وبالعودة إلى كتاب السيد خليل الدليمي عما يوصف بالمذكرات الشفهية للرئيس الشهيد صدام حسين تحت عنوان " صدام حسين في الزنزانة الأمريكية: هذا ما حدث" فإننا نعود أيضا إلى محاولات البحث في حقائق ما قيل وما ورد في هذا الكتاب من شهادات ألقيت على لسان الرئيس الشهيد، ونقول ألقيت لا تجنيا، بل يقينا محمولا على المنطق والشواهد، ليس أقلها تلميح الدليمي نفسه وفي أكثر من موقع في الكتاب بأنه كان لا يزال تحت تأثير الشك بأن الماثل أمامه في الأسر ليس الرئيس صدام بل لشبيهه.
على أية حال فالرجل الذي كان بهذا الشموخ على عتبة الشهادة وذلك الثبات والأنفة أمام تقافز الغوغاء والصعاليك حوله سيكون هو بلا شك ذاك الزعيم من العرق الممتاز الذي نهض بالعراق إلى الصفوف الأولى في العالم دون أن يبدله بكرامة أي من مواطنيه، عدا أن يكون ضعيف الشخصية كما تحاول تلك الشهادات الموجودة في الكتاب أن توحي به.
صوفي حزين بعمة خضراء!
وأول ما يثير الريبة أو لنقل الحيرة المبدئية هي صورة الغلاف للكتاب -ولا نستبعد فكرة أن المسألة أذواق، لكن دعونا لا نكن حسني الظن باعتبارنا ننقد حالة تاريخية، وسنعود للصورة، التي لن تكون هي الصورة المفضلة وربما لن تكون ضمن خيارات أحد المؤمنين بعدالة مبادئ صدام حسين، او في ما مات عليه ليختارها غلافا لعمله، لاعتبارها صورة الانطباع الأول الذي يراد له أن يترسخ في أذهان الجمهور، خصوصا أن الكتاب لا يدعي الحيادية بين المواقف العروبية والمقاومة العراقية من جهة وبين الاحتلال الأمريكي في الجهة الاخرى، فظهر الرئيس الشهيد مرتخي الجفون ذابل الوجه، ملامح الضعف واضحة على محياه، لتوحي الصورة بأي شيء إلا ملامح التحدي والمواجهة، وهي الملامح التي لا يغفل عنها أي من مصممي صور وملصقات ذات التوجه السياسي في العالم من دول وأحزاب وتنظيمات ومعجبين وحتى لاعبي كرة قدم، وهو ما يفترض في تصميم بوستر الرئيس التي يجب ان تكون كناية عن الموقف الذي مثله طوال مراحل حياته حتى مماته.
الى جانب ذلك تظهر لنا ألوان غلاف الكتاب التي يطغى عليها اللون الأخضر بتدريجاته وهي الألوان التي لا توائم العقيدة التي تتبناها القومية العروبية التي كانت ألوانها على الأغلب تتركز على الأسود والأبيض كألوان رئيسية يليها الأحمر ثم الأخضر بدرجة أقل في حال اتحدت معا ترمز الى ألوان العروبة الأربع، وكأننا بهذا الغلاف ولونه الناعم نكسر حدة الموقف القومي ونناقض علم الألوان وإيحاءاتها التي لا يغفل عنها العاملون في الاعلام والدعاية، إذا أردنا اعتبار الأخضر لونا يعبر القوة او الصمود، ونلمح ربما الى الهدوء والموادعة وكأننا بملامح هذا الوجه ولونه الاخضر ننظر الى أيقونة لولي صوفي لا قائد سياسي وعسكري ممثلا لموقف أمة في حالة حرب، وهي المواقف التي لا تنسجم وحالة الحديث عن العدوان على العراق او عن الشهيد صدام عداك من ان تحمل هذه الألوان بين دفتيها مذكراته وشهادته التي يقال انها الوحيدة عن مرحلة كاملة من تاريخ الامة وبلسان أحد أهم صناعها والمنافحين عن سموها..
من هو عدو العراق الاول
وبعد دخولنا إلى ما بين دفتي الكتاب، وبعد سلسلة طويلة من الأحاديث التي تنم عن حب ظهور وتعظيم للذات وتوثيق لمدائح شخصية على لسان الرئيس للمحامي الدليمي، كان يمكن الاستغناء عنها وارفاقها في ملحق بنهاية الكتاب ان كان الكاتب مصرا على تسجيل حضوره على حساب ما يسميه مذكرات الرئيس الشفهية، نجد أنفسنا بين سلسلة أخرى من الأعاجيب والمتناقضات التي يتوجب علينا اخذها بمحمل الجد وتفنيدها وتحليلها ما دامت تقال على لسان الشهيد.
مما جاء واستوقف علامة تعجب حادة على قمة رأسي، وما أعتقد أنه سيلفت انتباه أي إنسان يعمل عقله، ولا يتركه سائغا أمام الهجمات الدعائية والإعلامية، هي ما أورده السيد الدليمي على لسان الشهيد حين قال بأن" إيران بالنسبة لنا كعرب أخطر علينا من إسرائيل ".
لعل الاقتباس أعلاه هي الصيغة التي تكررت إلى الحد الذي لم يتبق سوى أن يلحق بها الشهيد صدام حسين إسمه! لدعم الدعاية الأمريكية في مناوشاتها الباردة على المصالح في الوطن العربي مع إيران، حتى أصبحت بمثابة الشعار للتيار الأمريكي في الوطن العربي والذي يسعى جاهدا إلى تحويل بوصلة الصراع من الكيان الصهيوني إلى صراع مع إيران.
ولعل من نافلة القول أن الشهيد صدام حسين والعراق التاريخي من أول وأكبر دافعي الأثمان نتيجة الخيانات الفارسية وأطماعهم التوسعية الامبراطورية، و لطالما كان العراق جوهرة تاج أطماعها، فسهلت وقدمت أخيرا كل ما يسهل للعدوان الصهيوامريكي تدمير العراق، منتظرة كالضبع خلف الشجرة لأخذ حصتها من الفريسة.
كل هذا وأكثر لم يكن ليدفع قائدا سياسيا محنكا وقوميا عروبيا صاحب رؤيا بعيدة وجذور بعمق ما لدى صدام حسين في المنطقة ليكون من السذاجة بحيث يطلق تصريحا كهذا، فهذا ما لا يقره عقل ولا يقبله منطق مهما بلغت حالة العداء بين الأمة العربية والنظام الصفوي الفارسي الحالي، لأن الشعوب الإيرانية هي جزء عريق من هذه المنطقة شأنها بذلك شأن الأمة العربية والأمة التركية، لا يمكن بأي حال من الأحوال التفكير بمحوها عن بكرة أبيها أو القضاء عليها، أو حتى إعلان العداء الأبدي والدائم لها على قاعدة خلاف سياسي أو أيديولوجي وعقائدي، مثلما الحال مع الكيان الصهيوني، الذي لا يمكن مساواته أبدا مع إيران، وهو الكيان الطارئ المصطنع و الهادم الأساسي لأي مشروع وحدوي عربي أو نهوض قومي، فيما لم يخبرنا التاريخ سوى عن معركة واحدة مع نظام الفرس المجوسي دخل بعدها الشعب الفارسي في الإسلام قاطبة وكان الحديقة الأمامية التي انطلقت منها الفتوحات العربية حتى طرقت سور الصين العظيم. شرقا ومشارف سيبيريا شمالا.
والأهم من ذلك كله أن صدام حسين لم يجد ضيرا من توقيع العديد من المعاهدات مع إيران بل والتفاهم معها على عقد تحالف عند مستوى محدد حين خزن على أراضيها أسطول الطيران العراقي قبيل حرب الخليج الثانية مع العدوان الثلاثيني، ورغم خيانة الفرس له فإن هذا يدحض دعاية أخرى عن تشدد الرئيس السياسي ويقدم لنا أي عقلية سياسية تبحث عن نقاط التقاطع مع الآخرين، في حين أنه لو رضي بمجرد الهدنة مع الكيان الصهيوني فلربما كان التاريخ قد سجل لنا الآن أحداثا مغايرة تماما عن اللذي نعرفه منذ عشرين عاما ونيف..
موقف الشهيد من المقاومة اللبنانية
هذه المقولة المنسوبة للشهيد الرمز تذكرنا بالهجمة المشبوهة التي طالت المقاومة اللبنانية إبان حرب تموز، وحاول خلالها العديد من "المتأسلمين" و"المتقومجين" مواجهة التعاطف الشعبي العربي الطاغي مع حزب الله بالقول مرارا وتكرارا أنه حزب فارسي شيعي يطبق أجندة صفوية في لبنان وغير ذلك من الأقاويل التي بات من الممل تكراراها، لكن التاريخ يأبى إلا أن يسجل على لسان الرئيس دون لبس دعوته الجماهير العربية إلى الوقوف إلى جانب المقاومة في لبنان، التي اعتبرها إلى جانب المقاومة العراقية أفضل من يلقن العدو الصهوأمريكي درسا في النفس العربية.
هذا الرأي للرئيس صدام إلى جانب انه ينفي جملة وتفصيلا مقولته في كتاب السيد الدليمي، وعدا عن كونها نابعة من موقف عروبي ثوري خالص، إلا أنها كانت في الوقت ذاته تعبر عن بعد رؤيا سياسية وقيادية قلما يملكها احد في هذا الزمن وفي وضع مثل وضع الرئيس إبان سجنه، فهو يعلم ثقل الحمل الذي يرفعه حزب الله في لبنان المقاوم حين يكون جدارا آخر يناطحه العدو ومن يسير في فلكه ما يخفف بالضرورة عن المقاومة الفلسطينية والعراقية، وكأني به يعيد تكريس مقولة ارنستو تشي غيفارا حين دعا ثوار العالم خلال العدوان الأمريكي على الشعب الفيتنامي والصمود الرائع الذي كانت تسطره المقاومة الشعبية هناك، إلى صنع عشرات الفيتنامات الى جانب تلك التي في جنوب آسيا لأن رصاصه تلهي بها العدو في شرق الكرة الأرضية تمنعها بالضرورة من الانطلاق باتجاه مقاوم آخر في غرب الأرض، وهذا كناية وتعبير عن العقيدة الثورية الحقيقية في الدفاع عن الثورة، والتي لا يمكن أبدا أن تكون منغلقة على ذاتها أو محصورة في إقليم وضيقة الافق محدودة التفكير في علب انهزامية من شاكلة الحلول المرحلية التي كانت مقتل كل ثورة، لأن مقتل الثورة هو التزامها بالحدود، ودفاعها الوحيد باستمرارها بالهجوم –ذات الشعار الذي رفعه الشهيد خليل الوزير أبو جهاد قبل عقود للوصول بالثورة الفلسطينية إلى أهدافها قبل أن تتم خيانتها باتفاقية أوسلو- هذا إلى جانب وعيه بالدور العظيم الذي قدمته وتقدمه سوريا في تخفيف الحمل عن المقاومة العراقية ولو بأضعف الإيمان وهو عدم تسهيل دور قوات الاحتلال على الحدود الغربية، وهذا تعبير عن قيادة عسكرية ثورية سياسية لا يقبل العقلاء مرور مثل تلك السخافات على لسانها..