين الاستعمار ورجالاته في الداخل، الذين يسميهم، وفقاً لايديولوجيته اليسارية، بـ"البرجوازية الوطنية"، ويحذر فيه من مرحلة لاحقة لهذا التحالف، ذلك أن المستعمر لا يرحل إلا بايجاد فئة داخل البلاد التي خرجت منها، والتي تحيل بدورها معظم النتاجات الاقتصادية والفوائد إلى هذا المستعمر القديم.
كما أن "فانون"، ومن ناحية أخرى، ورغم أن قضية التفريق بين الارهاب والمقاومة المشروعة والتعريف بهما لم تكن مسألة ذات الأهمية آنذاك كما هي اليوم، إلا أنه قدم تصوراً للتفريق بينهما منذ ذلك الحين. فمقاومة المستعمر لديه هو عنف موجه ضد المستعمر، وهدفه سياسي يتمثل بإنهاء الاستعمار، وتأسيس نموذج العدالة الرافض للاضطهاد والاستبعاد والتمييز، على النقيض من الإرهاب الذي هو عبثي ومغيب الأهداف. ولعل في هذه الرؤية لفانون ما يفيد الكثيرين ممن انتهجوا الارهاب ضد المدنيين، وهم يعتقدون بأنهم مناضلون.
هذان الجانبان من رؤية "فرانتز فانون" يعدان من الأهمية بمكان لاستغلال الظروف القائمة لدى المعنيين كافة بالشأن السياسي، لاعادة التفكير والبحث في النتاج الفكري للمناضل الذي قضى شاباً، وتعريف الأجيال الجديدة به. ومراكز البحث مدعوة وبقوة إلى اعادة البحث في "فانون"، على مستويات مقاومة الاضطهاد والتمييز، ومناهضة الاستعمار الجديد، والتي بات يتخذ أشكالاً وصيغا جديدة.