البداية من هنا
لقد أدركت الخلافة عثمان وهو شيخ كبير. ومن ورائه مروان بن الحكم يصرّف الأمر بكثير من الانحراف عن الإسلام، كما أنّ طبيعة عثمان الرّخيّة، وحدبه الشّديد علىٰ أهله، قد ساهم كلاهما في صدور تصرّفات أنكرها الكثيرون من الصّحابة من حوله !!، وكانت لها معقبات كثيرة، وآثار في الفتنة التي عانىٰ الإسلام منها كثيرًا. !!
منح عثمانُ من بيت المال زوجَ ابنته الحارث بن الحكم يوم عرسه مئتي ألف درهم، فلمّا أصبح الصّباح جاءه زيد بن أرقم خازن مال المسلمين، وقد بدا في وجهه الحزن وترقرقت في عينه الدّموع، فسأله أن يعفيه من عمله؛ ولما علم منه السّببَ وعرف أنّه عطيّته لصهره من مال المسلمين، قال مستغربًا:" أتبكي يابن أرقم أن وصلت رحمي؟" فردّ الرجل الّذي يستشعر روح الإسلام المرهف:"لا يا أمير المؤمنين. ولكن أبكي لأنّي أظنّك أخذت هذا المال عوضًا عمّا كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله، والله لو أعطيته مئة درهم لكان كثيرًا!" فغضب عثمان علىٰ الرّجل الّذي لا يطيق ضميره هذه التّوسعة من مال المسلمين علىٰ أقارب خليفة المسلمين، وقال له:"ألقِ المفاتيح يابن أرقم فإنّا سنجد غيرك"! .
والأمثلة كثيرة في سيرة عثمان علىٰ هذه التّوسعات؛ فقد منح الزّبير ذات يوم ستمائة ألف، ومنح طلحة مائتي ألف، ونفّل مروان بن الحكم خمس خراج إفريقية، ولقد عاتبه في ذلك ناس من الصّحابة علىٰ رأسهم علي بن أبي طالب، فأجاب: "إنّ لي قرابة ورحمًا"، فأنكروا عليه وسألوه:"فما كان لأبي بكر وعمر قرابة ورحم؟" فقال:"إنّ أبا بكر وعمر كان يحتسبان في منع قرابتهما، وأنا أحتسب في إعطاء قرابتي"، فقاموا عنه غاضبين يقولون:"فهديهما والله أحبُّ إلينا من هديك".
وغير المال، كانت الولايات تغدق علىٰ الولاة من قرابة عثمان، وفيهم معاوية الّذي وسع عليه في الملك، فضمّ إليه فلسطين وحمص؛ وجمع له قيادة الأجناد الأربعة، ومهد له بعد ذلك أن يطلب الملك في خلافة علي وقد جمع المال والأجناد، وفيهم الحكم بن العاص طريد رسول الله الّذي آواه عثمان وجعل ابنه مروان بن الحكم وزيره المتصرّف، وفيهم عبد الله بن سعد بن أبي السّرح أخوه من الرّضاعة…إلخ"
- "وأخيرًا ثارت الثّائرة علىٰ عثمان، واختلط فيها الحق والباطل، والخير والشّر، ولكن لابد لمن ينظر إلىٰ الأمور بعين الإسلام، ويستشعر الأمور بروح الإسلام، أن يقرر أنّ تلك الثّورة في عمومها كانت فورة من روح الإسلام؛ وذلك دون إغفال لما كان وراءها من كيد اليهودي ابن سبإ عليه لعنة الله! .
- "مضىٰ عثمان إلىٰ رحمة ربه، وقد خلف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكن لها في الأرض، وبخاصة في الشام، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام، من إقامة الملك الوراثي، والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع، مما أحدث خلخلة في الروح الإسلامي العام، وليس بالقليل ما يشيع في نفس الرعية - إن حقًّا وإن باطلًا - أن الخليفة يؤثر أهله، ويمنحهم مئات الألوف؛ ويعزل أصحاب رسول الله ليولي أعداء رسول الله؛ ويبعد مثل أبي ذر لأنه أنكر كنـز الأموال، وأنكر الترف الذي يخب فيه الأثرياء، ودعا إلىٰ مثل ما كان يدعو إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من الإنفاق والبر والتعفف، فإن النتيجة الطبيعية لشيوع مثل هذه الأفكار - إن حقًّا وإن باطلًا - أن تثور نفوس، وأن تنحل نفوس.
-"جاء علي - كرّم الله وجهه - لم يكن من اليسر أن يرد الأمر إلىٰ نصابه في هوادة، وقد علم المستنفعون علىٰ عهد عثمان وبخاصة من أمية أن عليًّا لن يسكت عليهم، فانحازوا بطبيعتهم إلىٰ معاوية، وبمصالحهم إلىٰ معاوية، جاء علي ليرد التصور الإسلامي للحكم إلىٰ نفوس الحكام ونفوس الناس.
جاء ليأكل الشعير تطحنه امرأته بيديها، ويختم هو علىٰ جراب الشعير ويقول:
"لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم".
... وما يصنع عليٌّ هذا بنفسه وأهله، وهو يجهل أن الدين يبيح لـه فوق ما يصنع، وأنه لا يحتم التزهد والحرمان والشظف، وأن حظه من بيت المال في ذلك الحين كفرد من المسلمين يبلغ أضعاف ما يأخذ، وأن راتبه كأمير المؤمنين يؤدي خدمة عامة، أكبر من هذا لو شاء أن يأخذ مثلما خصصه عمر لبعض ولاته علىٰ الأقاليم، إذ قدر لعمار بن ياسر حين ولاه الكوفة ستمائة درهم في الشهر له ولمساعديه، يزاد عليها عطاؤه الذي يوزع عليه كما توزع الأعطية علىٰ نظرائه، ونصف شاة ونصف جريب من الدقيق ؛ كما قدر لعبد الله بن مسعود مئة درهم وربع شاة لتعليمه الناس بالكوفة وقيامه علىٰ بيت المال فيها، ولعثمان بن حنيف مائة وخمسين درهمًا وربع شاة في اليوم مع عطائه السنوي وهو خمسة آلاف درهم.
وسـار علـيّ - كرم الله وجهه - في طريقه يرد للحكم صورته كما صاغها النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتان بعده."
- "و لقد كان من الطبيعي ألا يرضى المستنقعون عن علي،و ألا يقنعَ بشرعة المساواة من اعتادوا التفضيل، و من مردوا على الاستئثار . فانحاز هؤلاء في النهاية إلى المعسكر الآخر: معسكر أمية، حيث يجدون فيه تحقيقاً لأطماعهم، على حساب العدل و الحق اللذين يُصرّ عليهما علي-رضي الله عنه- هذا الإصرار !
و الذين يرون في معاوية دهاءً و براعةً لا يرونهما في علي، و يعزون إليهما غلبة معاوية في النهاية،إنما يخطئون تقديرَ الظروف، كما يُخطئون فهمَ عليّ و واجبه. لقد كان واجب عليّ الأول و الأخير، أن يردَّ للتقاليد الاسلامية قوتَها، و أن يردّ إلى الدين روحَه، و أن يجلو الغاشيةَ التي غشت هذا الروح على أيدي بني أمية في كبرة عثمان.
- "ومضىٰ علي إلىٰ رحمة ربه، وجاء بنو أمية، فلئن كان إيمان عثمان وورعه ورقته، كانت تقف حاجزًا أمام بني أمية، لقد انهار هذا الحاجز، وانفتح الطريق للانحراف.
لقد اتسعت رقعة الإسلام فيما بعد، ولكن روحه انحسرت بلا جدال، ولولا قوة كامنة في طبيعة هذا الدين، وفيض عارم في طاقته الروحية؛ لكانت أيام أمية كفيلة بتغيير مجراه الأصيل، ولكن روحه ظلت تقاوم وتغالب، وما تزال فيها الطاقة الكامنة للغلب والانتصار.
غير أنه منذ تولي بني أمية انساحت حدود بيت مال المسلمين، فصار نهبًا مباحًا للملوك والحاشية والمتملقين، وتخلخلت قواعد العدل الإسلامي الصارم، فأصبح للطبقة الحاكمة امتيازات، ولأذيالها منافع، ولحاشيتها رسوم، وانقلبت الخلافة ملكًا، وملكًا عضوضًا
وعدنا نسمع عن الهبات للمتملقين والملهين والمطربين، فيهب أحد ملوك أمية اثني عشر ألف دينار لمعبد، ويهب هارون الرشيد - من ملوك العباسيين - إسماعيل بن جامع المغني في صوت واحد أربعة آلاف دينار، ومنزلًا نفيس الأثاث والرياش، وتنطلق الموجة في طريقها لا تقف إلا فترة بين الحين والحين"
-خطب معاوية في أهل الكوفة بعد الصلح، فقال: يا أهل الكوفة، أتراني قاتلتكم علىٰ الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت أنكم تصلون وتزكون وتحجون؟ ولكني قاتلتكم؛ لأتأمر عليكم وعلىٰ رقابكم، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون....
وبذلك خرجت سياسة الحكم نهائيًّا من دائرة الإسلام وتعاليم الإسلام.
كتبه مؤلف مسلم سني