]بسم الله الرحمن الرحيم
هذا بحث بسيط جدا عن الموازنة في الادب العربي انجزته و اردت ان يستفيد اخواني به...
مفهوم الموازنة:
لغة : وزن: الوَزْنُ: رَمْزُ الثِّقَلِ والخِفَّةِ.قال الليث: الوَزْنُ ثَقْلُ شيء بشيء مثلِه كأَوزان الدراهم، ومثله الرَّزْنُ، وَزَنَ الشيءَ وَزْناً وزِنَةً. قال سيبويه: اتَّزَنَ يكون على الاتخاذ وعلى المُطاوعة، وإِنه لحَسَنُ الوِزْنَةِ أَي الوَزْنِ،. قال أَبو منصور: ورأَيت العرب يسمون الأَوْزانَ التي يُوزَنُ بها التمر وغيره المُسَوَّاةَ من ا لحجارة والحديد المَوَازِينَ، واحدها مِيزان، وهي المَثَاقِيلُ واحدها مِثْقال، ويقال للآلة التي يُوزَنُ بها
الأَشياء مِيزانٌ أَيضاً؛. قال الله تعالى: ونَضَعُ المَوازِينَ القِسْطَ؛ يريد نَضَعُ المِيزانَ القِسْطَ. ويقال: وَزَنَ فلانٌ الدراهمَ وَزْناً بالميزان، وإِذا كاله فقد وَزَنَه أَيضاً. ويقال: وَزَنَ الشيء إِذا قدَّره، ووزن ثمر النخل إِذا خَرَصَه. يقال: وَزَنْتُ فلاناً ووَزَنْتُ لفلان، وهذا يَزِنُ درهماً ودرهمٌ وازِنٌ؛ وقال قَعْنَبُ بن أُمِّ صاحب:
مثْل العَصافير أَحْلاماً ومَقْدُرَةً لو يُوزَنُون بِزِفّ الرِيش ما وَزَنُوا
ووازَنْتُ بين الشيئين مُوَازَنَةً ووِزاناً، وهذا يُوازِنُ هذا إِذا كان على زِنَتِه أَو كان
مُحاذِيَهُ. ويقال: وَزَن المُعْطِي واتَّزَنَ الآخِذُ، كما تقول: نَقَدَ المُعْطِي وانْتَقَد الآخذُ .
وقيل: من كل شيء مَوْزونٍ أَي من كل شيء يوزن نحو الحديد والرَّصاص والمِيزانُ: المِقْدار.
أَنشد ثعلب:
قد كُنْتُ قبل لقائِكُمْ ذا مِرَّةٍ عِنْدي لكل مُخاصِمٍ ميزانُه
وقام مِيزانُ النهار أَي انتصف. وامرأَة مَوْزونةٌ: قصيرة عاقلة. والوَزْنَةُ: المرأَة القصيرة.. وقال أَبو زيد: أَكل فلان وَزْمَةً ووَزْنَةً أَي وَجْبةً. وأَوْزانُ العربِ: ما بَنَتْ عليه أَشعارها، واحدها وَزْنٌ، وقد وَزَنَ الشِّعْرَ وَزْناً فاتَّزَنَ. والمِيزانُ: العَدْلُ. ووازَنَه: عادله وقابله. وهو وَزْنَهُ وزِنَتَهُ ووِزانَهُ وبوِزانه أَي قُبَالَتَه. وفلان أَوْزَنُ بني فلانٍ أَي أَوْجَهُهُمْ. ورجل وَزِينُ الرأْي: أَصيله،. ووَزَنَ الشيءُ. رَجَحَ .
ويروى بيتُ الأَعشى:
وإِن يُسْتَضافُوا إِلى حُكْمِه يُضافُوا إِلى عادِلٍ قد وَزَنْ
وقد وَزُنَ وَزَانةً إِذا كان متثبتاً. وقال أَبو سعيد: أَوْزَن نفسَه على الأَمر أوزنها إذا وَطَّنَ نفسه عليه.
والوَزِينُ: الحَنْظَلُ المطحون
اصطلاحا : هي دراسة يتم من خلالها المقارنة بين عناصر الأدب ، و فنونه ، و عصوره ، و رجاله قصد الايضاح و الترجيح .
تاريخ ظهورها :
و قد ظهرت الموازنة مبكرة في تاريخ الأدب العربي و بقيت تسايره على مر العصور الى اليوم ، و ستبقى دائما من وسائله النقدية و التاريخية ، فإذا صح ما روي عن قصة ام جندب و موازنتها بين امرئ القيس و علقمة في وصف الفرس ،و من ان النابغة الذبياني كان الحكم الادبي بين شعراء عكاظ ، دلنا ذلك على ان الموازنة كانت اساسا للمفاضلة منذ الجاهلية ، و كانت مدرسة الحطيئة و كعب بن زهير مقابلة لمدرسة الشماخ و اخيه مزرد ، و في صدر الاسلام كانت الموازنة بين القرآن الكريم و كلام العرب و كانت بين شعراء الرسول و خطبائه من ناحية و بين شعراء الوفود العربية و خطبائهم من ناحية اخرى ، و كان العصر الاموي زاخرا بالموازنة بين الفحول و الغزليين و السياسيين من الشعراء ، و بين الخطباء و الادباء جميعا فخلف لنا ثروة نقدية قيمة على رغم ما تأثرت بالعصبيات و الاهواء و الامزجة .
اما في العصر العباسي فقد بدأ هذا الفن النقدي نشيطا بين بشار بن برد و مروان بن ابي حفصة ، و بين ابي تمام و البحتري و بين المتنبي و خصومه ، و قد انسحب على النثر ايضا ، فكانت المزازنة بين الخطباء و الكتاب و بين اللفظ و المعنى و بين الفكرة و الفكرة و الخيال و الخيال و في كل ماهو صالح لهذا الضرب ، و هذا عصرنا الحديث يتخذ الموازنة أساسا لأبحاثه نزولا على طبيعة الدراسات في أصح أوضاعها و أقوم سبلها .
ذلك من الناحية الفنية ، و اما من الناحية التاريخية المتصلة بالتدوين و تقرير الاراء و اصول الموازنة فلم تتخلف كثيرا عن ذلك ، و كان محمد بن سلام الجمحي من أسبق من عرضوا للموازنة في كتابه طبقات فحول الشعراء ، فإن جعله هؤلاء الشعراء طبقات قام على الموازنة الفنية . و جاء ابن قتيبة في كتابه الشعر و الشعراء فظهرت الموازنة عنده في اختياره لكل شاعر ما يراه جيدا و في تقسيمه الشعر اقساما فنية اربعة ، و الشعراء الى مطبوعين و متكلفين و في غير ذلك ، و كان الصولي في اخبار ابي
تمام مصنفا بين القدماء و المحدثين حين عرف لكل فريق تجويده في وصف بيئته التي شهدها دون الاخرى التي يصفها تقليدا ، و استشهد لذلك بقول ابي نواس:
صفة الطلول بلاغة القدم فاجعل صفاتك لابنة الكرم
ثم ساق في كتابه امثلة للموازنة بين ابي تمام و البحتري مع ميل الى ابي تمام صريح . و لكن هناك من مال الىالبحتري مشيدا به دون غيره من الشعراء ، « و نصل الى النصف الثاني من القرن الرابع دون ان نجد احدا من النقاد يتقدم للفصل في هذه المعركة فصلا يقوم على المقارنة الدقيقة بين فني الشاعرين ، و بيان منزعهما في الشعر بينا مضبوطا يؤسس على الفحص و الامتحان ، حتى يظهر الآمدي فنراه يضع الموازين يقيس بها عمل الشاعرين في كتابه المسمى الموازنة بين ابي تمام و البحتري و هو اول كتاب – فيما نعرف –يتصدى للمقارنة بين شاعرين...لبيان الاختلافات الجوهرية بينهما و ما يمتاز به كل منهما في صفاته و خصائصه ، و من هنا كان هذا الكتاب اول كتاب في النقد المقارن عند العرب بمعناه الدقيق . هذه موازنة الآمدي و هي كما ترى ، موازنة منهجية في ناحيتيها المختلفتين : ناحية المفاضلة و ناحية استنباط الخصائص ، و المشاهد في تارخ النقد العربي ، يرى انها الوحيدة من نوعها اذ ان المؤلفين اللاحقين قد اكتفوا بأحد أمور :
1-فإما ان ينقلوا الينا آراء السابقين في المفاضلة بين الشعراء و هذا ما نجده في العمدة لابن رشيق القيرواني .
2-و إما أن يأتوا بموازنة وصفية عامة كتلك التي يوردها ابن الأثير عندما يوازن بين أبي تمام و البحتري و المتنبي ، و يحدد فيها خصائص كل منهم .
3-و إما أن يضعوا مقاييس للحكم على جودة الشعراء و رداءته كما يفعل عبد القاهر الجرجاني
في كتابه الوساطة .
و جاء بعد ذلك ابن رشيق في كتاب العمدة فألم بآراء سابقيه مما يتصل بالموازنة ، فأورد كثيرا
من آرائهم ، كقول أبي عمرو بن العلاء في المولدين : ما كان من حسن فقد سبقوا إليه و ما كان من قبيح فهو من عندهم، و ليس النمط واحدا...و مثله في ذلك الاصمعي و ابن الاعرابي كل واحد يذهب في اهل عصره هذا المذهب ، ثم يورد لابن قتيبة كلاما يشبه ما مر للصولي ، و ما قيل من ان علي بن ابي طالب كان كان يفضل امرئ القيس على الشعراء ...
و ينتهي الامر الى ابن الاثير في المثل السائر فيوازن بين ابي تمام و المتنبي و البحتري و يفضلهم على جميع شعراء العربية الى عهده و ينتهي من الموازنة اللى ان الاولينحكيمان و الشاعر هو البحتري .
و من المعاصرين الذين كتبوا في الموازنة الاستاذ قسطاكي الحمصي في كتابه (منهل الوراد في علم الانتقاد ) و قد وازن بين نصوص شعرية في اشهر فنون الشعر موضحا آراءه . و لصحة الحكم على الادب – حسب رأيه – قواعد خمسة :نقد القائل ، و القول ، و المقول فيه ، و الزمان و المكان . و منهم ايضا زكي مبارك في كتابه ( الموازنة بين الشعراء ) فقد ألم بأهواء النقاد و دعا الى وجوب البراءة منها ، و الموازنة عنده نوع من النقد و الوصف ، و على الموازن ان ان يعرف حياة من يوازن بينهما و يصل بين نفسه و نفسيهما لان الاديب يؤدي رسالة في جيل خاص و بيئة خاصة ، و ان يوسع افق النقد و ان يكون واضحا ذا ذوق سديد ، و عليه في الموازنة بين الشعراء ان يدرس نواحي اشتراكهم و افتراقهم و ابتداعهم و اخذهم الى غير ذلك . ثم عرض في القسم الثاني امثلة تطبيقية نافعة .
أصول الموازنة :
هذا العرض التاريخي السريع يعيننا على وضع الاصول اللازمة لعقد الموازنات الادبية بين الكتاب و الخطباء و الشعراء و هي تتراءى في ناحيتين :
الاولى : ما يأخذ به الناقد نفسه حين يوازن بين عصرين او فنيين او ادبين او اسلوبين او معنيين الى غير ذلك .
الثانية : ما يتصل بالاوضاع اللازمة لصحة الموازنة حتى تكون معقولة ممكنة .
اما عن الناقد فنحن نعرف ما يجب ما يجب ان يتوافر له من كفاية فنية و نزاهة ادبية و خطة علمية و نريد هنا ما يتصل بفن الموازنة و اهم ذلك ما يلي :
1- ان يكون ملما بسيرة كل ممن يوازن بينهم و ما توارد على كل واحد من اطوار الحياة ، و احداث الزمان ن ، و المزاج الغالب عليه ، و كيف درس و ماذا كان يعمل ، فذلك ينفعه سواء كانت الموازنة توضيحية او ترجيحية ، و يظهر ذلك حين نوازن بين الاعشى و زهير ، و بين جميل و عمر بن ابي
ربيعة ، و بين جرير و صاحبيه ، الى الموازنة بين شوقي و حافظ . فلكل من هؤلاء حياته الخاصة التي طبعت آثاره طابعا خاصا اذا عرفها الناقد استطاع ان يفسر بها ما يميزه عن زميله او يعرف سبب فضله عليه في كل فنونه او في بعضها.
2- ان يتبين النواحي التي اشترك فيها الادباءاو الآثار الادبية التي اختلفوا فيها ، ثم ينتقل الى الافكار و الاخيلة و الاساليب و الى الموضوعات لتكون موازنته عامة شاملة فإن لكل من جرير و الفرزدق فخر و هجاء و رثاء و مدح و مع ذلك فبينهما فروق في هذه الفنون التي اشتركوا فيها ، و كتاب الشعر و الشعراء لابن قتيبة يخالف طبقات فحول الشعراء لابن سلام على وحدة موضوعهما و لكن بينهما من الفروق كثير. فذلك من شأنه ان يشرح ميزات كل و يعين على الايضاح و الانصاف .
3- و لابد من معرفة مبتكرات كل واحد او سرقاته و كيف اخذها و مقدار ما يفرقه عن زميله ، و يظهر ذلك جليا اذا اتحدت الموضوعات و الفنون الادبية شعرا و نثرا ، خطابة او تأليفا . كما يتضح في الموازنة بين العصور الادبية و التاريخية، فلكل خواصه التي تميزه و ان كانت كلها قائمة على الادب و فنونه و رجاله او على العوامل السياسية و الاجتماعية التي تحيل الحياة و تدفع الشعوب في طريق الحياة او الممات .
و اما عن الاوضاع اللازمة لعقد هذه الموازنة فهي كثيرة و منوعة ، و لكنها جميعا تعود الى اصل واحد هو ان طرفي الموازنة لابد ان يكون بينهما اتفاق من ناحية و اختلاف من ناحية اخرى ، فالاشياء المتفقة في كل شيء ، على فرض وجودها ، لا معنى للموازنة بينها اذ هي شيء واحد مكرر الصورة ، و الاشياء المختلفة في كل شيء على فرض وجودها لا معنى للموازنة بينها كذلك ، اذ لا مناسبة بينها تقرن بين افرادها .
و يمكن عرض بعض الاوضاع لشرح هذا الفصل العام فيما يلي :
1- توافر الميزة وحده كاف لعقد الموازنة بين شيئين مهما يختلفا او يتباعدا و ذلك يسمح بالموازنة بين الاديب و غيره
2- يلي ذلك اتحاد الموضوع بين الطرفين و هذا هو ما يجعلنا نقرن بين شاعر او خطيب او روائي بنظيره ،
3- بعد ذلك تكون الوحدة في باب بعينه من ابواب الفن ، كما نوازن بين الغزل الجاهلي و الغزل الاسلامي او بين عمر و جميل في هذا الفن او بين قدامة و ابن رشيق في نقد الشعر ، و بين مأساة و اخرى او بين مقالة و اخرى
-و نصل اخيرا الى عناصر الادب من عاطفة و خيال و افكار و عبارات ، و الملاحظ ان الموازنة بين هذه العناصر قد غلبت في النقد العربي القديم و كانت الاراء النقدية تدور حولها و ان لم تنس الاشارات الى الفنون و الاشخاص و البيئات و العصور .
... و ربما لن تتسع هذه الفصول لتطبيق اصول الموازنة و تمثيلها في كل هذه الابواب و النواحي ، فذلك امر يعوزه كتاب كبير و البحث فيه مازال قائما .
و للوقوف على تجسيد هذه الاصول في الموازنة ، يحسن ان نورد مثالا عن الموازنة في فن الرثاء بين ابي تمام و البحتري و ابن الرومي و المعري ، فأبو تمام يرثي محمد بن حميد الطوسي بقصيدة مطلعها :
كذا فليجل الخطب و ليفدح الامر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
و البحتري يرثي المتوكل بقصيدة يقول فيها :
محل على القاطول اخلق دائره وعادت صروف الدهر جيشا تغاوره
و ابن الرومي يرثي ولده محمدا بقوله :
بكاؤكما يشفي و ان كان لا يجدي فجودا فقد اودى نظيركما عندي
و اما ابو العلاء فيرثي فقيها حنفيا بقصيدته :
غير مجد في ملتي و اعتقادي نوح باك و لا ترنم شاد
و لكنهم بعد ذلك – كلهم او بعضهم – يختلفون في اشياء كثيرة :في الجنس و الزمان و المكان و النشأة و السيرة و الشخصية و المزاج ، و في الصلة بمن يرثون ، و في البحور العروضية ، و في خواص كل عنصر من عناصر القصيدة ، كان كل منهم طرازا خاصا في قصيدته ، و حتى تفاوتت درجاتهم الفنية فيها .
فإذا تركنا نواحي الاختلاف العامة المعروفة المتصلة بالسيرة و البيئة و تقدمنا الى الجوانب الفنية المباشرة انتهينا الى ما يلي :
1-كان ابن الرومي اضيق الجميع في افقه العاطفي اذا اداره حول ابنه و البنوة فلم يوسعه لغير هذه الحال و ان كانت عاطفته حادة صادقة :
توخى حمام الموت اصغر صبيتي فلله كيف اختار واسطة العقد
و كان ابو تمام اوسع منه قليلا اذ كان يرثي بني نبهان كلهم لما عرض لكبيرهم يبكيه ، فقد جاوز حزنه الى القبيلة فشملها جمعاء :
كأن بني نبهان يوم وفاته نجوم سماء خر من بينها البدر
و لكن البحتري كان يرثي الدولة الاسلامية او الخلافة العباسية فتجاوز الفرد و القبيلة الى هذا العالم الذي يشرف عليه المتوكل :
كان لم تبت فيه الخلافة طلقة بشاشتها، و الملك يشرق زاهره
و لم تجمع الدنيا لديه بهاءها وبهجتها ،و العيش غض مكاسره
اما ابو العلاء فكان اوسع الجميع افقا و اسمى عاطفة ، فقد كان يرثي الدنيا جميعا :
كل دار للهدم ما تبتى الور قاء و السيد الرفيع العماد
و الفتى ظاعن و يكفيه ظل السدر ضرب الاطناب و الاوتاد
2- و كان الخيال عند كل من الاربعة متناسبا مع افقه العاطفي من جهة و، و مع شخصية الميت من جهة ثانية .
3- و كل كان يسند عاطفته بكفائها من الافكار و الحقائق و ان نسبوا ال ابي تمام سرقة ما في مرثيته من افكار و صور ، فابن الرومي فقد خير بنيه ضحية المرض ، و ابو تمام فقد كريما نجدا ذهب في سبيل كرامته و ثباته ، فذهب معه الصبر . و البحتري يسند حزنه الى غدر ولي العهد بأبيه و ضعف مكانة الخلافة و استعانته بالاجنبي على الوالد ، و لكن الالمعري لما حزن على الكون برر شعوره بما يشهد الناس من اجيال تتعاقب على مسرح الحياة ، فتلقى عنتها ثم تذهب هباء.
4- و اذا رجعنا الى الاسلوب فإنا نرى الوضوح متوافرا في جميع القصائد، و القوة اظهر عند ابي تمام فالبحتري، و الجمال متجليا عند المعري فالبحتري ، و سبب ذلك شخصيات الشعراء المختلفة و صدى الحوادث في نفوسهم و كيفية تلقيها فزعين ثائرين او متأملين مطمئنين .
بسم الله الرحمن الرحيم
أبو تمام والمتنبي حكيمان أما الشاعر فالبحتري
شغل هذا الموضوع وهذه المفاضلة بين الشعراء الثلاثة حيزا كبيرا لدى القدامى والمتأخرين فألفت التصنيفات والكتب لعل أشهرها الكتاب المشهور الموازنة بين الطائيين للآمدي ويعني بهما أبا تمام والبحتري وهناك كتاب آخر للمؤلف نفسه وعنوانه : الوساطة بين المتنبي وخصومه .
سأحاول في هذا الموضوع أن أبحث عن الآراء النقدية التي تتناول وتصبّ في موضوع دراستنا وهو : أبو تمام والمتنبي حكيمان وأما الشاعر فالبحتري ، أي أن أثبت من خلال الموضوعات التي تناولها هؤلاء الشعراء اتسام شعر أبي تمام والمتنبي بالحكمة والعقل أما ميز شعر البحتري فهو العاطفة والخيال والإبداع وذلك من خلال التعرض لأشهر قصائد هؤلاء الشعراء .
1- أبو تمام :
أبو تمام من شعراء الطبقة الثالثة من المحدثين انتهت إليه معاني المتقدمين والمتأخرين ، برز أبو تمام في ظرف مميز وهو حركة الترجمة الواسعة لعلوم الأوائل من اليونان والفرس والهند فتشبع بكل هذه العلوم وهذه الثقافات حتى حصف عقله واتسع خياله ورسم لنفسه مذهبا خاصا به وهو تجويد المعاني وتسهيل العبارة ، استكثر الحكم في شعره واستدل على الأمور بالأدلة العقلية والمنطقية ولو أدى به ذلك إلى التعقيد أحيانا وحاول إخفاء ذلك بالإفراط في استخدام المحسنات البديعية والصور البيانية وهو بذلك مهد الطريق للمتنبي بعده ولذلك كان يقال : " إن أبا تمام والمتنبي حكيمان والشاعر هو البحتري " وتثبت هذه المقولة الفكرة القائلة بأن شعر أبي تمام يغلب عليه العقل والمنطق والحكمة وهذا ما يمكنك أن تقف عليه من خلال بائيته المشهورة التي مطلعها :
السَّـيْـفُ أَصْــدَقُ أَنْـبَــاءً مِـــنَ الـكُـتُـبِ فِـي حَــدهِ الـحَـدُّ بَـيْـنَ الـجِـد واللَّـعِـبِ
بيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُـودُ الصَّحَائِـفِ فِـي مُـتُـونِـهـنَّ جـلاءُ الــشَّـك والــريَـبِ
والعِـلْـمُ فِــي شُـهُـبِ الأَرْمَــاحِ لاَمِـعَـةً بَيْنَ الخَمِيسَيْنِ لافِي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ
ونحن نذكر المساجلة الطريفة التي قامت بين ناقد متشبث بالقديم هو أبو العميثل وبين أبي تمام حين قال له: يا أبا تمام: لم تقول ما لا يفهم؟. فأجابه أبو تمام: لم لا تفهم ما يقال؟. وهذه المساجلة تبرز مباينة أبي تمام لما ألفه النقاد والشعراء القدامى فهنا مناظرة بين ذوقين: ذوق عربي خالص يرى أن الشعر ينبغي أن يكون واضح المعاني بعيدًا عن الغموض، وبين ذوق شاعر محدث ذي ثقافة عقلية فلسفية يغوص على المعاني فلا تدرك إلا بكد الذهن، وقد جاءتنا كلمة ابن الأعرابي حين سمع شعر أبي تمام فقال: إن كان هذا شعرًا فما قالته العرب باطل.
يقول ابن الأثير عن أبي تمام : أما أبو تمام فإنه رب معانٍ وصلُ ألباب وأذهان ، وقد شهد له بكل معنى مبتكر، ولم يمش فيه على أثر ..."
ومجمل القول هو أن شعر أبي تمام اتسم بطابعه الحكمي العقلي ويمكنك الوقوف على ذلك من خلال قصيدته الطويلة فتح الفتوح أو فتح عمورية .
2- البحتري :
يقول القدماء : لم يأت بعد أبي نواس من هو أشعر من البحتري ولا بعد البحتري من هو أطبع منه في الشعر ولا أبد منه في الخيال الشعري .
نشأ البحتري في البادية فابتعد في شعره عن مذاهب الحضريين وتعمقهم وفلسفتهم ، فكان شعره كله بديع المعنى حسن الديباجة ، صقيل اللفظ ، سليس الأسلوب كأنه سيل ينحدر إلى الأسماع ، لذلك اعتبره كثير من الأدباء الشاعر الحقيقي ، واعتبروا أمثال أبي تمام والمتنبي والمعري حكماء ، لسهولة شعره ورقته حتى أن شعره كان أكثر شعر يغنى في عصره
وعلى أن البحتري كان تلميذًا وفيًّا لأبي تمام الذي أخذ بيده في مسيرته الشعرية بوصيته المشهورة، فإنه لم يرض عن إقحام الشعراء المنطق والتعقيد المعنوي في الشعر، فقال أبياته المشهورة التي منها قوله:
كلفتمونا حدود منطقكم والشعر يغني عن صدقه كذبه
والشعر لمح تكفي إشارته وليس بالهذر طولت خطبه
وهو بذلك يرد ويعارض أستاذه أبي تمام ويثبت في الوقت نفسه فهمه للشعر وحقيقة الشعر .
وهذا ما يلخصه ابن الأثير في قوله :" وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى ، وأراد أن يشعر فغنى ، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق . وسئل المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه ، فقال : أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري . ولعمري إنه أنصف في حكمه ، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلالة الماء ، فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه إلى الإفهام " .
وكي نقف على شاعرية البحتري وعلى عاطفته المتدفقة يكفي أن نقرأ قصيدته في وصف إيوان كسرى والتي يقول في مطلعها :
صُنتُ نَفسي عَمّـا يُدَنِّـسُ نَفسـي وَتَرَفَّعتُ عَـن جَـدا كُـلِّ جِبـسِ
وَتَماسَكتُ حيـنَ زَعزَعَنـي الـدَه رُ التِماسًا مِنـهُ لِتَعسـي وَنَكسـي
وهي قصيدة طويلة تبرز شاعرية البحتري الفياضة
وهناك قصيدة جميلة للشاعر في وصف الربيع والتي مطلعها :
أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما
3- المتنبي :
لا يختلف اثنان في أن المتنبي بلغ مرتبة عظيمة في الشعر شغل الناس قديما وحديثا .
يستشف القارئ من شعر المتنبي معاني الطموح والتعالي وبلوغ المراتب العليا ، فهو يستهل أغلب قصائده بمطلع حكمي يشيد ويعظم ويفتخر ويتعالى إلى المراتب العليا .
تمتاز معاني المتنبي بالعمق والرصانة من أحسن قصائده قصيدته في مدح سيف الدولة والتي يستهلها :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظائم
وهناك قصيدة أخرى مشهورة له في الفخر ومطلعها :
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم
فالمتنبي هو شار الشخصية القوية التي تتجلى في جميع شعره مدحا وهجاء وفخرا
يقول ابن رشيق عنه : ثم جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس .
وفي الأخير يمكن اعتماد الآراء التي عرضتها هنا كمادة في تحرير الموضوع كما يمكن الانطلاق من مقولة ابن الأثير لإنجاز الموضوع .
المطلوب :
يقول ابن الأثير : وأما أبو عبادة البحتري فإنه أحسن في سبك اللفظ على المعنى ، وأراد أن يشعر فغنى ، ولقد حاز طرفي الرقة والجزالة على الإطلاق . وسئل المتنبي عنه وعن أبي تمام وعن نفسه ، فقال : أنا وأبو تمام حكيمان والشاعر البحتري . ولعمري إنه أنصف في حكمه ، فإن أبا عبادة أتى في شعره بالمعنى المقدود من الصخرة الصماء في اللفظ المصوغ من سلالة الماء ، فأدرك بذلك بعد المرام مع قربه إلى الإفهام " .
ناقش هذا القول مثبتا صحته أونافيا فحواه من خلال نماذج شعرية للشعراء الثلاثة
شهدت الحياة الفكرية في العصر العباسي ازدهارا كبيرا في شتى الميادين، يعود سببه إلى ظهور الكثير من العلماء والمفكرين في مختلف العلوم وانتشار حركة الترجمة واهتمام الخلفاء بها، إضافة إلى التوسع في التعليم العام وبناء المدارس والمؤسسات الثقافية مثل دور العلم والربط فضلا عن المساجد. ومن العلماء البارزين في اللغة والادب والشعر الخليل بن احمد الفراهيدي في علم النحو والعروض (نظم الشعر) وعمرو بن الجاحظ في الادب والبلاغة والاصمعي في الادب واللغة, كما تميز الامام بن ثابت الكوفي المعروف بابي حنيفة والقاضي ابي يوسف في علم الفقه. أما شعراء هذا العصر فمن أبرزهم أبو العتاهية والعباس بن الاحنف وابو تمام الطائي و البحتري و المتنبي والشريف الرضي و ابو العلاء المعري و أبو نواس ومن المؤرخين البارزين محمد بن جريرالطبري و اليعقوبي وبرز في الجغرافية المسعودي أما في الرياضيات والفيزياء فقد برز أبو الحسن بن الهيثم وفي علم الجبر محمد بن موسى الخوارزمي وفي الكيمياء جابر بن حيان وغيرهم كثيرون ممن ترجمت مؤلفاتهم إلى اللغات الاوربية واستفيد منها في النهضة الاوربية الحديثة. وقد اهتم الخلفاء بالعلم والعلماء فقربوهم وشجعوهم فكان لذلك أثره الكبير على الرقي الفكري في هذا العصر، وأبرزهم الخليفة هارون الرشيدالذي اشتهر بتقريبه العلماء والفقهاء والادباء والشعراء والكتاب وتشجيعهم على البحث والتأليف وتوفير كل ما يحتاجون اليه في بحوثهم ودراساتهم.