ورحلت سارة..
رحلت «سارة» بعد أن ظهر فيها المرض فجأة وصاحَبها على مدى ثلاثة أشهر؛ فشلت معها مساعي الأطباء أن تنقذها من القدر المحتوم الذي لا مفرَّ منه.
قل للطبيب تخطَّفته يدُ الرَّدى من يا طبيبُ بطبِّه أرداكا
كانت قويةً رغم شدة المرض، وتلقَّت قضاء الله بالصبر والقبول والتسليم، فلم تضجر بسبب ما حلَّ بها من البلاء، ولم تعترض على ما قدَّره الله وقضاه.
جعلت جُلَّ وقتها بالذكر والتسبيح، حريصة على صلاتها والسؤال عن أحكام المريض، وكيفية صلاة المريض وطهارته، لأنها لم تعد قادرة على مغادرة سريرها الأبيض.
ورغم الألم الشديد الذي كان يعتريها؛ وضيق النَّفَس، كانت صابرة محتسبة.
لقد كانت ابنة أخي «سارة» حالة مختلفة عن بنات جنسها منذ أن كانت صغيرة، حملت بين جوانحها قلباً أبيض لا يعرف الحقد، وابتسامة ناصعة بريئة، وتفاؤلاً رغم ما يعتري الحياة من ذبول قاتل.
وحتى وهي في شدَّة ألمها، ومع تقرير الأطباء أن حياتها لن تستمر طويلاً, وأنها في تدرُّجٍ نحو الأفول، إلا أنَّ الابتسامة لـم تفارق محياها، وذلك المزاح البريء لم يزل هو طبعها، رغم الألم.
لا زلت أتذكر تلك الطفلة الصغيرة التي كنت أحملها بين ذراعيَّ بفرحة غامرة، تضحك بين يديَّ-وقد كنت صغيراً- فيُخيَّل إليَّ أنَّ الدنيا تبتسم بابتسامتها وتردد صدى ضحكاتها.
وكبرت «سارة»، ولم تزل تلك الطفلة البريئة، تعاني وتصبر، وتُنحت كالجبل فتزداد صلابة، وحتى وهي تتألم من شدة الألم كانت تُخفي ألمها حتى لا تُحزن محبيها.
ليس غريباً أن يفكر المرء في غيره حال عافيته، ولكن منتهى العظمة أن يتحسَّس المرء أحوال غيره، ويفرح لاجتماعهم حوله، وهو في منتهى الألم، والمرض قد أنهك قُواه.
وهكذا كانت «سارة».
فعلى الرغم من شدة الألم الذي كانت يمزق أشلاءها، إلا أنها كانت تُبدي سعادتها باجتماع «أعمامها وأخوالها» حولها، وكأنَّ لسان حالها يقول: لقد اشتقت لمنظر اجتماعكم حولي الذي افتقدته بسبب تفرق البلدان ومشاغل الحياة ولو كان الثمن مرضي.
وربما همست في أذن بعض محبيها بهذا الشعور.
كانت تسأل عن هذا، وتطْمئنُّ على ذاك، فعاشت لغيرها حتى آخر لحظة.
والحمد لله الذي جمَّلها بالصبر.
فلا أذكر أنني زرتها في المستشفى وسألتها عن حالها فاشتكت إليَّ أنَّ هذا الموضع يؤلمها، بل كان جوابها دائماً: «الحمد لله أنا بخير».
لقد كانت «سارة» منذ صغرها فتاة صالحة -ولا أزكي على الله أحداً-، اهتمت بلباسها الشرعي ديانة لله وإذعاناً لأحكام الشريعة.
وحرصت مذ كانت صغيرة على الصحبة الطيبة في مدرستها، فلم تكن تصاحب إلا الخيِّرات، ولطالما كانت تحدثني -وهي في المرحلة المتوسطة- عن صديقاتها الصالحات «آسيا، عذاري، و..و..»، وما يبذلنه من جهود لإقامة المحاضرات الدينية في مدرستهن.
كانت تخبرني بذلك وهي تريد أن تحفزني لألقي محاضرة في مدرستها، وقد كان ذلك، وهي من أول المحاضرات التي ألقيتها في المدارس، فأسأل الله أن لا يضيع أجرها ومَن سعى في ذلك من أخواتها.
وكبرت «سارة»، أصبحت أمًّا، ولم تزل بنقاء الطفولة.
وفجأة وبلا مقدِّمات، دهمها المرض وهي في ريعان شبابها، وتخلَّل أجزاء جسمها، وسارع في الانتشار في جسدها حتى بدا وكأنه يسابق اللحظات والثواني، حتى توفاها الله تعالى فجر الاثنين 9شعبان 1432هـ ، الموافق 11/7/2011م.
وكان مما هوّن المُصاب على شدته أنَّ الله تعالى لعظيم جوده وفضله ورحمته قبضها وهي مشيرة بأصبعها السبَّابة بشهادة التوحيد، فأسأل الله أن يكون لها أوفر النصيب من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة»، وأسال الله تعالى أن يكون ما أصابها كفارة لها، وأن يعاملها بفضله ورحمته وبما هو أهله، إنه هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
إنَّ القلب ليحزن، وإنَّ العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يُرضي ربَّنا، وإنا بفراقك يا «سارة» لمحزونون.
وإنا الله وإنا إليه راجعون..
أفَلَت شموس أحبتي وترحَّلوا
واستوحشتْ دارٌ تئن ومنزلُ
كانوا هنا بين العيون ورمشِها
حَلُّوا ومن بعد الـمُقام تحوّلوا
هذي الحياةُ وإن تطاول عمرها
وكذا الزمان توقُّفٌ وترجُّلُ
ودوام أحوال الزمان خديعةٌ
والمرء يرغب في السرور ويأملُ
لكنه وهمٌ كبيرٌ ضائعٌ
والهمُّ يفتك بالقلوب ويقتلُ
والمرءُ يطمع في الحياة لعله
يحيى سعيداً في الحياة ويرفُلُ
يسعى حثيثاً علَّه يجد الهنا
وكأنه لشقائه يتعجَّلُ
عجباً لمن رام الحياة هنيئةً
كلَّفْت قلبك فوق ما يتحمَّلُ
لو دامت الأيامُ صفواً لامرئٍ
أو في السرور لما شكاها الأولُ
فالبدر ينقص إنْ رأيتَ تمامَه
والزرع من بعد اخضرارٍ يذبَلُ
وانظر إلى من جرّب الدنيا وقد
سئم الحياةَ فإذْ به يتململُ
فانهض وحثَّ السير في طلب العلا
واحذر إذا جاء العذول يخذِّلُ
واعلم بأنَّ العمرَ حُلْمٌ زائرٌ
والمرءُ يجمع في الحياة ويرحلُ
والموتُ بين الناس أعظمُ واعظٍ
أين الذي يزنُ الأمورَ ويعقلُ
فالْـحَقْ بركب الصالحين ولا تكن
بنجاةِ نفسك قدْ تضن وتبخلُ
والعمرُ ماضٍ فاغتنم أيامَه
واللهُ يقضي ما يشاءُ ويفعلُ
9شعبان1432هـ ، 11/7/2011م
الشيخ سالم العجمي