لم يعد بالإمكان الحديث عن قضية القدس من زوايا "تجزيئية" بتعديد الإجراءات الإسرائيلية لتهويدها، أو الاستغراق في الاتهامات بالقول إن الانقسام الفلسطيني والضعف العربي والإسلامي أبرز الأسباب التي تمكن "إسرائيل" من القيام بكل تلك الأفعال المتمادية والتوقف عن تلك الحدود، بل القول الصحيح الآن هو أن قضية القدس وصلت إلى نقطة مفصلية أو أن منحناها دخل إلى حالة من الانحدار المتسارع من نقطة الذروة، وأن القدس صارت في مأزق حقيقي صار يتطلب البحث عن الأسباب الشاملة التي أوصلتها إلى ما وصلت إليه. الآن اكتملت مرحلة أخرى من الصراع حول القدس، وبدأت المرحلة الختامية البالغة الخطر. لقد جرت في المرحلة السابقة، أعمال إسرائيلية كثيرة من الاستيطان والتهويد وهدم المنازل، وطرد المقدسيين، وبناء الكنس اليهودية والقيام بأعمال الحفريات تحت المسجد الأقصى.. إلخ، لكن حال القدس ينتقل الآن لمرحلة جديدة، تتحول فيها الخطة الإسرائيلية إلى "جمع المتفرقات" التي أنجزت من قبل، لنقل القدس إلى حالة مختلفة كليا، ينتهي فيها الطابع العربي والإسلامي وتتحقق فيها عملية التهويد كلياً.
القدس وصلت حد المأزق لا قضيتها فحسب. لقد نادت القدس أهلها في كل بقاع الأرض، فلم يتمكن أحد من إغاثتها، حتى أضحت مسورة من كل مكان في داخلها وخارجها بالمستوطنات والأحياء اليهودية المصنوعة وحواجز الجيش والشرطة الإسرائيلية، وممنوع على من يمكنه الدفاع عنها من شباب أهلها، مجرد التجول في شوارعها، إذ القدس صارت تحت الحديد والنار والقتل وكأنها مدينة مخطوفة - لا محتلة فقط - يتجول بها خاطفها في عز النهار دون أن يلاحقه فيها أحد.
لقضية القدس أبعاد دينية معلومة بعلم الدين بالضرورة، وهي هوية الصراع العربي الإسرائيلي، أو الإسلامي اليهودي كما يرى البعض، لكن للقدس عنوان إستراتيجي آخر مهم في الصراع، وهو أن لا فلسطين بدون القدس، فإذا انتهت القدس إلى التهويد الشامل - ببناء الهيكل - وقد أصبح الإسرائيليون في الشوط الأخير من فعل ذلك، فلا فلسطين بعدها، إذ حيث تكون القدس تكون فلسطين، وحيث لا تكون القدس لا تكون فلسطين.
وإشكالية ما تعانيه القدس، هو أن كل شيء واضح ومعلوم ولا شيء غامض يجرى بشأنها، إذ الكل يعلم ما يجرى، الدول والمجتمعات والحكام والمحكومون والمثقفون والعامة والحركات والأحزاب والجماعات، وبذلك تسجل المدينة أغرب حالات الصراع تاريخياً، حيث تكون المعرفة سيفاً لوأد الفعل - لا تحريكه وتطويره - وطريقة لوصول العارفين الفاهمين إلى حد اليأس، وحيث يصبح الجهل أفضل من العلم والمعرفة، فمن جهل يستريح ومن علم يقتله علمه ومعرفته، حين لا يكون قادرا على الفعل على أساس ما يعرف أو يعلم.
"إسرائيل" منذ قيامها لم تخف أبداً خططها بشأن القدس، ولم تقل أبداً إنها ستتخلى عنها لأحد - لا بعض منها ولا كلها - وتعلن بسفور أن القدس موحدة عاصمة لها، كما هي لم تتوقف يوماً عن إنفاذ خطتها هناك، في كل يوم أمام الأعين والأبصار والأفئدة. هي صارت تحفر تحت الأقصى بعلم الجميع، وتقيم المستوطنات بالإعلان عن مناقصات البناء والتشييد لتغير الوضع الديموغرافي، وهي تطرد المقدسيين العرب وتهدم منازلهم وتفتتح الكنس اليهودية باحتفالات أمام الكاميرات، وتدمر كل معالم العمران الإسلامي والعربي بالجرافات التي تصورها الفضائيات، وتطارد الشبان الفلسطينيين وتسحق عظامهم أمام أعين كل العالم، وبين الحين والآخر تدفع بمن يقتحم الأقصى علناً وفي وضح النهار.. إلخ ..إلخ، وهنا، ومع ذلك، فإن كل ذلك لم ينته بمن رأى وعرف وعلم وسمع وتابع إلى مواجهتها والوقوف في وجهها!
والمأساة أن كل ذلك، هو ما شكل مأزق القدس الماضي، الذي أوصلها إلى المأزق الختامي الراهن، وبشأنه يعلن الإسرائيليون صراحة أنهم سيبدؤون من اليوم التالي لافتتاح كنيس الخراب - على بعد أمتار من الأقصى - مرحلة بناء الهيكل الثالث ليهبط منحنى القدس ولتنته "إسرائيل" إلى حد إكمال كل مراحل خطتها، دون رد فعل حقيقي، اللهم إلا من هؤلاء المرابطين في داخل المسجد، الذين يستطيعون الوصول إليه، ليقفوا بأجسادهم العارية في مواجهة الرصاص.
ما الذي أوصلنا إلى تلك الحالة المرضية، نعلم ونرى ونعرف، دون قدرة على الحركة المضادة. هل "إسرائيل" مطمئنة لهذه الدرجة إلى أننا لن نفعل شيئاً، أم أننا نحن في وضع أوصلونا هم إليه قبل أن يصلوا بالقدس إلى ما وصلوا بها إليه؟.
قمع الشعوب
في محاولة فهم، لمَ أصبحنا نرى ونشاهد ونعرف ونعلم دون أن نتحرك؟، يبدو السبب المباشر الواضح، أن شعوب أمتنا مقموعة وليست فقط ممنوعة من التعبير عن آرائها، وأن القمع كان يتصاعد بتصاعد الخطة الإسرائيلية، وأن شعوبنا ممنوعة في هذه اللحظة الحاسمة، من إبداء آرائها والدفاع عن مصالحها الآنية والبعيدة، الوطنية أو القومية أو الإسلامية. وفي تأمل تلك الفكرة يبدو الأمر موزعاً بين اتجاهين:
الأول: أن هذا السبب حقيقي وحقيقة، إذ المجتمعات العربية لا تعرف الديمقراطية عموماً ولا تعيش في أجواء من الحرية لا السياسية ولا الشخصية، ويؤكد ذلك أن جماهير الأمة كثيراً ما حاولت التعبير عن الرأي لكنها ووجهت بالقمع بمختلف الوسائل الصلبة مباشرة أو وسائل التشريد والقهر وبتسليط أدوات الإعلام التضليلي على عقولها.
عدم توفر مساحة للحرية، وعدم توافر مناخ لممارستها، هو عامل واضح وضوح الشمس فيما وصلت إليه جماهير الأمة، من عدم القدرة على تحويل "ما تعرف" إلى "ما تعمل" في مواجهة قضايا رئيسية في الداخل والخارج.
والثاني، أن ثمة حقيقة أخرى واقعة، وهي أن المجتمعات العربية دخلت إلى حالة استكانة لواقعها المؤلم، ولم تعد تحاول نفض الغبار عن نفسها والسير من أجل إنفاذ واجباتها، مثلما فعلت شعوب أخرى تمردت على مثل تلك الحالات وعلى أقسى منها، وتحركت في بناء مجتمعاتها ونظمها السياسية الجديدة عبر تقديم تضحيات جسام. وهنا يبدو العنصر الفاعل في حالة المجتمعات العربية هو تلك الحالة المأساوية التي بات عليها المثقفون، الذين لم تعد منهم إلا قلة أو ندرة، قادرة على ممارسة دورها، إذ الغالب في سوق المثقفين حالياً، هو ذاك النمط الباحث عن المصالح الذاتية الأنانية، على حساب "دور المثقف" وعلى حساب إخلاصه لمجتمعه.
الهموم الداخلية
غير أن المتابع بدقة لا يمكنه القول بالكلية، إن الحرية لا مساحة لها ولا أن المثقفين المضحين باتوا ندرة، إذ أن هناك كثيرا من الوقائع والشواهد فيما يجرى من صراعات داخل المجتمعات العربية، تقول العكس، إذ نرى مظاهرات تدافع عن الحجاب وتدين جرائم الصور البذيئة ضد الرموز الدينية، كما هناك مظاهرات تطالب بالحرية والديمقراطية وأخرى - هي الغالبة - تبحث وتضغط من أجل تحقيق مطالب اقتصادية واجتماعية وثقافية، كما أن هناك من وصل حد حمل السلاح ضد الحكومات والدول تحت مطالب معينة. باختصار إن حالة القدس وإشكاليتها تجري قضية تهويدها في صمت، بينما دولنا ومجتمعاتنا تعيش حالات تفجر وصراعات شاملة فعلاً. إذن ما الأمر؟
يمكن القول إن أحد أسباب وصول الأمة إلى تلك الحالة - وترك القدس تعيش وحدها حالة الصراع بأجساد أبنائها وطوب حجارتها - هو أن المجتمعات العربية صارت تعيش حالات اشتباك داخلي، تجعل اهتماماتها ودورها ينصب عليها، ويجعل القضايا العربية والإسلامية والأوضاع الإقليمية والدولية تأتي لاحقاً - وربما لا تأتي أبداً على مستوى الفعل - بما يشير إلى أن الإشكالية تتعلق بالتوجهات الخطأ، لا بركون جماهير الأمة إلى نمط من التقاعس في معالجة قضاياها والتصدي لها وتقديم التضحيات. الأمة تقدم كل يوم تضحيات جساماً لكن معظمها في الطريق الخطأ.
المراجع للأوضاع الداخلية العربية، يجد أن ثمة مجتمعات تشهد اشتباكات وصراعات تتعلق بالاختلاف العرقي أو القومي، كما هو الحال بشأن الأكراد في العراق والأمازيغ في المغرب والجزائر وتلك الحالة الجارية في جنوب السودان. ويجد أن مجتمعات أخرى صارت تشهد صراعات وحالات اشتباك طائفية ومذهبية، كما هو الحال في مشكلة الحوثيين في اليمن والسنة والشيعة في العراق ولبنان، كما مجتمعات أخرى صارت تشهد توترات تقودها حركات انفصالية، ورابعة تشهد حالات انفراط لعقد الدولة والمجتمع كما هو حال الصومال التي لم يعد يعرف فيها أحد من يقاتل أو يقتل من.. إلخ، أي أننا نعيش حالات فوران، لكنها جميعاً من نمط حالات الاشتباك التفكيكية على مستوى كل دولة ومجتمع بما يضعف الاهتمام بالقضايا العربية والإسلامية.
والمراجع للأوضاع الداخلية في المجتمعات العربية يلحظ أيضاً، انجذاب المجتمعات والقوى السياسية إلى حالات من التباين الداخلي ارتباطا بمصالح دول إقليمية ودولية ووفق أجنداتها، وهو ما يضعف الاهتمام بالقضايا ذات الطابع العام للأمة على نحو أو آخر، وقد وصل الحال إلى أن انقسم أهل القضية، ولم تجد نداءات القدس للمنقسمين لإنهاء انقسامهم حتى الآن.
انشغلت المجتمعات في قضايا اشتباك داخلي أضاف بعداً خطراً لهمومها السياسية والديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية، بما صار يدفع اهتماماتها أو على الأقل قدرتها على الحركة دفاعاً عن القدس والأقصى وفلسطين، إلى مرتبة متأخرة.
النخب وأفعالها
غير أن جماهير الأمة، ورغم كل ذلك، طالما أعلنت عن تمسكها وتماسكها بالدفاع عن القدس والأقصى وفلسطين، وفي ذلك يبدو دور المثقفين المنوط بهم تطوير رغبة الجمهور الكامنة إلى حركة، هم من أصبحوا أحد أدوات التضليل الأخطر، وأحد أسباب تراجع الاهتمام الجماهيري بشأن قضايا الأمة، إذ من يفلت من الجمهور العام من سيطرة القضايا الداخلية على عقله، ويتحول نحو تمسك بمصالح أمته، يجد في مواجهته جيشا من المثقفين الذين يعملون على تثبيط الهمم، ويمارسون ألاعيب شغل الرأي العام بقضايا جزئية أو وقتية - مقارنة بالتحديات التي تواجهها القدس - مستغلين سطوة أجهزة الإعلام حالياً في ترويج أفكارهم وإلباسها أثواب العقل والحكمة.
الآن أصبح الإنسان العربي يعيش ممزقاً، بين ما يعيشه في المجتمعات العربية وما يواجهه من آلة القمع العربية وتبريرات المثقفين. يرى في الأخبار ما يعيده إلى عقله وما يدفعه للتحرك دفاعاً عن أمته - وفي القلب منها قضايا القدس - فيقابل بمن يشرح له أو يذهب بعقله باتجاهات أخرى، ليعيش الإنسان في حالة انفصام نفسي بين ما يعيشه وما يعانيه وما يراه وما يقدم له شرحاً وتحليلاً!
لا فلسطين
لا فلسطين بعد الأقصى والقدس. ولا عرب ولا عروبة بدون فلسطين والقدس والأقصى، وليس من حق المسلمين أن يتحدثوا عن أنفسهم بتلك الصفة، بدون التحرك لإنقاذ القدس والأقصى وفلسطين.
بل لا حرية ولا ديمقراطية في بلد، طالما شعبه غير قادر على الوفاء بدوره وواجباته تجاه معتقد الأمة وركن من أركان إسلاميتها وعروبتها، وليس من حق أحد الادعاء بأن بلدا ما يتمتع بالديمقراطية، طالما ليس من حق شعبه فعل أول أبجديات التضامن مع نفسه وغيره بالتظاهر دفاعا عن القدس.
ولا استقرار حقيقياً للدول والمجتمعات العربية والإسلامية، بانتهاء مصير القدس إلى ما بات مؤكدا، إذ "إسرائيل" لن تتوقف عند حد، ولن تترك وطناً ولا دولة ولا مجتمعاً ولا حكماً لكي يستقر، إذ أن انتهاءها من أوضاع القدس لن يكون سوى البداية والخطوة الإستراتيجية الأكبر للانطلاق لإكمال المشروع القديم - الجديد، إسرائيل من النيل إلى الفرات، وهي من حقها أن تقول: إذا كان العرب صمتوا على ما هو من عقيدتهم الدينية، فليس هناك عائق من التقدم إلى أقصى حد، لا أحد هنا أو هناك.
ولا نمو ولا ازدهار ولا تطور اقتصادي، لأي دولة من الدول العربية أو الإسلامية، إذ المعادلة التي يرسمها بعض المثقفين حول ضرورة التركيز على النهوض الاقتصادي والصناعي في كل دولة خلال هذه المرحلة، لمواجهة "إسرائيل" من بعد القوة، ليست إلا وصفة فاسدة، حيث وجود "إسرائيل" هدفه هو منع النهوض وباستخدام القوة
القدس وصلت حد المأزق لا قضيتها فحسب. لقد نادت القدس أهلها في كل بقاع الأرض، فلم يتمكن أحد من إغاثتها، حتى أضحت مسورة من كل مكان في داخلها وخارجها بالمستوطنات والأحياء اليهودية المصنوعة وحواجز الجيش والشرطة الإسرائيلية، وممنوع على من يمكنه الدفاع عنها من شباب أهلها، مجرد التجول في شوارعها، إذ القدس صارت تحت الحديد والنار والقتل وكأنها مدينة مخطوفة - لا محتلة فقط - يتجول بها خاطفها في عز النهار دون أن يلاحقه فيها أحد.
لقضية القدس أبعاد دينية معلومة بعلم الدين بالضرورة، وهي هوية الصراع العربي الإسرائيلي، أو الإسلامي اليهودي كما يرى البعض، لكن للقدس عنوان إستراتيجي آخر مهم في الصراع، وهو أن لا فلسطين بدون القدس، فإذا انتهت القدس إلى التهويد الشامل - ببناء الهيكل - وقد أصبح الإسرائيليون في الشوط الأخير من فعل ذلك، فلا فلسطين بعدها، إذ حيث تكون القدس تكون فلسطين، وحيث لا تكون القدس لا تكون فلسطين.
وإشكالية ما تعانيه القدس، هو أن كل شيء واضح ومعلوم ولا شيء غامض يجرى بشأنها، إذ الكل يعلم ما يجرى، الدول والمجتمعات والحكام والمحكومون والمثقفون والعامة والحركات والأحزاب والجماعات، وبذلك تسجل المدينة أغرب حالات الصراع تاريخياً، حيث تكون المعرفة سيفاً لوأد الفعل - لا تحريكه وتطويره - وطريقة لوصول العارفين الفاهمين إلى حد اليأس، وحيث يصبح الجهل أفضل من العلم والمعرفة، فمن جهل يستريح ومن علم يقتله علمه ومعرفته، حين لا يكون قادرا على الفعل على أساس ما يعرف أو يعلم.
"إسرائيل" منذ قيامها لم تخف أبداً خططها بشأن القدس، ولم تقل أبداً إنها ستتخلى عنها لأحد - لا بعض منها ولا كلها - وتعلن بسفور أن القدس موحدة عاصمة لها، كما هي لم تتوقف يوماً عن إنفاذ خطتها هناك، في كل يوم أمام الأعين والأبصار والأفئدة. هي صارت تحفر تحت الأقصى بعلم الجميع، وتقيم المستوطنات بالإعلان عن مناقصات البناء والتشييد لتغير الوضع الديموغرافي، وهي تطرد المقدسيين العرب وتهدم منازلهم وتفتتح الكنس اليهودية باحتفالات أمام الكاميرات، وتدمر كل معالم العمران الإسلامي والعربي بالجرافات التي تصورها الفضائيات، وتطارد الشبان الفلسطينيين وتسحق عظامهم أمام أعين كل العالم، وبين الحين والآخر تدفع بمن يقتحم الأقصى علناً وفي وضح النهار.. إلخ ..إلخ، وهنا، ومع ذلك، فإن كل ذلك لم ينته بمن رأى وعرف وعلم وسمع وتابع إلى مواجهتها والوقوف في وجهها!
والمأساة أن كل ذلك، هو ما شكل مأزق القدس الماضي، الذي أوصلها إلى المأزق الختامي الراهن، وبشأنه يعلن الإسرائيليون صراحة أنهم سيبدؤون من اليوم التالي لافتتاح كنيس الخراب - على بعد أمتار من الأقصى - مرحلة بناء الهيكل الثالث ليهبط منحنى القدس ولتنته "إسرائيل" إلى حد إكمال كل مراحل خطتها، دون رد فعل حقيقي، اللهم إلا من هؤلاء المرابطين في داخل المسجد، الذين يستطيعون الوصول إليه، ليقفوا بأجسادهم العارية في مواجهة الرصاص.
ما الذي أوصلنا إلى تلك الحالة المرضية، نعلم ونرى ونعرف، دون قدرة على الحركة المضادة. هل "إسرائيل" مطمئنة لهذه الدرجة إلى أننا لن نفعل شيئاً، أم أننا نحن في وضع أوصلونا هم إليه قبل أن يصلوا بالقدس إلى ما وصلوا بها إليه؟.
قمع الشعوب
في محاولة فهم، لمَ أصبحنا نرى ونشاهد ونعرف ونعلم دون أن نتحرك؟، يبدو السبب المباشر الواضح، أن شعوب أمتنا مقموعة وليست فقط ممنوعة من التعبير عن آرائها، وأن القمع كان يتصاعد بتصاعد الخطة الإسرائيلية، وأن شعوبنا ممنوعة في هذه اللحظة الحاسمة، من إبداء آرائها والدفاع عن مصالحها الآنية والبعيدة، الوطنية أو القومية أو الإسلامية. وفي تأمل تلك الفكرة يبدو الأمر موزعاً بين اتجاهين:
الأول: أن هذا السبب حقيقي وحقيقة، إذ المجتمعات العربية لا تعرف الديمقراطية عموماً ولا تعيش في أجواء من الحرية لا السياسية ولا الشخصية، ويؤكد ذلك أن جماهير الأمة كثيراً ما حاولت التعبير عن الرأي لكنها ووجهت بالقمع بمختلف الوسائل الصلبة مباشرة أو وسائل التشريد والقهر وبتسليط أدوات الإعلام التضليلي على عقولها.
عدم توفر مساحة للحرية، وعدم توافر مناخ لممارستها، هو عامل واضح وضوح الشمس فيما وصلت إليه جماهير الأمة، من عدم القدرة على تحويل "ما تعرف" إلى "ما تعمل" في مواجهة قضايا رئيسية في الداخل والخارج.
والثاني، أن ثمة حقيقة أخرى واقعة، وهي أن المجتمعات العربية دخلت إلى حالة استكانة لواقعها المؤلم، ولم تعد تحاول نفض الغبار عن نفسها والسير من أجل إنفاذ واجباتها، مثلما فعلت شعوب أخرى تمردت على مثل تلك الحالات وعلى أقسى منها، وتحركت في بناء مجتمعاتها ونظمها السياسية الجديدة عبر تقديم تضحيات جسام. وهنا يبدو العنصر الفاعل في حالة المجتمعات العربية هو تلك الحالة المأساوية التي بات عليها المثقفون، الذين لم تعد منهم إلا قلة أو ندرة، قادرة على ممارسة دورها، إذ الغالب في سوق المثقفين حالياً، هو ذاك النمط الباحث عن المصالح الذاتية الأنانية، على حساب "دور المثقف" وعلى حساب إخلاصه لمجتمعه.
الهموم الداخلية
غير أن المتابع بدقة لا يمكنه القول بالكلية، إن الحرية لا مساحة لها ولا أن المثقفين المضحين باتوا ندرة، إذ أن هناك كثيرا من الوقائع والشواهد فيما يجرى من صراعات داخل المجتمعات العربية، تقول العكس، إذ نرى مظاهرات تدافع عن الحجاب وتدين جرائم الصور البذيئة ضد الرموز الدينية، كما هناك مظاهرات تطالب بالحرية والديمقراطية وأخرى - هي الغالبة - تبحث وتضغط من أجل تحقيق مطالب اقتصادية واجتماعية وثقافية، كما أن هناك من وصل حد حمل السلاح ضد الحكومات والدول تحت مطالب معينة. باختصار إن حالة القدس وإشكاليتها تجري قضية تهويدها في صمت، بينما دولنا ومجتمعاتنا تعيش حالات تفجر وصراعات شاملة فعلاً. إذن ما الأمر؟
يمكن القول إن أحد أسباب وصول الأمة إلى تلك الحالة - وترك القدس تعيش وحدها حالة الصراع بأجساد أبنائها وطوب حجارتها - هو أن المجتمعات العربية صارت تعيش حالات اشتباك داخلي، تجعل اهتماماتها ودورها ينصب عليها، ويجعل القضايا العربية والإسلامية والأوضاع الإقليمية والدولية تأتي لاحقاً - وربما لا تأتي أبداً على مستوى الفعل - بما يشير إلى أن الإشكالية تتعلق بالتوجهات الخطأ، لا بركون جماهير الأمة إلى نمط من التقاعس في معالجة قضاياها والتصدي لها وتقديم التضحيات. الأمة تقدم كل يوم تضحيات جساماً لكن معظمها في الطريق الخطأ.
المراجع للأوضاع الداخلية العربية، يجد أن ثمة مجتمعات تشهد اشتباكات وصراعات تتعلق بالاختلاف العرقي أو القومي، كما هو الحال بشأن الأكراد في العراق والأمازيغ في المغرب والجزائر وتلك الحالة الجارية في جنوب السودان. ويجد أن مجتمعات أخرى صارت تشهد صراعات وحالات اشتباك طائفية ومذهبية، كما هو الحال في مشكلة الحوثيين في اليمن والسنة والشيعة في العراق ولبنان، كما مجتمعات أخرى صارت تشهد توترات تقودها حركات انفصالية، ورابعة تشهد حالات انفراط لعقد الدولة والمجتمع كما هو حال الصومال التي لم يعد يعرف فيها أحد من يقاتل أو يقتل من.. إلخ، أي أننا نعيش حالات فوران، لكنها جميعاً من نمط حالات الاشتباك التفكيكية على مستوى كل دولة ومجتمع بما يضعف الاهتمام بالقضايا العربية والإسلامية.
والمراجع للأوضاع الداخلية في المجتمعات العربية يلحظ أيضاً، انجذاب المجتمعات والقوى السياسية إلى حالات من التباين الداخلي ارتباطا بمصالح دول إقليمية ودولية ووفق أجنداتها، وهو ما يضعف الاهتمام بالقضايا ذات الطابع العام للأمة على نحو أو آخر، وقد وصل الحال إلى أن انقسم أهل القضية، ولم تجد نداءات القدس للمنقسمين لإنهاء انقسامهم حتى الآن.
انشغلت المجتمعات في قضايا اشتباك داخلي أضاف بعداً خطراً لهمومها السياسية والديمقراطية والاجتماعية والاقتصادية، بما صار يدفع اهتماماتها أو على الأقل قدرتها على الحركة دفاعاً عن القدس والأقصى وفلسطين، إلى مرتبة متأخرة.
النخب وأفعالها
غير أن جماهير الأمة، ورغم كل ذلك، طالما أعلنت عن تمسكها وتماسكها بالدفاع عن القدس والأقصى وفلسطين، وفي ذلك يبدو دور المثقفين المنوط بهم تطوير رغبة الجمهور الكامنة إلى حركة، هم من أصبحوا أحد أدوات التضليل الأخطر، وأحد أسباب تراجع الاهتمام الجماهيري بشأن قضايا الأمة، إذ من يفلت من الجمهور العام من سيطرة القضايا الداخلية على عقله، ويتحول نحو تمسك بمصالح أمته، يجد في مواجهته جيشا من المثقفين الذين يعملون على تثبيط الهمم، ويمارسون ألاعيب شغل الرأي العام بقضايا جزئية أو وقتية - مقارنة بالتحديات التي تواجهها القدس - مستغلين سطوة أجهزة الإعلام حالياً في ترويج أفكارهم وإلباسها أثواب العقل والحكمة.
الآن أصبح الإنسان العربي يعيش ممزقاً، بين ما يعيشه في المجتمعات العربية وما يواجهه من آلة القمع العربية وتبريرات المثقفين. يرى في الأخبار ما يعيده إلى عقله وما يدفعه للتحرك دفاعاً عن أمته - وفي القلب منها قضايا القدس - فيقابل بمن يشرح له أو يذهب بعقله باتجاهات أخرى، ليعيش الإنسان في حالة انفصام نفسي بين ما يعيشه وما يعانيه وما يراه وما يقدم له شرحاً وتحليلاً!
لا فلسطين
لا فلسطين بعد الأقصى والقدس. ولا عرب ولا عروبة بدون فلسطين والقدس والأقصى، وليس من حق المسلمين أن يتحدثوا عن أنفسهم بتلك الصفة، بدون التحرك لإنقاذ القدس والأقصى وفلسطين.
بل لا حرية ولا ديمقراطية في بلد، طالما شعبه غير قادر على الوفاء بدوره وواجباته تجاه معتقد الأمة وركن من أركان إسلاميتها وعروبتها، وليس من حق أحد الادعاء بأن بلدا ما يتمتع بالديمقراطية، طالما ليس من حق شعبه فعل أول أبجديات التضامن مع نفسه وغيره بالتظاهر دفاعا عن القدس.
ولا استقرار حقيقياً للدول والمجتمعات العربية والإسلامية، بانتهاء مصير القدس إلى ما بات مؤكدا، إذ "إسرائيل" لن تتوقف عند حد، ولن تترك وطناً ولا دولة ولا مجتمعاً ولا حكماً لكي يستقر، إذ أن انتهاءها من أوضاع القدس لن يكون سوى البداية والخطوة الإستراتيجية الأكبر للانطلاق لإكمال المشروع القديم - الجديد، إسرائيل من النيل إلى الفرات، وهي من حقها أن تقول: إذا كان العرب صمتوا على ما هو من عقيدتهم الدينية، فليس هناك عائق من التقدم إلى أقصى حد، لا أحد هنا أو هناك.
ولا نمو ولا ازدهار ولا تطور اقتصادي، لأي دولة من الدول العربية أو الإسلامية، إذ المعادلة التي يرسمها بعض المثقفين حول ضرورة التركيز على النهوض الاقتصادي والصناعي في كل دولة خلال هذه المرحلة، لمواجهة "إسرائيل" من بعد القوة، ليست إلا وصفة فاسدة، حيث وجود "إسرائيل" هدفه هو منع النهوض وباستخدام القوة