- إنضم
- 10 سبتمبر 2009
- المشاركات
- 1,282
- نقاط التفاعل
- 524
- النقاط
- 51
- محل الإقامة
- سيدي خالد...بسكرة
- الجنس
- ذكر
الشعراء ودورهم في حركة المقاومة : الموضوع طويل لكن لفائدته قررت إلا أن اضعه أمامكم لقرائته والإستمتاع به.... قام بعض الشعراء بدور كبير في تحريض المسلمين ووصف أحوال الأمة وطبيعة الغزو الصليبي الذي احتل البلاد وهتك الأعراض ومن أشهر هؤلاء ما قاله القاضي الهروي وقيل لأبي المظفر الأبيوردي القصيدة التي أولها :
مزجنا دماءً بالدموع السواجم
فلم يبق منا عرضه للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه
إذا الحرب شُبَّت نارها بالصوارم
إنه، في هذا المطلع، يصّرح ببكاء الناس بكاءً أنزل الدم من العيون لشدته واستمراره، وأنهم بكوا حتى لم يبق فيهم مجال للذم، ولكنه ولا يلبث أن يفطن إلى أن البكاء على شدته، لن يغني في شيء في معركة لا يسعّر نيرانها إلا السيوف القواطع ومنها
فإِيها بني الإسلام إن وراءكم
وقائع يلحقن الذُرا بالمناسم
أتهويمةً في ظلَّ أمن وغبطٍة
وعيشٍ كنّوار الخميلة ناعم
وكيف تنام العين ملء جفونها
على هفوات أيقظت كلَّ نائم
وأخوانكم بالشام يُضحي مقيلهُم
ظهور المذاكي أوبطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان، وأنتم
تجرون ذيل الخفض، فعل المسالم
وهنا يستصرخ الشاعر المتخلفين عن القتال مع أخوانهم المسلمين في بلاد الشام، فيبدأ هذه المقطوعة بتوجيه نداء حار للمسلمين : إيهاً بني الإسلام أنِ اصُحوا من نومكم فمادهكم من الغزو يجعل أعزتكم أذلة. ثم يعجب لهم ولنومهم، إذ كيف ينامون ملء عيونهم ويعيشون ناعماً آمناً وغير بعيد منهم تجري فظائع الأمور التي تقع على رؤوس أخوانهم من أهل الشام، فلا يجدون وقتاً قصيراً ينامون فيه في بيوتهم، فجلّ أوقاتهم على صهوات خيولهم يحاربون أو تكتب لهم الشهادة فتتخطفهم نسور الجو ولا من يدفن جثثهم، وربما يقعون تحت إذلال أعدائهم من الفرنجة، أما أنتم فيبدو عليكم التقلب في ثبات النعمة كما أنكم مسلمون أو متحالفون مع الأعداء ومنها :
وكم من دماء قد أبيحت ومن دمىًَ
تواري حياءً حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظبا
وسمُر العوالي دامياتُ اللَّهاذِم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة
تظل لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغب عن غمارها
ليسلم يقرع بعدها سنَّ نادم
سَللن بأيدي المشتركين قواصناً
ستُغْمد منهم في الطُلا والجماجم
يكاد لهن المستجنُّ بطيبة
ينادي، بأعلى الصوت، يا آل هاشم
وفي هذه الأبيات يصور شراسة المعارك التي وقعت بين المسلمين وأعدائهم من الفرنجة، فقد أبُيحت فيها دماء كثيرة من المسلمين ولقد اقتحم فيها على النساء خدورهن وما وجدن ما يدفعن به عن أجسامهن المصونة غير معاصمهن المشتبكة حياءً وخوفاً، وقد اشتدت هذه الحروب واستحّر فيها القتل حتى بدت أسنَّة السيوف والرماح حمراء لا هبة، وحتى أن الصبيان ربما يظهر في شعرهم الشيب لما فيها من هول الطعن والضرب ثم يعود لتنبيه المتخلفين بأنهم سوف يندمون على تخلفهم عن الاشتراك في هذه الحروب، التي يعود ليتحدث عن أخطارها فيهّون من شأن الأعداء وأسلحتهم فما استلّوه من سيوف قاطعة تعود إلى نحورهم وجماجمهم. وفي آخر الآبيات يؤكد فظاعة هذه الحروب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، في ضريحه الطاهر في المدينة المنورة يستنجد على الأعداء، بالعرب والمسلمين وليس بآل هاشم فحسب .
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا
رماحهم، والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى
ولا يحسبون العار ضربة لازم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى
ج
ويغضي على ذلًّ كماة الأعاجم ؟
فليتهم إذ لم يذودوا حمية
عن الدين، ضنوا غيره بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر، إذ حمي الوغى
فهلاً أتوه رغبة في الغنائم ؟
ويرى الشاعر قعود بعض بني قومه عن الجهاد فيتألم لذلك ألماً يصور معه واقعهم المتخاذل عن نصرة دينهم الذي يحاول الأعداء إضعافه، جبناً وخوفاً وغفلة عما يلحق بهم من العار في حالة الهزيمة، ويعجب لشجعان المسلمين، من عرب ومن عجم، كيف يقبلون بهذا كله ثم يقلب لهم أسباب الدفاع عن الدين وعن البيضة تقليباً منطقياً، فيه الألم الذي يعصر قلبه، والتبكيت الذي يهز أحاسيسهم من الأعماق، فيطالبهم بالدفاع عن الدين أولاً فإن لم ينهضوا له فليحموا محارمهم من النساء والبلدان والعقار، وهذا أضعف الإيمان، أن يهتموا بالدنيا وعَرضَها من غنائم وأسلاب إن فقدوا الثأر للدين والخروج ونيل الشهادة !! وفي نهاية القصيدة يبلغ به الألم مبلغاً أشد فعلاً وتأثيراً، فيكشف لهم عن مستقبل أيامهم وما يلاقون فيه من إذلال وصغار في أيام أبنائهم الوارثين للخنوع إن قبلوا باحتلال الأعداء لبلادهم، ثم يهددهم بعار تسليم النساء للأعداء إن هم ظلوا على ما هم عليه من الخنوع والجبن والقعود عن الجهاد ولم يزل الشاعر يستصرخهم والحرب مستعرة، ليغيروا على المعتدين غارة شعواء تلقي الفرنجة درساً قاسياً، كما تعّودوا في كل مرة يهاجمون فيها بلاد الإسلام :
لئن أذعنت تلك الخياشيم للبَُرى
فلا عطست إلا بأجدع رغم
دعوناكم والحرب تدعو ملحة
إلينا بألحاظ النسور القشاعم
تراقب فينا غارة عربية
تطيل عليها الروم غَضَّ الأباهم
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
وقال شاعر آخر في الغزو الصليبي لبيت المقدس :
أحلَّ الكفُر بالإسلام ضيماً
يطول عليه للدين النحيب
فحقُّ ضائع وحمىً مباح
وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليباً
ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديراً
على محرابه نُصبَ الصليب
دم الخنزير فيه لهم خَلوقٌ
وتحريف المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل
لطفَّل في عوارضه المشيب
أتسبى المسلماتُ بكل ثغر ؟
وعيش المسلمين إذن يطيب
أما لله والإسلام حق ؟
يدافع عنه شبان وشيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا
أجيبوا الله، ويحكم، أجيبوا
ويبدو للمتأمل في هذه الأشعار أنها تسجل مشاعر الإنسان المسلم في مرحلة غزو الأفرنج وظفرهم من مراحل الحروب الصليبية وأبرز هذه المشاعر :
الشعور الديني : فالأبيوردي يستصرخ بني الإسلام " فإيهاً بني الإسلام " لأن الأعداء مشركون " سللن بأيدي المشركين " سللن بأيدي المشركين " فهو بعد نداء المسلمين عامة يؤمل ألا يقبل بهذا الغزو لا صناديد الأعاريب ولا كماة الأعاجم، كما أنه يرى أن الرسول – عليه السلام – يستفظع هذا الغزو ويدعو قومه لدرئه؛ وفي الوقت الذي يدعوهم للصمود والثبات في وجه الغزاة يقلب لهم أسباب هذا الصمود وعوامله فيطالبهم بأن يتذكروا أولاً، ثواب الله في الآخرة عليه، فإن تناسوا هذه، فيطالبهم، بأن لم أن يذبوا عن محارمهم على الأقل وربما كان هذا الشعور الديني في القصيدة البائية أكثر بروزاً ووضوحاً من سابقتها، فمنذ الكلمة الأولى يطلعنا الشاعر على أن الصنيم قد حل أولاً بالإسلام، ثم أخذ يعدد ألوان هذا الصنيم المتعددة مهتماً بما حدث للمساجد من تحويل إلى أديرة، وبما ارتفع على محاريبها من صلبان، ومما أخذ يفوح فيها من رائحة لحم الخنزير أو المصاحف المحروقة، وإنه ليربط ربطاً محكماً بين ما يكاد يقشعر له شعر رأسه من سبي النساء وبين العيش الهنيء للمسلمين المتخلفين عن الجهاد، ويتجمع الحسّ الإسلامي عند هذا الشاعر المؤمن المجاهد، فيصرخ في وجه القعدة المتخاذلين صرخة تهز أعماقهم أما لله والإسلام
حق ؟؟ إن هذا هو الأساس الثابت وراء هذا الأدب الإسلامي الملتزم بقضايا الأمة وهمومها؛ إن كل الحروب بما فيها رد للغزو أو نفير للجهاد : أجيبوا الله ويحكم أجيبوا " ، والويل والثبور لمن يتخلف عن تلبية نداء هذا الداعي. أما مكانة القدس في قلوب المسلمين في ذلك العهد وفي كل عهد فهي مما يكمل هذا الشعور ويؤكد عليه؛ فبعد الانتصار على حاكم مملكة أنطاكية النصراني، وبعد فتح مصر ثم توحيدها مع الشام تحت القبضة الإسلامية، وبعد فتح حلب، بعد هذا كله لم يكن النداء التالي إلا الشروع في العمل لتخليص القدس والمسجد الأقصى من أسر المشركين وتطهيره من مظاهر الشرك والدنس .
الشعور الاجتماعي : ويتبع الإحساس بما حاق بالدين إحساس بالهوان الذي ألم بالمسلمين أنفسهم " تسومهم الروم الهوان " وهم إما عى صهوات الخيل وإما في بطون طيور الجو، وكم من دماء قد أبيحت، فحقٌ ضائع وحمى مباح " وكم من مسلم أمسى سليباً " إن شعور بالضياع والهزيمة أمام هذه الزحوف الغازية في حالة تقاعس بعض المسلمين عن شد أزر بعض في ساعات العسرة.
أرى أمتى لا يشرعون إلى العدا
رماحهم والدين واهي الدعائم
ومما يثقل كاهل الإنسان المسلم، الذي يعيش هذه الآلام، ما يحيق بنساء المسلمين في المجتمع الإسلامي، من سبي وقهر واغتصاب فما عسى النساء الجميلات أن يدفعن عن أنفسهن إذى دُخلت عليهنَّ خدورهن من أقطارها ؟ وما عسى المعاصم النسائية التي تشابكت لتواري النفس من الخجل ولئلا تقع عيون علوج الأعداء المهاجمين في عيونهم ما عساها أن تدفع عنهن من الشرور المقتحمة ؟ وغاية ما يهدد به هذا الشاعر المتألم بني قومه أن يخلي بين النساء وسائر المحرمات وبين الأعداء إذا هم ظلوا متخاذلين عن المشاركة في الجهاد لدفع عدوان أعداء الله ، ومما يدلل على عمق تأثير هذا الشعور في النفس المسلمة أن شاعر القصيدة البائية عدد أصناف الشقاء التي حاقت بالمسلمين، إثر الغزو الصليبي، بألم، حتى إذا ما وصل إلى صورة سبي النساء المسلمات صرخ بأعلى صوته، ومن أعماق إحساسه، بسؤال يهز أعماق السامعين أتسبي المسلمات بكل ثغر ؟؟ وذلك مقابل مالا يليق لدى الطرف الثاني من اهتمام المسلمين " وعيش المسلمين إذن يطيب ؟ " ويتبع هذه الأسئلة سؤال آخر يضرب في أعماق هذه المشاعر كلها، وهو ما ذكرنا من شعور ديني متألم " أما لله والإسلام حق ". فالله، سبحانه، لا يرضى أن تسبي المسلمات وهو القائل : " أذُن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " (سورة الحج، آية : 39). وهو القائل " ولله العزة ولرسوله، وللمؤمنين " ( المنافقون، آية : 8). هل في هذا الإلحاح على الألم الشديد مما حاق بنساء المسلمين إثر هذه الحروب، بقايا من الإحساس القبلي بعار العشيرة، إذا أضيمت نساؤها ؟ لو سلمنا بوجوده فإننا نلمح في الوقت نفسه، أن الإسلام طالب بالدفاع عن الحمى والمحرمات، والنساء أولى هذه المحميات في الإسلام .
الشعور النفسي : وإذا كان الشعور الاجتماعي يتسع أفقه لحمل هموم المجتمع الإسلامي بجميع أفراده بأن الفرد المسلم، على النطاق الفردي، قد أخذ يحسُّى بمجموعة من الأحاسيس الطاحنة تحت وطأة هذا الغزو الغاشم من جهة، وتخلف الكثيرين من أبناء الإسلام من جهة أخرى وأولى مشاعر الفرد في هذه الجو، هو الحزن الشديد الذي لف نفوس جميع الأفراد لفاً، فأول ما نطقت به كلمات الأبيوردي هو البكاء الذي لم يذرف الدموع، فحَسب ولكنه استنزال الدم من العيون بعد أن جفت الدموع !! وسرعان ما يزداد هذا الحزن حينما يفتح الشاعر عينيه على الحقيقة المرة : ما نفع الدموع في معركة لا تتكلم فيها إلا السيوف المواضي ؟ وهنا تحدق الشرور بنفسية هذا الشاعر، ومن هذا الإحساس العاصف ينبت استنجاد الشاعر بأهله من المسلمين، للنهوض والرد على هذا الخطر المحدق " فإيها بني الإسلام " وما نفع الفرد، حينما تحيط به الأخطار، إن لم يكن له أهل يمنعونه ؟ ونخرج بمثل هذا الحزن العاصف حينما نقرأ القصيدة البائية ونحس بخفقان له أهل يمنعونه ؟ ونخرج بمثل هذا الحزن العاصف حينما نقرأ القصيدة البائية ونحس بخفقان قلب صاحبها المضطرب، لكثرة ما رأى وأحس وعاش من الأخطار التي تهددت وجوده ووجود أهله فحقوقهم ضائعة ودماؤهم سائلة، ورجالهم كنسائهم في السبى والنهب، وبلادهم مباحة، ومساجدهم غدت أديرة، وجدران صلبان، وحينما يبلغ الحزن مبلغ هز الأعماق تخرج الصرخات والاستنجاد والتذكر بحقوق الله في الجهاد والذب عن الحياض ونكاد نلمح مثل هذه المشاعر الفردية الحزينة حينما يأخذ الشعراء في تزيين فتح القدس للقادة الفاتحين بمختلف ضروب الإقناع، فقد كان هذا الأمل يداعب نفوس المسلمين، جميع المسلمين، منُذ أن فتحوا عيونهم على قبلتهم الأولى فوجدوها في أيدي أعداء الله.
تصوير الحروب : وتكاد قصيدة الأبيوردي تنفرد بتصوير ما وقع بين المسلمين وبين أعدئهم المهاجمين من حروب، قبل استيلاء الصليبيين على مقدساتهم، وهذه مأثرة إيجابية تحسب لها، فالقدس لم يستول عليها الأعداء دون قتال، وإلا لكان هذا دليلاً على الضعف والخور، فهذه الحروب تسعّرها السيوف القاطعة، وحينما كان الهجوم صمد لهم أبناء الشام الأبطال حتى يظل الواحد منهم على صهوة جواده ليل نهار حتى تختلف رجلاه على عنق فرسه فتتخطفهم سباع الأرض أو نسور الجو، كما قال أحد خطباء العصر الأموي، كما أن النساء اللواتي اقتحمت عليهن خدورهن دافعن بعد أن استحر القتال بين رجالهن وبين الأعداء :
بحيث السيوف محمرة الظبا
وسمر العوالي داميات اللهاذم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة
تظل لها الولدان شيب القوادم
إنها صدمات تصير لها الولدان شيباً، كما ورد في القرآن الكريم عن أهوال يوم القيامة؛ إنها حروب يستل فيها المشركون سيوفاً قاطعة لكن المدافعين عن حرمات الإسلام يردون هذه السيوف المعتدية إلى نحو أصحابها ورؤوسهم، أجل إن المقاومة الإسلامية قد هبت في وجوه المعتدين مُنذ أن وطئت أقدامهم النجسة أراضي المسلمين في سواحل بلاد الشام الشمالية، وظلت راية الجهاد مرفوعة لرد المعتدين، حتى خرج آخر صليبي معتدٍ من هذه الديار الإسلامية، بعد قرنين من الصراع المستمر .
الدعوات إلى الجهاد : إن أحزان الشعراء والأفراد وشعورهم بالضياع أمام ما رأت أعينهم من مصير الدين الذي صار، بهذا الغزو الصليبي، واهي الدعائم، ومن فظائع شتت شمل أهلهم المسلمين وسبت نساءهم وأذلت رجالهم، بعد القتال الشديد، وحولت مساجدهم إلى كنائسح إن هذا الحزن الجارف لم يقعد بهؤلاء الشعراء عند مرحلة البكاء وذرف الدموع وتصوير ما حاق بالناس من مصائب، إنه حملهم على أن يسلكوا السبيل الأصوب في مثل هذه المواقف، فقد أصبح الشاعر نذيراً لأمته بالشرور التي ستطبق عليهم في الدنيا وبغضب الله في الآخرة إذا هم ظلّوا متقاعدين عن الجهاد لدرء الأخطار، فلقد قال الشاعر لأهله إن الدموع لا تغني في حروب السيوف، فدعاهم للتجمع والرد فوراءهم ما يذل الأغزة. ويبكتُهم على تقاعدهم ليهبوا للجهاد :
أتهويمة في ظل أمن وغبطة
وعيش كنّوار الخميلة ناعم
وقابل لهم بين الصورتين غير المتوازنتين.قتال فريق من المسلمين وتقاعد الفريق الآخر، وما أفعل قوله وأشد تأثيره : أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا... إلخ البيت. فقوله أمتي فيها الإيجاز والتأثير ومنطقة النداء والدعوة ومرة يمدحهم بالشجاعة والنخوة ويذكرهم بهما ليهبوا للجهاد، ومرة يناقشهم في أسباب الدفاع والصمود، أما حينما يخامره الشك في أن يستمعوا إلى نداءاته هذه كلها يلجأ للتأثير عليهم من جهة أخرى هي جهة التذكير بالنساء والأعراض واحتمال وقوعها تحت أيدي الأعداء المهاجمين وكذلك يفعل الشاعر المجهول، فبعد أن يصور لهم ما حاق بأهاليهم من شقاء وهوان يدعوهم، بصريح العبارة، إلى تلبية نداء الله بالجهاد والثأر للكرامة الإسلامية، ديناً ومتدينين وبلاداً ومسلمين .
الشاعر ابن الخياط : أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن الخياط : فقد حاول هذا الشاعر تحريك همة عضب الدولة زعيم الجيوش في دمشق فقال قصيدة طويلة يحثه على إعداد العدة للجهاد مطلعها قوله :
فدتك الصَّواهل قُبَّا وجرداً
وشُمُّ القبائل شيباً ومرداً
وذلت لا سيافِك البيض قضباً
ودانت لأَرماحك السُّمر مُلْدا
إلى أن يقول :
وإني لمهد إليك القريض
يُطوى على النُّصح والنصُّح يُهدَى
إلى كم وقد زخر المشركون
بسيل يُهال له السيل سداً
و
وقد جَاشَ من أرض إفرنجة
جيوش كمثل جبال تردا
أنوماً على مثل هدَّ الصفاة
وهزلا وقد أصبح الأمر جِدَّاً
وكيف تنامون عن أعين
وترتم فاسهر تموهنَّ حقداً
بنو الشرك لا يُنكرون الفساد
ولا يعرفون مع الجور قصداً
ولا يردعون عن القتل نفساً
ولا يتركون من الفتك وجُهداً
فكم من فتاة بهم أصبحت
تدق من الخوف نحراً وخداً
وأمَّ عواتق ما إن عرفن
حَّرا ولا ذُقن في الليل برداً
تكاد عليهنَّ من خيفة
تذوب وتتلف حزناً ووجدا
وبعد أن وصف الشاعر حال المشركين وقسوتهم، وحال المسلمين معهم بدأ يحرض عضب الدولة على الجهاد فقال :
فحاموا عن دينكم والحريم
محاماة من لا يرى الموت فقداً
وسُدُّوا الثغور بطعن النحور
فمن حق ثغر بكم أن يُسَدَّا
فقد أَينعت أَرؤس المشركين
فلا تغفلوها قِطافأ وحصداً
فلابد من حدَّهم أن يُفلَّ
ولابد من ركنهم أن يُهَدّا
وكانت لجهود العلماء والفقهاء والقضاة والأدباء والشعراء أثر في تقوية حركة المقاومة المسلحة والتي قادها أمراء السلاجقة والتي سيأتي الحديث عنها بإذن الله في الصفحات القادمة.
قصيدة "مالي وللنجم يرعاني وأرعاه" للشاعر محمود غنيم
مالـي وللنجـم يرعانـي وأرعــاه....أمسى كلانا يعـاف الغمـض جفنـاه
لي فيـك يـا ليـل آهـات أرددهـا....أواه لـو أجـدت المـحـزون أواه
لا تحسبنـي محبـا أشتكـي وصبـا....أهون ما فـي سبيـل الحـب ألقـاه
إنـي تذكـرت والذكـرى مؤرقـة....مجـدا تلـيـدا بأيديـنـا أضعـنـاه
ويح العروبة كان الكـون مسرحهـا....فأصبحـت تتـوارى فـي زوايــاه
أنى اتجهت إلى الإسـلام فـي بلـد....تجده كالطيـر مقصوصـا جناحـاه
كـم صرفتنـا يـد كنـا نصرفـهـا....وبـات يملكـنـا شـعـب ملكـنـاه
هل تطلبون مـن المختـار معجـزة....يكفيه شعـب مـن الأجـداث أحيـاه
من وحد العرب حتى صار واترهـم....إذا رأى ولــد المـوتـور آخــاه
وكيف ساس رعـاة الشـاة مملكـة....ما ساسها قيصر مـن قبـل أو شـاه
ورحب الناس بالإسـلام حيـن رأوا....أن الإخـاء وأن الـعـدل مـغـزاه
يامن يـرى عمـرا تكسـوه بردتـه....والزيـت أدم لـه والكـوخ مـأواه
يهتز كسـرى علـى كرسيـه فرقـا....من هولـه وملـوك الـروم تخشـاه
هـي الحنيفـة عيـن الله تكلـؤهـا....فكلمـا حاولـوا تشويههـا شاهـوا
سـل المعالـي عنـا إننـا عــرب....شعارنـا المجـد يهوانـا ونـهـواه
هي العروبـة لفـظ إن نطقـت بـه....فالشرق والضـاد والإسـلام معنـاه
استرشد الغرب بالماضـي فأرشـده....ونحـن كـان لنـا مـاض نسيـنـاه
إنا مشينا وراء الغـرب نقبـس مـن....ضيـائـه فأصابـتـنـا شـظـايـاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب....بالأمس كانوا هنا مـا بالهـم تاهـوا
فإن تراءت لك الحمراء عـن كثـب....فسائل الصرح أيـن المجـد والجـاه
وانزل دمشق وخاطب صخر مسجدها....عمـن بنـاه لعـل الصخـر ينعـاه
وطف ببغداد وابحث فـي مقابرهـا....عل امرءا من بنـي العبـاس تلقـاه
أين الرشيد وقد طـاف الغمـام بـه....فحيـن جــاوز بـغـداد تـحـداه
هـذي معالـم خـرس كـل واحـدة....منهـن قامـت خطيبـا فاغـرا فـاه
الله يشهـد مـا قلـبـت سيرتـهـم....يوما وأخطـأ دمـع العيـن مجـراه
ماض نعيـش علـى أنقاضـه أممـا....ونستمد القـوى مـن وحـي ذكـراه
لا در در امـرئ يطـري أوائـلـه....ويطرق إن ساءلتـه ماهـو!
إنـي لأعتبـر الإســلام جامـعـة....للشـرق لا محـض ديـن سنـه الله
أرواحنـا تتلاقـى فـيـه خافـقـة....كالنحـل إذ يتلاقـى فـي خـلايـاه
دستوره الوحـي والمختـار عاهلـه....والمسلمـون وإن شتـوا رعـايـاه
اللهم قـد أصبحـت أهواؤنـا شيعـا....فامنن علينـا بـراع أنـت ترضـاه
راع يعيـد إلـى الإسـلام سيرتـه....يرعـى بنيـه وعيـن الله تـرعـاه
قصيدة "مالي وللنجم يرعاني وأرعاه" للشاعر محمود غنيم
مزجنا دماءً بالدموع السواجم
فلم يبق منا عرضه للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه
إذا الحرب شُبَّت نارها بالصوارم
إنه، في هذا المطلع، يصّرح ببكاء الناس بكاءً أنزل الدم من العيون لشدته واستمراره، وأنهم بكوا حتى لم يبق فيهم مجال للذم، ولكنه ولا يلبث أن يفطن إلى أن البكاء على شدته، لن يغني في شيء في معركة لا يسعّر نيرانها إلا السيوف القواطع ومنها
فإِيها بني الإسلام إن وراءكم
وقائع يلحقن الذُرا بالمناسم
أتهويمةً في ظلَّ أمن وغبطٍة
وعيشٍ كنّوار الخميلة ناعم
وكيف تنام العين ملء جفونها
على هفوات أيقظت كلَّ نائم
وأخوانكم بالشام يُضحي مقيلهُم
ظهور المذاكي أوبطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان، وأنتم
تجرون ذيل الخفض، فعل المسالم
وهنا يستصرخ الشاعر المتخلفين عن القتال مع أخوانهم المسلمين في بلاد الشام، فيبدأ هذه المقطوعة بتوجيه نداء حار للمسلمين : إيهاً بني الإسلام أنِ اصُحوا من نومكم فمادهكم من الغزو يجعل أعزتكم أذلة. ثم يعجب لهم ولنومهم، إذ كيف ينامون ملء عيونهم ويعيشون ناعماً آمناً وغير بعيد منهم تجري فظائع الأمور التي تقع على رؤوس أخوانهم من أهل الشام، فلا يجدون وقتاً قصيراً ينامون فيه في بيوتهم، فجلّ أوقاتهم على صهوات خيولهم يحاربون أو تكتب لهم الشهادة فتتخطفهم نسور الجو ولا من يدفن جثثهم، وربما يقعون تحت إذلال أعدائهم من الفرنجة، أما أنتم فيبدو عليكم التقلب في ثبات النعمة كما أنكم مسلمون أو متحالفون مع الأعداء ومنها :
وكم من دماء قد أبيحت ومن دمىًَ
تواري حياءً حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظبا
وسمُر العوالي دامياتُ اللَّهاذِم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة
تظل لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغب عن غمارها
ليسلم يقرع بعدها سنَّ نادم
سَللن بأيدي المشتركين قواصناً
ستُغْمد منهم في الطُلا والجماجم
يكاد لهن المستجنُّ بطيبة
ينادي، بأعلى الصوت، يا آل هاشم
وفي هذه الأبيات يصور شراسة المعارك التي وقعت بين المسلمين وأعدائهم من الفرنجة، فقد أبُيحت فيها دماء كثيرة من المسلمين ولقد اقتحم فيها على النساء خدورهن وما وجدن ما يدفعن به عن أجسامهن المصونة غير معاصمهن المشتبكة حياءً وخوفاً، وقد اشتدت هذه الحروب واستحّر فيها القتل حتى بدت أسنَّة السيوف والرماح حمراء لا هبة، وحتى أن الصبيان ربما يظهر في شعرهم الشيب لما فيها من هول الطعن والضرب ثم يعود لتنبيه المتخلفين بأنهم سوف يندمون على تخلفهم عن الاشتراك في هذه الحروب، التي يعود ليتحدث عن أخطارها فيهّون من شأن الأعداء وأسلحتهم فما استلّوه من سيوف قاطعة تعود إلى نحورهم وجماجمهم. وفي آخر الآبيات يؤكد فظاعة هذه الحروب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم، في ضريحه الطاهر في المدينة المنورة يستنجد على الأعداء، بالعرب والمسلمين وليس بآل هاشم فحسب .
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا
رماحهم، والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى
ولا يحسبون العار ضربة لازم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى
ج
ويغضي على ذلًّ كماة الأعاجم ؟
فليتهم إذ لم يذودوا حمية
عن الدين، ضنوا غيره بالمحارم
وإن زهدوا في الأجر، إذ حمي الوغى
فهلاً أتوه رغبة في الغنائم ؟
ويرى الشاعر قعود بعض بني قومه عن الجهاد فيتألم لذلك ألماً يصور معه واقعهم المتخاذل عن نصرة دينهم الذي يحاول الأعداء إضعافه، جبناً وخوفاً وغفلة عما يلحق بهم من العار في حالة الهزيمة، ويعجب لشجعان المسلمين، من عرب ومن عجم، كيف يقبلون بهذا كله ثم يقلب لهم أسباب الدفاع عن الدين وعن البيضة تقليباً منطقياً، فيه الألم الذي يعصر قلبه، والتبكيت الذي يهز أحاسيسهم من الأعماق، فيطالبهم بالدفاع عن الدين أولاً فإن لم ينهضوا له فليحموا محارمهم من النساء والبلدان والعقار، وهذا أضعف الإيمان، أن يهتموا بالدنيا وعَرضَها من غنائم وأسلاب إن فقدوا الثأر للدين والخروج ونيل الشهادة !! وفي نهاية القصيدة يبلغ به الألم مبلغاً أشد فعلاً وتأثيراً، فيكشف لهم عن مستقبل أيامهم وما يلاقون فيه من إذلال وصغار في أيام أبنائهم الوارثين للخنوع إن قبلوا باحتلال الأعداء لبلادهم، ثم يهددهم بعار تسليم النساء للأعداء إن هم ظلوا على ما هم عليه من الخنوع والجبن والقعود عن الجهاد ولم يزل الشاعر يستصرخهم والحرب مستعرة، ليغيروا على المعتدين غارة شعواء تلقي الفرنجة درساً قاسياً، كما تعّودوا في كل مرة يهاجمون فيها بلاد الإسلام :
لئن أذعنت تلك الخياشيم للبَُرى
فلا عطست إلا بأجدع رغم
دعوناكم والحرب تدعو ملحة
إلينا بألحاظ النسور القشاعم
تراقب فينا غارة عربية
تطيل عليها الروم غَضَّ الأباهم
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه
رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
وقال شاعر آخر في الغزو الصليبي لبيت المقدس :
أحلَّ الكفُر بالإسلام ضيماً
يطول عليه للدين النحيب
فحقُّ ضائع وحمىً مباح
وسيف قاطع ودم صبيب
وكم من مسلم أمسى سليباً
ومسلمة لها حرم سليب
وكم من مسجد جعلوه ديراً
على محرابه نُصبَ الصليب
دم الخنزير فيه لهم خَلوقٌ
وتحريف المصاحف فيه طيب
أمور لو تأملهن طفل
لطفَّل في عوارضه المشيب
أتسبى المسلماتُ بكل ثغر ؟
وعيش المسلمين إذن يطيب
أما لله والإسلام حق ؟
يدافع عنه شبان وشيب
فقل لذوي البصائر حيث كانوا
أجيبوا الله، ويحكم، أجيبوا
ويبدو للمتأمل في هذه الأشعار أنها تسجل مشاعر الإنسان المسلم في مرحلة غزو الأفرنج وظفرهم من مراحل الحروب الصليبية وأبرز هذه المشاعر :
الشعور الديني : فالأبيوردي يستصرخ بني الإسلام " فإيهاً بني الإسلام " لأن الأعداء مشركون " سللن بأيدي المشركين " سللن بأيدي المشركين " فهو بعد نداء المسلمين عامة يؤمل ألا يقبل بهذا الغزو لا صناديد الأعاريب ولا كماة الأعاجم، كما أنه يرى أن الرسول – عليه السلام – يستفظع هذا الغزو ويدعو قومه لدرئه؛ وفي الوقت الذي يدعوهم للصمود والثبات في وجه الغزاة يقلب لهم أسباب هذا الصمود وعوامله فيطالبهم بأن يتذكروا أولاً، ثواب الله في الآخرة عليه، فإن تناسوا هذه، فيطالبهم، بأن لم أن يذبوا عن محارمهم على الأقل وربما كان هذا الشعور الديني في القصيدة البائية أكثر بروزاً ووضوحاً من سابقتها، فمنذ الكلمة الأولى يطلعنا الشاعر على أن الصنيم قد حل أولاً بالإسلام، ثم أخذ يعدد ألوان هذا الصنيم المتعددة مهتماً بما حدث للمساجد من تحويل إلى أديرة، وبما ارتفع على محاريبها من صلبان، ومما أخذ يفوح فيها من رائحة لحم الخنزير أو المصاحف المحروقة، وإنه ليربط ربطاً محكماً بين ما يكاد يقشعر له شعر رأسه من سبي النساء وبين العيش الهنيء للمسلمين المتخلفين عن الجهاد، ويتجمع الحسّ الإسلامي عند هذا الشاعر المؤمن المجاهد، فيصرخ في وجه القعدة المتخاذلين صرخة تهز أعماقهم أما لله والإسلام
حق ؟؟ إن هذا هو الأساس الثابت وراء هذا الأدب الإسلامي الملتزم بقضايا الأمة وهمومها؛ إن كل الحروب بما فيها رد للغزو أو نفير للجهاد : أجيبوا الله ويحكم أجيبوا " ، والويل والثبور لمن يتخلف عن تلبية نداء هذا الداعي. أما مكانة القدس في قلوب المسلمين في ذلك العهد وفي كل عهد فهي مما يكمل هذا الشعور ويؤكد عليه؛ فبعد الانتصار على حاكم مملكة أنطاكية النصراني، وبعد فتح مصر ثم توحيدها مع الشام تحت القبضة الإسلامية، وبعد فتح حلب، بعد هذا كله لم يكن النداء التالي إلا الشروع في العمل لتخليص القدس والمسجد الأقصى من أسر المشركين وتطهيره من مظاهر الشرك والدنس .
الشعور الاجتماعي : ويتبع الإحساس بما حاق بالدين إحساس بالهوان الذي ألم بالمسلمين أنفسهم " تسومهم الروم الهوان " وهم إما عى صهوات الخيل وإما في بطون طيور الجو، وكم من دماء قد أبيحت، فحقٌ ضائع وحمى مباح " وكم من مسلم أمسى سليباً " إن شعور بالضياع والهزيمة أمام هذه الزحوف الغازية في حالة تقاعس بعض المسلمين عن شد أزر بعض في ساعات العسرة.
أرى أمتى لا يشرعون إلى العدا
رماحهم والدين واهي الدعائم
ومما يثقل كاهل الإنسان المسلم، الذي يعيش هذه الآلام، ما يحيق بنساء المسلمين في المجتمع الإسلامي، من سبي وقهر واغتصاب فما عسى النساء الجميلات أن يدفعن عن أنفسهن إذى دُخلت عليهنَّ خدورهن من أقطارها ؟ وما عسى المعاصم النسائية التي تشابكت لتواري النفس من الخجل ولئلا تقع عيون علوج الأعداء المهاجمين في عيونهم ما عساها أن تدفع عنهن من الشرور المقتحمة ؟ وغاية ما يهدد به هذا الشاعر المتألم بني قومه أن يخلي بين النساء وسائر المحرمات وبين الأعداء إذا هم ظلوا متخاذلين عن المشاركة في الجهاد لدفع عدوان أعداء الله ، ومما يدلل على عمق تأثير هذا الشعور في النفس المسلمة أن شاعر القصيدة البائية عدد أصناف الشقاء التي حاقت بالمسلمين، إثر الغزو الصليبي، بألم، حتى إذا ما وصل إلى صورة سبي النساء المسلمات صرخ بأعلى صوته، ومن أعماق إحساسه، بسؤال يهز أعماق السامعين أتسبي المسلمات بكل ثغر ؟؟ وذلك مقابل مالا يليق لدى الطرف الثاني من اهتمام المسلمين " وعيش المسلمين إذن يطيب ؟ " ويتبع هذه الأسئلة سؤال آخر يضرب في أعماق هذه المشاعر كلها، وهو ما ذكرنا من شعور ديني متألم " أما لله والإسلام حق ". فالله، سبحانه، لا يرضى أن تسبي المسلمات وهو القائل : " أذُن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير " (سورة الحج، آية : 39). وهو القائل " ولله العزة ولرسوله، وللمؤمنين " ( المنافقون، آية : 8). هل في هذا الإلحاح على الألم الشديد مما حاق بنساء المسلمين إثر هذه الحروب، بقايا من الإحساس القبلي بعار العشيرة، إذا أضيمت نساؤها ؟ لو سلمنا بوجوده فإننا نلمح في الوقت نفسه، أن الإسلام طالب بالدفاع عن الحمى والمحرمات، والنساء أولى هذه المحميات في الإسلام .
الشعور النفسي : وإذا كان الشعور الاجتماعي يتسع أفقه لحمل هموم المجتمع الإسلامي بجميع أفراده بأن الفرد المسلم، على النطاق الفردي، قد أخذ يحسُّى بمجموعة من الأحاسيس الطاحنة تحت وطأة هذا الغزو الغاشم من جهة، وتخلف الكثيرين من أبناء الإسلام من جهة أخرى وأولى مشاعر الفرد في هذه الجو، هو الحزن الشديد الذي لف نفوس جميع الأفراد لفاً، فأول ما نطقت به كلمات الأبيوردي هو البكاء الذي لم يذرف الدموع، فحَسب ولكنه استنزال الدم من العيون بعد أن جفت الدموع !! وسرعان ما يزداد هذا الحزن حينما يفتح الشاعر عينيه على الحقيقة المرة : ما نفع الدموع في معركة لا تتكلم فيها إلا السيوف المواضي ؟ وهنا تحدق الشرور بنفسية هذا الشاعر، ومن هذا الإحساس العاصف ينبت استنجاد الشاعر بأهله من المسلمين، للنهوض والرد على هذا الخطر المحدق " فإيها بني الإسلام " وما نفع الفرد، حينما تحيط به الأخطار، إن لم يكن له أهل يمنعونه ؟ ونخرج بمثل هذا الحزن العاصف حينما نقرأ القصيدة البائية ونحس بخفقان له أهل يمنعونه ؟ ونخرج بمثل هذا الحزن العاصف حينما نقرأ القصيدة البائية ونحس بخفقان قلب صاحبها المضطرب، لكثرة ما رأى وأحس وعاش من الأخطار التي تهددت وجوده ووجود أهله فحقوقهم ضائعة ودماؤهم سائلة، ورجالهم كنسائهم في السبى والنهب، وبلادهم مباحة، ومساجدهم غدت أديرة، وجدران صلبان، وحينما يبلغ الحزن مبلغ هز الأعماق تخرج الصرخات والاستنجاد والتذكر بحقوق الله في الجهاد والذب عن الحياض ونكاد نلمح مثل هذه المشاعر الفردية الحزينة حينما يأخذ الشعراء في تزيين فتح القدس للقادة الفاتحين بمختلف ضروب الإقناع، فقد كان هذا الأمل يداعب نفوس المسلمين، جميع المسلمين، منُذ أن فتحوا عيونهم على قبلتهم الأولى فوجدوها في أيدي أعداء الله.
تصوير الحروب : وتكاد قصيدة الأبيوردي تنفرد بتصوير ما وقع بين المسلمين وبين أعدئهم المهاجمين من حروب، قبل استيلاء الصليبيين على مقدساتهم، وهذه مأثرة إيجابية تحسب لها، فالقدس لم يستول عليها الأعداء دون قتال، وإلا لكان هذا دليلاً على الضعف والخور، فهذه الحروب تسعّرها السيوف القاطعة، وحينما كان الهجوم صمد لهم أبناء الشام الأبطال حتى يظل الواحد منهم على صهوة جواده ليل نهار حتى تختلف رجلاه على عنق فرسه فتتخطفهم سباع الأرض أو نسور الجو، كما قال أحد خطباء العصر الأموي، كما أن النساء اللواتي اقتحمت عليهن خدورهن دافعن بعد أن استحر القتال بين رجالهن وبين الأعداء :
بحيث السيوف محمرة الظبا
وسمر العوالي داميات اللهاذم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة
تظل لها الولدان شيب القوادم
إنها صدمات تصير لها الولدان شيباً، كما ورد في القرآن الكريم عن أهوال يوم القيامة؛ إنها حروب يستل فيها المشركون سيوفاً قاطعة لكن المدافعين عن حرمات الإسلام يردون هذه السيوف المعتدية إلى نحو أصحابها ورؤوسهم، أجل إن المقاومة الإسلامية قد هبت في وجوه المعتدين مُنذ أن وطئت أقدامهم النجسة أراضي المسلمين في سواحل بلاد الشام الشمالية، وظلت راية الجهاد مرفوعة لرد المعتدين، حتى خرج آخر صليبي معتدٍ من هذه الديار الإسلامية، بعد قرنين من الصراع المستمر .
الدعوات إلى الجهاد : إن أحزان الشعراء والأفراد وشعورهم بالضياع أمام ما رأت أعينهم من مصير الدين الذي صار، بهذا الغزو الصليبي، واهي الدعائم، ومن فظائع شتت شمل أهلهم المسلمين وسبت نساءهم وأذلت رجالهم، بعد القتال الشديد، وحولت مساجدهم إلى كنائسح إن هذا الحزن الجارف لم يقعد بهؤلاء الشعراء عند مرحلة البكاء وذرف الدموع وتصوير ما حاق بالناس من مصائب، إنه حملهم على أن يسلكوا السبيل الأصوب في مثل هذه المواقف، فقد أصبح الشاعر نذيراً لأمته بالشرور التي ستطبق عليهم في الدنيا وبغضب الله في الآخرة إذا هم ظلّوا متقاعدين عن الجهاد لدرء الأخطار، فلقد قال الشاعر لأهله إن الدموع لا تغني في حروب السيوف، فدعاهم للتجمع والرد فوراءهم ما يذل الأغزة. ويبكتُهم على تقاعدهم ليهبوا للجهاد :
أتهويمة في ظل أمن وغبطة
وعيش كنّوار الخميلة ناعم
وقابل لهم بين الصورتين غير المتوازنتين.قتال فريق من المسلمين وتقاعد الفريق الآخر، وما أفعل قوله وأشد تأثيره : أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا... إلخ البيت. فقوله أمتي فيها الإيجاز والتأثير ومنطقة النداء والدعوة ومرة يمدحهم بالشجاعة والنخوة ويذكرهم بهما ليهبوا للجهاد، ومرة يناقشهم في أسباب الدفاع والصمود، أما حينما يخامره الشك في أن يستمعوا إلى نداءاته هذه كلها يلجأ للتأثير عليهم من جهة أخرى هي جهة التذكير بالنساء والأعراض واحتمال وقوعها تحت أيدي الأعداء المهاجمين وكذلك يفعل الشاعر المجهول، فبعد أن يصور لهم ما حاق بأهاليهم من شقاء وهوان يدعوهم، بصريح العبارة، إلى تلبية نداء الله بالجهاد والثأر للكرامة الإسلامية، ديناً ومتدينين وبلاداً ومسلمين .
الشاعر ابن الخياط : أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن الخياط : فقد حاول هذا الشاعر تحريك همة عضب الدولة زعيم الجيوش في دمشق فقال قصيدة طويلة يحثه على إعداد العدة للجهاد مطلعها قوله :
فدتك الصَّواهل قُبَّا وجرداً
وشُمُّ القبائل شيباً ومرداً
وذلت لا سيافِك البيض قضباً
ودانت لأَرماحك السُّمر مُلْدا
إلى أن يقول :
وإني لمهد إليك القريض
يُطوى على النُّصح والنصُّح يُهدَى
إلى كم وقد زخر المشركون
بسيل يُهال له السيل سداً
و
وقد جَاشَ من أرض إفرنجة
جيوش كمثل جبال تردا
أنوماً على مثل هدَّ الصفاة
وهزلا وقد أصبح الأمر جِدَّاً
وكيف تنامون عن أعين
وترتم فاسهر تموهنَّ حقداً
بنو الشرك لا يُنكرون الفساد
ولا يعرفون مع الجور قصداً
ولا يردعون عن القتل نفساً
ولا يتركون من الفتك وجُهداً
فكم من فتاة بهم أصبحت
تدق من الخوف نحراً وخداً
وأمَّ عواتق ما إن عرفن
حَّرا ولا ذُقن في الليل برداً
تكاد عليهنَّ من خيفة
تذوب وتتلف حزناً ووجدا
وبعد أن وصف الشاعر حال المشركين وقسوتهم، وحال المسلمين معهم بدأ يحرض عضب الدولة على الجهاد فقال :
فحاموا عن دينكم والحريم
محاماة من لا يرى الموت فقداً
وسُدُّوا الثغور بطعن النحور
فمن حق ثغر بكم أن يُسَدَّا
فقد أَينعت أَرؤس المشركين
فلا تغفلوها قِطافأ وحصداً
فلابد من حدَّهم أن يُفلَّ
ولابد من ركنهم أن يُهَدّا
وكانت لجهود العلماء والفقهاء والقضاة والأدباء والشعراء أثر في تقوية حركة المقاومة المسلحة والتي قادها أمراء السلاجقة والتي سيأتي الحديث عنها بإذن الله في الصفحات القادمة.
قصيدة "مالي وللنجم يرعاني وأرعاه" للشاعر محمود غنيم
مالـي وللنجـم يرعانـي وأرعــاه....أمسى كلانا يعـاف الغمـض جفنـاه
لي فيـك يـا ليـل آهـات أرددهـا....أواه لـو أجـدت المـحـزون أواه
لا تحسبنـي محبـا أشتكـي وصبـا....أهون ما فـي سبيـل الحـب ألقـاه
إنـي تذكـرت والذكـرى مؤرقـة....مجـدا تلـيـدا بأيديـنـا أضعـنـاه
ويح العروبة كان الكـون مسرحهـا....فأصبحـت تتـوارى فـي زوايــاه
أنى اتجهت إلى الإسـلام فـي بلـد....تجده كالطيـر مقصوصـا جناحـاه
كـم صرفتنـا يـد كنـا نصرفـهـا....وبـات يملكـنـا شـعـب ملكـنـاه
هل تطلبون مـن المختـار معجـزة....يكفيه شعـب مـن الأجـداث أحيـاه
من وحد العرب حتى صار واترهـم....إذا رأى ولــد المـوتـور آخــاه
وكيف ساس رعـاة الشـاة مملكـة....ما ساسها قيصر مـن قبـل أو شـاه
ورحب الناس بالإسـلام حيـن رأوا....أن الإخـاء وأن الـعـدل مـغـزاه
يامن يـرى عمـرا تكسـوه بردتـه....والزيـت أدم لـه والكـوخ مـأواه
يهتز كسـرى علـى كرسيـه فرقـا....من هولـه وملـوك الـروم تخشـاه
هـي الحنيفـة عيـن الله تكلـؤهـا....فكلمـا حاولـوا تشويههـا شاهـوا
سـل المعالـي عنـا إننـا عــرب....شعارنـا المجـد يهوانـا ونـهـواه
هي العروبـة لفـظ إن نطقـت بـه....فالشرق والضـاد والإسـلام معنـاه
استرشد الغرب بالماضـي فأرشـده....ونحـن كـان لنـا مـاض نسيـنـاه
إنا مشينا وراء الغـرب نقبـس مـن....ضيـائـه فأصابـتـنـا شـظـايـاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب....بالأمس كانوا هنا مـا بالهـم تاهـوا
فإن تراءت لك الحمراء عـن كثـب....فسائل الصرح أيـن المجـد والجـاه
وانزل دمشق وخاطب صخر مسجدها....عمـن بنـاه لعـل الصخـر ينعـاه
وطف ببغداد وابحث فـي مقابرهـا....عل امرءا من بنـي العبـاس تلقـاه
أين الرشيد وقد طـاف الغمـام بـه....فحيـن جــاوز بـغـداد تـحـداه
هـذي معالـم خـرس كـل واحـدة....منهـن قامـت خطيبـا فاغـرا فـاه
الله يشهـد مـا قلـبـت سيرتـهـم....يوما وأخطـأ دمـع العيـن مجـراه
ماض نعيـش علـى أنقاضـه أممـا....ونستمد القـوى مـن وحـي ذكـراه
لا در در امـرئ يطـري أوائـلـه....ويطرق إن ساءلتـه ماهـو!
إنـي لأعتبـر الإســلام جامـعـة....للشـرق لا محـض ديـن سنـه الله
أرواحنـا تتلاقـى فـيـه خافـقـة....كالنحـل إذ يتلاقـى فـي خـلايـاه
دستوره الوحـي والمختـار عاهلـه....والمسلمـون وإن شتـوا رعـايـاه
اللهم قـد أصبحـت أهواؤنـا شيعـا....فامنن علينـا بـراع أنـت ترضـاه
راع يعيـد إلـى الإسـلام سيرتـه....يرعـى بنيـه وعيـن الله تـرعـاه
قصيدة "مالي وللنجم يرعاني وأرعاه" للشاعر محمود غنيم