
عندما تصل الدولة إلى حد إطلاق أعوان مكافحة الشغب في وجه الأطباء، ويشاهد المواطنون من سكان ساحة أول ماي بالعاصمة والمارون من المكان كيف يتعرض الطبيب الذي يعالجهم للإهانة والسحب والسقوط أرضا، وتطلب هذه الدولة على لسان رئيسها ووزير دفاعها من أبنائها الأطباء الذين يمارسون المهنة خارج بلادهم العودة، وتعطيهم الضمانات بأنها ستستجيب لكل مطالبهم المادية والمهنية، تصبح مقولة المطرب الراحل معطوب لوناس ''من وجد الطريق للهروب وفضل البقاء في هذا البلد يستحق والله العقوبة'' أحسن عبارة تنطبق على كل الجزائريين المولودين بعد الاستقلال والذين لم يتحركوا للبحث عن مكان لهم ولو في القطب الشمالي أو الجنوبي.
ذكرتني حالة أطباء مستشفى مصطفى باشا، أمس، بما دار من حديث بيني وبين شقيق فلسطيني سألني عن الجزائر التي لا يعرف عنها إلا أنها بلد المليون ونصف مليون شهيد، وسألني عن واقع الأجور في الجزائر وأجبته. فأجرى عملية حسابية بالدولار ووجد الأجر الشهري للعمال الجزائريين زهيدا. سألني عما يمكن شراؤه بذلك المبلغ.. شرحت للشقيق الفلسطيني أن العامل الأجير في الجزائر في غالب الأحيان لا يكفيه أجره إلى آخر الشهر. وكنت أعتقد أن هذا الشرح كاف للتعبير عن الظروف المعيشية السيئة في بلادنا. لكن الشقيق واصل طرح أسئلته وطلب مني إن كان الأجر الذي ذكرته له يكفي مثلا لشراء جهاز تلفزيون متوسط الحجم، وأخبرته أن سعر التلفزيون بالحجم الذي سألني عنه يساوي ضعف راتب الإطارات الجزائرية على الأقل.
حينها قال لي: أهكذا نريد محاربة إسرائيل؟ لأن إسرائيل لا تتلاعب بالمستوى المعيشي للإسرائيليين، وإذا سمحت لنفسها بالاعتداء يوميا على كرامة الفلسطينيين وأراضيهم فلأنها تعلم أن في الجهة المقابلة هناك حكومات تقرأ في قلوب شعوبها وتباشر القمع بمجرد اكتشاف نية للمطالبة بالحقوق. فهذه الشعوب ليست مهيأة لا نفسيا ولا بدنيا ولا تقنيا لخوض حرب مع أي قوة عدوة، ولكنها مهيأة لخوض حروب طائفية وعرقية سياسية فيما بينها.
نعم نحن مجرد لحم سائغ للهراوات والرشاشات والمدفعيات. هكذا يريدنا حكامنا، يستولون وحدهم على الخيرات، لا شرطة تقمعهم ولا عدالة تحاسبهم. وعندما نطالب نحن بالحقوق يخرجون لنا شعار ''هيبة الدولة'' في الداخل، وعندما نطالبهم بالحساب يخرجون شعار ''صورة الدولة في الخارج''. كأن الحياة غير ممكنة لهم ولنا في نفس الوقت، وكأن بلاد المليوني كيلومتر مربع لا تتسع إلا للمئات أو الآلاف من رجال السلطة وأفراد عائلاتهم وحاشيتهم. عيب عليك
