السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كثيرا ما تحدّث الخطباء ودبجوا المقالات الطوال حول عقوق أبناء هذه الأمّة لها
أمّا أنا اليوم , فسأتكلّم عن عقوق "الأمّة" لأحد أبنائها العظام , والذي نذر حياته لإحيائها
فما كان منها إلاّ أن أودعته خزائن النسيان, ولأطروحاته مصير الإهمال
سأتكلّم لا كما تكلّم أحد من قبل , عن نسبه ونشأته وحياته و تنقلاته ومراكزه الوظيفية والبلاد التي زارها
ولكنني سأتكلم عن الفكرة الي لطالما كان مالك وفيّا لها , ولطالما وضعها أمام أيّ شيء آخر
==================
الشاب الجزائري الهزيل الذي لفظته بلاده على سواحل أوربّا
فلم يفقده ذلك إنتمائه وحبّه لها , ولم تعمه أنوار عاصمة النور باريس عن رؤية مساؤى الحضارة الأوربية
فلم يقع في شرك جاذبيتها , كما حصل مع من سبقه من رجالات الشرق حتّى المعمّمين منهم
ولكنّه في القلب النابض للنهضة الأوربية ,كان يعدّ إنقلابا عليها بنهضة إسلامية أصيلة تزري بها.
نهضة لم تحدث .......... حتّى الآن
احد من القلائل الذين حققوا المعادلة الصعبة ,أصالة التي لا لبس فيها , مع فكر متجدد وفعّال
-يؤلف كتابا حول القرآن , باللغة الفرنسية
-ويحلم بالدراسة في معهد الدراسات الشرقية في باريس , في حين نجد قدوته الأمير عبد القادر وابن باديس
-ينتقد التخلف الحضاري في البلاد العربية , ويرفض أستيراد الحضارة , وينادي بصنعها محلّيا
-ينتقد المظاهر الدخيلة على الإسلام كالشركيات والبدع المنتشرة في المغرب العربي وما يسميه (مخلفات ما بعد الموحدين)
وفي نفس الوقت نجده يستخدم رسوما بيانية ليصف ترابط عوامل الحركة الحضارية (مثلث الإنسان -الزمن -التراب"بمعنى
المادّة")
مفكّر الإنسان
كان رحمه الله دائم التركيز على قيمة الإنسان كمحور لعملية النهضة والإصلاح , وكهدف أساسي للتنمية.
فيلسوف الحضارة
تصدّى مالك لمفاهيم جديدة علينا كمسلمين كمفهوميّ (الحضارة) و(الثقافة) وغيرها
فعرّف هذه الكلمات وقدمها لنا كمصطلحات مضبوطة وواضحة الدلالة.
ابن خلدون العصر الحديث
يشابه مالك أستاذه ابن خلدون في تحليله لعوامل نهوض الأمم وإنحطاطها , ويتمثّل هذا التشابه ذروته عن تناول موضوع
مثل (الدورة الحضارية)
"إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية؛ فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس؛ فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في
أفق هذا الشعب، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر"
شاهد القرن
عاصر مالك مختلف المراحل التي مرّت بها الدول العربية في القرن الأخير , إبتداءا بمرحلة النضال ضدّ المستعمر ومرورا
بالتحرر منه , وأخيرا مرحلة الدول المستقلّة والتي فشلت في الإستفادة من إستقلالها .
فحقّ له بذلك أن يكون , خير شاهد على أسوء عصر.
وهذه بعض الأمثلة , من أفكار مالك بن نبي:
- مفهوم القابلية للإستعمار:
جملة خواص اجتماعية تسهل سيطرة الغزاة على الأمة، وتؤدي إلى استمرار الوضع المنحل للحضارة، فهناك مجتمعات
تعرضت للاحتلال العسكري لكنها مجتمعات غير قابلة للاستعمار مثل احتلال ألمانيا عقب الحرب العالمية الثانية، وفي المقابل
توجد مجتمعات لم تتعرض للاستعمار لكنها قابلة للاستعمار
- تكديس منتجات الحضارة :
"طبيعي أن التكديس لا يؤدي إلى إنشاء حضارة؛ لأن "البناء وحده هو الذي يأتي بالحضارة لا التكديس، ولنا في أمم معاصرة
أسوة حسنة.إن علينا أن ندرك أن تكديس منتجات الحضارة الغربية لا تأتي بالحضارة.. فالحضارة هي التي تكون منتجاتها،
وليست المنتجات هي التي تكون حضارة.. فالغلط منطقي، ثم هو تاريخي؛ لأننا لو حاولنا هذه المحاولة فإننا سنبقى ألف سنة
ونحن نكدس ثم لا نخرج بشيء".)
- الجاهلية:
"لقد أطلق القرآن الكريم تسمية الجاهلية-الجهل- على الوثنية التي سيطرت على الجزيرة العربية قبل الإسلام, ومع ذلك لم تكن
تلك الجاهلية فقيرة في صناعة الأدب , فقد حفلت هذه الفترة بألمع الأسماء , لكنّها ظلّت تسمى (الجاهلية) أي عصر الجهالة ,
لأن علاقاتها المقدّسة لم تكن مع أفكار , وإنما كانت مع أوثان الكعبة , فالكلام العربي آنذاك لم يكن يتضمن سوى كلمات برّاقة
وخالية من كلّ بذور خلاّقة.
وإذا كانت الوثنية جهالة فالجهالة بالمقابل وثنية , وليس من قبيل الصدفة أن الشعوب البدائية تؤمن بالأوثان والتمائم."
-أصالة الأفكار وفعّاليتها:
" فكرة أصيلة لا يعني ذلك بالضرورة فعّاليتها الدائمة , وفكرة فعّالة ليست بالضرورة صحيحة.
إنّ الأصالة ذاتيّة وعينيّة وهي مستقلّة عن التاريخ , والفكرة إذ تخرج إلى النور فهي إمّا صحيحة أو باطلة
وحينما تكون صحيحة فإنها تحتفظ بأصالتها حتّى آخر الزمان ,لكنها في المقابل يمكن أن تفقد فعّاليتها في الطريق حتّى لو كانت
صحيحة."
- السير متخلفا عن التاريخ بمرحلة:
" العالم الإسلامي اليوم تتقاذفه أفكار متناقضة, الأفكار التي تضعه وجها لوجه مع مشكلات الحضارة التقنيّة دون أن تؤصله
نماذجه السلفية , رغم جهود مصلحيه المشكورة.
وبدافع الإفتتان أبو بسبب منزلقات وضعت تحت قدميه فهو معرّض لخطر الإنجراف في الأيدلوجيات الجديثة , في الوقت الذي
بدأ يكتمل إفلاسها في الغرب حيث ولدت.
وإذا كان يحاول أن يقتفي أثر أوروبا في سائر الميادين (كما يبدو من أجوائه أو ربّما رغبة غير معلنة من نخبه)
فإنه معرّض لخطر السير متخلّفا عن التاريخ بمرحلة ."
-حول تأثير المجتمع والبيئة في ثقافة الفرد:
" وفي المجتمع الذي يدور فيه عالم الأفكار حول محور الأشياء تأخذ الميول الفردية الوجهة ذاتها
ولقد حدث أن سألت طفلا في أحد البلاد العربية عمّا كانوا(يعطونه) في المدرسة؟ ولم يكن أستعمالي فعل (أعطى) متعمّدا
ولكن جوابه كان ذا دلالة ظاهرة , فقد أجابني : إنهم يعطوننا بسكويت!
ومن الواضح أنّ معنى (أعطى) عنده يتمركز بادئ الأمر في عالم الأشياء , حتّ حينما يستعمل الفعل في الإطار المدرسي.
وهكذا فالفرد يدفع ضريبة عن إندماجه الإجتماعي , وكلّما كان المجتمع مختلاّ في نموه , إرتفعت الضريبة.
- المعارك الوهمية:
إن رجلا جزائريا طلب أن يتكلم وظل يصيح أريد أن أتكلم، وكلما اعتلى شخص آخر المنبر
ظل يصيح صاحبنا: أريد أن أتكلم، وأخيرا سمحوا له أن يعتلي المنبر فصعد وفي يده مكنسة وهتف قائلا: أريد أن "أكنس"
الاستعمار من الجزائر كما أكنس التراب بهذه المكنسة، ثم هبط من المنبر ووجهه مطمئن باسم كله رضا، لقد قام بدوره في
مقاومة الاستعمار بهذا المشهد، وحول الشحنة الإيمانية إلى شحنة كلامية ضاعت في الهواء، ولم يبقَ شيء نقدمه للأوطان في المعارك الحقيقية.
- فكرة التحريم :
يضرب مالك مثالا على فكرة التحريم (الخمر) , ويقارن بين قانون تحريم الخمر الذي أقرّ في أمريكا سنة 1933م
والذي أدّى إلى فشل ذريع بل ظهور عصابات الجريمة المنظمة وأنتشار الفساد الإداري , وبين مقاومة مجتمع مسلم (الجزائر)
لهذه الآفة على الرغم من توفرها بكثرة مقصودة , ويعلّق:
"وهكذا نرى فكرة (التحريم) تفشل فشلا ذريعا في دورها في مجتمع كالمجتمع الأمريكي, الذي إبتدع أكثر الأساليب فعالية لنشر
أفكاره وآلاته
مؤيدا بوجه عام قراراته في الإطار التشريعي بالإحصائيات الأكثر دقّة, والتي يخضعها لأدقّمراقبة علمية عند التطبيق.
بينما إحتفظت هذه الفكرة بقدرتها على التكييف نسبيا في مجتمع إسلامي ,لم تعد تتوفر لديه اليوم لمواجهة إنحرافات طاقته
الحيوية سوى إرادة أفراده , لتكوين الإلتزام الجماعي المطلوب."
مؤلفات مالك بن نبي
1- بين التيه والرشاد 2-تأملات
3-دور المسلم ورسالته 4-شروط النهضة
5-الصراع الفكري في البلاد المستعمرة
6-الظاهرة القرآنية 7-الفكرة الآفريقية الآسيوية
8-فكرة كمنولث إسلامي 9-في مهب المعركة
10- القضايا الكبرى 11-مذكرات شاهد قرن
12-المسلم في عالم الإقتصاد
13-مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي
14-مشكلة الثقافة 15-من أجل التغيير
16-ميلاد مجتمع 17-وجهة العالم الإسلامي
ولمن قرأ كلّ ما سبق ولا يزال مصرّا على أنه لم يعرف مالك بما فيه الكفاية , أقدّم له هذه النبذة عن سيرة حياته
منقولة عن موقع IslamOnLine.net
ولد مالك بن عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي في مدينة تبسة التابعة لولاية قسنطينة بالجزائر في (ذي القعدة 1322هـ
= يناير 1905م) في أسرة محافظة متدينة فقيرة، إذ كان والده يعيش في تبسة دون مورد يعيش منه ودون عمل، لذلك انتقل
مالك ليعيش مع عمه في قسنطينة، ولم يعد لوالديه إلا بعد وفاة عمه.
وقد تأثر الطفل مالك بحكايات جدته لأمه عن العمل الصالح وثوابه، وشكلت هذه الأقاصيص تكوينا مبكرا لوعيه ووجدانه
الديني، كما أثرت في نفسه حكايات جدته والعجائز عن بدايات الاستعمار الفرنسي للجزائر، والفظائع التي ارتكبها الفرنسيون في
هذا البلد المسلم.
رأى مالك وسمع عن هجرة كثير من العائلات إلى طرابلس الغرب حتى لا يخالطوا الفرنسيين فرسخ ذلك في نفسه ضرورة
مقاومة المستعمر، حتى لو كانت هذه المقاومة سلبية باعتزال نمط حياته، كما رأى ما أحدثه الاستعمار من تغيير لنمط حياة
الجزائريين وقيمهم، حيث أشاع ذلك التغيير عددا من الرذائل الخلقية والاجتماعية.
وتأثر مالك بأمه التي كانت تعمل بالخياطة وتجهد نفسها لتسد حاجة البيت، ولاحظ أنها كانت تمسك بكيس النقود الذي كان
فارغا دائما، ورغم ذلك فإنها كانت حريصة على تعليم ابنها حتى إنها اضطرت أن تدفع إلى معلم ابنها سريرها الذي تنام عليه
بدلا من المال.
قضى مالك في تبسة معظم طفولته، وكانت مدينة أقرب إلى البداوة وذات حضور فرنسي ضعيف، والتحق بمدرسة فرنسية مع
استمراره في تلقي الدروس في المساجد، وتأثر بصديق له كان يمتلك قدرة كبيرة في الاستشهاد بآيات القرآن ويضفي على
تفسيرها بعدا اجتماعيا، كما شهد في تبسة لجوء الجزائريين إلى الاعتصام بالإسلام وتعلم العربية حتى لا تذوب هويتهم في
هوية المستعمر.
وبعد حصوله على الشهادة الابتدائية، انتقل إلى قسنطينة ليكمل تعليمه
طالع مالك في تلك الفترة كتابين كان لهما أبلغ الأثر في حياته، هما "الإفلاس المعنوي هل هو للسياسة الغربية في الشرق؟" لـ"
أحمد محرم" الشاعر الإسلامي المعروف، و"رسالة التوحيد" للإمام محمد عبده وساعده هذان الكتابان على رؤية أوضاع العالم
الإسلامي في تلك الفترة، كما قرأ كتاب "أم القرى" للكواكبي، وقرأ لعدد من الكتاب الفرنسيين، وكان يتردد على إحدى البعثات
التبشيرية الإنجيلية، فتعرف على الإنجيل، وناقش هؤلاء المبشرين في أدق الأفكار، وتعرف –أيضا- على تلاميذ المصلح الكبير
"عبد الحميد بن باديس".
وقد تلازمت هذه الثنائية الثقافية بين الحضارتين الإسلامية والغربية في التكوين الفكري لمالك، وكانت لها انعكاساتها الواضحة
في كتاباته بعد ذلك حيث تميزت بالمزاوجة بين المصدرين، بين الانتماء لحضارة الإسلام والرغبة في التطور.
معايشة حضارة المستعمر
سافر إلى باريس وهو في العشرين، ثم عاد إلى الجزائر بعدما عانى البطالة هناك، ثم قرر أن يواصل دراسته في فرنسا؛
فوصل باريس في (جمادى الأولى 1349هـ = سبتمبر 1930م) وكان لتلك الفترة أثرها البالغ على فكره وشخصيته؛ فقد
عاش خلالها أطوارا مختلفة من التجارب كان قاسمها المشترك التحصيل العلمي المتعدد الحقول، مع بعض الإسهامات في
أنشطة علمية وثقافية، وكان التخصص الذي يطمح إليه هو دراسة الحقوق، إلا أن طلبه رفض في الالتحاق بمعهد الدراسات
الشرقية، فاتجه إلى الدراسة العلمية التي تعلم منها الضبط والمنهج التجريبي الاستقرائي في التفكير.
خاض مالك في باريس ناقشات كثيرة في العقائد مع المسيحيين، وتزوج في عام (1350هـ = 1931م) من امرأة فرنسية
أسلمت على يديه،واستطاع أن يوسع شبكة علاقاته الفكرية والثقافية في
باريس، فالتقى هناك بشكيب أرسلان وغاندي، وكان له حضور متميز في أوساط المغاربة والجزائريين حتى لقب بزعيم الوحدة
المغربية، كما استطاع أن يقيم جسورا من التواصل والتعارف مع أبناء المستعمرات الأخرى.
تخرج مالك سنة (1354هـ = 1935م) مهندسا كهربائيا، وعاد إلى الجزائر التي اتجهت من زراعة القمح إلى زراعة العنب
لكي تصنع منها الخمور للفرنسيين!! وتعجب من بلاده كيف تروي ظمأ سكارى فرنسا وتبخل على أبنائها برغيف الخبز!! لذلك
قرر العودة إلى فرنسا سنة (1358هـ = 1939م).
تفرغ ابن نبي في باريس للعمل الفكري، فعمل صحفيا بجريدة اللوموند، وأصدر أول كتبه وهو "الظاهرة القرآنية"، ثم توالت
كتبه في باريس، فأصدر كتاب "شروط النهضة" سنة (1369هـ = 1949م)، وكتاب "وجهة العالم الإسلامي" الذي عرض فيه
مفهوم "القابلية للاستعمار"، كذلك كتاب "لبيك" و"فكرة الأفريقية الآسيوية".
القاهرة.. والبحث عن التغيير
كان الذهاب إلى القاهرة أملا يراود ابن نبي ، فقد كانت مصر في تلك الفترة تحتضن قضايا التحرر والعروبة، ورأى فيها أنها
إحدى مواقع التغيير الهامة في العالم الإسلامي، وامتدت حياته في القاهرة من (1376هـ = 1956م) حتى (1383هـ =
1963م) نما فيها عطاؤه الفكري في أكثر من اتجاه، واستطاع إتقان اللغة العربية، وحاضر في عدد من الجامعات والمعاهد،
وأصبح منزله أشبه بمنتدى فكري يرتاده كثير من المثقفين، وأصدر أول كتاب باللغة العربية بخط يده وهو "الصراع الفكري في
البلاد المستعمرة"، ثم كتاب "تأملات في المجتمع العربي" وكتاب "ميلاد مجتمع" و"حديث البناء الجديد" وتم اختياره مستشارا
للمؤتمر الإسلامي بالقاهرة.
عاد مالك إلى الجزائر سنة (1383هـ = 1963م) بعد استقلالها وتنقل في عدد من المناصب، جميعها في حقل التعليم،
وتركزت كتاباته في تلك الفترة على عمليات التغيير وإعادة البناء الاجتماعي في الدول الإسلامية، وأصدر عدة كتب، منها: "
مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" و"المسلم في عالم الاقتصاد" و"يوميات شاهد قرن".
ومن أنشطته الهامة ندوته الأسبوعية التي كان يعقدها في بيته، وكان يقصدها الشباب المثقف، ومع استمرار هذه الندوات
ونجاحها، وتكريما لشخصية مالك حولتها الجزائر إلى ملتقى للفكر الإسلامي يقام كل عام.