سكنت الشمس خلف خط المغيب , و لم يتبقى منها سوى بعض أشعتها الهاربة من وراء الأفق , فصبغت طرف السماء الملتقي بالأرض بشفق أحمر . الكون يستعد لوداع نهار مرتحل و استقبال مساء جديد , لحظات بسيطة حتى أسدل الظلام رداءه الأسود على الفضاء , معلناً بدء ذلك المساء , هو مساء الخامس من أيام شهر شوال من هذا العام , شوال الذي ودع فيه الجميع شهر الخيرات بقلوب ملؤها الأمل بالقبول , و الألم بالفراق , شوال الذي تضاعفت فيه السعادة , فالقلوب تنيرها أثر الطاعة , و الوجوه ارتسمت عليها ألوان الفرح بأيام العيد , لقد مضت الأيام , أيام رمضان و أيام عيد الفطر بعدما سبغت النفوس بالطمأنينة .
هذا المساء هو موعد زيارتي لبلاد الأحزان , حيث اتفقنا أنا و بعض أهلي أن نقوم بتلك الزيارة , ركبت سيارتي و انسللت من بين أطراف المدينة , عبر شوارعها الهادئة التي زينها الفوانيس المضيئة , و تسللت خلسة و لا يظهر على المدينة من مظاهر العيد سوى بعض الألعاب النارية التي يعبث بها الأطفال , فكانت مفرقعاتهم النارية تصعد إلى السماء , فيُحدث ضوءها المنتشر ثقباً نيراً وسط الظلام , فهي لحظات فما تلبث أن تختلط أضواؤها المتقطعة مع ضوء النجوم الخافت في السماء , وثم برهة فيسمع دوي أصواتها يمزق السكون الذي يخيم على البلد .
لم تكن مدينة الأحزان بعيدة , وأيضاً كانت الزيارة لساعات قليلة , في داخل المركبة كان الصمت هو سيد الموقف , و التفكير بتلك الزيارة يقطع علينا كل حديث , فتلك الزيارة جديدة علينا و لم يسبق لنا فيها خبرة , وبعد وقت قصير بدت لنا مدينة الأحزان , و هي مدينة وسط مدينة , يحيط بها أسور عظيمة , و أسواها لها أبواب , و لا أدري ما بداخل أو خلف ذلك الباب , هل الرحمة أو العذاب .من تلك البوابات تقف بوابة عظيمة قد زُينت بزخارف حديدية , و كسيت بقطع زجاجية , تحجب الرؤيا لمن خلفها عما تحويه تلك المدينة ببطنها . فوقفت أمام تلك البوابة , حتى انفتحت دفتيها , وقفت في الموقف المخصص , نزلت من سيارتي . و إذ باستقبالي المشرف على تلك المدينة , سلمت عليه و عرفته بنفسي و قلت اتصلت بكم من قبل و أخذت موعداً لمقابلتكم و معي بعض أهلي , فقال مرحباً بك في دار الرعاية الاجتماعية للمسنين و المسنات . و بعد الترحاب قام المشرف بالاتصال على قسم النساء لكي تدخل الأخوات إلى أخواتهن , ثم بدأ المشرف بشرح الأهداف من أقامة مثل هذه الدور , فهي دور قامت بالأصل لاحتواء من كبر سنهم فعجزوا عن القيام بخدمة أنفسهم , أومن فقدوا أهلهم و لم يجدوا من يعولهم , و لكن دخلت يد العقوق فصارت مسكناً لأعز الناس من أقرب الناس , فكانت عالماً من النسيان و سكناً للأحزان , في بداية هذه الزيارة طلب مني المشرف ( وفقه الله ) أن نبدأ بزيارة ساكني الدار قبل الجلوس و الحديث .
بدأنا الزيارة فكانت المدينة هادئة صامته , عُلقت في أطرافها عبارات جامدة , ولمكن ناطقة بالحزن و التساؤل , مررت بجانب الكثير من اللوحات التي تأخذ شيئاً من قلبي …فهناك لوحة تقول :
أبني هل نسيتني , إن نسيتني أنت , فمن سيذكرني ؟ كم طال علينا الانتظار , فهل نقطع حبل الرجاء , و ندفن الأمل .
كم نشتاق لكم فهل نسيتمونا ؟!
لا تنسوا , قلوباً قطعها الألم , و عيوناً أوجعها البكاء , و أنفساً ضاقت عليها الدنيا بما رحبت.
في الأمس سهرنا لتناموا و تعبنا لتنعموا , و اليوم سهرنا و تعبنا في انتظاركم , فهل تحين ساعة اللقاء و نسعد ببعض الوفاء.
سأظل أنسى العقوق , حتى تبصر أنت الطريق , أو يبصرني زائر الموت .
إن لم تسعدني بنظرتك فاسمعني صوتك.
مررت من بين العبارات , و كل عبارة هي خنجر يخترق جسمي , و كل كلمة هي طعنه ينزف منها قلبي , و كل حرف هي ضيقة تزحف لصدري , لقد كنا في أول أيام الشتاء , و الجو لا يخلو من نسمات باردة , وكانت الأشجار المحيطة بالمباني طويلة , وهي صامته , موحشة , كئيبة , منظرها يدل على أنا قد ملت من تلك العيشة الهادئة . فعندما تحركها النسمات يُخيّل للرائي و كأنها أشباحٌ قادمة من بعيد برداءٍ أخضر غامق . تتساقط أوراقها اليابسة متتابعة كأنها تود أن تصير إلى زوال و تختار نهاية لهذه العيشة المملة , فتقع تحت أقدامنا تلك الوريقات , فنطؤها فتتحول إلى فتات سحيق تذروها الرياح إلى خارج الأسوار , فتنجو من قبضة مدينة الأحزان , فرحة لأنها خارجة من هذه العيشة الضيقة التعيسة , فتغدو إلى عالم رحب فسيح , أشد رحابة و فساحة في أحزانه . تأملت مرة أخرى أرجاء المبنى فوجدت أن السكون هو أمامهم , فلا يسمع سوى وقع أقدام بطيئة لكهل قد هدت السنين من عمره , أو صوت عربية تحرك عجلاتها يد عجوز ترتعش من المرض , أو سعال كهل قد نال منه البرد , أو أنين من بعيد ينبعث من أحد الغرف .
السكون يسكن أطراف تلك الدار , و الليل يُلبسها جلباباً أسود بهيم , فاكتملت صورة التعاسة بأبشع صورة . أمسكت بيد المشرف في تلك الطرقات فكأني طفل يمسك بيد أبيه من الخوف , أو تائه يريد من يعيده إلى أرض الأمان . فأخذني المشرف بجولة على ساكني تلك الدار , مررنا بممرات مضاءة بمصابيح بيضاء وكل ممر يستقيم ثم ينعطف إلى اليمين أو إلى اليسار وكل تلك الممرات قد وزعت على أطرافها غرف النزلاء , أخذتنا تلك الممرات إلى وحدات تلك الدار . صوت المشرف الجهوري يجاهد من أجل أن يشق السكون وهو يشير إلى الوحدات و تلك الأقسام تلك , يصل صوته إلى مسمعي و لكن عقلي و بصري في مكان آخر , عيناي تنظران هناك , إلى مسن قد جلس على سجادة صغيرة , و أسدل شماغه على وجهه الذي رسمت عليه صورة مكررة من صور البؤساء في عالم الجحود و النكران , أرى ذلك المسن اتكاء برأسه على يده كأنما يريد من يداه أن تحملان شيئاً قليلاً من همومه . و استند بظهره إلى الجدار ليسنده في عجزه و ليساعده في حمل همومه التي قطمت ظهره , أو لعله يحميه من نسمات البرد التي لم ترحم ضعفه , و لا أعلم هل الجدار لو حمل هموم ذلك المسن فهل سيقف شامخاً أو يهوي من طوله ؟! أقبلت عليه , بادرته بالسلام فقلت كل عام و أنت بخير يا أبي , رفع رأسه ببطء , فأبصرني بعينين مغرورقتان بالحزن , فوضعت يدي بيده و قبلت رأسه , عرفته بنفسي , و أني زائر لآبائي في هذه الدار , وقد انتهزت فرصة العيد لأجلس معكم , و أسعد بلقائكم , نظر فكأنه يبحث في وجهي عن وجه يعرفه أو قريب يألفه , عاد بصره خائباً أن لم يجد من ملامحي في ذاكرته شبهاً , طأطأ رأسه , ثم دعا و شكر , ثم بحث بين صفحات حياته عن ابتسامة ليقدمها لضيفة , فلم يجد إلا صورة من ابتسامه باهتة , فانتشلها من بين ركام الأحزان , و من بين ما تحمل تلك السنين من الهموم , فارتسمت على وجهه , من ثغر قد أنسته الحياة كيف ترسم الابتسامات , فقدمها على طبق من حزن , حاولت أن أخرج من شقاء اللقاء , فسألته عن حاله , فنظر إلي بنظرة يغذيها قلب مؤمن بالله فقال : الحمد لله على كل حال , كررها و هو يهوي برأسه مرة أخرى على يديه , و يغيب وسط شماغه الذي يلتف على رأسه , ودعته بابتسامة حزينة , فودعني بتنهدات أخرجها من أعماق قلبه , تنهدات عصرت قلبي , و سكنت صدري , و زادت من برودة أطرافي .
أكمالنا المسير , فانحنى بنا الممر إلى الغرف المعدة للنزلاء , في مدخل الممر , كان هناك مسن يحمل جسماً نحيل يجلس على كرسي حديدي , قد وضع رجلاً على رجل , و لف شماغه على وجهه ثم أداره على رقبته , فلم يظهر من دائرة وجهه الصغير سوى عينان غائرتان , وسط وجه قد سكنت فيه أشكال متنوعة من الهموم و الأكدار , مر من جانبه المشرف فقال : يا أبا عبد الله هذا أبنك فلان - و هو يشير إلي - قد جاء ليبارك لك العيد , فقام على ثقل , فأمسكت بيده المرتعشة و قبلت رأسه , و سألته عن حاله , فهز رأسه , ثم فقال : تسأل عن حالي ؟! , فكأنه لم يصدق أن هناك من جاء ليزوره أو يسأل عن حاله , فوضع يده الباردة على خدي , فأخذ يتحسسه بيده , فأخذ يبحث فيه عن حنان مفقود , أو عطف دافئ يحرك الدم في جسمه البارد , وضعهما فكانت برودة أطرافه أشد من حرارة خدي , فزالت كل الحرارة في جسمي و لم تتغير برودة أطرافه , نظرت في عينيه وهو ينظر إلي فأخذ ينشد أبياتاً من الشعر , كأنما يخاطب أبنه , أو كأنما يتكلم مع نفسه المفقودة , كان صوتاً حزيناً كأنما هرب من قلبه المهجور ليبحث له عن قلب يتلقفه فيخبره عن حاله , لقد كان صوتاً جريحاً ملؤه الأنين , و تسكنه الآهات و ثقل السنين , كان بيني و بينه و هو ينشد لغة العيون , كانت نظراته إلي لا تنفك , يبحث في مساحة وجهي عن عذر للهجران من أقر الناس إليه , يسأل عيوني لماذا كل الناس يأتونني إلا أعز الناس إلي ؟! لماذا أنا أرقد هنا داخل هذه الأسوار الكئيبة و هناك يرقد قلبي خارج أسور المدينة يبحث عن أليفه ؟! لم أجد جواباً لأبيات شعره , أو رداً لنظرات بصره , فهربت بعيني عن عينيه , مخافة أن تسقط دمعة مني على يده , لقد فجرت كلماته مكامن الحزن في نفسي , و قيدت الهم أسيراً في صدري , وتمنيت أن تسيل دمعة من عيني تطفئ حرقة من مشاعر همي و ألمي , و لكن كل الدموع تجمدت من يده الباردة , و بدل أن تسيل قطرة على خدي نزفت في قلبي ألماً و حزناً على ذلك الشيخ المسن , فلما انقضت منه المناجاة , وحارت لغة العيون , و علم أن لا جواب لدي , خفت صوته و أنزل يده ببطء , و ودعته و لازلت أسمع صدى إنشاده يدوي في أذني , عاد إلى كرسيه الذي ألفه و حمله و حمل همومه معه , و دعته و ودعت وجهاً لم تترك فيه أصابع الزمان ملمحاً للسعادة , فقد ملأته بالأحزان التي رُسمت بيد تجاعيد الزمن و الأيام , و ركنت في أعاليه عينان قد أبيضتا من الحزن فهو كضيم , أظلهما حاجب تلون بالبياض لونتهما يد السنين السوداء , و دعته و لم يزل خدي بارداً من وضع يده , و قلبي نازفاً من وضع حاله , و جسمي مرتجفاً من أثر برودة أطرافه .
ذهبنا إلى أول الغرف , وتسمع من خلف الباب صوت جميل يحمل بين جنباته أنين و صوت حزين , طرقنا الباب , و لم يجب نازلها , أعدنا الطرق , أجاب النزيل أن أدخل , وجدت النزيل قد جلس على سريره متربعاً , بين يديه مصحفه الذي يتلو منه آيات من القرآن الكريم , يقلب بصره بين آياته و يمتعهما في سوره , هو أنيسه , و هو جليسه , و هو سلوته في غربته , هو العلاج الأكيد لمصائب الزمان , و هو الدواء لبلاء الجحود و النكران , يقرأ آيات الصبر فيزداد صبراً , يتمعن بالآيات التي تحث على البر فيزداد ألماً , أقبلت عليه و سلمت عليه معايداً , فسلم و أخذ يحكي يومه فيقول : أنا يومي بين الفاتحة و الناس , أقرأ , أتأمل , أتلذذ , أتفكر , أتمعن , من طلوع الشمس حتى تسقط خلف خط الغروب , نعم , نعم , أنيس و خير جليس و أكرم به من معين على نوائب الدهر , لم نرد أن نقطعه من هذه الخلوة التي تصله بربه , فاستأذناه بالخروج , فعاد كالنحل له صوت و أزيز جميل .
فخرجنا إلى غرفة بجواره , فإذا فيها مسن قد رقد على سريره و بيده ريموت الرائي , يبحث بين قنواته ما يجعله يخرج من أسوار هذه المدينة الحزينة , يبحث عن أخبار عالمه خلف الأسوار , كان له فيه ذكريات جميلة , كان له فيه طموح و أمل , كان له فيه موضع قدام بين أقدام المئات من ساكنيها , كان له أنفاس بين ألوف الأنفاس المنبثة في فضاءه , و اليوم , هو وغرفته و التلفاز فقط , لا , لا , بل يسكن معه رفقاء تلك الدار , الهم و الحزن و الكدر , في غرفته التي صبغتها الأيام بالسواد , وعلقت فيها الأستار فصارت كمشانق , و زينت بأثاث هي كلحود في مقابر , قد ملت عيناه من جدرانها و أثاثها و أستارها و تلفازها , بل ملت يده من هذا الجهاز الذي بين يديه فيقلب فيه القنوات لعله يجد ما يسليه , فيجد فيه حروباً و كوارث و مصائب كأنها إليها تناجيه , كأنما أرادوا أن يزيدوهم إلى همومهم هماً , دخلت عليه و هو يبتسم و خرجت منه و هو مبتسم , قد رضي بقدر الله فزانت نفسه باليقين و تعلقت برب العالمين , فرضي بما أصابه و آمن بالله و قضائه , خرجت من الغرفة و بدأ هو بالبحث عن قناة مفقودة لعلها تسكن بعض ألمه أو تنشر بسمة على محياه .
اتجهنا إلى غرفة بجانبها فإذا بصاحبها كهل قد استغرق بنومه فقد رمته السنين على سرير الأحزان , فلم أشأ أن أزعج منامه , لقد رحمت حاله , فو الله لكأني أنظر إلى طفل صغير قد فقد أمه , فأعياه البكاء فنام على فراشه , فلم يجد من يرفع رأسه أو من يغطيه من البرد بلحافه , لقد جمع جسمه و ثنى ركبتيه إلى صدره , فصار كعصفور بلله الماء فأخذ يرتعد من البرد , فنظرته بحسرة و اسأل الله أن ينظر إليه برحمة , إلهي أرحم ضعفنا و ضعفهم , و أجبر كسرنا وكسرهم , و أمدهم بصبر و يقين و فرج منك يارب العالمين .
خرجت من تلك الغرف و مررنا على البقية و كل غرفة منها تشهد مأساة , و كل مأساة تغرس خنجراً في صدري ينزف منه دماً , لقد سكن الهم معهم , وجاورهم الحزن في غرفهم حتى ألفوه , فأصبحوا يتنكدون يومهم إن غاب عنهم , لقد سكن صدورهم فأصبح هو صباحهم و مساؤهم , هو نفسهم الذي في صدورهم , هو نبضهم الذي في قلوبهم , هو زائرهم الذي لم يخن العهد معهم , لازمهم في حياتهم الأولى و لم يتخلى عنهم في بلاد الأحزان , لقد خانتهم السعادة فلم تطرق لهم باباً , و خانهم الأمل فلم يبن له شعاعاً , و خانهم التفاؤل و لم يصل لهم مراداً , خانتهم كل الأشياء الجميلة , و تبقى الحزن هو الوحيد الذي لم يخنهم , لقد كان الحزن بسمتهم , و الحزن بكاءهم , و لازمهم و عاش معهم , حتى صار ملء عيونهم و سمعهم و قلوبهم.
خرجت مع المشرف و أحس بشيء يهد كياني , أحس بوحشة من عالمي الذي من حولي , أحسب بخوف من مجتمع أعيش بينهم , أحس أني صاحب خديعة و أحس أني قد شاركت بالجريمة , لقد اجتمعت هموم هؤلاء كلهم في قلبي , فأصبحت ضائق النفس , شديد الكرب , ضاقت علي دنياي بما رحبت , فكأني أتنفس من ثقب إبرة , مُسحت كل الأشياء الجميلة التي تختزلها ذاكرتي , حتى دموعي تجمدت في محاجرها , و بدلاً أن تسيل على خدي , نزلت إلى قلبي فكانت أساً وحرقة و ألماً وحزناً .
أدخلني المشرف إلى مكتبه فشكرته على مجهوده و أثنيت على إخلاصه , و أسهب بالحديث عن الدار و أهلها , عن الدار و ألوان الحزن الذي يرسم في وجوه ساكنيها فصارت وشماً واضحاً عليهم , تمر عليهم الأيام لا يميزون أيامها , إلا بمغيب شمسها أو خروجها من مشرقها , كل الأيام سواء , فلا يفرقون بين سبتها إلى جمعتها إلا عندما ينادي المنادي لصلاة الجمعة , كل الأوقات واحدة , فأول النهار و آخره سواء , فعقارب الساعة تدور بلا فائدة , و الوقت هناك بلا ثمن , الوقت هناك كالسيف كل جزء منه يُقطِعُك أرباً أرباً, يقطع قلوب ساكني تلك الديار أجزاء , كل جزء يقطعه يزيد من همه و يبعده عن أمله , لقد ملوا من حساب السنين و الأعمار , و ملوا من طول الانتظار , فأول الشهر و آخره و أول السنة و آخره كلها نسخ طبق الأصل , كلٌ قد سكن غرفته و يقلب ماضيه , و ينظر إلى مستقبله الذي يسير ببطء , فمتى تنصرم أيام العمر و ينتهي هذا الهم , و متى تنزاح أثقال السنين و يصل الأجل , لولا إيماناً يقويهم لتمنوا الموت أو لسعوا إليه , حالات متفرقة و أوضاع غريبة , منهم الأب الذي سالت دمعته من عقوق أبنائه , لازمهم و لاعبهم في صباهم , سالت دموعه عليهم في شبابهم , تفطر قلبه وجداً عليهم , كانوا كل أمله و مبلغ أحلامه , أمنيته في حياته بسيط , هي ابتسامة من ثغر طفله , كل آلامه هي صيحة من وجه صغيره , سهر الليالي و تذوق العلقم و تحمل المآسي من أجله , و من أجل أن يصير له ابناً يشد من عضده و يسنده عندما يبلغ كبره , فكبر الابن , نعم كبر , و ظن الأب أنه حان وقت الراحة , قد حان وقت الحصاد و الأمل , فكان الابتلاء من الله لهذا الأب على أن صار إلى هذا الدار , لماذا وبأي ذنب , فلا جواب إلا أنه أصبح شيخاً مسناً لا يستحمل و لا يطاق , و هي قصة تتكرر في كل دور الرعاية , تتكرر بصور مختلفة , تتكرر من الأبناء و الأقرباء و المجتمع بالكامل , ناهيك عن قصص أخرى و جدتها هناك , فمنهم من عاش في هذه الدار بعد أن حل الشيطان بين أبيه و أمه , ففرقتهم الخلافات الزوجية , فصار كلاً منهما إلى سبيل , و ضاع ذلك الابن في زحام الحياة , و وسط أنانية زوجين كلاً يبحث عن رغباته , و كلاً يقتل فلذة كبده من أجل نزوة بسيطة , فشب الابن و شاب و هو من دور رعاية الأيتام إلى دور رعاية المسنين , فا الله نسألك رحمتك فينا و في إخواننا و نسألك لطفك و عطفك , و أن لا تنزعهما منا.
هناك من كان ضحية الإهمال , فضاع في طرقات الحياة , فأصبح مدمناً في أول حياته , مرمياً في السجون في شبابه , و فكانت نهاية المطاف دور الرعاية.
هناك من أغلق عليه غرفته من سنين فلا يسمح أن يدخل عليه زائر , أو يمر عليه قريب , أو يرى أي شخص مهما كان ماعدا المشرف , يقول المشرف : لقد حاولت أن أقنعه بفائدة تلك الزيارات , و أنها تخفف المصاب و تزيل بعض الهم , فقال دعوني لهمي و لحزني , فكل من حولي لم يذكرونني و إن ذكروني فهم يخجلون مني , دعوني في غرفتي حتى يقضي الله أجلي.
سألت المشرف : عن أطول المقيمين في دار الرعاية , فقال رقماً أصابني بمقتل , قال هناك أحد الأشخاص قد عاش في هذه الدار منذ 35 سنة , يا الله كل هذا العمر هنا بين جدرانها الصامتة , و بين ممراتها الكئيبة , و في غرفها الحزينة , لقد مر علي عمري بالكامل , مر علي عمري أيام طفولتي , و أيام شبابي , و بعد زواجي , فكل هذه الأيام هو يسكن هنا , و أنا في حياتي عنهم غافل , و في طرقاتي سائر , و في أيامي لاهي , بعدما قال لي ذلك الرقم سكت و في الحلق غصة , و في العين دمعة , و في القلب ألف أساً و حرقة , سكت و لم يسكت المشرف فقال : هل تصدق أن بعض ساكني الدار يخرجون من عندنا ليعشوا مع المجتمع مرة أخرى , ثم تستحيل عليهم الحياة هناك فيعودوا من جديد إلينا , لقد تنكر لهم كل شيء في خارج أسوار مدينتهم مدينة الأحزان , لقد تغيرت صورة كل شيء هناك , في فضاء من يدعون أنهم يعيشون عيشة السعداء , لقد صارت مدينة الأحزان أحب إليهم من حياتهم الأولى.
لم تنتهي الزيارة لكن خفت أن أطيل على المشرف الذي أتعبه العمل , فاستأذنته و ودعته , بعدما قبلت رأسه و شكرته على جميل صنعه مع أخوتنا هناك , ركبت سيارتي و ركبت زوجتي و أخواتي , وخرجت من دار الأحزان , إلى عالم النسيان و النكران , خرجت بسيارتي إلى عالمي الذي خنق أنفاسي , خرجت إلى المجتمع الذي يحوي بين جنباته ابن عاق , و عشيرة متنكرة , و مجتمع لم يرحم , كان الصمت يخيم على الجميع , كأننا كنا في حلم أو كأننا بدأنا نعيش وقائع مؤلم , بل أحس كأننا كنا ممن شارك في هذه المأساة , بدت لي الدنيا غريبة , كل شيء في ناظري تغير , فلا السماء سمائي و لا الأرض أرضي و التي أمشي عليها في سالف أيامي , و لا الهواء هوائي الذي أستنشقه يومياً رطباً نقياً ينعش حياتي , إن نسماته تكاد أن تخنقني , و حتى الوجوه التي حولي وكنت أعرفها و آلفها , قد تغيرت في عيني . لقد تأرجحت في قلبي كفتي الميزان , فاختلط الحق بالباطل , و صار كل شيء ضبابي بهيم . اختَرقتُ جموع السيارات و لا ادري كيف مررت من بينهم , كل الذي يتظاهر أمامي هو مناظر آبائي . لقد خرجنا من تلك الدار , بل لقد خرجنا من ذلك الحلم الموحش , خرجنا و الصمت يخيم علينا , فقلت بتثاقل لأختي كيف أخواتنا هناك ؟ فأجابت أختي بعد صمت , و ها أنا ذا أصمت مثل صمتها , فأخاف عليكم إن ذكرت وضعهم أن أسقيكم المر , و أن أذيقكم العلقم , أو أن أجرعكم الحسرة و الندم على من في الدار , بل سأقتصر على الإشارة و التلميح من بعيد كما فعلت مع إخوتنا الرجال , يكفي أن أحداهن قد لبثت في هذه الدار 38 سنة , و أن اثنتين منهن قد ودعتا الحياة قبل رمضان , ولم يكن بجانبهن من يؤنسهن في لحظات الوداع , أو يرمقهن بنظرات الحنان , أو يتلمسهن بيد العطف , أو يذرف عليهن دمعة , أو يئن لغصص الموت عليهن أنه , إنها حالة بئيسة تلك الحالة , أن تخرج من هذه الدنيا و أنت تفقد الأمل برؤية أحبابك الذين تتمنى أن يكونوا بجانبك ولو بساعة الفراق , أن تسقط آخر ورقة من أوراق التلاق , أن نموت و يموت الأمل , إنهم يموتون ويصيرون إلى غربة , و قد كانت حياتهم كلها غربة , ربي رحماك بهم , ربي رحماك بهم , ربي رحماك بهم . لقد كانوا يتمنون أن يشاهدوا الأحباب قبل أن تشخص الأبصار , لقد كانوا يتمنون أن تفرح قلوبهم قبل أن تسكن نبضاتهم , لقد كانوا يتمنون أن تلامسهم أيديهم قبل أن يلامسهم الموت , إنها لحظات عصيبة تمر عليهم , من يدمع على فراقهم , من يترحم عليهم , بل من سيُنزل الجفون على العيون بعد أن تشخص من شدة الموت الأبصار , فهل هناك أصعب من أن يتمنى إنسان أن يجد أحداً بجانبه وهو في لحظة الفراق فلا يجده ؟ هل هناك أكثر أقسوة من أن لا يجد إنسان من يمشي في جنازته ؟ هل هناك أشد من أن تتمنى أن يذكرك أعز الناس إليك لكي يحثوا التراب عليك ؟ و أن يحضروا مواراتك عن العيون , و أن يضعوك ببيت الدود , حتى تغيب عن كل أمل و تصير إلى قبر و لحد , و تكون من سكان قبور الآخرة بعد أن كنت من سكان قبور الدنيا . و والله لا أعلم هل كانت سكرات الموت عليهم أكثر كربة أم سكرات الحياة أكرب , هل غصص الموت أصعب أو غصص النكران أصعب , هل التفاف الساق بالساق أثناء الممات اشد أو صدود الأهلون و الأقربون عنهم أشد و أدهى و أعظم و أمر . لقد جاءتهم سكرات الموت التي كانوا يتمنونها , لقد حل عليهم اليوم يومهم الذي كتب لهم , لقد حضر إليهم الموت فوجدهم قد خنقتهم الحياة قبله , لقد جاءهم ليقبض أرواحهم فوجد أجساماً بلا روح , لو نطق الموت لترحم عليهم من حالهم . لقد خلت الدار من رقم ساكن حسبوا أن ليس له في المجتمع اعتبار , لقد قيد في عداد الموتى , و انتهت قصة من قصص الجحود و النكران , فضاق الحزن بموته فهو الذي كان يؤنسه , فمن للحزن بعد موت الحزين من صديق يسليه , و من للهم بعد موت المهموم من خليل يتسلى فيه , كم حبست جدر تلك الدار من الآهات التي و صلت إلى كل مكان و لم تصل إلى الذين يجب أن تصلهم , لقد أحس بها كل جماد و لم يحس بها كل من أغلق الله قلبه و صارت إلى خسران , هي الأيام تنقصهم و لا أحد يدري عنهم .
تقول المشرفة أن هناك الآن على السرير الأبيض ترقد امرأتان , فلا يعلمن هل إلى الدار ترجعان أو إلى المقبرة تسيران , و لعلي أكتفي إلى هنا فو الله إن في دار النساء لقصص أخاف أن تشيب لها الولدان و أن يسكن قلوبكم الهم و الحزن من ذكرها , لقد ودعتهم وعيون الآباء تقول :
لقد سقيتني كأس المر , من كأس قوتك الزائفة ابني لقد بذلت عمري كله لك و أنا سعيد , فأكمل سني عمرك سعيداً من حساب أحزاني الوافر .
لقد كنت ابحث عن سعادتك , فوجدتها أنت بتعاستي .
في كل عمري كنت آخذ من سعادتي لأسعدك , فلما انتظرت رد الدين , وجدت أنني قد أقرضت إنسان غير وفي .
ابني لقد لان ظهري و أنعكف , و نزلت أجفاني و ارتخت , و غاب بصري و من الدمع قد جفت , فهل يكفيك هذا يا ابني , و تعود وتفرح قلبي .
ابني لعلك لا تعلم أنني من أن سكنت هذه الدار , و جاورت الأحزان , لم يكن لي مصدر للسعادة إلا هي تلك اللحظات , التي أتذكرها و أنا ألاعبك , أو أضاحكك , أو تبكي و أحاول أن أسترضيك , كم أنا مشتاق إليك .
زارني زائر المرض , فذكرت بسمتك فهان مرضي , و زارني زائر الهم فذكرت دمعتك فهان همي , و زارني زائر الموت فلم أجدك بجانبي ففاضت روحي قبل يومي .
أسمع من خلف الأسوار أصوات أطفال , فأتذكرك صغيراً , و أسماع صوت أب ينادي لأبنه , و أبتسم مسرورا و أرى بيني و بينك سورا , فأنقلب حزيناً مكسورا .
ابني إن بلغتك حالة وفاتي , و ضمت الأرض رفاتي , و قادتك دنياك يوماً لتذكري , فتذكر إنني رعيتك و كل أملي أن أراك مسرورا , فسر بحياتك مسرورا , فرغم الذي كان منك فأنا أسامحك في حياتي وبعد مماتي .
ابني لقد صرت اليوم إلى أيدي غرباء يقلبونني , و قلوب أناس لا يعرفونني , و قد كنت أقلبك بيدي , و أنزف عليك من قلبي , بُنيّ فلا تكلني لهم فأنا لا يزيدني رعايتهم لي على جهدهم سوا ألماً , فأنا أفقدك و افقد روحي معك في كل يوم .
بُنيّ لقد ذقت من مآسي الحياة ألواناً , و من كربها أصناف , و أشدها قسوة هي يوم أن وضعتني هنا و غبت عن ناظري , فارحم قلباً ينبض بلا دم و صدراً يثور بلا نفس , و إنساناً يتحرك بلا أمل .
ابني لقد مللت من جدران الصمت , و فراش الموت , و أصوات السكون , فكلها تقتلني و تجعل جرحي ينزف كل يوم , فلا هي تقضي علي بقتلة واحدة و لا هي ترحمني و تلتئم , فإلتأمها جميعاً بصوتك , و رؤية وجهك . فهل ألمحك و لو من بعيد ؟ يارب إن كان هذا ابتلاء فقد صبرت سنين , و إن كان جزاء بمعصية فلك أتوب و أجعلني عنها من الراجعين , و إن كانت بسبب قسوة في قلب أهلي , فاللهم لا تحرمني منهم و ردهم لي سالمين و أجعل قلبوهم لي تلين .
لقد كانت هذه نظراتهم و هذه نداءاتهم فكلها عطف رغم الجحود من الكثير ممن حولهم , و لكن هل تلين قلوب العصاة و يعودون لصراط رب العالمين .
قال تعالى :
“وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاها فلا تقل لا أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ” ، الاسراء:23،24 في الختام :
لقد كنت متردداً بكتابة هذه الزيارة , و لكن نفذ صبري , عندما سمعت أن امرأة تسأل في أحد القنوات , و تقول : أرشدوني ماذا أعمل بأم زوجي ؟
فأقول الجواب :
اعملي ما شئت , هو عمل يدك , و نتاجه ستحصدينه في سني عمرك القريبة , إن خيراً فخير , و إن شراً فشر , هدانا الله و إياك و أرشدنا للحق و جعلنا به عاملين .
و أقول لكل زوج كن معيناً لزوجتك على بر آبائها و أهلها .
و لكل زوجة كوني معينة لزوجك على البر بآبائه و أهله .
فإني أشد ما أخاف منه أن يأتينا العقوق من أنفسنا .
و إلى كل ابن لفظت شفتاه كلمة العصيان و قال لوالديه : أف , أقول عد قبل أن يفوت الأوان , وتصير إلى خسران .
انتهت الزيارة و بقي الألم .
هذا المساء هو موعد زيارتي لبلاد الأحزان , حيث اتفقنا أنا و بعض أهلي أن نقوم بتلك الزيارة , ركبت سيارتي و انسللت من بين أطراف المدينة , عبر شوارعها الهادئة التي زينها الفوانيس المضيئة , و تسللت خلسة و لا يظهر على المدينة من مظاهر العيد سوى بعض الألعاب النارية التي يعبث بها الأطفال , فكانت مفرقعاتهم النارية تصعد إلى السماء , فيُحدث ضوءها المنتشر ثقباً نيراً وسط الظلام , فهي لحظات فما تلبث أن تختلط أضواؤها المتقطعة مع ضوء النجوم الخافت في السماء , وثم برهة فيسمع دوي أصواتها يمزق السكون الذي يخيم على البلد .
لم تكن مدينة الأحزان بعيدة , وأيضاً كانت الزيارة لساعات قليلة , في داخل المركبة كان الصمت هو سيد الموقف , و التفكير بتلك الزيارة يقطع علينا كل حديث , فتلك الزيارة جديدة علينا و لم يسبق لنا فيها خبرة , وبعد وقت قصير بدت لنا مدينة الأحزان , و هي مدينة وسط مدينة , يحيط بها أسور عظيمة , و أسواها لها أبواب , و لا أدري ما بداخل أو خلف ذلك الباب , هل الرحمة أو العذاب .من تلك البوابات تقف بوابة عظيمة قد زُينت بزخارف حديدية , و كسيت بقطع زجاجية , تحجب الرؤيا لمن خلفها عما تحويه تلك المدينة ببطنها . فوقفت أمام تلك البوابة , حتى انفتحت دفتيها , وقفت في الموقف المخصص , نزلت من سيارتي . و إذ باستقبالي المشرف على تلك المدينة , سلمت عليه و عرفته بنفسي و قلت اتصلت بكم من قبل و أخذت موعداً لمقابلتكم و معي بعض أهلي , فقال مرحباً بك في دار الرعاية الاجتماعية للمسنين و المسنات . و بعد الترحاب قام المشرف بالاتصال على قسم النساء لكي تدخل الأخوات إلى أخواتهن , ثم بدأ المشرف بشرح الأهداف من أقامة مثل هذه الدور , فهي دور قامت بالأصل لاحتواء من كبر سنهم فعجزوا عن القيام بخدمة أنفسهم , أومن فقدوا أهلهم و لم يجدوا من يعولهم , و لكن دخلت يد العقوق فصارت مسكناً لأعز الناس من أقرب الناس , فكانت عالماً من النسيان و سكناً للأحزان , في بداية هذه الزيارة طلب مني المشرف ( وفقه الله ) أن نبدأ بزيارة ساكني الدار قبل الجلوس و الحديث .
بدأنا الزيارة فكانت المدينة هادئة صامته , عُلقت في أطرافها عبارات جامدة , ولمكن ناطقة بالحزن و التساؤل , مررت بجانب الكثير من اللوحات التي تأخذ شيئاً من قلبي …فهناك لوحة تقول :
أبني هل نسيتني , إن نسيتني أنت , فمن سيذكرني ؟ كم طال علينا الانتظار , فهل نقطع حبل الرجاء , و ندفن الأمل .
كم نشتاق لكم فهل نسيتمونا ؟!
لا تنسوا , قلوباً قطعها الألم , و عيوناً أوجعها البكاء , و أنفساً ضاقت عليها الدنيا بما رحبت.
في الأمس سهرنا لتناموا و تعبنا لتنعموا , و اليوم سهرنا و تعبنا في انتظاركم , فهل تحين ساعة اللقاء و نسعد ببعض الوفاء.
سأظل أنسى العقوق , حتى تبصر أنت الطريق , أو يبصرني زائر الموت .
إن لم تسعدني بنظرتك فاسمعني صوتك.
مررت من بين العبارات , و كل عبارة هي خنجر يخترق جسمي , و كل كلمة هي طعنه ينزف منها قلبي , و كل حرف هي ضيقة تزحف لصدري , لقد كنا في أول أيام الشتاء , و الجو لا يخلو من نسمات باردة , وكانت الأشجار المحيطة بالمباني طويلة , وهي صامته , موحشة , كئيبة , منظرها يدل على أنا قد ملت من تلك العيشة الهادئة . فعندما تحركها النسمات يُخيّل للرائي و كأنها أشباحٌ قادمة من بعيد برداءٍ أخضر غامق . تتساقط أوراقها اليابسة متتابعة كأنها تود أن تصير إلى زوال و تختار نهاية لهذه العيشة المملة , فتقع تحت أقدامنا تلك الوريقات , فنطؤها فتتحول إلى فتات سحيق تذروها الرياح إلى خارج الأسوار , فتنجو من قبضة مدينة الأحزان , فرحة لأنها خارجة من هذه العيشة الضيقة التعيسة , فتغدو إلى عالم رحب فسيح , أشد رحابة و فساحة في أحزانه . تأملت مرة أخرى أرجاء المبنى فوجدت أن السكون هو أمامهم , فلا يسمع سوى وقع أقدام بطيئة لكهل قد هدت السنين من عمره , أو صوت عربية تحرك عجلاتها يد عجوز ترتعش من المرض , أو سعال كهل قد نال منه البرد , أو أنين من بعيد ينبعث من أحد الغرف .
السكون يسكن أطراف تلك الدار , و الليل يُلبسها جلباباً أسود بهيم , فاكتملت صورة التعاسة بأبشع صورة . أمسكت بيد المشرف في تلك الطرقات فكأني طفل يمسك بيد أبيه من الخوف , أو تائه يريد من يعيده إلى أرض الأمان . فأخذني المشرف بجولة على ساكني تلك الدار , مررنا بممرات مضاءة بمصابيح بيضاء وكل ممر يستقيم ثم ينعطف إلى اليمين أو إلى اليسار وكل تلك الممرات قد وزعت على أطرافها غرف النزلاء , أخذتنا تلك الممرات إلى وحدات تلك الدار . صوت المشرف الجهوري يجاهد من أجل أن يشق السكون وهو يشير إلى الوحدات و تلك الأقسام تلك , يصل صوته إلى مسمعي و لكن عقلي و بصري في مكان آخر , عيناي تنظران هناك , إلى مسن قد جلس على سجادة صغيرة , و أسدل شماغه على وجهه الذي رسمت عليه صورة مكررة من صور البؤساء في عالم الجحود و النكران , أرى ذلك المسن اتكاء برأسه على يده كأنما يريد من يداه أن تحملان شيئاً قليلاً من همومه . و استند بظهره إلى الجدار ليسنده في عجزه و ليساعده في حمل همومه التي قطمت ظهره , أو لعله يحميه من نسمات البرد التي لم ترحم ضعفه , و لا أعلم هل الجدار لو حمل هموم ذلك المسن فهل سيقف شامخاً أو يهوي من طوله ؟! أقبلت عليه , بادرته بالسلام فقلت كل عام و أنت بخير يا أبي , رفع رأسه ببطء , فأبصرني بعينين مغرورقتان بالحزن , فوضعت يدي بيده و قبلت رأسه , عرفته بنفسي , و أني زائر لآبائي في هذه الدار , وقد انتهزت فرصة العيد لأجلس معكم , و أسعد بلقائكم , نظر فكأنه يبحث في وجهي عن وجه يعرفه أو قريب يألفه , عاد بصره خائباً أن لم يجد من ملامحي في ذاكرته شبهاً , طأطأ رأسه , ثم دعا و شكر , ثم بحث بين صفحات حياته عن ابتسامة ليقدمها لضيفة , فلم يجد إلا صورة من ابتسامه باهتة , فانتشلها من بين ركام الأحزان , و من بين ما تحمل تلك السنين من الهموم , فارتسمت على وجهه , من ثغر قد أنسته الحياة كيف ترسم الابتسامات , فقدمها على طبق من حزن , حاولت أن أخرج من شقاء اللقاء , فسألته عن حاله , فنظر إلي بنظرة يغذيها قلب مؤمن بالله فقال : الحمد لله على كل حال , كررها و هو يهوي برأسه مرة أخرى على يديه , و يغيب وسط شماغه الذي يلتف على رأسه , ودعته بابتسامة حزينة , فودعني بتنهدات أخرجها من أعماق قلبه , تنهدات عصرت قلبي , و سكنت صدري , و زادت من برودة أطرافي .
أكمالنا المسير , فانحنى بنا الممر إلى الغرف المعدة للنزلاء , في مدخل الممر , كان هناك مسن يحمل جسماً نحيل يجلس على كرسي حديدي , قد وضع رجلاً على رجل , و لف شماغه على وجهه ثم أداره على رقبته , فلم يظهر من دائرة وجهه الصغير سوى عينان غائرتان , وسط وجه قد سكنت فيه أشكال متنوعة من الهموم و الأكدار , مر من جانبه المشرف فقال : يا أبا عبد الله هذا أبنك فلان - و هو يشير إلي - قد جاء ليبارك لك العيد , فقام على ثقل , فأمسكت بيده المرتعشة و قبلت رأسه , و سألته عن حاله , فهز رأسه , ثم فقال : تسأل عن حالي ؟! , فكأنه لم يصدق أن هناك من جاء ليزوره أو يسأل عن حاله , فوضع يده الباردة على خدي , فأخذ يتحسسه بيده , فأخذ يبحث فيه عن حنان مفقود , أو عطف دافئ يحرك الدم في جسمه البارد , وضعهما فكانت برودة أطرافه أشد من حرارة خدي , فزالت كل الحرارة في جسمي و لم تتغير برودة أطرافه , نظرت في عينيه وهو ينظر إلي فأخذ ينشد أبياتاً من الشعر , كأنما يخاطب أبنه , أو كأنما يتكلم مع نفسه المفقودة , كان صوتاً حزيناً كأنما هرب من قلبه المهجور ليبحث له عن قلب يتلقفه فيخبره عن حاله , لقد كان صوتاً جريحاً ملؤه الأنين , و تسكنه الآهات و ثقل السنين , كان بيني و بينه و هو ينشد لغة العيون , كانت نظراته إلي لا تنفك , يبحث في مساحة وجهي عن عذر للهجران من أقر الناس إليه , يسأل عيوني لماذا كل الناس يأتونني إلا أعز الناس إلي ؟! لماذا أنا أرقد هنا داخل هذه الأسوار الكئيبة و هناك يرقد قلبي خارج أسور المدينة يبحث عن أليفه ؟! لم أجد جواباً لأبيات شعره , أو رداً لنظرات بصره , فهربت بعيني عن عينيه , مخافة أن تسقط دمعة مني على يده , لقد فجرت كلماته مكامن الحزن في نفسي , و قيدت الهم أسيراً في صدري , وتمنيت أن تسيل دمعة من عيني تطفئ حرقة من مشاعر همي و ألمي , و لكن كل الدموع تجمدت من يده الباردة , و بدل أن تسيل قطرة على خدي نزفت في قلبي ألماً و حزناً على ذلك الشيخ المسن , فلما انقضت منه المناجاة , وحارت لغة العيون , و علم أن لا جواب لدي , خفت صوته و أنزل يده ببطء , و ودعته و لازلت أسمع صدى إنشاده يدوي في أذني , عاد إلى كرسيه الذي ألفه و حمله و حمل همومه معه , و دعته و ودعت وجهاً لم تترك فيه أصابع الزمان ملمحاً للسعادة , فقد ملأته بالأحزان التي رُسمت بيد تجاعيد الزمن و الأيام , و ركنت في أعاليه عينان قد أبيضتا من الحزن فهو كضيم , أظلهما حاجب تلون بالبياض لونتهما يد السنين السوداء , و دعته و لم يزل خدي بارداً من وضع يده , و قلبي نازفاً من وضع حاله , و جسمي مرتجفاً من أثر برودة أطرافه .
ذهبنا إلى أول الغرف , وتسمع من خلف الباب صوت جميل يحمل بين جنباته أنين و صوت حزين , طرقنا الباب , و لم يجب نازلها , أعدنا الطرق , أجاب النزيل أن أدخل , وجدت النزيل قد جلس على سريره متربعاً , بين يديه مصحفه الذي يتلو منه آيات من القرآن الكريم , يقلب بصره بين آياته و يمتعهما في سوره , هو أنيسه , و هو جليسه , و هو سلوته في غربته , هو العلاج الأكيد لمصائب الزمان , و هو الدواء لبلاء الجحود و النكران , يقرأ آيات الصبر فيزداد صبراً , يتمعن بالآيات التي تحث على البر فيزداد ألماً , أقبلت عليه و سلمت عليه معايداً , فسلم و أخذ يحكي يومه فيقول : أنا يومي بين الفاتحة و الناس , أقرأ , أتأمل , أتلذذ , أتفكر , أتمعن , من طلوع الشمس حتى تسقط خلف خط الغروب , نعم , نعم , أنيس و خير جليس و أكرم به من معين على نوائب الدهر , لم نرد أن نقطعه من هذه الخلوة التي تصله بربه , فاستأذناه بالخروج , فعاد كالنحل له صوت و أزيز جميل .
فخرجنا إلى غرفة بجواره , فإذا فيها مسن قد رقد على سريره و بيده ريموت الرائي , يبحث بين قنواته ما يجعله يخرج من أسوار هذه المدينة الحزينة , يبحث عن أخبار عالمه خلف الأسوار , كان له فيه ذكريات جميلة , كان له فيه طموح و أمل , كان له فيه موضع قدام بين أقدام المئات من ساكنيها , كان له أنفاس بين ألوف الأنفاس المنبثة في فضاءه , و اليوم , هو وغرفته و التلفاز فقط , لا , لا , بل يسكن معه رفقاء تلك الدار , الهم و الحزن و الكدر , في غرفته التي صبغتها الأيام بالسواد , وعلقت فيها الأستار فصارت كمشانق , و زينت بأثاث هي كلحود في مقابر , قد ملت عيناه من جدرانها و أثاثها و أستارها و تلفازها , بل ملت يده من هذا الجهاز الذي بين يديه فيقلب فيه القنوات لعله يجد ما يسليه , فيجد فيه حروباً و كوارث و مصائب كأنها إليها تناجيه , كأنما أرادوا أن يزيدوهم إلى همومهم هماً , دخلت عليه و هو يبتسم و خرجت منه و هو مبتسم , قد رضي بقدر الله فزانت نفسه باليقين و تعلقت برب العالمين , فرضي بما أصابه و آمن بالله و قضائه , خرجت من الغرفة و بدأ هو بالبحث عن قناة مفقودة لعلها تسكن بعض ألمه أو تنشر بسمة على محياه .
اتجهنا إلى غرفة بجانبها فإذا بصاحبها كهل قد استغرق بنومه فقد رمته السنين على سرير الأحزان , فلم أشأ أن أزعج منامه , لقد رحمت حاله , فو الله لكأني أنظر إلى طفل صغير قد فقد أمه , فأعياه البكاء فنام على فراشه , فلم يجد من يرفع رأسه أو من يغطيه من البرد بلحافه , لقد جمع جسمه و ثنى ركبتيه إلى صدره , فصار كعصفور بلله الماء فأخذ يرتعد من البرد , فنظرته بحسرة و اسأل الله أن ينظر إليه برحمة , إلهي أرحم ضعفنا و ضعفهم , و أجبر كسرنا وكسرهم , و أمدهم بصبر و يقين و فرج منك يارب العالمين .
خرجت من تلك الغرف و مررنا على البقية و كل غرفة منها تشهد مأساة , و كل مأساة تغرس خنجراً في صدري ينزف منه دماً , لقد سكن الهم معهم , وجاورهم الحزن في غرفهم حتى ألفوه , فأصبحوا يتنكدون يومهم إن غاب عنهم , لقد سكن صدورهم فأصبح هو صباحهم و مساؤهم , هو نفسهم الذي في صدورهم , هو نبضهم الذي في قلوبهم , هو زائرهم الذي لم يخن العهد معهم , لازمهم في حياتهم الأولى و لم يتخلى عنهم في بلاد الأحزان , لقد خانتهم السعادة فلم تطرق لهم باباً , و خانهم الأمل فلم يبن له شعاعاً , و خانهم التفاؤل و لم يصل لهم مراداً , خانتهم كل الأشياء الجميلة , و تبقى الحزن هو الوحيد الذي لم يخنهم , لقد كان الحزن بسمتهم , و الحزن بكاءهم , و لازمهم و عاش معهم , حتى صار ملء عيونهم و سمعهم و قلوبهم.
خرجت مع المشرف و أحس بشيء يهد كياني , أحس بوحشة من عالمي الذي من حولي , أحسب بخوف من مجتمع أعيش بينهم , أحس أني صاحب خديعة و أحس أني قد شاركت بالجريمة , لقد اجتمعت هموم هؤلاء كلهم في قلبي , فأصبحت ضائق النفس , شديد الكرب , ضاقت علي دنياي بما رحبت , فكأني أتنفس من ثقب إبرة , مُسحت كل الأشياء الجميلة التي تختزلها ذاكرتي , حتى دموعي تجمدت في محاجرها , و بدلاً أن تسيل على خدي , نزلت إلى قلبي فكانت أساً وحرقة و ألماً وحزناً .
أدخلني المشرف إلى مكتبه فشكرته على مجهوده و أثنيت على إخلاصه , و أسهب بالحديث عن الدار و أهلها , عن الدار و ألوان الحزن الذي يرسم في وجوه ساكنيها فصارت وشماً واضحاً عليهم , تمر عليهم الأيام لا يميزون أيامها , إلا بمغيب شمسها أو خروجها من مشرقها , كل الأيام سواء , فلا يفرقون بين سبتها إلى جمعتها إلا عندما ينادي المنادي لصلاة الجمعة , كل الأوقات واحدة , فأول النهار و آخره سواء , فعقارب الساعة تدور بلا فائدة , و الوقت هناك بلا ثمن , الوقت هناك كالسيف كل جزء منه يُقطِعُك أرباً أرباً, يقطع قلوب ساكني تلك الديار أجزاء , كل جزء يقطعه يزيد من همه و يبعده عن أمله , لقد ملوا من حساب السنين و الأعمار , و ملوا من طول الانتظار , فأول الشهر و آخره و أول السنة و آخره كلها نسخ طبق الأصل , كلٌ قد سكن غرفته و يقلب ماضيه , و ينظر إلى مستقبله الذي يسير ببطء , فمتى تنصرم أيام العمر و ينتهي هذا الهم , و متى تنزاح أثقال السنين و يصل الأجل , لولا إيماناً يقويهم لتمنوا الموت أو لسعوا إليه , حالات متفرقة و أوضاع غريبة , منهم الأب الذي سالت دمعته من عقوق أبنائه , لازمهم و لاعبهم في صباهم , سالت دموعه عليهم في شبابهم , تفطر قلبه وجداً عليهم , كانوا كل أمله و مبلغ أحلامه , أمنيته في حياته بسيط , هي ابتسامة من ثغر طفله , كل آلامه هي صيحة من وجه صغيره , سهر الليالي و تذوق العلقم و تحمل المآسي من أجله , و من أجل أن يصير له ابناً يشد من عضده و يسنده عندما يبلغ كبره , فكبر الابن , نعم كبر , و ظن الأب أنه حان وقت الراحة , قد حان وقت الحصاد و الأمل , فكان الابتلاء من الله لهذا الأب على أن صار إلى هذا الدار , لماذا وبأي ذنب , فلا جواب إلا أنه أصبح شيخاً مسناً لا يستحمل و لا يطاق , و هي قصة تتكرر في كل دور الرعاية , تتكرر بصور مختلفة , تتكرر من الأبناء و الأقرباء و المجتمع بالكامل , ناهيك عن قصص أخرى و جدتها هناك , فمنهم من عاش في هذه الدار بعد أن حل الشيطان بين أبيه و أمه , ففرقتهم الخلافات الزوجية , فصار كلاً منهما إلى سبيل , و ضاع ذلك الابن في زحام الحياة , و وسط أنانية زوجين كلاً يبحث عن رغباته , و كلاً يقتل فلذة كبده من أجل نزوة بسيطة , فشب الابن و شاب و هو من دور رعاية الأيتام إلى دور رعاية المسنين , فا الله نسألك رحمتك فينا و في إخواننا و نسألك لطفك و عطفك , و أن لا تنزعهما منا.
هناك من كان ضحية الإهمال , فضاع في طرقات الحياة , فأصبح مدمناً في أول حياته , مرمياً في السجون في شبابه , و فكانت نهاية المطاف دور الرعاية.
هناك من أغلق عليه غرفته من سنين فلا يسمح أن يدخل عليه زائر , أو يمر عليه قريب , أو يرى أي شخص مهما كان ماعدا المشرف , يقول المشرف : لقد حاولت أن أقنعه بفائدة تلك الزيارات , و أنها تخفف المصاب و تزيل بعض الهم , فقال دعوني لهمي و لحزني , فكل من حولي لم يذكرونني و إن ذكروني فهم يخجلون مني , دعوني في غرفتي حتى يقضي الله أجلي.
سألت المشرف : عن أطول المقيمين في دار الرعاية , فقال رقماً أصابني بمقتل , قال هناك أحد الأشخاص قد عاش في هذه الدار منذ 35 سنة , يا الله كل هذا العمر هنا بين جدرانها الصامتة , و بين ممراتها الكئيبة , و في غرفها الحزينة , لقد مر علي عمري بالكامل , مر علي عمري أيام طفولتي , و أيام شبابي , و بعد زواجي , فكل هذه الأيام هو يسكن هنا , و أنا في حياتي عنهم غافل , و في طرقاتي سائر , و في أيامي لاهي , بعدما قال لي ذلك الرقم سكت و في الحلق غصة , و في العين دمعة , و في القلب ألف أساً و حرقة , سكت و لم يسكت المشرف فقال : هل تصدق أن بعض ساكني الدار يخرجون من عندنا ليعشوا مع المجتمع مرة أخرى , ثم تستحيل عليهم الحياة هناك فيعودوا من جديد إلينا , لقد تنكر لهم كل شيء في خارج أسوار مدينتهم مدينة الأحزان , لقد تغيرت صورة كل شيء هناك , في فضاء من يدعون أنهم يعيشون عيشة السعداء , لقد صارت مدينة الأحزان أحب إليهم من حياتهم الأولى.
لم تنتهي الزيارة لكن خفت أن أطيل على المشرف الذي أتعبه العمل , فاستأذنته و ودعته , بعدما قبلت رأسه و شكرته على جميل صنعه مع أخوتنا هناك , ركبت سيارتي و ركبت زوجتي و أخواتي , وخرجت من دار الأحزان , إلى عالم النسيان و النكران , خرجت بسيارتي إلى عالمي الذي خنق أنفاسي , خرجت إلى المجتمع الذي يحوي بين جنباته ابن عاق , و عشيرة متنكرة , و مجتمع لم يرحم , كان الصمت يخيم على الجميع , كأننا كنا في حلم أو كأننا بدأنا نعيش وقائع مؤلم , بل أحس كأننا كنا ممن شارك في هذه المأساة , بدت لي الدنيا غريبة , كل شيء في ناظري تغير , فلا السماء سمائي و لا الأرض أرضي و التي أمشي عليها في سالف أيامي , و لا الهواء هوائي الذي أستنشقه يومياً رطباً نقياً ينعش حياتي , إن نسماته تكاد أن تخنقني , و حتى الوجوه التي حولي وكنت أعرفها و آلفها , قد تغيرت في عيني . لقد تأرجحت في قلبي كفتي الميزان , فاختلط الحق بالباطل , و صار كل شيء ضبابي بهيم . اختَرقتُ جموع السيارات و لا ادري كيف مررت من بينهم , كل الذي يتظاهر أمامي هو مناظر آبائي . لقد خرجنا من تلك الدار , بل لقد خرجنا من ذلك الحلم الموحش , خرجنا و الصمت يخيم علينا , فقلت بتثاقل لأختي كيف أخواتنا هناك ؟ فأجابت أختي بعد صمت , و ها أنا ذا أصمت مثل صمتها , فأخاف عليكم إن ذكرت وضعهم أن أسقيكم المر , و أن أذيقكم العلقم , أو أن أجرعكم الحسرة و الندم على من في الدار , بل سأقتصر على الإشارة و التلميح من بعيد كما فعلت مع إخوتنا الرجال , يكفي أن أحداهن قد لبثت في هذه الدار 38 سنة , و أن اثنتين منهن قد ودعتا الحياة قبل رمضان , ولم يكن بجانبهن من يؤنسهن في لحظات الوداع , أو يرمقهن بنظرات الحنان , أو يتلمسهن بيد العطف , أو يذرف عليهن دمعة , أو يئن لغصص الموت عليهن أنه , إنها حالة بئيسة تلك الحالة , أن تخرج من هذه الدنيا و أنت تفقد الأمل برؤية أحبابك الذين تتمنى أن يكونوا بجانبك ولو بساعة الفراق , أن تسقط آخر ورقة من أوراق التلاق , أن نموت و يموت الأمل , إنهم يموتون ويصيرون إلى غربة , و قد كانت حياتهم كلها غربة , ربي رحماك بهم , ربي رحماك بهم , ربي رحماك بهم . لقد كانوا يتمنون أن يشاهدوا الأحباب قبل أن تشخص الأبصار , لقد كانوا يتمنون أن تفرح قلوبهم قبل أن تسكن نبضاتهم , لقد كانوا يتمنون أن تلامسهم أيديهم قبل أن يلامسهم الموت , إنها لحظات عصيبة تمر عليهم , من يدمع على فراقهم , من يترحم عليهم , بل من سيُنزل الجفون على العيون بعد أن تشخص من شدة الموت الأبصار , فهل هناك أصعب من أن يتمنى إنسان أن يجد أحداً بجانبه وهو في لحظة الفراق فلا يجده ؟ هل هناك أكثر أقسوة من أن لا يجد إنسان من يمشي في جنازته ؟ هل هناك أشد من أن تتمنى أن يذكرك أعز الناس إليك لكي يحثوا التراب عليك ؟ و أن يحضروا مواراتك عن العيون , و أن يضعوك ببيت الدود , حتى تغيب عن كل أمل و تصير إلى قبر و لحد , و تكون من سكان قبور الآخرة بعد أن كنت من سكان قبور الدنيا . و والله لا أعلم هل كانت سكرات الموت عليهم أكثر كربة أم سكرات الحياة أكرب , هل غصص الموت أصعب أو غصص النكران أصعب , هل التفاف الساق بالساق أثناء الممات اشد أو صدود الأهلون و الأقربون عنهم أشد و أدهى و أعظم و أمر . لقد جاءتهم سكرات الموت التي كانوا يتمنونها , لقد حل عليهم اليوم يومهم الذي كتب لهم , لقد حضر إليهم الموت فوجدهم قد خنقتهم الحياة قبله , لقد جاءهم ليقبض أرواحهم فوجد أجساماً بلا روح , لو نطق الموت لترحم عليهم من حالهم . لقد خلت الدار من رقم ساكن حسبوا أن ليس له في المجتمع اعتبار , لقد قيد في عداد الموتى , و انتهت قصة من قصص الجحود و النكران , فضاق الحزن بموته فهو الذي كان يؤنسه , فمن للحزن بعد موت الحزين من صديق يسليه , و من للهم بعد موت المهموم من خليل يتسلى فيه , كم حبست جدر تلك الدار من الآهات التي و صلت إلى كل مكان و لم تصل إلى الذين يجب أن تصلهم , لقد أحس بها كل جماد و لم يحس بها كل من أغلق الله قلبه و صارت إلى خسران , هي الأيام تنقصهم و لا أحد يدري عنهم .
تقول المشرفة أن هناك الآن على السرير الأبيض ترقد امرأتان , فلا يعلمن هل إلى الدار ترجعان أو إلى المقبرة تسيران , و لعلي أكتفي إلى هنا فو الله إن في دار النساء لقصص أخاف أن تشيب لها الولدان و أن يسكن قلوبكم الهم و الحزن من ذكرها , لقد ودعتهم وعيون الآباء تقول :
لقد سقيتني كأس المر , من كأس قوتك الزائفة ابني لقد بذلت عمري كله لك و أنا سعيد , فأكمل سني عمرك سعيداً من حساب أحزاني الوافر .
لقد كنت ابحث عن سعادتك , فوجدتها أنت بتعاستي .
في كل عمري كنت آخذ من سعادتي لأسعدك , فلما انتظرت رد الدين , وجدت أنني قد أقرضت إنسان غير وفي .
ابني لقد لان ظهري و أنعكف , و نزلت أجفاني و ارتخت , و غاب بصري و من الدمع قد جفت , فهل يكفيك هذا يا ابني , و تعود وتفرح قلبي .
ابني لعلك لا تعلم أنني من أن سكنت هذه الدار , و جاورت الأحزان , لم يكن لي مصدر للسعادة إلا هي تلك اللحظات , التي أتذكرها و أنا ألاعبك , أو أضاحكك , أو تبكي و أحاول أن أسترضيك , كم أنا مشتاق إليك .
زارني زائر المرض , فذكرت بسمتك فهان مرضي , و زارني زائر الهم فذكرت دمعتك فهان همي , و زارني زائر الموت فلم أجدك بجانبي ففاضت روحي قبل يومي .
أسمع من خلف الأسوار أصوات أطفال , فأتذكرك صغيراً , و أسماع صوت أب ينادي لأبنه , و أبتسم مسرورا و أرى بيني و بينك سورا , فأنقلب حزيناً مكسورا .
ابني إن بلغتك حالة وفاتي , و ضمت الأرض رفاتي , و قادتك دنياك يوماً لتذكري , فتذكر إنني رعيتك و كل أملي أن أراك مسرورا , فسر بحياتك مسرورا , فرغم الذي كان منك فأنا أسامحك في حياتي وبعد مماتي .
ابني لقد صرت اليوم إلى أيدي غرباء يقلبونني , و قلوب أناس لا يعرفونني , و قد كنت أقلبك بيدي , و أنزف عليك من قلبي , بُنيّ فلا تكلني لهم فأنا لا يزيدني رعايتهم لي على جهدهم سوا ألماً , فأنا أفقدك و افقد روحي معك في كل يوم .
بُنيّ لقد ذقت من مآسي الحياة ألواناً , و من كربها أصناف , و أشدها قسوة هي يوم أن وضعتني هنا و غبت عن ناظري , فارحم قلباً ينبض بلا دم و صدراً يثور بلا نفس , و إنساناً يتحرك بلا أمل .
ابني لقد مللت من جدران الصمت , و فراش الموت , و أصوات السكون , فكلها تقتلني و تجعل جرحي ينزف كل يوم , فلا هي تقضي علي بقتلة واحدة و لا هي ترحمني و تلتئم , فإلتأمها جميعاً بصوتك , و رؤية وجهك . فهل ألمحك و لو من بعيد ؟ يارب إن كان هذا ابتلاء فقد صبرت سنين , و إن كان جزاء بمعصية فلك أتوب و أجعلني عنها من الراجعين , و إن كانت بسبب قسوة في قلب أهلي , فاللهم لا تحرمني منهم و ردهم لي سالمين و أجعل قلبوهم لي تلين .
لقد كانت هذه نظراتهم و هذه نداءاتهم فكلها عطف رغم الجحود من الكثير ممن حولهم , و لكن هل تلين قلوب العصاة و يعودون لصراط رب العالمين .
قال تعالى :
“وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاها فلا تقل لا أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ” ، الاسراء:23،24 في الختام :
لقد كنت متردداً بكتابة هذه الزيارة , و لكن نفذ صبري , عندما سمعت أن امرأة تسأل في أحد القنوات , و تقول : أرشدوني ماذا أعمل بأم زوجي ؟
فأقول الجواب :
اعملي ما شئت , هو عمل يدك , و نتاجه ستحصدينه في سني عمرك القريبة , إن خيراً فخير , و إن شراً فشر , هدانا الله و إياك و أرشدنا للحق و جعلنا به عاملين .
و أقول لكل زوج كن معيناً لزوجتك على بر آبائها و أهلها .
و لكل زوجة كوني معينة لزوجك على البر بآبائه و أهله .
فإني أشد ما أخاف منه أن يأتينا العقوق من أنفسنا .
و إلى كل ابن لفظت شفتاه كلمة العصيان و قال لوالديه : أف , أقول عد قبل أن يفوت الأوان , وتصير إلى خسران .
انتهت الزيارة و بقي الألم .