الرد على الموضوع

فقد كانت قطةً سوداء، تتمسح على الجدار المقابل للغرفة التي نقطنها، ورغم حالة الرعب التي انتابتنا... حتى لتكاد تسمع دقات قلوبنا بعد أن كتمنا أنفاسنا... إلا أن منظر القطة كان عادياً جداً، لاشيء يميزها غير لونها الأسود... ولولا تلك الأسطورة وما سمعناه عن القطط، لكان الموضوع عادياً جداً... ولما أعرناها أي اهتمام... ولكن الموقف كان مختلفاً تماماً.


لحظات بسيطة وخرجت القطة من باب المنزل الذي لم نقفله بعد، خرجت وتركتنا في دهشة ورعب وحيرة... وكأن المشهد توقف للحظات لم نتكلم فيها، لكن عماد قطع جدار الصمت فقال: إنها قطة عادية طبيعية، وليس غريباً أن تكون بالمزرعة قطط، نحن لم نشاهد حيواناً أسطورياً، إنها مجرد قطة صغيرة تبحث عن طعام... كما أن العفاريت لا تخرج بهذه الصورة ليراها عدة أشخاص.


كانت لكلماته بعض الآثار الطيبة في نفوسنا، فقد أنحلت عقدة ألسنتنا... وقال عماد أنه سوف يضع بعض الطعام للقطة إذا عادت لتأكله، أما باسم فلم يتكلم ولم يعلق على ذلك وكان غارقاً مع نفسه... قطعت عليه ذلك وقلت له: باسم في ما تفكر؟؟ فقال: لا شيء. أخذت مصباحاً كهربائياً قوياً وأخبرتهم بأني سأخرج إلى خارج البيت لإحضار الكاميرا من السيارة... فقد تركتها هناك، كانت هناك فكرة تراودني وهي أن أقوم بتصوير القطة، وكنت أريد أن أخرجها إلى وضع التنفيذ، طبعاً الفكرة مجنونة جداً، فقد سمعت أن الجن المتمثلون في شخصيات أخرى أو حيوانات لا تلتقطهم الكاميرا، لأنهم يكونون مجرد انعكاس واحد لبعد واحد... وليس لثلاث أبعاد مثل ما يحدث مع الأجسام المادية ( طول . عرض . إرتفاع )،

والإنعكاس لا يتم رؤيته لغياب أحد أبعاده، مثل انعكاس صورتك... لا تراه إلا في المرآة أو على الأرض على شكل ظل... ولذلك ورغم الرعب الذي ينتابني، إلا أنني تشجعت وخرجت أحمل المصباح القوي، لأنطلق نحو السيارة... كنت أعلم أن السيارة قريبة، ولو أنها كانت في موضعها السابق لما تجرأت على الذهاب نحوها. عند خروجي من البيت أطلقت ضوء المصباح القوي إلى عدة اتجاهات في محاولة مني لجلب بعض الطمأنينة... ولكن لاشيء غير الأشجار. 


وصلت إلى السيارة، أخرجت الكاميرا وجلبتها معي، ثم انطلقت عائداً إلى البيت وأنا أطلق الضوء في كل الإتجاهات... وفي اتجاه الأشجار... شاهدت عيوناً ناريةً تنعكس على ضوء المصباح، لكني تجاوزتها بسرعة وقلت لنفسي: هي عيون ثعلب أو ذئب... فهي التي تعكس الضوء فتشاهدها وكأن النار تنطلق منها... وهي فقط تعكس الضوء، وأصدقكم القول بأني لم أعد الضوء إلى نفس الاتجاه لأني كنت أخشى أن أرى أي شيء آخر. دخلت إلى البيت فوجدت عماد وباسم لا يزالان جامدين في مكانيهما، كانت عيونهما حائرةً ونظراتهما زائغةً بعض الشيء، قلت لهما: ماذا حدث؟؟ 

فقال عماد: إن القطة عادت ولكنها لم تقترب من الطعام الذي وضعناه لها، بل اكتفت بالنظر إليه، وبعد ذلك خرجت، وكان ذلك قبل دخولك بثوان... ألم تشاهدها عندما دخلت؟؟ 

قلت لهما: لا - وأردت أن أضفي جواً من المرح، فقلت - إن الفئران كثيرة بالمزرعة، لذلك لم يعجبها طعامنا. 


مرت تلك الليلة بسلام، ولم تقع فيها أي أحداث أخرى... وفي صبيحة اليوم الثاني كان الجو أكثر هدوءً وجمالاً، وكنا قد تعودنا على المكان، لذلك أمضينا فترة الصباح في التنقل والاستطلاع والتقاط الصور... وبعد الظهيرة كان برنامجنا أن نذهب إلى القرية القريبة لإحضار بعض اللحوم، فقد كان أجمل شيء في تلك المزرعة هو شواء اللحوم على الحطب المتكون من الأغصان اليابسة، فلكل شيء حينها رائحته المميزة: الشواء والنار. بعد الظهيرة كنا نستعد للذهاب إلى القرية المجاورة كما كان مقرراً، ولكن عندما جهزنا السيارة وأردنا الانطلاق... فاجأنا باسم الذي قال أنه لن يذهب معنا وسوف يبقى بالمزرعة، وربما يذهب إلى الرجل العجوز لاستطلاع بعض الأمور، مثل البحث في مسألة تغيبه عن المزرعة وهو مكلف بواجب حراستها ..


كان قراراً مفاجئاً لم نحسب حسابه، فلم نكن نتوقع ذلك لا أنا ولا عماد، قلت له: كيف ستبقى وحيداً في هذه المزرعة، ربما تأخرنا عنك لأي سبب من الأسباب وخيم الظلام، وأنت تعرف هذه المزرعة وما يدور عنها من قصص. 

تغير وجه باسم ولكنه قال بصوت ضغط على كل حروفه: أتحسب أني أخاف البقاء وحيداً؟؟ لا شيء يرعبني. قال ذلك بنوع من التحدي الخفي، مما جعل عماد يقول: لا مشكلة... انتبه فقط وكن حذراً، ربما يوجد لصوص بالمكان... ثم أضاف: هيا لننطلق. 

ذهبت مع عماد - الذي كان يقود السيارة - وأنا في حيرة من موقف باسم!! ما الذي جعله يتصرف هكذا؟ لم يكن لي اختلاط معه من قبل... ولكن من خلال تحليلي لشخصيته، كنت أدرك جيداً أنه ليس لديه الشجاعة الكافية للبقاء وحيداً في مثل هذه المزرعة، وتصرفه هذا لا يخلو من الغرابة. قال عماد عندما شاهدني غارقاً في التفكير: لقد فوجئت مثلك بتصرف باسم، لكني أعرف أنه عنيد جداً في بعض المواقف، لذلك تعمدت أن لا أجادله.


ذهبنا إلى تلك القرية الجبلية القريبة من المزرعة... والتي كانت آيةً في الجمال من طلتها على البحر، فهذه القرية محل النجع الذي كان فيه عبد القادر، ولابد أن يكون أحفاد قاسم من سكانها، المهم... قمنا بجولة في أنحاء القرية واشترينا بعض الأغراض التي اشتهر بها الجبل، مثل العسل واللبن ونبتة تسمى التيه توضع بالشاي لتضفي عليه طعماً لذيذاً جداً، إشترينا كذلك كميةً من لحم الماعز الجبلي لذيذ الطعم... والتقطنا بعض الصور... ثم انطلقنا عائدين إلى المزرعة، ولم يأخذ المشوار منا ذهاباً وإياباً سوى أربع ساعات فقط، وصلنا إلى المزرعة وأنزلنا الأغراض، كانت الساعة حوالي السادسة مساءً ولا يفصلنا عن غروب الشمس سوى ساعةً من الزمن، وغروب الشمس كان يعني الكثير في تلك المزرعة، دخلنا فلم نجد باسم، نادى عليه عماد ولكن لم يكن موجوداً، بحثنا عنه في الغرف - فربما كان يفعل ذلك من أجل المزاح - ولكن لم يكن موجوداً، قال عماد:

- ربما يكون قد ذهب إلى حيث يقطن الرجل العجوز. 

وضعنا أغراضنا ولحقنا به إلى هناك، نريد رؤية هذا العجوز لمعرفة من قام بنقل أغراضنا، أخذت معي مصباحاً كهربائياً وكذلك فعل عماد، لأننا كنا نخشى أن يخيم الظلام ونحن بعيدون عن البيت، وصلنا إلى الطاحونة القديمة، كان الباب موارباً وليس مقفلاً، طرقنا عليه ونادينا على باسم ولكن لم يجب أحد، دفعنا الباب ودخلنا ولكن لم يكن هناك أحد، غريب ذلك؟؟ أين باسم؟؟ الرجل العجوز لم نستغرب غيابه، فهو غريب الأطوار... لكن باسم... أين يكون قد ذهب يا ترى؟؟ 


بحثنا في الجوار ولكن لم نجده، قال عماد:

- ربما يكون يعد لنا مقلباً، فدعنا ننتظر قليلاً داخل الطاحونة. 

جلسنا على مقاعد خشبية في حجرة العجوز التي كانت أغراضه تنبئ بتواجده إلى عهد قريب أو لساعات قليلة فقط، كنت أتمنى أن أفتش أغراضه، لكن أخلاقي كانت تمنعني، رغم شغفي الشديد في اكتشاف ذلك العجوز... فقد كانت هناك حقيبتان تحت السرير وصندوق خشبي كبير مقفل ورفوف كثيرة مصنوعة من الخشب، وضعت عليها الكثير من الأغراض، كانت مثل الدواليب الحائطية وبعضها له أبواب. 


عجباً... أيكون العجوز من صنع كل ذلك؟؟ أليس غريباً هذا العجوز؟ حتى ببقائه وحيداً في هذه المزرعة... فحتى لو لم تكن هناك هذه الأسطورة، لما استطعت أن أبقى وحيداً، كان ليقتلني الصمت والسكون، قال عماد بعد أن مضت حوالي ربع ساعة على تواجدنا بالطاحونة: هيا لنبحث عن باسم، فقد ساورني القلق من حدوث أي مكروه له. 

أصابت كلماته الصميم لينتقل قلقه إلي، خرجنا من الطاحونة وكانت الشمس تودع آخر بصيص من أشعتها، كان السكون يخيم على أرجاء المزرعة الأسطورية... والتي ابتعد عنها البشر خوفاً من تلك الحكايات التي تدور عنها، وها نحن في قلب الحدث، لا أعرف ما الذي دفعني إلى الموافقة على هذه الرحلة المجنونة... كنت أحادث نفسي بذلك عندما قال عماد: لدي إحساس أن هناك شيئاً غريباً سوف يحدث. قلت له: كفانا الله شر إحساسك هذا. ولا أخفيكم: أنا أيضاً يساورني قلق مبهم... لم يمضي على غياب الشمس سوى دقائق معدودة ونحن ننطلق في طريق العودة إلى المنزل لنبحث عن باسم، ورغم ذلك كنت أشعر أننا متبوعان أو مراقبان، كنت طوال الطريق ألتفت وكأن هناك من سيهاجمني من الخلف... وعندما دخلنا في وسط أشجار الزيتون... اعتلتني تلك الرجفة وارتعدت جميع أوصالي


العودة
Top