فوائد ونبذ مختارة من كتاب
(الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات)
للشيخ
طارق عوض الله
17
قيل للإمام شعبة بن الحجاج: من الذي يتركُ الرواية عنه؟
قال: إذا تمادى في غلط مجمع عليه، ولم يتهم نفسه عند اجتماعهم على خلافه، أو رجل يتهم بالكذب.
(ص 35)
فإن آفة الآفات في هذا الباب ومنشأ الخلل الحاصل فيه من قبل بعض الباحثين هو ممارسة الجانب العملي فيه استقلالا من دون الرجوع إلى أئمة العلم لمعرفة كيفية ممارساتهم العملية.
فكما أن القواعد النظرية لهذا العلم تؤخذ من أهله المتخصصين فيه فكذلك ينبغي أن يؤخذ الجانب العملي منهم، لا أن تؤخذ منهم فقط القواعد النظرية، ثم يتم إعمالها عمليا من غير معرفة بطرائقهم في إعمالها وتطبيقها وتنزيلها على الأحاديث والروايات.
فإن أهل مكة أعلم بشعابها، وأهل الدار أدرى بما فيه، وإن أفضل من يطبق القاعدة هو من وضعها وحررها، ونظم شرائطها وحدد حدودها.
.........
ابن رجب في شرح علل الترمذي (2/664):
(( ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكرة به فليكثر طالبُه المطالعة في كلام الأئمة العارفين، كيحيى القطان ومن تلقى عنه كأحمد وابن المديني وغيرهما، فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه وفقهت نفسه فيه وصارت له فيه قوة نفس وملكة صلح له أن يتكلم فيه )).
(ص 37)
وإن علامة صحة الاجتهاد وعلامة أهلية المجتهد هو أن تكون أغلب اجتهاداته وأحكامه وأقواله موافقة لاجتهادات وأحكام وأقوال أهل العلم المتخصصين والذين إليهم المرجع في هذا الباب.
وإن علامة صحة القاعدة التي يعتمد عليها الباحث في بحثه هو أن تكون أكثر النتائج والأحكام المتمخضة عنها على وفق أقوال أهل العلم وأحكامهم.
فكما أن الراوي لا يكون ثقة محتجا به وبحديثه إلا إذا كانت أكثر أحاديثه موافقة لأحاديث الثقات المفروغ من ثقتهم، والمسلم بحفظهم وإتقانهم فكذلك الباحث لا يكون حكمه على الأحاديث ذا قيمة إلا إذا جاءت أكثر أحكامه على الأحاديث موافقة لأحكام أهل العلم عليها.
وبقدر مخالفته لأهل العلم في أحكامه على الأحاديث بقدر ما يعلم قدر الخلل في القاعدة التي اعتمد عليها، أو في تطبيقه هو للقاعدة وتنزيلها على الأحاديث.
فمن وجد من نفسه مخالفة كثيرة لأهل العلم في الحكم على الأحاديث فليعلم أن هذا إنما أتي من أمرين قد يجتمعان وقد ينفردان:
أحدهما: عدم ضبط القاعدة التي بنى عليها حكمه على وفق ضبط أهل العلم لها.
ثانيهما: ضبط القاعدة نظريا فقط، وعدم التفقه في كيفية تطبيقها كما كان أهل العلم من الفقه والفهم والخبرة بالقدر الذي يؤهلهم لمعرفة متى وأين تنزل القاعدة أو لا تنزل.
(ص 42-43)
والحق وسط بين الجفاء والغلو يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين.
فهو إثبات للاعتبار وإعمال للشواهد والمتابعات وانتفاع بها في تقوية الأحاديث من غير اغترار بأخطاء الرواة في الأسانيد والمتون، ولا التفات للمناكير والشواذ.
وهو إعمال لما أعمله أئمة الحديث ونقاده من الروايات احتجاجا أو استشهادا، وإهمال لما أهملوه وإبطال لما أبطلوه.
فما قبلوه يقبل وما أبطلوه يبطل، وما اعتبروه يعتبر وما أنكروه ينكر.
(ص 45)
لا سيما إذا انضاف إلى ذلك بعضُ القرائن التي تؤكد عدم حفظ الراوي لما تفرد به كأن يكون المتفرد مقلا من الحديث، لا يعرف بكثرة الطلب، ولا بالرحلة أو يكون إنما تفرد بالحديث عن بعض الحفاظ المكثرين المعروفين بكثرة الحديث والأصحاب، فإن من عرف بسوء الحفظ إذا تفرد وانضاف إلى تفرده مثلُ هذه القرائن لا يتردد فاهم في نكارة ما تفرد به.
(ص 54)
ومعرفة نكارة الإسناد مما يختص به المحدثون الحفاظ الناقدون، فلا يعرج على قول غيرهم فيه، بخلاف نكارة المتن، فقد يتكلم فيه المحدثون وغيرهم من الفقهاء، أما هذا الباب فهو من أخص علوم الحديث وأدق مباحث الأسانيد.
فإن أئمة الحديث ونقاده حيث يحكمون على الإسناد بالصحة والاستقامة وعدم النكارة والسقامة لا يكتفون بالظاهر من اتصاله وثقة رواته، بل لهم نظر ثاقب وفهم راجح ورأي صادق مبني على اعتبار معانٍ في الإسناد حيث وجدت فيه أو وجد بعضُها دعاهم ذلك إلى إنكاره والحكم عليه بعدم الاستقامة وإن كان متصلا برجال ثقات.
وحيث افتقدت أو وجد فيه من المعاني ما يدل على عكس ما تدل عليه المعاني السابقة من حفظ الحديث وصحته دعاهم ذلك إلى تصحيحه والحكم عليه بالاستقامة وحفظ الراوي له.
وهذه المعاني هي التي يعبر عنها بعضُ أهل العلم كالحافظ ابن حجر والعلائي وابن رجب وغيرهم بالقرائن.
ويقولون: للحفاظ طريق معروفة في الرجوع إلى القرائن في مثل هذا ، وإنما يعول في ذلك على النقاد المطلعين منهم.
ويقولون: والقرائن كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الروايات، بل كل رواية يقوم بها ترجيح خاص، لا يخفى على العالم المتخصص الممارس الفطن، الذي أكثر من النظر في العلل والرجال.
55
وفي معرض ذلك يقول الحافظ ابن حجر (النكت 2/726):
وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه .
.........
ويقول الحافظ السخاوي (فتح المغيث 1/274):
وهو أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم رده وهيئة نفسانية لا معدِل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر لا ينكر عليهم بل يشاركهم ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة.
هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والترجيح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعنى.
فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين.
فتقليدهم والمشي وراءهم وإمعان النظر في تواليفهم وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم وجودة التصور ومداومة الاشتغال وملازمة التقوى والتواضح يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله.
(59)
فالرجل الضعيف يحفظ المتن غالبا، وقد يكون فقيها فاضلا يحفظ المتن، إلا أنه ليس بالحافظ للأسانيد، فإذا به يجيء بالمتن المعروف على وجهه، بيد أنه يخطئ في إسناده، أو يجيء له بإسناد آخر غير إسناده الذي يعرف به.
(67)
قال الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/5-6)
(( ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يحلق سيء الظن بنا ويرى أنا عمدنا إلى الطعن على من تقدمنا وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك وبهم ذكرنا وبشعاع ضيائهم تبصرنا وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا وما مثلهم ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء قال: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.
ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاما، ونصب لكل قوم إماما، لزم المهتدين بمبين أنوارهم والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم ممن رزق البحث والفهم وإنعام النظر في العلم بيانُ ما أهملوا وتسديد ما أغفلوا.
إذ لم يكونوا معصومين من الزلل ولا آمنين من مقارفة الخطأ والخطل وذلك حق العالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم )).
.........
قال عبد الله بن المبارك (الجامع للخطيب 2/296):
إذا أردت أن يصح لك الحديث، فاضرب بعضه ببعض.
.........
وقال علي بن المديني (مقدمة ابن الصلاح ص 117):
الباب إذا لم تجتمع طرقه لم يتبين خطؤه
.........
وقال الخطيب البغدادي (الجامع 2/295)
والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط
.........
وقال الحاكم أبو عبد الله (معرفة علوم الحديث 59-60)
إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عونٌ أكثر من مذاكرة أهل العلم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث.
(71)
وبهذا ندرك القصور البالغ في الفهارس المتداولة للأحاديث النبوية والتي كثرت جدا في الآونة الأخيرة، حيث إن أكثر صانعي هذه الفهارس لا يعتنون إلا بفهرسة المرفوعات فحسب، وهي المنسوبة إلى رسول الله صراحة وبهذا يفوتون على الباحث الموقوف على المرفوعات التي ربما يعل بها المرفوع.
وبعض هذه الموقوفات مما هو في حكم الرفع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي، فلا تسعف تلك الفهارس أو أكثرها في الوقوف على مثل هذا، أو ما كان بسبيله.
فلا ينبغي لطالب العلم أن يعتمد على هذه الفهارس اعتمادا كليا، بل عليه أن يفتش بنفسه عن الحديث في مظانه من كتب العلم، حتى يتسنى له معرفة طرقه وأسانيده وأقوال أهل العلم عليه.
.........
الخطيب البغدادي في الكفاية (224):
(( أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبا، والثابت مصدوفا عنه مطرحا، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين )).
.........
وقول أحمد: تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب، ما أقل الفقه فيهم
.........
الثوري: أكثروا من الأحاديث؛ فإنها سلاح
(87)
عادة الإمام أحمد أنه يذكر الرواية المسندة ويتبعها بالرواية المرسلة ليبين علتها
(91)
أبو زرعة: ابن أبي زائدة قلما يخطئ، فإذا أخطأ أتى بالعظائم
(92)
فمن يظن أن أي إسناد سالم من كذاب أو متهم أو متروك يصلح للاستشهاد فهو من أجهل الناس بالعلم الموروث عن الأئمة والنقاد
(93-94)
سئل ابن معين عن حديث لنعيم بن حماد فقال: ليس له أصل، فقيل له نعيم بن حماد؟ قال: نعيم ثقة، فقيل: كيف يحدث ثقة بباطل؟ قال: شبه له
(96)
وقوله (لم أدخله في التصنيف) يدل على أن الحديث عنده لا يصلح للاستشهاد؛ لأن الحديث إنما يدخل في التصنيف إما للاحتجاج أو للاستشهاد، وما لا يصلح لذلك لا يدخل في التصنيف.
(97)
وسأله [يعني الدارقطني] الحاكم أبو عبد الله عن الربيع بن يحيى صاحب هذا الحديث، فقال: ليس بالقوي يروي عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر في الجمع بين الصلاتين، هذا يسقط مائة ألف حديث
(98)
وعلى الرغم من أن أصل الحديث صحيح ثابت إلا أن الإمام لم يمنعه ذلك من إنكار هذا الإسناد الآخر والحكم عليه بالضعف الشديد، فكيف إذا لم يكن المتن له أصل صحيح بل كل طرقه تدور على الرواة الضعفاء؟!
(الإرشادات في تقوية الأحاديث بالشواهد والمتابعات)
للشيخ
طارق عوض الله
17
قيل للإمام شعبة بن الحجاج: من الذي يتركُ الرواية عنه؟
قال: إذا تمادى في غلط مجمع عليه، ولم يتهم نفسه عند اجتماعهم على خلافه، أو رجل يتهم بالكذب.
(ص 35)
فإن آفة الآفات في هذا الباب ومنشأ الخلل الحاصل فيه من قبل بعض الباحثين هو ممارسة الجانب العملي فيه استقلالا من دون الرجوع إلى أئمة العلم لمعرفة كيفية ممارساتهم العملية.
فكما أن القواعد النظرية لهذا العلم تؤخذ من أهله المتخصصين فيه فكذلك ينبغي أن يؤخذ الجانب العملي منهم، لا أن تؤخذ منهم فقط القواعد النظرية، ثم يتم إعمالها عمليا من غير معرفة بطرائقهم في إعمالها وتطبيقها وتنزيلها على الأحاديث والروايات.
فإن أهل مكة أعلم بشعابها، وأهل الدار أدرى بما فيه، وإن أفضل من يطبق القاعدة هو من وضعها وحررها، ونظم شرائطها وحدد حدودها.
.........
ابن رجب في شرح علل الترمذي (2/664):
(( ولا بد في هذا العلم من طول الممارسة، وكثرة المذاكرة، فإذا عدم المذاكرة به فليكثر طالبُه المطالعة في كلام الأئمة العارفين، كيحيى القطان ومن تلقى عنه كأحمد وابن المديني وغيرهما، فمن رزق مطالعة ذلك وفهمه وفقهت نفسه فيه وصارت له فيه قوة نفس وملكة صلح له أن يتكلم فيه )).
(ص 37)
وإن علامة صحة الاجتهاد وعلامة أهلية المجتهد هو أن تكون أغلب اجتهاداته وأحكامه وأقواله موافقة لاجتهادات وأحكام وأقوال أهل العلم المتخصصين والذين إليهم المرجع في هذا الباب.
وإن علامة صحة القاعدة التي يعتمد عليها الباحث في بحثه هو أن تكون أكثر النتائج والأحكام المتمخضة عنها على وفق أقوال أهل العلم وأحكامهم.
فكما أن الراوي لا يكون ثقة محتجا به وبحديثه إلا إذا كانت أكثر أحاديثه موافقة لأحاديث الثقات المفروغ من ثقتهم، والمسلم بحفظهم وإتقانهم فكذلك الباحث لا يكون حكمه على الأحاديث ذا قيمة إلا إذا جاءت أكثر أحكامه على الأحاديث موافقة لأحكام أهل العلم عليها.
وبقدر مخالفته لأهل العلم في أحكامه على الأحاديث بقدر ما يعلم قدر الخلل في القاعدة التي اعتمد عليها، أو في تطبيقه هو للقاعدة وتنزيلها على الأحاديث.
فمن وجد من نفسه مخالفة كثيرة لأهل العلم في الحكم على الأحاديث فليعلم أن هذا إنما أتي من أمرين قد يجتمعان وقد ينفردان:
أحدهما: عدم ضبط القاعدة التي بنى عليها حكمه على وفق ضبط أهل العلم لها.
ثانيهما: ضبط القاعدة نظريا فقط، وعدم التفقه في كيفية تطبيقها كما كان أهل العلم من الفقه والفهم والخبرة بالقدر الذي يؤهلهم لمعرفة متى وأين تنزل القاعدة أو لا تنزل.
(ص 42-43)
والحق وسط بين الجفاء والغلو يخرج من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين.
فهو إثبات للاعتبار وإعمال للشواهد والمتابعات وانتفاع بها في تقوية الأحاديث من غير اغترار بأخطاء الرواة في الأسانيد والمتون، ولا التفات للمناكير والشواذ.
وهو إعمال لما أعمله أئمة الحديث ونقاده من الروايات احتجاجا أو استشهادا، وإهمال لما أهملوه وإبطال لما أبطلوه.
فما قبلوه يقبل وما أبطلوه يبطل، وما اعتبروه يعتبر وما أنكروه ينكر.
(ص 45)
لا سيما إذا انضاف إلى ذلك بعضُ القرائن التي تؤكد عدم حفظ الراوي لما تفرد به كأن يكون المتفرد مقلا من الحديث، لا يعرف بكثرة الطلب، ولا بالرحلة أو يكون إنما تفرد بالحديث عن بعض الحفاظ المكثرين المعروفين بكثرة الحديث والأصحاب، فإن من عرف بسوء الحفظ إذا تفرد وانضاف إلى تفرده مثلُ هذه القرائن لا يتردد فاهم في نكارة ما تفرد به.
(ص 54)
ومعرفة نكارة الإسناد مما يختص به المحدثون الحفاظ الناقدون، فلا يعرج على قول غيرهم فيه، بخلاف نكارة المتن، فقد يتكلم فيه المحدثون وغيرهم من الفقهاء، أما هذا الباب فهو من أخص علوم الحديث وأدق مباحث الأسانيد.
فإن أئمة الحديث ونقاده حيث يحكمون على الإسناد بالصحة والاستقامة وعدم النكارة والسقامة لا يكتفون بالظاهر من اتصاله وثقة رواته، بل لهم نظر ثاقب وفهم راجح ورأي صادق مبني على اعتبار معانٍ في الإسناد حيث وجدت فيه أو وجد بعضُها دعاهم ذلك إلى إنكاره والحكم عليه بعدم الاستقامة وإن كان متصلا برجال ثقات.
وحيث افتقدت أو وجد فيه من المعاني ما يدل على عكس ما تدل عليه المعاني السابقة من حفظ الحديث وصحته دعاهم ذلك إلى تصحيحه والحكم عليه بالاستقامة وحفظ الراوي له.
وهذه المعاني هي التي يعبر عنها بعضُ أهل العلم كالحافظ ابن حجر والعلائي وابن رجب وغيرهم بالقرائن.
ويقولون: للحفاظ طريق معروفة في الرجوع إلى القرائن في مثل هذا ، وإنما يعول في ذلك على النقاد المطلعين منهم.
ويقولون: والقرائن كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الروايات، بل كل رواية يقوم بها ترجيح خاص، لا يخفى على العالم المتخصص الممارس الفطن، الذي أكثر من النظر في العلل والرجال.
55
وفي معرض ذلك يقول الحافظ ابن حجر (النكت 2/726):
وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأئمة المتقدمين، وشدة فحصهم، وقوة بحثهم، وصحة نظرهم، وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه .
.........
ويقول الحافظ السخاوي (فتح المغيث 1/274):
وهو أمر يهجم على قلوبهم لا يمكنهم رده وهيئة نفسانية لا معدِل لهم عنها، ولهذا ترى الجامع بين الفقه والحديث كابن خزيمة والإسماعيلي والبيهقي وابن عبد البر لا ينكر عليهم بل يشاركهم ويحذو حذوهم، وربما يطالبهم الفقيه أو الأصولي العاري عن الحديث بالأدلة.
هذا مع اتفاق الفقهاء على الرجوع إليهم في التعديل والترجيح، كما اتفقوا على الرجوع في كل فن إلى أهله، ومن تعاطى تحرير فن غير فنه فهو متعنى.
فالله تعالى بلطيف عنايته أقام لعلم الحديث رجالا نقادا تفرغوا له وأفنوا أعمارهم في تحصيله والبحث عن غوامضه وعلله ورجاله ومعرفة مراتبهم في القوة واللين.
فتقليدهم والمشي وراءهم وإمعان النظر في تواليفهم وكثرة مجالسة حفاظ الوقت مع الفهم وجودة التصور ومداومة الاشتغال وملازمة التقوى والتواضح يوجب لك إن شاء الله معرفة السنن النبوية ولا قوة إلا بالله.
(59)
فالرجل الضعيف يحفظ المتن غالبا، وقد يكون فقيها فاضلا يحفظ المتن، إلا أنه ليس بالحافظ للأسانيد، فإذا به يجيء بالمتن المعروف على وجهه، بيد أنه يخطئ في إسناده، أو يجيء له بإسناد آخر غير إسناده الذي يعرف به.
(67)
قال الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (1/5-6)
(( ولعل بعض من ينظر فيما سطرناه ويقف على ما لكتابنا هذا ضمناه يحلق سيء الظن بنا ويرى أنا عمدنا إلى الطعن على من تقدمنا وإظهار العيب لكبراء شيوخنا وعلماء سلفنا، وأنى يكون ذلك وبهم ذكرنا وبشعاع ضيائهم تبصرنا وباقتفائنا واضح رسومهم تميزنا وبسلوك سبيلهم عن الهمج تحيزنا وما مثلهم ومثلنا إلا ما ذكر أبو عمرو بن العلاء قال: ما نحن فيمن مضى إلا كبقل في أصول نخل طوال.
ولما جعل الله تعالى في الخلق أعلاما، ونصب لكل قوم إماما، لزم المهتدين بمبين أنوارهم والقائمين بالحق في اقتفاء آثارهم ممن رزق البحث والفهم وإنعام النظر في العلم بيانُ ما أهملوا وتسديد ما أغفلوا.
إذ لم يكونوا معصومين من الزلل ولا آمنين من مقارفة الخطأ والخطل وذلك حق العالم على المتعلم، وواجب على التالي للمتقدم )).
.........
قال عبد الله بن المبارك (الجامع للخطيب 2/296):
إذا أردت أن يصح لك الحديث، فاضرب بعضه ببعض.
.........
وقال علي بن المديني (مقدمة ابن الصلاح ص 117):
الباب إذا لم تجتمع طرقه لم يتبين خطؤه
.........
وقال الخطيب البغدادي (الجامع 2/295)
والسبيل إلى معرفة علة الحديث أن يجمع بين طرقه وينظر في اختلاف رواته ويعتبر بمكانهم من الحفظ ومنزلتهم في الإتقان والضبط
.........
وقال الحاكم أبو عبد الله (معرفة علوم الحديث 59-60)
إن الصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنما يعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عونٌ أكثر من مذاكرة أهل العلم والمعرفة ليظهر ما يخفى من علة الحديث.
(71)
وبهذا ندرك القصور البالغ في الفهارس المتداولة للأحاديث النبوية والتي كثرت جدا في الآونة الأخيرة، حيث إن أكثر صانعي هذه الفهارس لا يعتنون إلا بفهرسة المرفوعات فحسب، وهي المنسوبة إلى رسول الله صراحة وبهذا يفوتون على الباحث الموقوف على المرفوعات التي ربما يعل بها المرفوع.
وبعض هذه الموقوفات مما هو في حكم الرفع؛ لأنه مما لا يقال بالرأي، فلا تسعف تلك الفهارس أو أكثرها في الوقوف على مثل هذا، أو ما كان بسبيله.
فلا ينبغي لطالب العلم أن يعتمد على هذه الفهارس اعتمادا كليا، بل عليه أن يفتش بنفسه عن الحديث في مظانه من كتب العلم، حتى يتسنى له معرفة طرقه وأسانيده وأقوال أهل العلم عليه.
.........
الخطيب البغدادي في الكفاية (224):
(( أكثر طالبي الحديث في هذا الزمان يغلب على إرادتهم كتب الغريب دون المشهور، وسماع المنكر دون المعروف، والاشتغال بما وقع فيه السهو والخطأ من روايات المجروحين والضعفاء، حتى لقد صار الصحيح عند أكثرهم مجتنبا، والثابت مصدوفا عنه مطرحا، وذلك كله لعدم معرفتهم بأحوال الرواة ومحلهم، ونقصان علمهم بالتمييز وزهدهم في تعلمه، وهذا خلاف ما كان عليه الأئمة من المحدثين والأعلام من أسلافنا الماضين )).
.........
وقول أحمد: تركوا الحديث وأقبلوا على الغرائب، ما أقل الفقه فيهم
.........
الثوري: أكثروا من الأحاديث؛ فإنها سلاح
(87)
عادة الإمام أحمد أنه يذكر الرواية المسندة ويتبعها بالرواية المرسلة ليبين علتها
(91)
أبو زرعة: ابن أبي زائدة قلما يخطئ، فإذا أخطأ أتى بالعظائم
(92)
فمن يظن أن أي إسناد سالم من كذاب أو متهم أو متروك يصلح للاستشهاد فهو من أجهل الناس بالعلم الموروث عن الأئمة والنقاد
(93-94)
سئل ابن معين عن حديث لنعيم بن حماد فقال: ليس له أصل، فقيل له نعيم بن حماد؟ قال: نعيم ثقة، فقيل: كيف يحدث ثقة بباطل؟ قال: شبه له
(96)
وقوله (لم أدخله في التصنيف) يدل على أن الحديث عنده لا يصلح للاستشهاد؛ لأن الحديث إنما يدخل في التصنيف إما للاحتجاج أو للاستشهاد، وما لا يصلح لذلك لا يدخل في التصنيف.
(97)
وسأله [يعني الدارقطني] الحاكم أبو عبد الله عن الربيع بن يحيى صاحب هذا الحديث، فقال: ليس بالقوي يروي عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر في الجمع بين الصلاتين، هذا يسقط مائة ألف حديث
(98)
وعلى الرغم من أن أصل الحديث صحيح ثابت إلا أن الإمام لم يمنعه ذلك من إنكار هذا الإسناد الآخر والحكم عليه بالضعف الشديد، فكيف إذا لم يكن المتن له أصل صحيح بل كل طرقه تدور على الرواة الضعفاء؟!