بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسعدني أن أقدم لكم هذا الكتاب الثاني للكاتبة المفضلة لدي ( قماشة العليان ) التي اتصفحهاااااا
عبر الانترنت وهي تحت
عنوان الرواية ( بكاء تحت المطر ) والتي لم أكمل قراءتهاااا
تابعوني وان شاء الله تعجبك
وماتت أمي.. انتهت في ذلك اليوم التعيس القائظ من شهر ذي القعدة.. ماتت تملأها الأحزان.. تطفح نفسها بالتعاسة.. قالت لي والدموع تغرق وجهها الذي كان لا يزال جميلا رغم مسحة الألم والمرض:
ــ منى.. أنا سأموت..
صرخت بلوعة والشهقات تزدحم في صدري الصغير:
لا.. لا يا أمي لن تموتي..
ابتسمت رغم الدموع وهي تهتف:
ــ منى أرجوك يا حبيبتي لا تقاطعيني.. إنني أشعر بدنو أجلي.. وصيتك أشقائك يا منى.. أنت الكبرى وليس لهم غيرك.. أنت تعرفين والدك سامحه الله.. أخوك احمد، رغم كل شيء، وهو طفل بحاجة لحنان ورعاية.. وشقيقتك الصغرى يا منى.. إنها..
وتوقفت عن الكلام.. ثم اختلجت شفتاها بعنف.. وطفقت ترنو ببصرها إلى البعيد البعيد..
وقفت جازعة:
ــ أمي.. أمي أرجوك لا تموتي.. أرجوك لا تتركينا، أنا بحاجة إليك أكثر من أخوتي.. أنا أحبك يا أمي..
أغمضت أمي عيناها ثم فتحتها من جديد..
تألقت في عينيها نظرة غريبة لم أعهدها من قبل.. وقبل أن أنطق قالت بصوت قوي متماسك لا أثر فيه لصوتها الواهن الذي كانت تحدثني به من قبل:
ــ أين والدك يا منى؟
أجبتها بسرعة مشفقة:
ــ انه ذهب لاستدعاءالطبيب..
قالت بنفس الصوت القوي وكأنه ليس صوتها:
ــ أذهبي واستدعيه حالاً..
وما أن ابتعدت خطوات عن الحجرة، وأنا أفكر في كذبتي الصغيرة التي خدعت أمي بها بأن أبي ذهب لاستدعاء الطبيب، حتى سمعت صرخة قوية تشقق صمت البيت الراقد فيهدوء.. كانت الصرخة منبعثة من حنجرة أمي.. استدرت عائدة إلى الحجرة، وقلبي ينبض بجنون مخيف.. توقعاتي كانت تسبقني وخوفي كان يسبق توقعاتي.. وما أن وصلت إلى السريرالذي ترقد عليه أمي حتى وجدتها مسجاة على السرير جثة بدون حراك.. وفي وجهها راحة وطمأنينة سلبتهما إياها الحياة وأعادهما لها الموت.
انتحبت بحرقة والى جواري الخادمة العجوز صفية..
فقد ماتت أمي..
ودفنت أمي.. وامتلأ البيت بالمعزين والمعزيات والوافدين من مختلف مناطق المملكة..
وخلال أيام كنت لا أملك فيهاتفكيري وإن فكرت فإني أتصور أمي واقفة في البيت تستقبل معي المعزين والمعزيات.. ولكن من الذي مات؟
أرى شقيقي أحمد طفل العاشرة، والحزن يمزقه ومشاعر غاية في البشاعة تتصارع في نفسه الغضة الطاهرة يلعب مع الأطفال في فناء الدار وهو يستشعر نقصاً كبيراً يمور في جوفه..
وفي لحظة ما أحسست بأنه لا يعي شيئاً مما يدور حوله، ولا يدرك بأن أمي الوحيدة قد ماتت.. ولكنني صحوت في إحدى الليالي على نشيج خافت، يمزق سكون الليل.. كان أحمد الصغير يحتضن أحد ثياب أمي وهو يبكي بحرقة.. حرقة لا تتناسب وطفل صغير في سنه.. تفجرت في نفسي ينابيع الإشفاق. وأسرعت لأحتضنه وأبكي معه.. امتزجت دموعنا في يأس ومر وحزن عميقين لأفاجأ بأبي واقفاً على رؤوسنا قائلا في سخرية:
ــ منى.. ألا تكفين عن البكاء والنحيب.. إن أمك كانت مريضة ومن الطبيعي أن يموت المريض.. تماسكت بصعوبة كيلا أرد عليه.. ومن الذي أمرضها يا أبي.. من الذي جلب لها المرض غيرك.. إنها لم تصب بهذا المرض اللعين إلا بعد أن سمتها سوء العذاب، وبعد أن أريتها النجوم في عز الظهر.. كيف كانت ستتحمل نزواتك وزواجاتك العابرة وإذلالك المستديم لها.. كيف كانت ستتحمل انهيار وقلب البيت إلى ساحة معارك وشتائم من كل نوع.. كيف ستتحمل ضربك لها الدائم وطردك إياها أحيانا وهي بلا سند ولا أهل ولا إنسان تلجأ إليه.. كيف كانت ستتحمل كل هذا دون أن تتعب وتنهار وتصاب بهذا المرض اللعين الذي يقتل حامله؟
إنك يا أبي قاتلها الحقيقي وليس مرض السرطان الذي نفقت منه..
ومضى أبي دون كلمة أخرى.. دون حتى أن يربت على كتفي المثقلتين بكم من الأحزان..
وألفيت شقيقتي الصغرى ابنة السابعة المبتسمة أبداً الضاحكة اللاهية.. ألفيتها واجمة ذاهلة تحدق في الجميع الغفير المقيم في بيتنا بنظرات فارغة بلا معنى، وتنظر إلى باب حجرة أمي المغلق بحسرة تفتت الأكباد ولا تبكي ولا تسأل.. أبداً وحتى طوال فترة مرض أمي إن غابت عنا وهي التي فضلت أن تعاني في بيتها وبين أولادها على أن ترقد في المستشفى بلا أمل.. بلا أمل على الإطلاق.. أشغلني صمت شقيقتي ريم وإطراقها وانفرادها الطويل بنفسها بلا دمعة ولا تنهيدة..
قررت أن أصارح أبي بما كان عليه من أمرها، فهو يستحيل أن يلاحظ شيئاً يخصنا نحن أولاده.. فهو مشغول بنفسه فقط ولا يهمه سواها ولا أنسى حينما كانت أمي تحتضر، وذهبت لأخبره، وأطلب منه استدعاء الطبيب، كان يحادث إحدى الفتيات عبر الهاتف.. صرخت فيه غير عابئة بهمسة وكأنني أنتقم لأمي:
ــ أبي.. أمي إنها تموت..
التفت لي بحدة وفي عينيه نظرة صاعقة كالتي أراها حينما يتعارك وأمي.. أخافتني نظراته كدت أتراجع..
تذكرت كلماتها الأخيرة عن الموت وقربها الشديد منه.. هتفت بقوة:
ــ أبي.. أرجوك.. أحضر الطبيب لأمي.. إنها توشك على الموت..
نظر لي بسخرية وهو يقول:
ــ وماذا سيفعل لها الطبيب.. أنها ميتة به أو بدونه..
وعاد مرة أخرى يهمس عبر الهاتف.. وكأنه لم يفعل شيئاً.. كأنه لم يقتلني برصاص كلماته السامة التي طالما اخترقتني دون أن تصيبني بأذى كأي مجسم من خيال أما كلمته تلك فقد طعنتني بالصميم.
لكنني فكرت وقررت أن أصارحه بحالة شقيقتي المتردية، فمهما تكن فهي ابنته أولاً وأخيراً ويستحيل أن يتخلى عنها..
وبدأ بيتنا يخلو شيئاً فشيئاً.. ابتدأ الأقارب ينسحبون الواحد تلو الآخر.. كان أخرهم هو خالي الوحيد وزوجته اللذان يسكنان في قرية بعيدة نائية.. قبل أن يخرج خالي همس في أذني:
ــ هل ترغبين يا منى أنت وأخوتك أن تحلوا ضيوفاً عندي ولو لبعض الوقت ثم التفت يرمق زوجته في خوف قبل أن يتابع:
ــ ولكن تعرفين يا ابنتي إن بيتنا مزدحم بالأطفال أعاننا الله عليهم.. ثم أن أبيك في حاجة إليك في مثل هذه الظروف.. انتبهي لأبيك وأخوتك واعلمي كما كانت تعمل المرحومة أمك.. كوني شمعة الدار..
وخرج خالي محدثا فجوة عميقة داخل نفسي.. شمعة الدار، لقد انطفأت شمعة دارنا يا خالي برحيل أمي ولن تضاء مرة أخرى أبداً.. فما أنا إلا جزء من تلك الشمعة التي انتهت وإلى الأبد..
وخرجت زوجة خالي بعد أن دست في يدي نقوداً وهي تقول:
ــ أعرف أن والدك مقتر سامحه الله فانفقي من هذا المال على نفسك وعلى اخوتك.. وأنتبهي لريم إنها غير طبيعية..
فعلاً فقد نحلت شقيقتي ريم نحولاً غير طبيعي، تقعر وجهها وغارت عيناها وأصبحت كالطيف تتحرك بهدوء بدون أن نشعر بها ولا تأكل إلا لماماً.. وما أن خلا البيت إلا مني وأخوتي حتى أطلت الحقيقة بوجهها البشع تترصدنا وتحرقنا بنارها.. أن أمي غير موجودة.. غير موجودة على الإطلاق وقد ذهبت لغير رجعه..
جبت أنحاء البيت وشيء في داخلي يتمزق.. شيء لا أدري كنهه.. رأيت مكانها في المطبخ.. تخيلتها وهي تطهو الطعام وتحادثني وتضحك على نوادري التي أحكيها لها وأنا عائدة من المدرسة.. ثم تسألني في حنان:
ــ أجائعة أنت يا منى؟
وعندما تدخل ريم من المدرسة تضمها بين ذراعيها وتقبلها كثيراً، فقد كانت هي دلوعة البيت.. تساءلت بمرارة وفي داخلي ما يشبه الخواء.. من يضمك يا ريم وقبلك عند عودتك من المدرسة.. من يشعرك بحنان الأمومة التي فقدتيه يا حبيبتي الصغيرة المسكينة.. مضيت أتجول في البيت ودموعي تحرق وجنتي.. وقفت أمام حجرة الراحلة.. قبضت المفتاح بيدي.. ترددت بالدخول.. لكن كان لابد من الدخول.. لابد من أن أطوي ثياب المرحومة وأخفي ما أستطيع من ذهبها ومجوهراتها.. فأبي سيبيع كل شيء فأنا أعرفه أكثر من أي شخص آخر.
يجب أن أنتهز هذه الفرصة وأحفظ للمرحومة حقوقها التي لم تحصل عليها في حياتها.. ولو لمرة واحدة.. فأبي كان دوماً ينازعها في كل شيء ويدعي ملكية كل شيء تتحلى به أو تمتلكه بدءاً من ملابسها وحذائها وانتهاء بحليها ومجوهراتها.. إنها لم ترتاح معه يوماً..
شجاعة قوية واتتني على غير انتظار، فقد كنت أخاف أن يسبقني أبي إلى هذه الحجرة وينتهك حرمة المرحومة.. ولكنه لم يفعل حتى الآن.. ربما كان خائفاً من خيالها أو ربما كان ينتظر الفرصة الملائمة..
ودخلت.. دخلت رغم ارتعاشه هزت كياني بأسرة، حين وقع نظري على السرير الذي لفظت عليه أنفاسها الأخيرة..
أخذت أجمع ثيابها ولكل ثوب ذكرى.. ولكل ذكرى معزة خاصة.. وبكائي يشتد ونحيبي يزلزل أرجاء الحجرة الصغيرة.. بكيت كما لم أبك من قبل.. ومن بين دموعي لمحت شقيقتي الصغرى ريم تدخل الحجرة ورائي في صمت وذهول وعيناها تبرقان ببريق عجيب عجزت عن تفسيره.. دارت في أنحاء الحجرة ونظرت أسفل السرير وفوقه ثم هزت كتفيها الصغيرتين بأسى وخرجت دون كلمة واحدة.. ولا حتى سؤال.. والتفت لأجد شقيقي أحمد خلفي.. فقد جذبه بكائي.. سألته من بين دموعي:
ــ أحمد.. ماذا تريد؟
هتف والدموع تغرق وجهه وتسيل على ثيابه:
ــ لا أدري ماذا أفعل.. ولا أين أذهب.. أنا متعب يا منى..
ضممته إلى صدري بقوة واهتزازات جسدي تحيطه بقوة وتحاول أن تعوضه عن الأمومة المفقودة.. الأمومة الحانية التي لا يعادلها شيء في الوجود..
أمي يا حبة قلبي.. لماذا تركتيني وأنا بحاجة إليك.. ولم أنم تلك الليلة.. مضيت ساهدة أفكر، وأتقلب من جنب إلى جنب .. يغض مضجعي شحوب شقيقتي الصغيرة وتدهورها السريع المريع.. ألهذه الدرجة فقدت أمي.. لماذا لم تسأل؟.. لماذا لم تعبر عن حزنها والتياعها بالدموع.. لم لا تبكي حتى تجف عيناها ويهدأ قلبها وتسكن نفسها.. لماذا أصبحت منطوية تعاف الكلام وتصد عن الطعام وتمشي وترى وتنام بغير شعور ولا فكر وكأنها جثة تمشي على قدمين..
قطع على سير أفكاري أناتها الواضحة.. فقد تغير نومها منذ ماتت أمي ولم يعد نومها هادئاً ساكناً مريحاً كما كان.. بل كانت تئن طوال الليل وتتألم وتهمهم بكلمات غير واضحة.. وعندما كنت أقترب منها وأصيخ السمع تتناهى إلىّ دمدمة مبهمة غير واضحة المعالم تخاطب فيها شخص ما وتعاتبه وتناقشه وتلومه.. خمنت أنه طيف أمي الراحلة.. كنت لا أملك من أمري شيئاً غير أن أدثرها باللحاف وأقرأ ما تيسر من القرآن عند رأسها كما كانت تفعل أمي الراحلة..
أمي.. وأناجيها في خيالي.. أطفالك أمانة في عنقي، ولن أتخلى عنهم حتى الموت، ومجوهراتك في الحفظ والصون، لن تمتد لهم يد إنسان غيرك ولا حتى أبي..
سأحتفظ بهم حتى يزينا جيد ومعاصم طفلتك المحبوبة ريم عندما تغدو عروساً رائعة وسأقول لها إنهم هدية والدتك لزواجك.. ستفرح وستبكي وستضمني بحرارة..
أفقت في الغد على حلم مفزع.. لم يفرحني رغم مظاهر الفرح التي رافقته، فقد كنت أدرك بالفطرة أن الفرح يعقبه حزن، ولن يدوم فرح إلا بنهايته حزن ودوما كنت أستشعر ذلك ولا زالت ذكريات تلك الأيام السعيدة التي سبقت وفاة والدتي تطاردني حتى في المنام.. فقد صفت الحياة لنا فجأة من بعد عذاب.. وتحسنت صحتها كثيراً.. الصحوة التي يعقبها الموت.. وخفت آلامها بشكل ملحوظ.. تورد وجهها وتألقت عيناها وازدهرت السعادة في بيتنا، حتى أبي توقف عن العراك وإثارة المشاكل، وكأنه قد عقد هدنة حربية لوقت ما وغرض ما.. ومهما يكن غرضه فقد بدأ يتودد لأمي ويصحبنا في نزهات ورحلات.. كانت الفرحة والبسمات تتردد في أجوائنا ونتنسمها مع هوائنا.. ولكنني كنت خائفة بأعماقي.. وكان خوفي يزلزلني ويفسد على فرحتي.. كانت الضحكة كسكين تغمد في قلبي وتفجره.. تفجر صديد من الأحزان.. كانت البسمة تهزني من الداخل وتثير جروح نفسي المهترئة.. كانت الكلمة الطبية الحانية تفزعني وكأنها سيل من الصفعات.. لم استمتع بسعادتنا المؤقتة كما استمتع بها أخوتي.. كانت الفرحة الطاغية تتألق في أعينهما الصغيرة والسعادة تطفح من وجوههم النضرة.. وحبيبتي ريم كانت تتقافز جذلة بين حضن أمها الحبيبة الضاحكة وبين والدها الذي يبتسم ابتسامة من ابتساماته النادرة.. لكن سرعان ما تبدل كل شيء فجأة كما بدأ فجأة.. فبعد أيام من الصفاء والنقاء صرخت أمي في جوف الليل البهيم صرخة عميقة أفزعتني وأوقفت الدم جامداً في عروقي.. أسرعت إلى حجرتها أتعثر بخوفي.. شلني المشهد الذي رأيته، فبقيت جامدة لا أريم أحدق بأبي وأمي وتلك المرأة الغريبة.. كانت أمي تصرخ وتصيح قائلة:
ــ أخرجها حالاً من حجرتي.. فليس معنى صمتي عن خطاياك أن تبلغ بها بيتي.. وحجرتي بالذات.. هيا أخرجوا..
وأبي يرد قائلا بسخرية المعهودة:
ــ إنك شيطانة كبيرة.. ألم أناولك بنفسي جرعة كبيرة من المخدر لتنامي كيف استيقظت بهذه السهولة؟ عجيب..
وانكفأت أمي على السرير تبكي وتنتحب بمرارة وقد عاودها المرض وهاجمتها ذيوله المندحرة..
التفت أبي وقتها إلى تلك المرأة الأخرى قائلا بحب وابتسامة كبرى تتوج شفتيه.. ابتسامة من ابتساماته النادرة:
ــ هيا يا حبيبتي.. لم استطع اليوم أن أحقق رغبتك.. لكن اطمئني ستعودين مراراً عندما تنتهي هذه العجوز المريضة..
اختفيت بسرعة كيلا يراني أبي ويصب جام غضبه على رأسي.. وعدت بعد أن غادر أبي وتلك المرأة.. عدت وقد ازداد بكاء أمي ونحيبها.. ربت على كتفيها بحنان.. التفت إلى ووجهها الغارق بالدموع.. كان وجهها ضامرا ممصوصا وعيناها تقطران مرارة وأسى.. غاضت الدماء من وجهها والتي لونته في الأيام السابقة ولم يبق إلا الشحوب وطائر الموت يلف حول رأسها إيذاناً بالرحيل.. همست بصوت مبحوح:
ــ أمي..
وارتمت في أحضاني كطفل يعود إلى أمه بعد غياب.. ضممتها بحسرة وعيناي تمتلآن بالدموع..
كنت أسمع كثيراً بنزوات أبي وعلاقاته المتعددة لكن لم أتوقع أن تصل به الجرأة لهذا الحد.. أن يصحب إحدى خليلاته لبيت الزوجية بل في نفس حجرة الزوجية والتي تتردد فيه أنفاس الزوجة المريضة التي توشك على الموت هلعاً وحزناً وهواناً..
سمعت أنفاسها تضطرب في أحضاني وجسدها الضئيل يرتعش بين يدي..
هتفت بهلع:
ــ أمي..
ولم ترد.. ولم تجب على ندائي..
وخلال ساعة كان الطبيب إلى جواري بعد أن حقنها بمخدر قوي.. طلبي مني ألا أزعجها وأن أتركها تنام بهدوء حتى تستيقظ بنفسها.. وبدأت حالة أمي تسوء منذ تلك الليلة حتى ماتت.. وتركت كل شيء لأبي وعشيقاته..
أسرعت إلى أبي وحلمي المفزع لا يزال يسكن ذاكرتي ويمزقني قلقا.. حلمت بأن شقيقتي الصغرى ريم عروس في ثياب الزفاف، وقد تألقت جمالا وبهاء وروعة كما لم أرها من قبل ذلك أبداً.. وكنا جميعا مبتهجين بزواجها حتى أمي.. نعم رأيت أمي في الحلم وهذا هو الجانب المفزع منه.. فقد كانت هي التي تقود ريم من يدها وسط المدعوين وتودعهم بابتسامة وكذلك كانت تفعل ريم! والأعجب في الحلم أن ريم كانت عروساً وهي مازالت طفلة!..
أعتصر الألم أحشائي وأنا أتقدم لأبي.. أقدم رجلا وأؤخر الأخرى.. كنت أخاف أن ينهرني ويسخر من أوهامي كعادته ولكن أخيرً استجمعت شجاعتي وتقدمت منه ببسالة..
كان يتناول إفطاره بتلذذ واضح وهو يقرأ الجريدة، وكأنما لم تقم جنازة في هذا البيت منذ أيام فقط.. وجنازة من؟ زوجته أم أولاده.. زفرت بقوة خلت معها بأن قلبي سيخرج من أضلاعي ثم قلت بهدوء:
ــ أبي.. أريد محادثتك في أمر مهم..
لم يلتفت إلي.. استمر يقرأ الجريدة وهو يقول:
ــ ماذا عندك؟ هيا أخبريني..
جززت على شفتي بقوة لأمنع نفسي من البكاء.. فلم هذا الجحود والنكران منك يا أبي.. ألم ترعك أمي برموش عينيها طيلة حياتها.. ألم تهمل نفسها لأجلك.. لماذا تستكبر أن تحزن عليها ولو لعدة أيام من أجل العشرة والأولاد والحب الذي كان.. أينتهي كل شيء وبهذه السهولة المقيتة؟
كدت ألقي ما في جوفي اشمئزازاً.. لكن نظرة من أبي أيقظتني من أفكاري المتلاطمة..
لاحظ شرودي وصمتي الطويل.. فوضع الجريدة جانباً وهو يهتف:
ــ ماذا تريدين يا منى؟
ثبت عيني في عينيه وأنا أقول:
ــ ريم يا أبي.. إنها ليست على ما يرام..
قاطعني بلهجة جافة:
ــ هذا شيء طبيعي لطفلة فقدت أمها..
أهتز كياني وأنا اسمع جملته الأخيرة.. تجمعت الشهقات في صدري، فلم أستطع إلا أن أجهش بالبكاء.. أخذ أبي ينقر على الطاولة بأصبعه بعصبية واضحة ولما طال أمد بكائي نهض واقفاً وسار بضع خطوات ليخرج.. لحقت به ودموعي مازالت تسيل على وجهي بغزارة.. قلت له بصوت متهدج:
ــ إن "ريم" ليست طفلة عادية يا أبي.. أنت تعرف إنها ذكية وحساسة وقد كانت.. قد كانت دلوعة أمي.. ثم إنها لم تبك منذ الحادث ولم تسأل.. أرجوك يا أبي أنقذها.. إن"ريم" أمانة في عنقك..
أجاب بعصبية:
ــ وماذا تريدين مني أن أفعل لها.. إني لا أستطيع أن أعيد أمها إلى الحياة..
تأوهت وكأن طعنة قد اخترقت أحشائي ولكنني تماسكت بصعوبة وواصلت المناضلة:
ــ أبي تستطيع أن تعرض "ريم" على طبيب.. إني خائفة من أجلها.. فقد يحدث لها شيء..
ران على وجهه حزن غريب.. إذن فقد نجحت في استشارة عاطفة الأبوة من كيانه.. نظر إلي مليا ثم قال:
ــ أين هي الآن.. أحضريها لي..
ولم أكن بحاجة لإحضارها فقد أتت ريم.. دخلت الصالة بخطوات ملائكية وكأنها تطير لا تمشي على الأرض، ومعها لعبة ألقتها بإهمال على الأرض وكأنها سأمت كل شيء وعافت نفسها أي شيء..
قال أبي بصوته الجوهري:
ــ ريم تعالي إلى هنا..
نظرت إلينا بعينين تائهتين زائغة وكأنها لا ترى.. لمح أبي اصفرار وجهها وجحوظ عينيها والتعاسة المرتسمة على محياها الجميل وكأنه يراها لأول مرة:
اقترب منها وهو يسألها:
ــ أتحبين بابا يا ريم؟
نظرت إليه بذهول وهي تقول:
ــ أنا أحب ماما..
أجابها بقسوة لا نظير لها:
ــ ماما ماتت يا ريم..
قفزت من مكانها كالملدوغة وهي تهتف:
ــ لا..لا.. ماما لم تمت.. لا.. لا..
أسرعت إليها أضمها إلى صدري وأنا أقول بهدوء:
ــ اهدئي يا ريم.. اهدئي يا حبيبتي
فقد كانت أنفاسها تتسارع ووجيب قلبها يرتفع بجنون وهي تسألني:
ــ ماما ستعود.. صحيح ماما ستعود يا منى.. أمي ستعود.. وتلتقي نظراتي بنظرات أبي المتسائلة وأنا أجيبها بحرارة:
ــ نعم يا ريم.. ماما ستعود..
وانظر إلى الطرف الآخر من الصالة إلي شقيقي أحمد وقد ترك كتبه وألعابه وانكفأ على وجهه يبكي بحرقة وقد أيقظ هذا المشهد آلامه من جديد..
اصطحبني أبي وشقيقتي ريم إلى المستشفى بعد ذلك الموقف بأيام.. كان المستشفى مزدحماً ويعج بالغادين والرائحين وبعد انتظار دام عدة دقائق أعلنت الممرضة اسم شقيقتي ريم عبد الله الصالح.. بهتت الصغيرة وكأنها لم تسمع اسمها قبل اليوم.. نظرت لي بتساؤل ملح.. أمسكت بيدها النحلة وسرنا وراء أبي لندخل حجرة الطبيب..
كانت ترتدي في ذلك اليوم ثوباً أبيض أضاف شحوباً إلى شحوبها الدائم فبدت كروح هائمة حائرة لا تدري أي مستقر لها..
غاض قلبي بين ضلوعي وأنا ألمح ابتسامتها العذبة ولاح لي حلمي المر بجميع تفاصيله، فهززت رأسي وكأنني أطرد الذكرى من رأسي ودخلنا حيث استقبلنا الطبيب بابتسامة كبرى.. وبعد أن انتهى الطبيب من فحص ريم قال لها باسما:
ــ هل تحبين أفلام الكارتون يا ريم؟
أجابت الصغيرة بتلقائية:
ــ لا..
ــ إذن هل تحبين العرائس والألعاب؟
ــ لا..
ــ غير معقول.. إذن تحبين الآيس كريم؟
ــ لا.. لآ
ــ ألا تحبين أي شيء من هذا.. إذن ماذا تحبين؟
ــ أحب ماما..
دهشة كبرى ملأت محيا الطبيب وهو يهتف؟
ــ جميعنا نحب ماما.. وبالإضافة إلى حبنا لهذا نحب أشياء أخرى كالألعاب والحلوى وغيرها..
أجابت ريم بإصرار:
ــ كلا.. كلا.. لا أحب سوى ماما..
قال الطبيب ومازالت الدهشة تلون وجهه:
ــ وأين ماما الآن؟ هل هي في البيت؟
تغيرت ملامح وجه الصغيرة.. لكنها لم تبك وهي تجيب:
ــ كلا.. ولكنها ستعود..
انتحى أبي بالطبيب جانباً وأخذا يتحدثان همسا وقد عكست عينا الطبيب شفقة عميقة وجهها إلى ريم.. ثم قال الطبيب بصوت سمعناه جميعاً:
ــ إنها تعاني من ضعف حاد.. وأنيميا.. واعتقد إنها مصابة بانهيار عصبي..
شهقت على الرغم مني.. ولم تحرك ريم ساكنا وكأن الأمر لا يعنيها أما أبي فإنه تحول إلى الطبيب وهو يقول بصوت بدا مهتزاً:
ــ دكتور.. هل بقاؤها في المستشفى ضروري؟
اقترب الطبيب من ريم وهو يقول:
ــ هذا إذا رغبت ريم..
صرخت الصغيرة وهي تتشبث بي:
ــ لا.. لا أريد البقاء في المستشفى.. أريد أن أعود إلى البيت..
تكلم الطبيب مطولاً مع أبي ثم تحول إلي قائلا بصوت خافت:
ــ إن الدور الكبير في شفائها يقع عليك.. لن أبقيها في المستشفى ولن أحولها إلى طبيب نفسي فربما تزداد حالتها تعقيداً.. إن علاجها الحقيقي هو بقاؤها في البيت بين اخوتها وأبيها وإدراكها حقيقة وفاة أمها تدريجياً فإذا أيقنت من ذلك فإنها ستبكي وهذا جيد واعتقد بأن هذا هو ما سيحدث.. بالنسبة لضعفها العام فسأكتب لها بعض الأدوية ستحسن حالتها كثيراً إن شاء الله.. وكما أخبرتك واجهيها بوفاة والدتكم تدريجياً على مدى بضعة أيام حتى تعي هذه الحقيقة.. مفهوم..
أومأت برأسي علامة الموافقة وأنا أقود "ريم" إلى الخارج بينما بقي أبي مع الطبيب في الحجرة..
لفت أنظارنا في صالة الانتظار طفلة في عمر "ريم" تقفز وتمزح في جذل.. اقتربت من ريم تتفرس في ملامحها.. بدت ريم إلى جوارها كعجوز في السبعين أثقلتها الهموم والأحزان.. لا حركة ولا ابتسامة ولا حتى نظرات مرحة كتلك الطفلة السعيدة.. وبعد لحظات صرخت الطفلة:
ــ ماما.. أريد مثل هذا العقد..
التفتت إحدى النساء الجالسات متسائلة:
ــ ماذا يا حبيبتي.. أي عقد تريدين؟
أشارت الطفلة إلى جيد ريم قائلة:
ــ مثل هذا يا ماما..
قالت الأم بطيبة خاطر:
ــ حسناً يا حبيبتي غداً سأحضر لك مثله وأحسن منه..
عادت الطفلة للهو مرة أخرى وتقلص وجه ريم تقلصاً مؤلماً وكأنها توشك على البكاء.. ولكنها لم تبك إنما وقفت تنظر من خلال النافذة ولا ترى شيئاً..
وعاد أبي بعد لحظات ليصحبنا إلى المنزل ومعه كم من الأدوية أثقل قلبي مرآها.. فريم الحلوة الصغيرة التي لا تستطيع أن تكمل حتى النهاية هل تستطيع تناول كل هذه الأدوية وبالتناوب..
وبدأت معها رحلة قاسية مؤلمة باءت بالفشل الذريع وخبت توقعات الطبيب المتفائلة ولم يبق إلا سراب فقد بدأت ريم تذوي شيئاً فشيئاً وتساقطت ذوائب شعرها الطويل حتى أنني اضطررت إلى قصه في النهاية ولم تعاتبني ولم تغضب.
نظرت إلى نظرة طويلة وهي تقول:
ــ هكذا أجمل.. أليس كذلك؟
ابتسمت لها وفي حلقي غصة.. قالت بعد فترة صمت:
ــ هل يعجب أمي هذا؟ هل تحب شعري هكذا..
لم أستطع حبس دموعي فانطلقت أبكي بحرارة..
أمسكت يدي بيديها الصغيرتين متسائلة:
ــ منى.. لماذا تبكين؟
نظرت إليها من خلال دموعي.. رقيقة.. ناعمة.. حالمة.. أيجب أن أصدمها بالحقيقة المروعة؟ وماذا ستكون عليه
حالها عندما أخبرها بالحقيقة.. لا.. لا أيها الطبيب فلتهنأ هذه الطفلة المسكينة بحياة الخيال، فهي أرحم لها بكثير من دنيا الواقع البشعة.. ولكن الطبيب أخبرني وأكد لي بأن في هذا خطراً على حياتها وعلى صحته قواها العقلية.. ولكن كيف.. كيف أؤذي هذه الوردة اليانعة وأحطمها بكلمة تخرج من فمي.. وأي كلمة.. إنها ستقضي على حياتها..
رباه ماذا أفعل؟
عشت ليالي طويلة مؤرقة وأنا أفكر في طريقة أتدرج منها إلى إخبار الصغيرة بالحقيقة الصارخة المؤلمة ولم أجد سوى التجاهل والنسيان..
ــ لقد تأخرت أمي يا منى.. متى تعود؟
أيقظني سؤالها من أفكاري المتلاطمة.. أيقظني حتى الذهول.. نظرت إليها بكلتا عيني وكأني أحاول أن أمسك طرف خيط يقودني إلى قضيتي.. ثم قلت لها فجأة:
ــ أمي لن تعود يا ريم..
وقفت لحظات مسمرة عينيها في وجهي وأرنبتا أنفها الدقيق تهتزان بشدة وشفتها السفلى ترتجف وصدرها يعلو ويهبط.. بدت كمن تلقى صدمة عنيفة ولكنها لم تبك..
قالت لي وقد بدا الإصرار على محياها:
ــ منى أنا سأذهب إليها..
صدرت مني صرخة ملتاعة عجزت عن كتمانها.. ولكنها تابعت وهي ترنو إلى البعيد:
ــ منى.. إني أرى أمي.. أراها هناك بعيداً في السماء.. إنها تناديني أن أذهب إليها.. وأنا أريد أن اذهب.. أتمنى أن اذهب لألقي بنفسي بين أحضانها.. أنا لا أسطيع الحياة من دونها، يا منى.. اشعر بأن بيتنا ساكن مجرد من الحياة من دونها يا منى وأن حجرتها مظلمة كئيبة وأن أبي يكرهنا..
ــ منى إن ماما تناديني وأنا سأذهب..
عاودني البكاء من جديد وعجزت عن كتم شهقاتي المزدحمة في صدري.. ضممتها لتلحم في أحشائي وكأنها قطعة مني.. قلت لها وكل جزء في كياني يبكي:
ــ لا تعودي لمثل هذا الكلام مرة أخرى يا ريم.. ستبقين إلى جوارنا.. أنا وأحمد نحبك وفي حاجة لك..
مسحت دموعي بيدها الصغيرة الرقيقة وهي تقول:
ــ لا تحزني يا منى.. ولا تبكي.. صدقيني سأرتاح وأنا هناك إلى جوارها.. ولكن عديني يا منى بشيء..
همست بعيون غارقة في الدمع:
ــ ماذا تريدين يا حبيبتي؟
أجابت بنفس صوتي الهامس:
ــ أبي يا منى.. أنه مسكين.. حقاً نحن نشعر بأنه يكرهنا ولكنه لا يكرهنا.. إنه يحبنا ولكنه لا يستطيع أن يعبر عن حبه.. هكذا هم الرجال..
نظرت إليها من خلال دموعي مندهشة ومبهورة.. هل هذه ريم الطفلة الصغيرة.. إن كلامها أكبر من سنها بكثير.. لقد تحلى كلامها بالحكمة فجأة وكأنها ليست هي التي تتكلم.. هل هي حكمة الله أنزلها على قلب هذه الطفلة الصغيرة لتعبر عن أشياء كنت غافلة عنها.. ولحكمة الله أجهلها عبرت لي شقيقتي عن كل شيء لأنها توشك على.. الموت..
دوت صرخة في أعماقي وأنا أنظر جمالها اليريء الذي يوشك على الفناء..
صغيرتي.. حبيبتي أرجوك أفيقي من أجلي.. ريم لا تموتي..
تبدلت أحوال ريم فجأة.. فقد غدت أكثر صحة وحيوية وبدت أكثر نشاطاً وهي تلهو مع أحمد بعد فترة طويلة من الشرود والانطواء..
تنفس أبي الصعداء وكأنه قد انتزع من أعماقه حملاً كريهاً.. قال لي وهو يبتسم:
ــ ألا ترين كيف أصبحت ريم بفضل الأدوبة.. ألا ترين كيف تورد خداها وعادت الدماء إلى وجهها.. إنها الآن أفضل كثيراً فاستمري في مراعاتها..
نظرت إلى أبي بإشفاق.. انه لا يعرف بأن ريم قد رفضت تناول أي دواء.. وأصرت على رفضها مهددة بمقاطعتي إذا أجبرتها على شيء وأضافت بأنها تعرف نفسها جيداً وهي ليست بحاجة إلى أي دواء.. وقد أقلقني رواؤها المفاجئ أكثر مما أفرحني وخلف في نفسي وجلاً عميقاً وخوفاً شديداً.. فربما أصبحت عروساً بالفعل بعد أيام واختارها الله من بيننا لجواره..
اقترحت على أبي ذات يوم أن نغير المكان لننسى الفاجعة وتتحسن صحة ريم وتستعيد توازنها النفسي حتى احمد يحتاج لهذه الاستراحة..
هز أبي رأسه وكأنه غير مقتنع..
ــ إن "ريم" قد تحسنت تحسناً مطرداً ولا تحتاج لأي تغيير.. أما أحمد فهو فاسد مدلل لن يريحه سوى الضرب..
هتفت باكية:
ـــ وأنا يا أبي.. لا أستطيع أن أتحمل اكثر من ذلك .. إن فــــي البيت فراغاًً موحشاً لا يملآه سوى أمي ..
ثم أجهشت بالبكاء وهيئة ريم بسعادتها المفاجئـــــة تزلزلني حتى النخاع ..
نظر إلي بتركيز ثم قال :
ـــ نعم سوف نسافر .. ولكن ليس الآن .. ليس الآن..
يتبع لاحقاً .....ْ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسعدني أن أقدم لكم هذا الكتاب الثاني للكاتبة المفضلة لدي ( قماشة العليان ) التي اتصفحهاااااا
عبر الانترنت وهي تحت
عنوان الرواية ( بكاء تحت المطر ) والتي لم أكمل قراءتهاااا
تابعوني وان شاء الله تعجبك
وماتت أمي.. انتهت في ذلك اليوم التعيس القائظ من شهر ذي القعدة.. ماتت تملأها الأحزان.. تطفح نفسها بالتعاسة.. قالت لي والدموع تغرق وجهها الذي كان لا يزال جميلا رغم مسحة الألم والمرض:
ــ منى.. أنا سأموت..
صرخت بلوعة والشهقات تزدحم في صدري الصغير:
لا.. لا يا أمي لن تموتي..
ابتسمت رغم الدموع وهي تهتف:
ــ منى أرجوك يا حبيبتي لا تقاطعيني.. إنني أشعر بدنو أجلي.. وصيتك أشقائك يا منى.. أنت الكبرى وليس لهم غيرك.. أنت تعرفين والدك سامحه الله.. أخوك احمد، رغم كل شيء، وهو طفل بحاجة لحنان ورعاية.. وشقيقتك الصغرى يا منى.. إنها..
وتوقفت عن الكلام.. ثم اختلجت شفتاها بعنف.. وطفقت ترنو ببصرها إلى البعيد البعيد..
وقفت جازعة:
ــ أمي.. أمي أرجوك لا تموتي.. أرجوك لا تتركينا، أنا بحاجة إليك أكثر من أخوتي.. أنا أحبك يا أمي..
أغمضت أمي عيناها ثم فتحتها من جديد..
تألقت في عينيها نظرة غريبة لم أعهدها من قبل.. وقبل أن أنطق قالت بصوت قوي متماسك لا أثر فيه لصوتها الواهن الذي كانت تحدثني به من قبل:
ــ أين والدك يا منى؟
أجبتها بسرعة مشفقة:
ــ انه ذهب لاستدعاءالطبيب..
قالت بنفس الصوت القوي وكأنه ليس صوتها:
ــ أذهبي واستدعيه حالاً..
وما أن ابتعدت خطوات عن الحجرة، وأنا أفكر في كذبتي الصغيرة التي خدعت أمي بها بأن أبي ذهب لاستدعاء الطبيب، حتى سمعت صرخة قوية تشقق صمت البيت الراقد فيهدوء.. كانت الصرخة منبعثة من حنجرة أمي.. استدرت عائدة إلى الحجرة، وقلبي ينبض بجنون مخيف.. توقعاتي كانت تسبقني وخوفي كان يسبق توقعاتي.. وما أن وصلت إلى السريرالذي ترقد عليه أمي حتى وجدتها مسجاة على السرير جثة بدون حراك.. وفي وجهها راحة وطمأنينة سلبتهما إياها الحياة وأعادهما لها الموت.
انتحبت بحرقة والى جواري الخادمة العجوز صفية..
فقد ماتت أمي..
ودفنت أمي.. وامتلأ البيت بالمعزين والمعزيات والوافدين من مختلف مناطق المملكة..
وخلال أيام كنت لا أملك فيهاتفكيري وإن فكرت فإني أتصور أمي واقفة في البيت تستقبل معي المعزين والمعزيات.. ولكن من الذي مات؟
أرى شقيقي أحمد طفل العاشرة، والحزن يمزقه ومشاعر غاية في البشاعة تتصارع في نفسه الغضة الطاهرة يلعب مع الأطفال في فناء الدار وهو يستشعر نقصاً كبيراً يمور في جوفه..
وفي لحظة ما أحسست بأنه لا يعي شيئاً مما يدور حوله، ولا يدرك بأن أمي الوحيدة قد ماتت.. ولكنني صحوت في إحدى الليالي على نشيج خافت، يمزق سكون الليل.. كان أحمد الصغير يحتضن أحد ثياب أمي وهو يبكي بحرقة.. حرقة لا تتناسب وطفل صغير في سنه.. تفجرت في نفسي ينابيع الإشفاق. وأسرعت لأحتضنه وأبكي معه.. امتزجت دموعنا في يأس ومر وحزن عميقين لأفاجأ بأبي واقفاً على رؤوسنا قائلا في سخرية:
ــ منى.. ألا تكفين عن البكاء والنحيب.. إن أمك كانت مريضة ومن الطبيعي أن يموت المريض.. تماسكت بصعوبة كيلا أرد عليه.. ومن الذي أمرضها يا أبي.. من الذي جلب لها المرض غيرك.. إنها لم تصب بهذا المرض اللعين إلا بعد أن سمتها سوء العذاب، وبعد أن أريتها النجوم في عز الظهر.. كيف كانت ستتحمل نزواتك وزواجاتك العابرة وإذلالك المستديم لها.. كيف كانت ستتحمل انهيار وقلب البيت إلى ساحة معارك وشتائم من كل نوع.. كيف ستتحمل ضربك لها الدائم وطردك إياها أحيانا وهي بلا سند ولا أهل ولا إنسان تلجأ إليه.. كيف كانت ستتحمل كل هذا دون أن تتعب وتنهار وتصاب بهذا المرض اللعين الذي يقتل حامله؟
إنك يا أبي قاتلها الحقيقي وليس مرض السرطان الذي نفقت منه..
ومضى أبي دون كلمة أخرى.. دون حتى أن يربت على كتفي المثقلتين بكم من الأحزان..
وألفيت شقيقتي الصغرى ابنة السابعة المبتسمة أبداً الضاحكة اللاهية.. ألفيتها واجمة ذاهلة تحدق في الجميع الغفير المقيم في بيتنا بنظرات فارغة بلا معنى، وتنظر إلى باب حجرة أمي المغلق بحسرة تفتت الأكباد ولا تبكي ولا تسأل.. أبداً وحتى طوال فترة مرض أمي إن غابت عنا وهي التي فضلت أن تعاني في بيتها وبين أولادها على أن ترقد في المستشفى بلا أمل.. بلا أمل على الإطلاق.. أشغلني صمت شقيقتي ريم وإطراقها وانفرادها الطويل بنفسها بلا دمعة ولا تنهيدة..
قررت أن أصارح أبي بما كان عليه من أمرها، فهو يستحيل أن يلاحظ شيئاً يخصنا نحن أولاده.. فهو مشغول بنفسه فقط ولا يهمه سواها ولا أنسى حينما كانت أمي تحتضر، وذهبت لأخبره، وأطلب منه استدعاء الطبيب، كان يحادث إحدى الفتيات عبر الهاتف.. صرخت فيه غير عابئة بهمسة وكأنني أنتقم لأمي:
ــ أبي.. أمي إنها تموت..
التفت لي بحدة وفي عينيه نظرة صاعقة كالتي أراها حينما يتعارك وأمي.. أخافتني نظراته كدت أتراجع..
تذكرت كلماتها الأخيرة عن الموت وقربها الشديد منه.. هتفت بقوة:
ــ أبي.. أرجوك.. أحضر الطبيب لأمي.. إنها توشك على الموت..
نظر لي بسخرية وهو يقول:
ــ وماذا سيفعل لها الطبيب.. أنها ميتة به أو بدونه..
وعاد مرة أخرى يهمس عبر الهاتف.. وكأنه لم يفعل شيئاً.. كأنه لم يقتلني برصاص كلماته السامة التي طالما اخترقتني دون أن تصيبني بأذى كأي مجسم من خيال أما كلمته تلك فقد طعنتني بالصميم.
لكنني فكرت وقررت أن أصارحه بحالة شقيقتي المتردية، فمهما تكن فهي ابنته أولاً وأخيراً ويستحيل أن يتخلى عنها..
وبدأ بيتنا يخلو شيئاً فشيئاً.. ابتدأ الأقارب ينسحبون الواحد تلو الآخر.. كان أخرهم هو خالي الوحيد وزوجته اللذان يسكنان في قرية بعيدة نائية.. قبل أن يخرج خالي همس في أذني:
ــ هل ترغبين يا منى أنت وأخوتك أن تحلوا ضيوفاً عندي ولو لبعض الوقت ثم التفت يرمق زوجته في خوف قبل أن يتابع:
ــ ولكن تعرفين يا ابنتي إن بيتنا مزدحم بالأطفال أعاننا الله عليهم.. ثم أن أبيك في حاجة إليك في مثل هذه الظروف.. انتبهي لأبيك وأخوتك واعلمي كما كانت تعمل المرحومة أمك.. كوني شمعة الدار..
وخرج خالي محدثا فجوة عميقة داخل نفسي.. شمعة الدار، لقد انطفأت شمعة دارنا يا خالي برحيل أمي ولن تضاء مرة أخرى أبداً.. فما أنا إلا جزء من تلك الشمعة التي انتهت وإلى الأبد..
وخرجت زوجة خالي بعد أن دست في يدي نقوداً وهي تقول:
ــ أعرف أن والدك مقتر سامحه الله فانفقي من هذا المال على نفسك وعلى اخوتك.. وأنتبهي لريم إنها غير طبيعية..
فعلاً فقد نحلت شقيقتي ريم نحولاً غير طبيعي، تقعر وجهها وغارت عيناها وأصبحت كالطيف تتحرك بهدوء بدون أن نشعر بها ولا تأكل إلا لماماً.. وما أن خلا البيت إلا مني وأخوتي حتى أطلت الحقيقة بوجهها البشع تترصدنا وتحرقنا بنارها.. أن أمي غير موجودة.. غير موجودة على الإطلاق وقد ذهبت لغير رجعه..
جبت أنحاء البيت وشيء في داخلي يتمزق.. شيء لا أدري كنهه.. رأيت مكانها في المطبخ.. تخيلتها وهي تطهو الطعام وتحادثني وتضحك على نوادري التي أحكيها لها وأنا عائدة من المدرسة.. ثم تسألني في حنان:
ــ أجائعة أنت يا منى؟
وعندما تدخل ريم من المدرسة تضمها بين ذراعيها وتقبلها كثيراً، فقد كانت هي دلوعة البيت.. تساءلت بمرارة وفي داخلي ما يشبه الخواء.. من يضمك يا ريم وقبلك عند عودتك من المدرسة.. من يشعرك بحنان الأمومة التي فقدتيه يا حبيبتي الصغيرة المسكينة.. مضيت أتجول في البيت ودموعي تحرق وجنتي.. وقفت أمام حجرة الراحلة.. قبضت المفتاح بيدي.. ترددت بالدخول.. لكن كان لابد من الدخول.. لابد من أن أطوي ثياب المرحومة وأخفي ما أستطيع من ذهبها ومجوهراتها.. فأبي سيبيع كل شيء فأنا أعرفه أكثر من أي شخص آخر.
يجب أن أنتهز هذه الفرصة وأحفظ للمرحومة حقوقها التي لم تحصل عليها في حياتها.. ولو لمرة واحدة.. فأبي كان دوماً ينازعها في كل شيء ويدعي ملكية كل شيء تتحلى به أو تمتلكه بدءاً من ملابسها وحذائها وانتهاء بحليها ومجوهراتها.. إنها لم ترتاح معه يوماً..
شجاعة قوية واتتني على غير انتظار، فقد كنت أخاف أن يسبقني أبي إلى هذه الحجرة وينتهك حرمة المرحومة.. ولكنه لم يفعل حتى الآن.. ربما كان خائفاً من خيالها أو ربما كان ينتظر الفرصة الملائمة..
ودخلت.. دخلت رغم ارتعاشه هزت كياني بأسرة، حين وقع نظري على السرير الذي لفظت عليه أنفاسها الأخيرة..
أخذت أجمع ثيابها ولكل ثوب ذكرى.. ولكل ذكرى معزة خاصة.. وبكائي يشتد ونحيبي يزلزل أرجاء الحجرة الصغيرة.. بكيت كما لم أبك من قبل.. ومن بين دموعي لمحت شقيقتي الصغرى ريم تدخل الحجرة ورائي في صمت وذهول وعيناها تبرقان ببريق عجيب عجزت عن تفسيره.. دارت في أنحاء الحجرة ونظرت أسفل السرير وفوقه ثم هزت كتفيها الصغيرتين بأسى وخرجت دون كلمة واحدة.. ولا حتى سؤال.. والتفت لأجد شقيقي أحمد خلفي.. فقد جذبه بكائي.. سألته من بين دموعي:
ــ أحمد.. ماذا تريد؟
هتف والدموع تغرق وجهه وتسيل على ثيابه:
ــ لا أدري ماذا أفعل.. ولا أين أذهب.. أنا متعب يا منى..
ضممته إلى صدري بقوة واهتزازات جسدي تحيطه بقوة وتحاول أن تعوضه عن الأمومة المفقودة.. الأمومة الحانية التي لا يعادلها شيء في الوجود..
أمي يا حبة قلبي.. لماذا تركتيني وأنا بحاجة إليك.. ولم أنم تلك الليلة.. مضيت ساهدة أفكر، وأتقلب من جنب إلى جنب .. يغض مضجعي شحوب شقيقتي الصغيرة وتدهورها السريع المريع.. ألهذه الدرجة فقدت أمي.. لماذا لم تسأل؟.. لماذا لم تعبر عن حزنها والتياعها بالدموع.. لم لا تبكي حتى تجف عيناها ويهدأ قلبها وتسكن نفسها.. لماذا أصبحت منطوية تعاف الكلام وتصد عن الطعام وتمشي وترى وتنام بغير شعور ولا فكر وكأنها جثة تمشي على قدمين..
قطع على سير أفكاري أناتها الواضحة.. فقد تغير نومها منذ ماتت أمي ولم يعد نومها هادئاً ساكناً مريحاً كما كان.. بل كانت تئن طوال الليل وتتألم وتهمهم بكلمات غير واضحة.. وعندما كنت أقترب منها وأصيخ السمع تتناهى إلىّ دمدمة مبهمة غير واضحة المعالم تخاطب فيها شخص ما وتعاتبه وتناقشه وتلومه.. خمنت أنه طيف أمي الراحلة.. كنت لا أملك من أمري شيئاً غير أن أدثرها باللحاف وأقرأ ما تيسر من القرآن عند رأسها كما كانت تفعل أمي الراحلة..
أمي.. وأناجيها في خيالي.. أطفالك أمانة في عنقي، ولن أتخلى عنهم حتى الموت، ومجوهراتك في الحفظ والصون، لن تمتد لهم يد إنسان غيرك ولا حتى أبي..
سأحتفظ بهم حتى يزينا جيد ومعاصم طفلتك المحبوبة ريم عندما تغدو عروساً رائعة وسأقول لها إنهم هدية والدتك لزواجك.. ستفرح وستبكي وستضمني بحرارة..
أفقت في الغد على حلم مفزع.. لم يفرحني رغم مظاهر الفرح التي رافقته، فقد كنت أدرك بالفطرة أن الفرح يعقبه حزن، ولن يدوم فرح إلا بنهايته حزن ودوما كنت أستشعر ذلك ولا زالت ذكريات تلك الأيام السعيدة التي سبقت وفاة والدتي تطاردني حتى في المنام.. فقد صفت الحياة لنا فجأة من بعد عذاب.. وتحسنت صحتها كثيراً.. الصحوة التي يعقبها الموت.. وخفت آلامها بشكل ملحوظ.. تورد وجهها وتألقت عيناها وازدهرت السعادة في بيتنا، حتى أبي توقف عن العراك وإثارة المشاكل، وكأنه قد عقد هدنة حربية لوقت ما وغرض ما.. ومهما يكن غرضه فقد بدأ يتودد لأمي ويصحبنا في نزهات ورحلات.. كانت الفرحة والبسمات تتردد في أجوائنا ونتنسمها مع هوائنا.. ولكنني كنت خائفة بأعماقي.. وكان خوفي يزلزلني ويفسد على فرحتي.. كانت الضحكة كسكين تغمد في قلبي وتفجره.. تفجر صديد من الأحزان.. كانت البسمة تهزني من الداخل وتثير جروح نفسي المهترئة.. كانت الكلمة الطبية الحانية تفزعني وكأنها سيل من الصفعات.. لم استمتع بسعادتنا المؤقتة كما استمتع بها أخوتي.. كانت الفرحة الطاغية تتألق في أعينهما الصغيرة والسعادة تطفح من وجوههم النضرة.. وحبيبتي ريم كانت تتقافز جذلة بين حضن أمها الحبيبة الضاحكة وبين والدها الذي يبتسم ابتسامة من ابتساماته النادرة.. لكن سرعان ما تبدل كل شيء فجأة كما بدأ فجأة.. فبعد أيام من الصفاء والنقاء صرخت أمي في جوف الليل البهيم صرخة عميقة أفزعتني وأوقفت الدم جامداً في عروقي.. أسرعت إلى حجرتها أتعثر بخوفي.. شلني المشهد الذي رأيته، فبقيت جامدة لا أريم أحدق بأبي وأمي وتلك المرأة الغريبة.. كانت أمي تصرخ وتصيح قائلة:
ــ أخرجها حالاً من حجرتي.. فليس معنى صمتي عن خطاياك أن تبلغ بها بيتي.. وحجرتي بالذات.. هيا أخرجوا..
وأبي يرد قائلا بسخرية المعهودة:
ــ إنك شيطانة كبيرة.. ألم أناولك بنفسي جرعة كبيرة من المخدر لتنامي كيف استيقظت بهذه السهولة؟ عجيب..
وانكفأت أمي على السرير تبكي وتنتحب بمرارة وقد عاودها المرض وهاجمتها ذيوله المندحرة..
التفت أبي وقتها إلى تلك المرأة الأخرى قائلا بحب وابتسامة كبرى تتوج شفتيه.. ابتسامة من ابتساماته النادرة:
ــ هيا يا حبيبتي.. لم استطع اليوم أن أحقق رغبتك.. لكن اطمئني ستعودين مراراً عندما تنتهي هذه العجوز المريضة..
اختفيت بسرعة كيلا يراني أبي ويصب جام غضبه على رأسي.. وعدت بعد أن غادر أبي وتلك المرأة.. عدت وقد ازداد بكاء أمي ونحيبها.. ربت على كتفيها بحنان.. التفت إلى ووجهها الغارق بالدموع.. كان وجهها ضامرا ممصوصا وعيناها تقطران مرارة وأسى.. غاضت الدماء من وجهها والتي لونته في الأيام السابقة ولم يبق إلا الشحوب وطائر الموت يلف حول رأسها إيذاناً بالرحيل.. همست بصوت مبحوح:
ــ أمي..
وارتمت في أحضاني كطفل يعود إلى أمه بعد غياب.. ضممتها بحسرة وعيناي تمتلآن بالدموع..
كنت أسمع كثيراً بنزوات أبي وعلاقاته المتعددة لكن لم أتوقع أن تصل به الجرأة لهذا الحد.. أن يصحب إحدى خليلاته لبيت الزوجية بل في نفس حجرة الزوجية والتي تتردد فيه أنفاس الزوجة المريضة التي توشك على الموت هلعاً وحزناً وهواناً..
سمعت أنفاسها تضطرب في أحضاني وجسدها الضئيل يرتعش بين يدي..
هتفت بهلع:
ــ أمي..
ولم ترد.. ولم تجب على ندائي..
وخلال ساعة كان الطبيب إلى جواري بعد أن حقنها بمخدر قوي.. طلبي مني ألا أزعجها وأن أتركها تنام بهدوء حتى تستيقظ بنفسها.. وبدأت حالة أمي تسوء منذ تلك الليلة حتى ماتت.. وتركت كل شيء لأبي وعشيقاته..
أسرعت إلى أبي وحلمي المفزع لا يزال يسكن ذاكرتي ويمزقني قلقا.. حلمت بأن شقيقتي الصغرى ريم عروس في ثياب الزفاف، وقد تألقت جمالا وبهاء وروعة كما لم أرها من قبل ذلك أبداً.. وكنا جميعا مبتهجين بزواجها حتى أمي.. نعم رأيت أمي في الحلم وهذا هو الجانب المفزع منه.. فقد كانت هي التي تقود ريم من يدها وسط المدعوين وتودعهم بابتسامة وكذلك كانت تفعل ريم! والأعجب في الحلم أن ريم كانت عروساً وهي مازالت طفلة!..
أعتصر الألم أحشائي وأنا أتقدم لأبي.. أقدم رجلا وأؤخر الأخرى.. كنت أخاف أن ينهرني ويسخر من أوهامي كعادته ولكن أخيرً استجمعت شجاعتي وتقدمت منه ببسالة..
كان يتناول إفطاره بتلذذ واضح وهو يقرأ الجريدة، وكأنما لم تقم جنازة في هذا البيت منذ أيام فقط.. وجنازة من؟ زوجته أم أولاده.. زفرت بقوة خلت معها بأن قلبي سيخرج من أضلاعي ثم قلت بهدوء:
ــ أبي.. أريد محادثتك في أمر مهم..
لم يلتفت إلي.. استمر يقرأ الجريدة وهو يقول:
ــ ماذا عندك؟ هيا أخبريني..
جززت على شفتي بقوة لأمنع نفسي من البكاء.. فلم هذا الجحود والنكران منك يا أبي.. ألم ترعك أمي برموش عينيها طيلة حياتها.. ألم تهمل نفسها لأجلك.. لماذا تستكبر أن تحزن عليها ولو لعدة أيام من أجل العشرة والأولاد والحب الذي كان.. أينتهي كل شيء وبهذه السهولة المقيتة؟
كدت ألقي ما في جوفي اشمئزازاً.. لكن نظرة من أبي أيقظتني من أفكاري المتلاطمة..
لاحظ شرودي وصمتي الطويل.. فوضع الجريدة جانباً وهو يهتف:
ــ ماذا تريدين يا منى؟
ثبت عيني في عينيه وأنا أقول:
ــ ريم يا أبي.. إنها ليست على ما يرام..
قاطعني بلهجة جافة:
ــ هذا شيء طبيعي لطفلة فقدت أمها..
أهتز كياني وأنا اسمع جملته الأخيرة.. تجمعت الشهقات في صدري، فلم أستطع إلا أن أجهش بالبكاء.. أخذ أبي ينقر على الطاولة بأصبعه بعصبية واضحة ولما طال أمد بكائي نهض واقفاً وسار بضع خطوات ليخرج.. لحقت به ودموعي مازالت تسيل على وجهي بغزارة.. قلت له بصوت متهدج:
ــ إن "ريم" ليست طفلة عادية يا أبي.. أنت تعرف إنها ذكية وحساسة وقد كانت.. قد كانت دلوعة أمي.. ثم إنها لم تبك منذ الحادث ولم تسأل.. أرجوك يا أبي أنقذها.. إن"ريم" أمانة في عنقك..
أجاب بعصبية:
ــ وماذا تريدين مني أن أفعل لها.. إني لا أستطيع أن أعيد أمها إلى الحياة..
تأوهت وكأن طعنة قد اخترقت أحشائي ولكنني تماسكت بصعوبة وواصلت المناضلة:
ــ أبي تستطيع أن تعرض "ريم" على طبيب.. إني خائفة من أجلها.. فقد يحدث لها شيء..
ران على وجهه حزن غريب.. إذن فقد نجحت في استشارة عاطفة الأبوة من كيانه.. نظر إلي مليا ثم قال:
ــ أين هي الآن.. أحضريها لي..
ولم أكن بحاجة لإحضارها فقد أتت ريم.. دخلت الصالة بخطوات ملائكية وكأنها تطير لا تمشي على الأرض، ومعها لعبة ألقتها بإهمال على الأرض وكأنها سأمت كل شيء وعافت نفسها أي شيء..
قال أبي بصوته الجوهري:
ــ ريم تعالي إلى هنا..
نظرت إلينا بعينين تائهتين زائغة وكأنها لا ترى.. لمح أبي اصفرار وجهها وجحوظ عينيها والتعاسة المرتسمة على محياها الجميل وكأنه يراها لأول مرة:
اقترب منها وهو يسألها:
ــ أتحبين بابا يا ريم؟
نظرت إليه بذهول وهي تقول:
ــ أنا أحب ماما..
أجابها بقسوة لا نظير لها:
ــ ماما ماتت يا ريم..
قفزت من مكانها كالملدوغة وهي تهتف:
ــ لا..لا.. ماما لم تمت.. لا.. لا..
أسرعت إليها أضمها إلى صدري وأنا أقول بهدوء:
ــ اهدئي يا ريم.. اهدئي يا حبيبتي
فقد كانت أنفاسها تتسارع ووجيب قلبها يرتفع بجنون وهي تسألني:
ــ ماما ستعود.. صحيح ماما ستعود يا منى.. أمي ستعود.. وتلتقي نظراتي بنظرات أبي المتسائلة وأنا أجيبها بحرارة:
ــ نعم يا ريم.. ماما ستعود..
وانظر إلى الطرف الآخر من الصالة إلي شقيقي أحمد وقد ترك كتبه وألعابه وانكفأ على وجهه يبكي بحرقة وقد أيقظ هذا المشهد آلامه من جديد..
اصطحبني أبي وشقيقتي ريم إلى المستشفى بعد ذلك الموقف بأيام.. كان المستشفى مزدحماً ويعج بالغادين والرائحين وبعد انتظار دام عدة دقائق أعلنت الممرضة اسم شقيقتي ريم عبد الله الصالح.. بهتت الصغيرة وكأنها لم تسمع اسمها قبل اليوم.. نظرت لي بتساؤل ملح.. أمسكت بيدها النحلة وسرنا وراء أبي لندخل حجرة الطبيب..
كانت ترتدي في ذلك اليوم ثوباً أبيض أضاف شحوباً إلى شحوبها الدائم فبدت كروح هائمة حائرة لا تدري أي مستقر لها..
غاض قلبي بين ضلوعي وأنا ألمح ابتسامتها العذبة ولاح لي حلمي المر بجميع تفاصيله، فهززت رأسي وكأنني أطرد الذكرى من رأسي ودخلنا حيث استقبلنا الطبيب بابتسامة كبرى.. وبعد أن انتهى الطبيب من فحص ريم قال لها باسما:
ــ هل تحبين أفلام الكارتون يا ريم؟
أجابت الصغيرة بتلقائية:
ــ لا..
ــ إذن هل تحبين العرائس والألعاب؟
ــ لا..
ــ غير معقول.. إذن تحبين الآيس كريم؟
ــ لا.. لآ
ــ ألا تحبين أي شيء من هذا.. إذن ماذا تحبين؟
ــ أحب ماما..
دهشة كبرى ملأت محيا الطبيب وهو يهتف؟
ــ جميعنا نحب ماما.. وبالإضافة إلى حبنا لهذا نحب أشياء أخرى كالألعاب والحلوى وغيرها..
أجابت ريم بإصرار:
ــ كلا.. كلا.. لا أحب سوى ماما..
قال الطبيب ومازالت الدهشة تلون وجهه:
ــ وأين ماما الآن؟ هل هي في البيت؟
تغيرت ملامح وجه الصغيرة.. لكنها لم تبك وهي تجيب:
ــ كلا.. ولكنها ستعود..
انتحى أبي بالطبيب جانباً وأخذا يتحدثان همسا وقد عكست عينا الطبيب شفقة عميقة وجهها إلى ريم.. ثم قال الطبيب بصوت سمعناه جميعاً:
ــ إنها تعاني من ضعف حاد.. وأنيميا.. واعتقد إنها مصابة بانهيار عصبي..
شهقت على الرغم مني.. ولم تحرك ريم ساكنا وكأن الأمر لا يعنيها أما أبي فإنه تحول إلى الطبيب وهو يقول بصوت بدا مهتزاً:
ــ دكتور.. هل بقاؤها في المستشفى ضروري؟
اقترب الطبيب من ريم وهو يقول:
ــ هذا إذا رغبت ريم..
صرخت الصغيرة وهي تتشبث بي:
ــ لا.. لا أريد البقاء في المستشفى.. أريد أن أعود إلى البيت..
تكلم الطبيب مطولاً مع أبي ثم تحول إلي قائلا بصوت خافت:
ــ إن الدور الكبير في شفائها يقع عليك.. لن أبقيها في المستشفى ولن أحولها إلى طبيب نفسي فربما تزداد حالتها تعقيداً.. إن علاجها الحقيقي هو بقاؤها في البيت بين اخوتها وأبيها وإدراكها حقيقة وفاة أمها تدريجياً فإذا أيقنت من ذلك فإنها ستبكي وهذا جيد واعتقد بأن هذا هو ما سيحدث.. بالنسبة لضعفها العام فسأكتب لها بعض الأدوية ستحسن حالتها كثيراً إن شاء الله.. وكما أخبرتك واجهيها بوفاة والدتكم تدريجياً على مدى بضعة أيام حتى تعي هذه الحقيقة.. مفهوم..
أومأت برأسي علامة الموافقة وأنا أقود "ريم" إلى الخارج بينما بقي أبي مع الطبيب في الحجرة..
لفت أنظارنا في صالة الانتظار طفلة في عمر "ريم" تقفز وتمزح في جذل.. اقتربت من ريم تتفرس في ملامحها.. بدت ريم إلى جوارها كعجوز في السبعين أثقلتها الهموم والأحزان.. لا حركة ولا ابتسامة ولا حتى نظرات مرحة كتلك الطفلة السعيدة.. وبعد لحظات صرخت الطفلة:
ــ ماما.. أريد مثل هذا العقد..
التفتت إحدى النساء الجالسات متسائلة:
ــ ماذا يا حبيبتي.. أي عقد تريدين؟
أشارت الطفلة إلى جيد ريم قائلة:
ــ مثل هذا يا ماما..
قالت الأم بطيبة خاطر:
ــ حسناً يا حبيبتي غداً سأحضر لك مثله وأحسن منه..
عادت الطفلة للهو مرة أخرى وتقلص وجه ريم تقلصاً مؤلماً وكأنها توشك على البكاء.. ولكنها لم تبك إنما وقفت تنظر من خلال النافذة ولا ترى شيئاً..
وعاد أبي بعد لحظات ليصحبنا إلى المنزل ومعه كم من الأدوية أثقل قلبي مرآها.. فريم الحلوة الصغيرة التي لا تستطيع أن تكمل حتى النهاية هل تستطيع تناول كل هذه الأدوية وبالتناوب..
وبدأت معها رحلة قاسية مؤلمة باءت بالفشل الذريع وخبت توقعات الطبيب المتفائلة ولم يبق إلا سراب فقد بدأت ريم تذوي شيئاً فشيئاً وتساقطت ذوائب شعرها الطويل حتى أنني اضطررت إلى قصه في النهاية ولم تعاتبني ولم تغضب.
نظرت إلى نظرة طويلة وهي تقول:
ــ هكذا أجمل.. أليس كذلك؟
ابتسمت لها وفي حلقي غصة.. قالت بعد فترة صمت:
ــ هل يعجب أمي هذا؟ هل تحب شعري هكذا..
لم أستطع حبس دموعي فانطلقت أبكي بحرارة..
أمسكت يدي بيديها الصغيرتين متسائلة:
ــ منى.. لماذا تبكين؟
نظرت إليها من خلال دموعي.. رقيقة.. ناعمة.. حالمة.. أيجب أن أصدمها بالحقيقة المروعة؟ وماذا ستكون عليه
حالها عندما أخبرها بالحقيقة.. لا.. لا أيها الطبيب فلتهنأ هذه الطفلة المسكينة بحياة الخيال، فهي أرحم لها بكثير من دنيا الواقع البشعة.. ولكن الطبيب أخبرني وأكد لي بأن في هذا خطراً على حياتها وعلى صحته قواها العقلية.. ولكن كيف.. كيف أؤذي هذه الوردة اليانعة وأحطمها بكلمة تخرج من فمي.. وأي كلمة.. إنها ستقضي على حياتها..
رباه ماذا أفعل؟
عشت ليالي طويلة مؤرقة وأنا أفكر في طريقة أتدرج منها إلى إخبار الصغيرة بالحقيقة الصارخة المؤلمة ولم أجد سوى التجاهل والنسيان..
ــ لقد تأخرت أمي يا منى.. متى تعود؟
أيقظني سؤالها من أفكاري المتلاطمة.. أيقظني حتى الذهول.. نظرت إليها بكلتا عيني وكأني أحاول أن أمسك طرف خيط يقودني إلى قضيتي.. ثم قلت لها فجأة:
ــ أمي لن تعود يا ريم..
وقفت لحظات مسمرة عينيها في وجهي وأرنبتا أنفها الدقيق تهتزان بشدة وشفتها السفلى ترتجف وصدرها يعلو ويهبط.. بدت كمن تلقى صدمة عنيفة ولكنها لم تبك..
قالت لي وقد بدا الإصرار على محياها:
ــ منى أنا سأذهب إليها..
صدرت مني صرخة ملتاعة عجزت عن كتمانها.. ولكنها تابعت وهي ترنو إلى البعيد:
ــ منى.. إني أرى أمي.. أراها هناك بعيداً في السماء.. إنها تناديني أن أذهب إليها.. وأنا أريد أن اذهب.. أتمنى أن اذهب لألقي بنفسي بين أحضانها.. أنا لا أسطيع الحياة من دونها، يا منى.. اشعر بأن بيتنا ساكن مجرد من الحياة من دونها يا منى وأن حجرتها مظلمة كئيبة وأن أبي يكرهنا..
ــ منى إن ماما تناديني وأنا سأذهب..
عاودني البكاء من جديد وعجزت عن كتم شهقاتي المزدحمة في صدري.. ضممتها لتلحم في أحشائي وكأنها قطعة مني.. قلت لها وكل جزء في كياني يبكي:
ــ لا تعودي لمثل هذا الكلام مرة أخرى يا ريم.. ستبقين إلى جوارنا.. أنا وأحمد نحبك وفي حاجة لك..
مسحت دموعي بيدها الصغيرة الرقيقة وهي تقول:
ــ لا تحزني يا منى.. ولا تبكي.. صدقيني سأرتاح وأنا هناك إلى جوارها.. ولكن عديني يا منى بشيء..
همست بعيون غارقة في الدمع:
ــ ماذا تريدين يا حبيبتي؟
أجابت بنفس صوتي الهامس:
ــ أبي يا منى.. أنه مسكين.. حقاً نحن نشعر بأنه يكرهنا ولكنه لا يكرهنا.. إنه يحبنا ولكنه لا يستطيع أن يعبر عن حبه.. هكذا هم الرجال..
نظرت إليها من خلال دموعي مندهشة ومبهورة.. هل هذه ريم الطفلة الصغيرة.. إن كلامها أكبر من سنها بكثير.. لقد تحلى كلامها بالحكمة فجأة وكأنها ليست هي التي تتكلم.. هل هي حكمة الله أنزلها على قلب هذه الطفلة الصغيرة لتعبر عن أشياء كنت غافلة عنها.. ولحكمة الله أجهلها عبرت لي شقيقتي عن كل شيء لأنها توشك على.. الموت..
دوت صرخة في أعماقي وأنا أنظر جمالها اليريء الذي يوشك على الفناء..
صغيرتي.. حبيبتي أرجوك أفيقي من أجلي.. ريم لا تموتي..
تبدلت أحوال ريم فجأة.. فقد غدت أكثر صحة وحيوية وبدت أكثر نشاطاً وهي تلهو مع أحمد بعد فترة طويلة من الشرود والانطواء..
تنفس أبي الصعداء وكأنه قد انتزع من أعماقه حملاً كريهاً.. قال لي وهو يبتسم:
ــ ألا ترين كيف أصبحت ريم بفضل الأدوبة.. ألا ترين كيف تورد خداها وعادت الدماء إلى وجهها.. إنها الآن أفضل كثيراً فاستمري في مراعاتها..
نظرت إلى أبي بإشفاق.. انه لا يعرف بأن ريم قد رفضت تناول أي دواء.. وأصرت على رفضها مهددة بمقاطعتي إذا أجبرتها على شيء وأضافت بأنها تعرف نفسها جيداً وهي ليست بحاجة إلى أي دواء.. وقد أقلقني رواؤها المفاجئ أكثر مما أفرحني وخلف في نفسي وجلاً عميقاً وخوفاً شديداً.. فربما أصبحت عروساً بالفعل بعد أيام واختارها الله من بيننا لجواره..
اقترحت على أبي ذات يوم أن نغير المكان لننسى الفاجعة وتتحسن صحة ريم وتستعيد توازنها النفسي حتى احمد يحتاج لهذه الاستراحة..
هز أبي رأسه وكأنه غير مقتنع..
ــ إن "ريم" قد تحسنت تحسناً مطرداً ولا تحتاج لأي تغيير.. أما أحمد فهو فاسد مدلل لن يريحه سوى الضرب..
هتفت باكية:
ـــ وأنا يا أبي.. لا أستطيع أن أتحمل اكثر من ذلك .. إن فــــي البيت فراغاًً موحشاً لا يملآه سوى أمي ..
ثم أجهشت بالبكاء وهيئة ريم بسعادتها المفاجئـــــة تزلزلني حتى النخاع ..
نظر إلي بتركيز ثم قال :
ـــ نعم سوف نسافر .. ولكن ليس الآن .. ليس الآن..
يتبع لاحقاً .....ْ