علي منجلي أهان بومدين في اجتماع مجلس الثورة فقرر تهميشه
بومدين: إذا كان علي منجلي في الجنة فأنا في النار
زبيري يتحدى جماعة وجدة ويرفض تهميش علي منجلي
في الحلقة السابقة روى لنا العقيد الطاهر زبيري الأسباب العامة التي جعلت علاقته بالعقيد هواري بومدين تصاب بالفتور، أما في حلقة اليوم فسيعرج العقيد زبيري على السبب الرئيسي الذي فجر الخلافات بينه وبين العقيد بومدين رئيس مجلس الثورة.
- "جماعة وجدة" تتألب ضد منجلي
- خلال أحد الاجتماعات لمجلس الثورة بمقر الرئاسة وكان مخصصا لمناقشة ميزانية 1967 طلب ڤايد أحمد وزير المالية محاسبة ميزانية وزارة الدفاع فانتفض الرائد عبد القادر شابو غاضبا:
- ـ كيف تطلب منا حسابات ميزانية وزارة الدفاع، ونحن بشهادة محروق (مدير المالية وكان مسيحي الديانة) حساباتنا صحيحة.
- لكن ڤايد أحمد كان مصرا على مراجعة ميزانية كل القطاعات بدقة بما فيها وزارة الدفاع وقال:
- ـ إذا تبقت أموال لم تصرف من ميزانية الدفاع فستعاد إلى الخزينة ثم تصرف ميزانية جديدة للوزارة.
- ووزع ڤايد أحمد على أعضاء مجلس الثورة مشروع ميزانية 1967، لكن علي منجلي عضو مجلس الثورة قال لوزير المالية ساخرا:
- ـ نحتاج ثلاثة أشهر لقراءة كتابك هذا، أحضر لنا خبراءك حتى نطرح عليهم بعض الأسئلة ليجيبوننا عليها في الحال.
- وفي مساء الغد جاء ڤايد أحمد إلى مجلس الثورة مرفوقا بثلاثة خبراء من بينهم مدير الميزانية، وشرع منجلي في طرح الأسئلة عليهم، وعندما أراد ڤايد أحمد أن يجيب على أسئلته قال له منجلي:
- ـ لا تجبني أنت.. دع خبراءك هم من يجيبوني.
- لكن ڤايد أحمد شدّد عليه قائلا:
- ـ بل أجيبك أنا، وإن لم تـقـتـنع بكلامي سيجيبونك هم.
- إلا أن منجلي ردّ عليه بحدة:
- ـ لا أريدك أن تجيبني أنت نهائيا.
- وتحوّل النقاش إلى جدال، والجدال إلى عراك.
- فغضب بومدين من علي منجلي وقال له منتقدا:
- ـ أنت دوما متهور وتخلق لنا فوضى في الاجتماعات.
- واعتبر منجلي كلام بومدين انحيازا لصف ڤايد أحمد لأنه من جماعة وجدة رغم أن ثلاثتهم كانوا يمثلون هيئة الأركان العامة خلال الثورة، فرد على بومدين بنرفزة:
- ـ أنت تقوم بترأس وتسيير الاجتماع فقط، فلا تنحاز لأحد.
- انزعج بومدين لهذا الرد واعتبره إهانة لشخصه ولمنصبه كرئيس لمجلس الثورة، فرفع الجلسة وأضمر شرا لمنجلي.
- لم يكن علي منجلي على وفاق مع بومدين ولا مع ڤايد أحمد منذ الاستقلال بسبب مواقفه الحادة، لكنني اقترحته ليكون معنا في مجلس الثورة، نظرا لسمعته كرائد في جيش التحرير وعضو في قيادة الأركان رغم أنني سبق واختلفت معه في 1962 بسبب "الضابط ابراهيم براهمية"، ولكنني لم أحقد عليه رغم لهجته القاسية معي، وقد أيد اقتراحي له كل من يحياوي والسعيد عبيد، وقبـِله بومدين على مضض.
- وفي الغد جاءني بومدين إلى مكتبي في وزارة الدفاع وانتقد بشدة ما حدث بالأمس مع منجلي الذي قلل من احترامه أمام أعضاء مجلس الثورة، وقال لي وهو يستشيط غضبا من تصرف منجلي ويلومني لإصراري على ضمه إلى مجلس الثورة:
- ـ فرضت عليّ منجلي وها هو فعل ما فعل.. ماذا تبقى من هيبة السلطة؟
- وأضاف وهو في قمة غضبه بشكل لم أعهده عنه حتى في أحلك الظروف:
- ـ قلت لكم علي منجلي لن أعمل معه، أعرفه عنيفا.. إذا اختار الجنة أنا أختار النار.
- فقلت له مدافعا عن منجلي:
- ـ هذا كان زميلا لك في هيئة الأركان، وقد أراد طرح أسئلة على الخبراء الماليين فلماذا أراد ڤايد أحمد أن يجيبه مكانهم.
- وأضفت:
- ـ ما دمنا لم نرجع الشرعية للبلاد فلنضع قانونا داخليا لمجلس الثورة حتى تكون اجتماعاته دورية ونشكل لجنة انضباط داخل مجلس الثورة لفرض الطاعة لمن لا يحترم النظام.
- وقبل أن يغادر بومدين مكتبي أخبرني أن مجلس الثورة سيجتمع مساء اليوم ويريدني أن أحضر الاجتماع.
- وفي المساء ذهبت لحضور مجلس الثورة في وزارة الدفاع، لكني تفاجأت لعدم حضور العقيد يوسف الخطيب والعقيد محند أولحاج والعقيد صالح بوبنيدر والعقيد محمدي السعيد فضلا عن الرائد علي منجلي الاجتماع، إذ لم يدع لحضور هذا الاجتماع سوى القيادات والضباط الذين شاركوا في التصحيح الثوري، وعلى رأسهم جماعة وجدة (بومدين، ڤايد أحمد، مدغري، بوتفليقة، شريف بلقاسم) بالإضافة إليّ وقادة النواحي العسكرية السعيد عبيد بلهوشات الشاذلي بن جديد ويحياوي، وأصبح ظاهرا أن مجلس الثورة صار مقسما إلى ثلاثة تكتلات رئيسية:
- 1 ـ جماعة وجدة: الكتلة الصلبة للنظام والملتفة حول بومدين والذين يمثلون قيادات الولاية الخامسة (الجهة الغربية).
- 2 ـ كبار الضباط: وكنت رفقة الرائدين السعيد عبيد ويحياوي أبرز المؤثرين في هذا التكتل الذي ساهم بشكل فاعل في الإطاحة ببن بلة بالإضافة إلى الرائد عبد الرحمان بن سالم والعقيد عباس.
- 3 ـ القادة التاريخيين للولايات: وكان لديهم دور مكمل في مجلس الثورة.
- أما علي منجلي، فلم يكن ضمن أي تكتل، في حين انسحب كل من محساس وبومعزة من الحكومة وكانا يمثلان الشخصيتان السياسيتان الوحيدتان في مجلس الثورة نظرا لمكانتهما التاريخية إبان ثورة التحرير.
- وخلال هذا الاجتماع تحدث مدغري وزير الداخلية بلغة متشددة لا تقبل الحلول الوسطى:
- ـ إذا وضع علي منجلي قدمه في المجلس مستقبلا فاعتبروني خارجا منه.
- لم أكن موافقا على الأسلوب الذي استعمله مدغري لمحاولة فرض رأيه علينا، فدعوت الحاضرين إلى حل المشكل بطريقة أخوية، ثم كررت مطلبي بضرورة وضع قانون داخلي يضمن عقد اجتماعات دورية ويخلق لجنة انضباط لضمان هيبة مجلس الثورة، وكنت ألمح إلى عدم انتظام اجتماعات المجلس وتقليص دوره كقيادة جماعية، وشعرت أن ما يعرف بجماعة وجدة التي تمثل قيادات الجهة الغربية قد أجمعت رأيها على "طرد" منجلي من مجلس الثورة وعدم استعدادها لمناقشة أي قضية أخرى، فقمت مخاطبا بومدين بشكل صارم حتى أضع مدغري في مقامه:
- ـ سي بومدين.. إذا كان كلام سي حسين (مدغري) هو الفصل فاعتبروني أنا الآخر خارج المجلس.
- وخرجت من الاجتماع مغاضبا، فلم أكن أريد أن تتخذ قرارات مثل هذه على حسب نزوات كل شخص، بل كنت أفضل أن يخضع الأمر لقوانين واضحة حتى لا يطغى أحد على الآخرين
- وذهبت إلى مقهى صغير بوزارة الدفاع وجلست مع بعض الضباط، ولحق بي بومدين وقال لي محاولا استرضائي:
- ـ مشكلة منجلي نتركها على جانب ولنتجاوزها.
- لكني سكت عليه ولم أعلق على كلامه.
- وساندني يحياوي في موقفي وشدّد على ضرورة بقاء منجلي عضوا في مجلس الثورة لكن بومدين لم يستدع المجلس للانعقاد مجددا.
- بومدين "يجمد" نشاط مجلس الثورة
- بعد فشل جماعة وجدة في كسب تضامن كبار الضباط لإقصاء علي منجلي من مجلس الثورة، لم يعد بومدين يستدعي مجلس الثورة للانعقاد حتى لا يلتقي علي منجلي بعد أن ساءت العلاقة بينهما بشكل كبير، غير أن الأمور لم تقتصر على تهميش قادة الولايات التاريخية، بل صارت دائرة التهميش والإقصاء تطال حتى كبار الضباط أمثال السعيد عبيد والعقيد عباس والرائد بن سالم والرائد يحياوي الذين شاركوا في التصحيح الثوري مما جعل دائرة التذمر داخل الجيش وحتى الحكومة تتوسع وتزداد حدة مع إصرار بومدين على اقـتصار عملية اتخاذ القرار على جماعة وجدة دون غيرها.
- وما حز في نفسي كثيرا أن أسمع بالعديد من القرارات الهامة في الدولة عبر وسائل الإعلام كأي مواطن عادي، فالقضايا الخارجية صار بومدين يناقشها مع بوتفليقة بشكل ثنائي، والقضايا المالية يناقشها مع ڤايد أحمد، والمسائل الداخلية يستعرضها مع مدغري، أما المسائل العسكرية فيتجاوزني لمناقشتها مع الأمين العام لوزارة الدفاع الرائد عبد القادر شابو، وقضايا الحزب مع شريف بلقاسم وهكذا أفرغ مجلس الثورة من دوره كقيادة جماعية تملك سلطة التشريع والتنفيذ مع عدم التطرق لموضوع إعادة الشرعية للحكم عبر الانتخابات، فحتى المجالس البلدية تم تنصيبها في انتخابات شكلية في 5 فيفري 1967 .
- رغم أني أصبحت "الرجل الثاني" في السلطة بعد الإطاحة ببن بلة، لكن وقوفي بشكل حازم في وجه الجماعة التي حاولت فرض قراراتها على مجلس الثورة، وتذكيري مرارا لبومدين بضرورة إعادة الشرعية للبلاد كما سبق أن اتفقنا عليه قبل تنفيذ التصحيح الثوري دفع بومدين للعمل على تهميشي مع كبار الضباط بكل الطرق، ولم أكن لأرضى أن تظل الأمور على هذا الشكل، لذلك سعيت لحل المشكل أخويا فنحن مهما كان نمثل عائلة واحدة.
- كان الرائد السعيد عبيد قائد الناحية العسكرية الأولى والرائد يحياوي الذي رقي من نائب مدير الأكاديمية العسكرية لشرشال إلى قائد للناحية العسكرية الثالثة ببشار أكثر المتذمرين من سياسية بومدين الجديدة في التسيير العام للبلاد، وأخذ الرجلان يضغطان علي لاتخاذ مواقف أكثر تشددا مع بومدين، حتى أن السعيد عبيد قال لي في إحدى المناسبات "كنا نعوّل عليك، لأنك قائدنا، لكنك ملتصق بكرسي بومدين ولا تسمح لاجتماع مجلس الثورة بمناقشة المسائل الهامة للبلاد".
- تعليق اجتماعات مجلس الحكومة
- وعلى مستوى الحكومة التي يترأسها بومدين كانت العديد من الأمور عالقة ومتأزمة وبدون حسم، وجاءني وزير العمل والشؤون الاجتماعية عبد العزيز زرداني وأخبرني أن "التعيينات التي يقوم بها لا تمر"، وتحدث معي عن مشاكله مع وزير الصناعة والبترول عبد السلام بلعيد الذي انتقده علانية ووصفه باليساري لأنه يدافع عن حقوق العمال، ووصلت الخلافات بينهما إلى مستوى بالغ دون أن يتدخل بومدين لحسم الأمر رغم تدخلنا في ذلك، كما أن العديد من الوزراء مثل عبد الله فاضل وخوجة طلبوا مقابلة خاصة لبومدين بصفته رئيس الدولة ورئيس الحكومة حتى يفصل في بعض القضايا الهامة لكنه لم يستقبلهم.
- ضغط شديد كان يفرضه علي بعض الضباط السامين والوزراء من أجل أن أعمل على إقناع بومدين بإعادة النظر في طريقة تسيير الشؤون العامة للدولة، من خلال تنظيم اجتماعات دورية لمجلس الثورة وكذلك مجلس الحكومة حتى يتم مناقشة القضايا الهامة للبلاد والفصل فيها مع التأكيد على مبدأ القيادة الجماعية للبلاد التي سبق وأن اتفقنا عليها.
- قابلت بومدين ونصحته بشكل أخوي أن يعقد اجتماعات مجلس الثورة ومجلس الحكومة بشكل دوري، واقترحت عليه أن تكون هناك ثلاثة اجتماعات كل شهر أو شهرين، بحيث يحضر مجلس الثورة اجتماعات مجلس الحكومة، ولكن بومدين لم يكن يرغب في عقد اجتماع مشترك لمجلسي الثورة والحكومة، بل عمل على تهميش اجتماعات مجلس الثورة التي لم تكن مضبوطة الانعقاد فمرة نلتقي بعد شهرين ثم نلتقي بعد أربعة أشهر، وهو ما جعلني أشدد على ضرورة وضع قانون داخلي يضبط هذه المسائل.
- بومدين كان أكثر رده صمتا، بل كان يحتقر مثل هذه الاقتراحات ويعتبر بأنها ستخلق له مشاكل، لذلك سعى إلى بناء الدولة وفق طريقته الخاصة، لكن هذا أثار تحفظنا، لأننا تحملنا معه المسؤولية عندما أطحنا ببن بلة، فليس هو وحده الذي ينقاد له الشعب، فنحن أيضا لدينا أنصار في أوساط الشعب ويتبعنا مناضلون وضباط وجنود، فلم يكن من المقبول أن يقود بومدين الدولة وحده.
- وقضية منجلي أثرت كثيرا على نفسية بومدين، ولم يكن على استعداد للتعامل معه بأي شكل من الأشكال، وعندما اشتد ضغطي عليه لعقد مجلس الثورة اقترح علي أن يكون اجتماعا مصغرا يضم جماعة وجدة وعددا قليلا من الضباط الأعضاء في المجلس، ملمحا إلى ضرورة إقصاء العقداء التاريخيين للثورة من قادة الولايات من اجتماعات مجلس الثورة، لكني رفضت بشكل مطلق هذا الاقتراح وقلت له:
- ـ لا تفعل مثلما فعل بن بلة عندما كان يقسمنا إلى أعضاء من الدرجة الأولى وأعضاء من الدرجة الثانية.
- وأضفت:
- ـ هؤلاء ضباط.. لقد كانوا ضد بن بلة قبلنا، لذلك يجب أن نجمع الضباط كلهم.
- فرد علي بومدين مبررا عدم استعداده لإشراك قادة الداخل:
- ـ ولكن أسرار الدولة تخرج كلما وسعنا دائرة الاجتماع.
- ـ أي أسرار؟ نحن ليس لدينا قنبلة نووية نخفيها، فمشاكل الشعب معروفة وليس لدينا ما نخفيه.
- ورغم الضغوطات التي كنا نمارسها على بومدين من أجل عقد مجلس الثورة إلا أنه ظل متمسكا بموقفه ولم يأبه لاستياء كبار الضباط وأعضاء مجلس الثورة، خاصة الرائد سعيد عبيد الذي كان أكثرنا تذمرا بالإضافة إلى الرائدين بن سالم ويحياوي.
- وفي إحدى المرات ذهبت رفقة السعيد عبيد ويحياوي وأحمد دراية لزيارة عبد العزيز زرداني في بيته في نادي الصنوبر غربي العاصمة، وخلال تجولنا بالقرب من الشاطئ أعلمنا زرداني بأنه ينوي الاستقالة من منصبه كوزير للعمل والحماية الاجتماعية لأن تعيينات المديرين والمفتشين التي يقوم بها لا تنفذ، فقلت له:
- ـ أتحسبني ساكتا عن بومدين، فهيا بنا لنقابله ونطلب منه أن يعقد اجتماع مجلس الثورة لأن لدينا مشاكل لا بد من حلها والفصل فيها.
- لكن يحياوي الذي كان حينها نائبا للعقيد العباس في أكاديمية شرشال ولم يكن قد رقي بعد إلى قائد ناحية قال لي:
- ـ بل تذهب أنت والسعيد عبيد لمقابلته.
- وكان السعيد عبيد ضابطا مثقفا وجريئا فوافق على المجيء معي لمقابلة بومدين، وخلال هذا اللقاء قلت لبومدين:
- ـ نريد عقد اجتماع مجلس الثورة لأن لدينا ما نقول فيه.
- ثم تحدث السعيد عبيد قائلا:
- ـ أنا ذاهب في إجازة قصيرة وأود عندما أرجع من الإجازة تكونوا قد حضرتم الاجتماع.
- ووافق بومدين على عقد الاجتماع على مضض، رغم أنه لم يكن يريد رؤية علي منجلي في هذا الاجتماع.
- بقينا ننتظر انعقاد اجتماع مجلس الثورة حتى مللنا الانتظار، وعاد السعيد عبيد من إجازته دون أن يجد الاجتماع قد حضر، مما أثار سخط الضباط على بومدين لكنهم لم يكونوا يجرؤون على مواجهته، لأنه كان له فضل عليهم، فهو الذي رقاهم كأعضاء في مجلس الثورة، إلا أنه لم يكن لديه أي فضل عليّ بل على العكس من ذلك تماما فقد وقفت إلى جانبه وساعدته في أحلك الظروف التي مر بها، لكني بدأت أشعر بأن بومدين لم يعد يقدر حجم هذه التضحيات والمواقف.