أصل سكان افرقيا
نعود الآن إلى المؤلفات العربية المبكرة لنري ماذا دونت عن سكان افريقيا وسكان الصحراء الكبرى "البربر". تناولت تلك المصادر سكان افريقيا من خلال تناولها العام لسكان العالم. ومن الواضح أن المؤلفات العربية المبكرة - فيما يتعلق بسكان العالم - اعتمدت على العهد القديم من الكتاب المقدس. فقد ورد في سفر التكوين 9: 19-18 "وكان بنو نوح الذين خرجوا من الفلك ساما وحاما ويافث. وحام هو أبو كنعان. وهؤلاء الثلاث هم بنو نوح ومن هؤلاء تشعبت كل لآرض" وفي الاصحاح العاشر سرد لتناسل القبائل والأمم من أبناء نوح، وآخرالآية تقول: "وهؤلاء قبائل بني نوح حسب مواليدهم بأممهم. ومن هؤلاء تفرقت الأمم في الأرض بعد الطوقان" سفر التكوين 10:32
وقد اتفقت المصادر العربية أن سكان العالم كلهم من سلالة نوح. يقول القلقشندي(قلائد الجمان ص27 ):
" أن الطوفان عم جميع الآرض، ولا عبرة بما يذهب إليه الفرس من إنكار الطوفان، ولا بما يذهب إليه بعضهم من تخصيصه بإقليم بابل الذي كان به نوح عليه السلام ... وقع الاتفاق بين النسابين والمؤرخين أن جمبع الآمم الموجودة بعد نوح علية السلام من بنيه دون من كانوا معه في السفينة ... روي أنهم كانوا ثمانين رجلاً، وأنهم كانو من غير عقب."
ويمكن تلخيص تقسيم المصادر العربيةمما ورد عند الطبرى(تاريخ ج1ص125) وعند القلقشندي (ص27-32) في الآتي:
1. أبناء سام: هم العرب والأنباط واليهود والبربر (بعضهم يجعل البربر من أبناء حام)
2. أبناء يافث وهم شعوب أوربا كلها وباقي الشعوب الآسيوية كلها ما عدا الكنعانيون والهنود،.
3. أبناء حام ثلاث هم مصرايم وكنعاب وكوش:
أ. مصرايم أبو المصريين، وفي رواية أخرى أن المصريين من العمالقة ابناء عمليق بن لاوز بن سام
ب. كنعان أبو الكنعانيين في منطقة الشام
ت. كوش أبو الهنود والبربر (على بعض الآراء) وكل الشعوب السوداء في افريقيا مثل فزان والزنج والزغاوة والنوبة والحبش.
وعن أبناء حام ورد الآتي في سفر التكوين 9: 20-27
"وابتدأ نوح يكون فلاحا وغرس كرما. وشرب من الخمر فسكر وتعرى داخل خبائه. فأبصر حام أبو كنعان عورة أبيه وأخبر أخويه خارجا. فأخذ سام ويافث الرداء ووضعاه على أكتافهما ومشيا إلى الوراء وسترا عورة أبيهما. فلما استيقظ نوح من خمرهعلم ما فعل به ابنه الصغير. فقال ملعون كنعان . عبد لعبيد يكون لأخوته. وقال مبارك الرب إله سام. وليكن كنعان عبد لهم. ليفتح الله ليافث فيكن في مساكن سام. وليكن كنعان عبد لهم."
وقد ورد ما يلى عند الطبري(ج1ص125 الوراق) عن ابناء حام وتكرر في المصادر العربية الأخرى:
"ويزعم أهل التوراة أن ذلك لم يكن إلا دعوة دعاها نوح على ابنه حام وذلك أن نوحا نام فانكشف عن عورته، فرآها حام فلم يغطها ورآها سام ويافث فألقيا عليها ثوبا فواريا عورته. فلما هب من نومته علم ما صنع حام وسام ويافث فقال: ملعون كنعان بن حام عبيدا يكونون لإخوته. وقال: يبارك الله ربي في سام ويكون حام عبد أخويه. ويقرض الله يافث ويحل في مساكن حام ويكون كنعان عبدا لهم"
ويواصل الطبري:
"إن نوحا دعا لسام بأن يكون الأنبياء والرسل من ولده ودعا ليافث بأن يكون الملوك من ولده وبدأ بالدعاء ليافث وقدمه في ذلك على سام ودعا على حام بأن يتغير لونه ويكون ولده عبيدا لولد سام ويافث، قال: وذكر في الكتب أنه رق على حام بعد ذلك فدعا له بأن يرزق الرأفة من إخوته."
وهنالك رواية عربية في هذا الصدد أوردها الصحاري (ج1ص الوراق23) عن ابن الكلبي، عن أبي صالح عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لما رَقَدَ نوحٌ في السفينة انكشفت عورَتُه فنظرَ إليها أهلُ السفينة فاستحبوا أن يَسْتُرًوه ولم يَجترئ عليه أحدٌ بذلك لمكانه من الله عزّ وجلّ، فنظر إليه أبنُه حام فضَحِك ولم يَسْتُره، فلما نظر إليه سام قام وسَتَرَه عليه ثيابه، فأوحى الله إلى نوح بذلك، فقال نوح لحام: يا حام نظرت إلى عُرياناً فلم تَسْتُرني وقد بدت عورتي إلى الناس؟! كَشَفَ الله عَوْرَتَك وعَوْرَة وَلَدك من بَعْدِك. وجعلهم عُرَاةً يكونون ما بقى منهم أحد. وأذلهم لَوَلَدِ سام، وجعل الله المُلْكَ والنبوة في ولد سام إلى يوم القيامة. فاستجابَ اللهُ له فلم يَجْعَل مِن ولد حام ولا يافث نَبيَّاً، و لا يجعله إلى يوم القيامة."
وتبدو عدم صحة الحديث واضحة لأنه يتعارض مع ما ورد في القرآن الكريم من آيات توضح أن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله لكل الأمم على مدار تاريخ البشرية مثل {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}35: 24فأصل سكان افريقيا جميعا البيض منهم كما في شمال افريقيا والسود كما في باقي أنحاء القارة وفقا لما ورد في الكتاب المقدس ونقلته المصادر العربية ينتسبون إلى حام بن نوح، وفي رواية أخرى أن المصريين وسكان شمال أفريقيا (البربر) ينتسبون إلي سام. وبناء على ذلك فالسكان البيض والسمر والسود في افريقيا هم سكان اصليون وفدوا كلهم إلي القارة من خارجها. وبالطبع فنحن لا نقبل كونهم أتوا من خارج القارة، ولكننا نتتفق مع ما ورد من أن جميع السلالات البيض والسمر والسود أفارقة أصليين كما سنناقش ذلك في الحلقة القادمة. ونواصل مراجعتنا للمصادر العربية فنتعرف على ما دونته عن أصل البربر.
أصل البربر
اختلف نسابة العرب ومؤرخوهم حول نسب البربر وتعددت آراؤهم ونرجع فيما يلي إلى ابن حزم وما لخصه وابن خلدون بهذا الصدد كنماذج لما ذكرته المصادر العربية. أورد ابن حزم (جمهرة أنسان العرب ج1ص99 الوراق):
"قال قوم: إنهم من بقايا ولد حام بن نوح - عليه السلام - وادعت طوائف منهم إلى حمير، وبعضهم نسبهم إلى بر بن قيس عيلان. وهذا باطل، لا شك فيه. وما علم النسابون لقيس عيلان ابناً اسمه بر أصلاً. ولا كان لحمير طريق إلى بلاد البربر، إلا في تكاذيب مؤرخي اليمن."
وأورد ابن خلدون (العبر ج2ص10وج6ص90،93،96) بعض الآراء المتضاربة في المصادر العربية عن أصل البربر وعلق عليها، نورد من تعليقه ما يلي:
"... فقد اختلف النسابون في ذلك اختلافا كثيرا ...يقال ان أهل افريقية قبل البربر من ابناء يافث ... وقال الكلبى ان كتامة وصنهاجة ليستا من قبائل البربر وانما هما من شعوب اليمانية تركهما افريقش بن صيفي بافريقية مع من نزل بها من الحامية ...وقال بعضهم انهم من ولد ابراهيم عليه السلام ..."
"وقيل تخلفهم [يقصد البربر]ابرهة ذو الهار بالمغرب وهم من لخم وجذام كانت منازلهم بفلسطين وأخرجهم منها بعض ملوك فارس فلما وصلوا إلى مصر منعتهم ملوك مصر النزول فعبروا النيل وانتشروا في البلاد ..."
"وقيل أنهم من ولد النعمان بن حميد بن سبا قال ورأيت في كتاب الاسعيداد الحكيم ابن النعمان بن حمير بن سبا كان ملك زمانه في الفترة وأنه استدعى ابناءه وقال لهم أريد أن أبعث منكم للمغرب من يعمره فراجعوه في ذلك وزعم عليهم وأنه بعث منهم لمت أبا لمتونة ومسفوا أبا مسوفة ومرطا أبا هسكورة وأصناك أبا صنهاجة ولمط أبا لمطة وايلان ابا هيلانه ..."
"وذكر اخرون منهم الطبري وغيره أن البربر أخلاط من كنعان والعماليق، فلما قتل جالوت تفرقوا في البلاد. وأغزى افريقش المغرب ونقلهم من سواحل الشأم وأسكنهم افريقية وسماهم بربر ... وقال مالك بن المرحل البربر قبائل شتى من حمير ومضر والقبط والعمالقة وكنعان وقريش تلاقوا بالشأم ولغطوا فسماهم افريقش البربر لكثرة كلامهم. وسبب خروجهم عند المسعودي والطبري والسهيلى ان افريقش استجاشهم لفتح افريقية وسماهم البربر وينشدون من شعره:
بربرت كنعان لما سقتها * من أراضي الضنك للعيش الخصيب
وقال ابن الكلبى اختلف الناس فيمن أخرج البربر من الشأم فقيل داود بالوحى قيل باداود أخرج البربر من الشأم فانهم جذام الارض" ويعلق ابن خلدون على ذلك قائلاً:
"البربر معروفون في بلادهم وأقاليمهم متحيزون بشعارهم من الامم منذ الأحقاب المتطاولة قبل الاسلام فما الذى يحوجنا إلى التعلق بهذه الترهات... وافريقش الذى يزعمون أنه نقلهم ...قد أبطله امام النسابين والعلماء أبو محمد ابن حزم وقال في كتاب الجمهرة ادعت طوائف من البربر أنهم من اليمن ومن حمير وبعضهم ينسب إلى بربر بن قيس وهذا كله باطل لا شك فيه وما علم النسابون لقيس بن عيلان ابنا اسمه بر أصلا وما كان لحمير طريق إلى بلاد البربر الا في تكاذيب مؤرخي اليمن"
ويواصل ابن خلدون: "أما نسابة البربر فيزعمون في بعض شعوبهم أنهم من حمير ومن كندة ومن العمالقة .... وهذه كلها مزاعم والحق الذى شهد به المواطن والعجمة أنهم بمعزل عن العرب"
ويتضح أن المصادر العربية المبكرة دونت روايات التراث الشعبي التي كانت سائدة في مناطق البربر في ذلك الوقت، ولم تقطع أي من تلك المصادر بصدق أو انكار أيّ منها بل سجلتها كما هي، وفي بعض الأحيان يرد "والثابت هو أن كذا ..." والأثبات هنا لا يستند إلى دليل قاطع بل يستند إلى أن رواج وشيوع تلك الرواية. فكل ما ورد في المصادر العربية عن أصل البربر لم يرد موثقا، أي ورد بدون مصادر، لم يشر أي مؤلف إلى مصدره الذي أستند عليه أو أي دليل لما أورده عن أصل البربر.والرواية المشهورة عن أصل البربر هي التي نسبتهم إلى قبيلة حمير العربية. ومن البديهي أن النسب العربي في القرون الهجرية المبكرة كان نسبا عزيزا يعطي حامله وضعا مميزا ومكانة اجتماعية مرموقة بخلاف غير العرب الذين كانوا أعاجم أو موالي، فكل من يريد الابتعاد عن "عجمي أو مولى" بحث عن النسب العربي. ولم يكن الانتساب لأي قبيلة عربية بالأمر الصعب بل كان أمراً ميسوراً كما يتضح مما ذكره القلقشندي (قلائد الجمان ص21)عن الإنتساب للقبيلة:
" قد ينضم الرجل إلى غير قبيلته بالحلف أو الموالاة فينسب إليهم... وإذا كان الرجل من قبيلة ثم دخل قبيلة أخرى ، جاز أن ينسب إلى قبيلته الأولى، وأن ينسب إلى القبيلة التي دخل فيها" وهكذا فإن رابطة الدم ليست شرطا في الأنتساب إلى القبيلة بل طرق الإنتساب إلي القبيلة متعددة وكلهامقبولة وتكفل للمنتسب كل حقوق أفراد القبيلة الأصليين. من أجل ذلك كثر الإنتساب للعرب الذين شجعوا ذلك لأن فيه كثرة وغزارة في أعدادهم وقت كانت الكثرة أمرا ضروريا.
وكانت تلك المعلومات هي كل ما توفر للعبرانيين وللعرب المبكرين، أما الآن فيكفي أن نشير إلى أن أهل الكتاب المقدس أنفسهم يرجعون اليوم في دراساتهم لشعوب العالم الي نتائج الأبحاث العلمية الحديثة كعلم الأنثروبولوجيا وعلم وصف الشعوب Ethnography وعلم الوراثة Genetics ولا نتصور أن يذهب الباحثون عن أصل الشعب الأيرلندي – مثلا – إلى الرجوع إلى تناسل أبناء يافث. وأصبحت تلك المعلومات جزءا من تاريخ الفكر في تلك المراحل المبكرة من تاريخ البشرية. وهذه الحقيقة ليست بغائبة عن أذهان الذين يستشهدون الآن بتلك الآراء، فهم يعلمون جيدا أن تلك المعلومات لا أهمية لها كمصدر تاريخي ولكنهم يستخدمونها لخدمة القضايا التي يتبنونها ويبحثون عما يساعد على توثيقها.