بيان فضل عشر ذي الحجة مع الدعوة الى عمارتها بالعمل الصالح.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فيحتاج المسلم حالَ غفلته ولهوه إلى تذكيرٍ بالله والآخرة؛ فالأولاد والأموال ألهتْنا كثيرًا عن ذكر الله وطاعته، وسعيُنا ولهاثُنا لتحصيل قدرٍ أكبر من الرَّفاهية والشهوات حطم قدراتنا في تحمل الكثير من العبادات، والصبر عن المحرمات؛ حتى أضحت أجسادنا لا تتحمَّلُ طول القيام والقنوت، وكثرة الرُّكوع والسُّجود، وقضاءَ الليل في القرآن والذكر.
ومنا من قد يجد صعوبة في الصبر عن مال تطوله يداه لكنه شبهة أو حرام.
ومنا من لا يطيق مفارقة سماع الحرام، أو إدامة نظره، أو سرعة الخطى إليه، بعيدًا عن مراقبة الله – تعالى - والحذر من مكره وخوف عذابه، وخشيته وتقواه.
وكل ذلك إنَّما حصل لمَّا تعلَّقت القلوب بغير الله تعالى؛ فالقلوب إذا صلحت صلحت معها الأجساد، وإذا فَسَدَتْ أفْسَدَتْها حتى تَثَّاقَل عن الخيرات، وتُسارع في المنكرات؛ ولكن يبقى الأمل في عفو الله ورحمته وتوفيقه كبيرًا؛ إذ تذكرنا مواسمُ الخيرات ربنا إذا نسينا، وتنبهنا إذا غفلنا، وتدعونا إلى تجديد التوبة مع خالقنا ورازقنا. وهذا أحدها يقترب منا، فماذا أعددنا له من توبة ومن عمل صالح؟!
انظروا - رحِمكم الله - إلى الدارسين كيـف يستقبلون مواسم الفوز والنجاح، وماذا يعدّون لها من جدٍّ واجتهاد؟!
راقبوا كيف يستقبل التجار مواسم البضائع في الصيف والشتاء، والإجازات والأعياد؟! يحرصون على عدم فوات أي شيء، وتوفير ما يجلب الناس إليهم.
تأمَّلوا كيف يستقبل رجالُ الأعمال فرص المُنَاقَصَاتِ وإرساء العقود، كيف يَصِلُون الليل بالنهار في دراسات دقيقة، واستشارات عديدة!!
هذه نماذج من مواسم سوق الدنيا، فما رأيكم في التجارة مع الله – تعالى - ويا ترى ما الاستعداد لمواسم الرحمن، وفرص المغفرة والرحمة والعتق من النار؟ وكيف سيكون التعاملُ مع أيام الله المباركات؟!
هذه عشر ذي الحجة المحرم تُوشِكُ أن تنزل بساحتنا، فهل سنضيعها كما أضعنا عشرات المواسم التي تمر بنا؟!
أيُّ حرمانٍ ينتظر من يَجِدُّ في مواسم الدنيا وفرصها، ويذرُ مواسم الرحمن والاتجار للآخرة. هذه العشر التي جاء القسم بها في كتاب الله – تعالى -: {وَالفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالوَتْرِ} [الفجر: 1-3]. هي عشر ذي الحجة كما هو الصحيح الذي عليه جمهورُ المُفَسّرين من السلف وغيرهم[1]، ودلَّ على ذلك حديث جابرُ بْنُ عبدالله - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن العشرَ عشرُ الأضحى، والوترَ يومُ عرفة، والشفعَ يومُ النحر))؛ أخرجه الإمام أحمد، وحسنه الحافظ ابن رجب[2].
وأخرج البخاري من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أيَّام العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام))، يعني أيام العشر قالوا: "يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟!" قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))[3].
ومن العمل الصالح المشروع فيها: صيامُها؛ لما ورد عن هُنَيْدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، أول اثنين من الشهر وخميسين))[4].
وكان عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - يَصومُها، وأكثر العلماء على القول بصيامها.
وكان سعيد بن جبير إذا دخل عشر ذي الحجة اجتهد اجتهادًا؛ حتى ما يكاد يقدر عليه ويقول: "لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر تعجبه العبادة".
والذكر فيها أفضل من الذكر في غيرها {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 27] فإنَّ الأيَّام المعلومات هي أيَّام العشر عند جمهور العلماء، وروى ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما من أيَّام أعظمُ عند الله ولا أحبُّ إليه العملُ فيهن من هذه الأيام العشر؛ فأكْثِرُوا فيهنَّ من التَّهْلِيل والتكبير والتحميد))؛ أخرجه أحمد[5]، وذكر البخاريُّ في صحيحه أنَّ ابْنَ عُمَر وأبا هريرة - رضي الله عنهم - كانا يَخْرُجان إلى السوق في أيَّام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما[6].
فمن شعائر الله – تعالى - في هذه العشر: كثرة الذكر، والجهر بالتكبير المطلق ابتداء من دخول هذه العشر إلى فجر يوم عرفة في الصباح والمساء، عند الصلاة وقبل الصلاة وبعدها وفي كل وقت {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج: 34] فإذا صلى فجر يوم عرفة شرع التكبير المقيد مع المطلق إلى آخر يوم من أيام التشريق[7]؛ لعظيم فضل تلك الأيام؛ ولمزية التكبير فيها على غيرها {وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "هي أيام التشريق"[8] وجاء في حديث نبيشة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((أيام التشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذكر الله))؛ أخرجه مسلم[9].
وأعظمُ عملٍ صالح في هذه العشر: حجُّ بيت الله الحرام، وهو فرض على من لم يحجَّ يجب عليه أن يبادر إلى أدائه، فإن تأخَّر مع القدرة عليه فهو آثم. ومن سبق أن أداه، ولديه القدرة على أن يتطوع لله به؛ فهو من أفضل الأعمال التي تقرّب إلى الله – تعالى - ولو لم يكن فيه إلا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))[10] وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه))[11]لو لم يكن فيه إلا ذلك لكان كافيًا في التطوع لله به.
أخرج عبد الرزاق في مصنفه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: "إذا وضعتم السروج - يعني من سفر الجهاد - فشدوا الرحال إلى الحج والعمرة؛ فإنه أحد الجهادين"[12] وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إنما هو سرج ورحل؛ فالسرج في سبيل الله، والرحل في الحج"[13] وقال أبو الشعثاء جابر بن زيد: "نظرت في أعمال البر فإذا الصلاة تجهد البدن ولا تجهد المال، والصيام مثل ذلك، والحج يجهد المال والبدن، فرأيت أن الحج أفضل من ذلك كله"[14].
وسئل الإمام طاوس بن كيسان: هل الحجّ بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟ قال: "فأين الحِلُّ والرحيل، والسهرُ والنصب، والطوافُ بالبيت، والصلاة عنده، والوقوفُ بعرفة، وجمع ورميُ الجمار؟" كأنه يقول: الحج أفضل.
ومن العلماء من قال: إن كان ثَمَّ رحمٌ محتاجة، أو زمن مجاعة؛ فالصدقة أفضل وإلا فالحج، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى[15].
ومن توفيق الله – تعالى - للموسرين أن يعينوا بالمال إخوانهم ممن لا يستطيعون الحج، ويجهزوهم له، لا سيَّما إذا كان حجّهم فريضة، وأن يتصدَّقوا على الحجاج في المشاعر بإطعام الطعام، وسقي الماء، وقضاء الحاجات.
كان عبد الله بن المبارك - رحمه الله - يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام وهو صائم. وكان إذا أراد الحجَّ من بلده مرو جمع أصحابه وقال: من يريد منكم الحج؟ فيأخذ منهم نفقاتهم فيضعها عنده في صندوق ويقفل عليه، ثم يحملهم وينفق عليهم أوسع النفقة، ويطعمهم أطْيَبَ الطعام، ثم يشتري لهم من مكة ما يريدون من الهدايا والتحف، ثم يرجع بهم إلى بلده؛ فإذا وصلوا صنع لهم طعامًا، ثم جمعهم عليه، ودعا بالصندوق الذي فيه نفقاتهم فردّ إلى كلّ واحد نفقته[16].
ما أعظم تلك النفوس! وما أسخاها! رحم الله أصحابها ورضي عنهم، وجمعنا بهم في دار كرامته، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمدلله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله النبي الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن مما يجب الحذر منه: الرياءَ في الأعمال، فلا يحج العبد إلا لله، ولا يعين حاجًّا إلا لله، ولا يعمل صالحًا في هذه العشر وغيرها إلا ابتغاء رضوان الله – تعالى - فلا يكرر الحج ليقال: ما أكثر ما يحج!! أو ينفق ليقال: جواد كريم!!
وللرياء في هذه الأعمال مدخل قد يخفى على العبد؛ لذا دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه أن يجنبه الرياء، فقد روى أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج على رحلٍ رثٍّ، وقطيفة ما تساوي أربعة دراهم" وقال: ((اللهم حجةً لا رياء فيها ولا سمعة))؛ أخرجه ابن ماجه[17]. وقال رجل لابن عمر: ما أكثر الحاج! فقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: "ما أقلهم!" ثم رأى رجلاً على بعير على رحلٍ رثٍّ، خطامه حبل فقال: "لعل هذا"[18] وقال شريح: "الحاج قليل، والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير! ولكن ما أقلَّ الذين يريدون وجهه!"[19]
ونقل ابن رجب عن أحد المتقدمين أنه كان يحج ماشيًا على قدميه كل عام، فكان ليلة نائمًا في فراشه، فطلبت منه أمه شربة ماء، فصعب على نفسه القيام من فراشه ليسقي أمه الماء، فتذكر حجه ماشيًا كل عام وأنه لا يشق عليه، فحاسب نفسه، فرأى أنه لا يُهوِّنه عليه إلا رؤيةُ النَّاس له، ومدحهُم إياه، فعلم أنَّه كان مدخولاً.[20]
والترفّه في الحج ينافي مقاصده؛ ولذا قال عمر - رضي الله عنه - يومًا وهو بطريق مكة: "تشعثون وتغبرون وتتفِلُون - أي تتركون الطيب - وتضحون لا تريدون بذلك شيئًا من عرض الدنيا، ما نعلم سفرًا خيرًا من هذا"[21]، يعني الحج، وقال ابن عمر - رضي الله عنهما - لرجل رآه قد استظل في إحرامه: "أضحِ لمن أحرمت له"[22].
وإن بعض الناس يجعلون من الحج رحلة استمتاع ونزهة بما يتكلفون فيها من وسائل الراحة والرفاهية؛ بل ربما قطعوا أوقاتهم في معصية الله – تعالى - واللهو وأحاديث الباطل! فأيُّ حجٍّ أراد هؤلاء؟! وأيُّ تعظيم لشعائر الله – تعالى - عندهم؟! أين حرمة المكان والزمان من قلوب هؤلاء؟! {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج: 32].
والأضحية من القُرَبِ إلى الله – تعالى - وهي فعل أبينا إبراهيم، وفداء أبينا إسماعيل، وسنة نبينا محمد، عليهم الصلاة والسلام. ومن أراد أن يضحي فلْيُمْسِكْ عن شَعْرِه وأظفاره منذ إهلال ذي الحجة؛ حتى يذبح أضحيته؛ كما أمر بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أم سلمة رضي الله عنها[23].
أيها الإخوة: هذه بعض الأعمال الصالحة في هذه العشر المباركة، وللأسف أن كثيرًا من الناس لا يقدرونها قدرها، ولا يعظمون حرمتها، على الرغم من أنها أفضل من العشر الأخيرة من رمضان المعظم. قال الحافظ ابن رجب بعد أن ساق الخلاف في المفاضلة بين عشر رمضان الأخيرة وعشر ذي الحجة: "والتحقيق ما قاله بعض المتأخرين من العلماء أن يقال: مجموع هذه العشر أفضل من مجموع عشر رمضان، وإن كان في عشر رمضان ليلة لا يفضل عليها غيرها" اهـ.
فأعدوا لها العدة، واستقبلوها بالتوبة، وعظموها كما عظمها الله – تعالى - واقضوها في أنواع الطاعات، واستباق الخيرات، وأحسنوا بها ختام هذا العام؛ فلعل ذلك يمحو ما سبق فيه من الذنوب والآثام، ثم صلوا وسلموا على محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم.
(مقال منقول من شبكة الألوكة ، وقد ارتأيت نقله وأثرته على غيره، ذلك لكونه مختصرا، مدللا بالأحاديث الصحيحة، مع إيراد الكثير من الآثار عن السلف والتي تخدم موضوعنا هذا بقوة، زيادة على كون المقال تعرض إلى ترجيح مسألة خلافية في شرعية صيام الأيام التسع الأول من ذي الحجة، مع بيان الراجح من ذلك. جعل الله هذا العمل ذخرا لصاحبه وناقله يوم لا ينفع مال ولا بنون، الا من أتى الله بقلب سليم).
...........................................................................
[1] "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف" للحافظ ابن رجب (470).
[2]أخرجه أحمد (3/327) والنسائي في الكبرى كتاب التفسير، تفسير سورة الفجر (11672) وحسنه ابن رجب في اللطائف (470) وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح غير عياش بن عقبة وهو ثقة (7/137) وقال ابن كثير: إسناد رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة، انظر: تفسيره (4/779) عند تفسير أول سورة الفجر، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1508) وأخرجه الحاكم موقوفًا على ابن عباس وصححه ووافقه الذهبي (2/522).
[3]أخرجه البخاري في العيدين باب فضل العمل أيام التشريق (969) وأبو داود في الصيام باب في صوم العشر واللفظ له (2438) والترمذي في الصوم باب ما جاء في العمل في أيام العشر (757) وابن ماجه في الصيام باب صيام العشر (1727).
[4]أخرجه أحمد (5/271 ، 6/288-423) وأبو داود في الصوم باب في صوم العشر (2437) والنسائي في الصوم باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر (4/220) والبيهقي في الكبرى (4/285) وقال الساعاتي في "الفتح الرباني": وسنده جيد (10/158) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2129).
وقد عورض هذا الحديث بحديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صائمًا في العشر قط."؛ أخرجه مسلم في الاعتكاف باب صوم عشر ذي الحجة (1176) وأحمد كما في "الفتح الرباني" (10/233).
قال البيهقي بعد أن ساق الحديثين: "والمثبِت أولى من النافي مع ما مضى من حديث ابن عباس." اهـ. السنن الكبرى (4/285) قلت: يعني الحديث الدال على عموم فضل العمل الصالح في العشر، ومنه الصيام.
وتعقبه ابن التركماني فقال: "إنما يقدم على النافي إذا تساويا في الصحة، وحديث هنيدة اختُلف عليه في إسناده؛ فروي عنه كما تقدم، وروي عنه عن حفصة كذا أخرجه النسائي، وروي عنه عن أم سلمة كذا أخرجه أبو داود والنسائي." "الجوهر النقي بهامش السنن الكبرى" (4/285).
قلت: والمحققون من أهل العلم على القول باستحباب صيامها؛ لدخول الصيام في عموم العمل الصالح الذي له أفضلية فيها على غيرها من الأيام كما في حديث ابن عباس وغيره، ولنص حديث هنيدة بن خالد.
وأما حديث عائشة فأجابوا عنه بعدة أجوبة، منها: ما قاله الحافظ ابن رجب - رحمه الله تعالى -: "وقد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث؛ فأجاب مرة بأنه قد روي خلافه. وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة؛ فأسنده الأعمش، ورواه منصور عن إبراهيم مرسلاً. وكذلك أجاب غيره من العلماء بأنه إذا اختلفت عائشة وحفصة في النفي والإثبات أُخذ بقول المثبِت؛ لأن معه علمًا خفي على النافي. وأجاب أحمد مرة أخرى بأن عائشة أرادت أنه لم يصم العشر كاملاً، يعني وحفصة أرادت أنه كان يصوم غالبه..." "لطائف المعارف" (461).
وقال القرطبي: "ولا يفهم منه أن صيامه مكروه؛ بل أعمال الطاعات فيه أفضل منها في غيره بدليل... - وذكر حديث ابن عباس في فضل العمل في العشر - وترك النبي - صلى الله عليه وسلم - صومه إنما كان - والله أعلم - لما قالته عائشة - رضي الله عنها - في صلاة الضحى أنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان يدع العمل، وهو يحب أن يعمل به؛ خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم"؛ كما في مسند أحمد (6/168). ويحتمل أن يكون - صلى الله عليه وسلم - لم يوافق عشرًا خاليًا عن مانع يمنعه من الصيام فيه، والله أعلم." "المفهم" (3/253) وبنحوه أجاب النووي في شرحه على مسلم (8/102) والشوكاني في "نيل الأوطار" (5/247) والساعاتي في "الفتح الرباني" (10/233) وانظر: "عون المعبود" (7/104) و"الشرح الممتع على زاد المستقنع" (6/471-472) ونقل فيه الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله تعالى - أن الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - رجح أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم عشر ذي الحجة.
[5]أخرجه أحمد (2/75) وأبو عوانة في مسنده (3024) وصحَّحه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (5446).
[6]أخرجه البخاري في العيدين في مقدمة باب فضل العمل في أيام التشريق قبل الحديث (969) وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى -: "لم أره موصولاً عنهما، وقد ذكره البيهقي أيضًا معلقًا عنهما وكذا البغوي" انظر: "فتح الباري" (2/531).
[7]انظر: "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (5/210).
[8]انظر: تفسير ابن كثير (1/367) و"محاسن التأويل" للقاسمي (3/504) عند تفسير الآية (203) من سورة البقرة.
[9]أخرجه مسلم في الصيام باب تحريم صوم أيام التشريق (1141).
[10]أخرجه البخاري في الحج باب وجوب العمرة وفضلها (1773) ومسلم في الحج باب فضل الحج والعمرة (1349).
[11]أخرجه البخاري في الحج باب فضل الحج المبرور (1521) ومسلم في الحج باب فضل الحج والعمرة (1349).
[12]أخرجه عبدالرزاق في مصنفه (8808).
[13] "لطائف المعارف" (407) وعزاه ابن رجب للإمام أحمد في مناسكه.
[14]أخرجه أبو نعيم في الحلية (3/87).
[15] "لطائف المعارف" (408) ورجح شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى أفضلية الحج على التصدق بنفقته (26/11).
[16]انظر: "تاريخ بغداد" (10/158) و"سير أعلام النبلاء" (8/385-386).
[17]أخرجه ابن ماجه في المناسك باب الحج على الرحل (2890) والترمذي في شمائل النبوة (191) وابن أبي شيبة في المصنف (4/106) وأبو نعيم في الحلية (6/308) وضعفه الحافظ في الفتح (3/446) والبوصيري في "مصباح الزجاجة" (3/6) وصححه الألباني وذكر له طريقًا أخرى من حديث ابن عباس وبشر بن قدامة، انظر: السلسلة الصحيحة (6217) وصحيح سنن ابن ماجه (2337).
[18] "لطائف المعارف" (419).
[19]المصدر السابق (419-420).
[20]المصدر السابق (420).
[21]المصدر السابق (420).
[22]المصدر السابق (420).
[23]أخرجه مسلم في الأضاحي باب نهي من دخل عليه عشر ذي الحجة، وهو يريد أن يضحي أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئًا (1977) وأبو داود في الضحايا باب الرجل يأخذ من شعره في العشر وهو يريد أن يضحي (2791) والترمذي في الأضاحي باب ترك أخذ الشعر لمن أراد أن يضحي (1523) وابن ماجه في الأضاحي باب من أراد أن يضحي فلا يأخذ في العشر من شعره وأظفاره (3149).