sad5
:: عضو مُشارك ::
- إنضم
- 15 مارس 2009
- المشاركات
- 119
- نقاط التفاعل
- 5
- النقاط
- 7
السلام عليكم
مصدر الموضوع د. فرج نجم: العقاد الرسالة.. وقصة فيلم عمر المختار
قصص مثيرة أول مرة اعرفها بعد قرأتى لهذا المقال
الله يرحم مخرجنا وادخله فسيح جناته
انتوني كوين وجد شبها بينه وصورة عمر المختار علي العملة الليبية فقرر التعرف عليه وتمثيل دوره
سالم عيون النار جلب عليه دور وحشي كل المتاعب.. كرهه الليبيون لقتله حمزة علي الشاشة وفقد وظيفته
كم توقفت عند مقولة دريد لحام في حق الراحل مصطفي العقاد عندما وصفه بأنه أخرج فيلم الرسالة ولكنه كان رسالة ، اغتيل هذه المبدع الذي خدم الإسلام طيلة مسيرته السينمائية بأيدٍ تحمل الهم نفسه ولكن بطرق مختلفة تدعي بها أنها تدافع عن الإسلام وشرف أهله !
لقد مات حسرةً علي الإسلام حتي أنه لم يجد من يمول حلمه الذي احتضنه فكره وعقله لسنين علي الرغم من أن تكلفة حلمه في إنتاج فيلم صلاح الدين كانت أكثر من ثمن طائرة F16 واحدة في جيش عربي واحد أُحيل علي التقاعد. ونحن الليبيين أكثر من فُجع برحيل العقاد الذي مثل لنا الكثير، فنحن وهو تبادلنا الجميل معاً، فقد أخرج لنا ـ لليبيا وللأمتين العربية الإسلامية ـ فيلمي الرسالة وعمر المختار، فليبيا ولا فخر في ذلك وفرت له التمويل والأرض والخبرات المتواضعة في إنتاج أفضل فيلمين عرفتهما السينما العربية الإسلامية. في يلي سأسلط الضوء علي العقاد، الشخصية والمخرج والمنتج المبدع، وعلي فيلم الرسالة الذي كان بوابته إلي المشاهد العربي، وسأطلق العنان لقلمي للتعريف بفيلم عمر المختار الذي استطاع العقاد أن يتناول به مادة غاية في الصعوبة، وهي حقبة جهاد الأجداد والآباء، كما استطاع أن يبرزه كتحفة سينمائية لا تكاد تجد بيتاً في أرجاء الوطن العربي إلا وقد دخلته، ليس هذا فحسب بل دخل أيضاً بطريقة لا أقول مقبولة فقط العالم الغربي، واتفق علي روعة الإخراج في تصوير هذا البطل الرمز ليصبح مثلاً يحتذي به في الصبر والتضحية في سبيل الله والوطن والأهل وقبساً ينير طريقنا نحو التحرر من الخوف والظلم والموت.
ولد مصطفي العقاد في أسرة متواضعة الحال في مدينة حلب الشهباء بسورية عام 1934، وانتقل لدراسة السينما في الولايات المتحدة عام 1954، ودرس الفنون المسرحية في جامعة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا، وتخرج منها عام 1958م، والراحل حلم منذ كان عمره 14 سنة بأن يصبح يوماً ما مخرجاً، وبالفعل أصبح بالإرادة والجد أكبر مخرج ومنتج عربي حقق شهرة علي الساحة العالمية بعمله في هوليوود نفسها، فقد أنتج 13 فيلماً أخرج ثلاثة منها، ويعد العقاد من أكبر المخرجين العالميين، حيث أخرج الفيلم الشهير الرسالة عام 1976م، وفيلم عمر المختار عام 1980م، كما شارك في إخراج سلسلة أفلام الرعب هالوين Halloween أولها في سنة 1978م لينتج الفيلم الثامن عام 2002م وقبيل موته كان بصدد الفيلم رقم تسعة من هذه السلسلة.
وعلي الرغم من إقامة العقاد في الغرب أكثر من نصف حياته فإن هموم العرب والمسلمين لم تفارقه حتي مماته، فقد ظل يحلم بمدينة عربية للإنتاج السينمائي يصنع فيها سنوياً فيلماً عن مآثر العرب وتاريخ المسلمين. كما كان منذ سنوات يحضر لإخراج فيلم جديد عن صلاح الدين الأيوبي يختلف عن الأعمال السابقة التي أنتجت عن هذا البطل العربي الذي أنصفه الغرب المسيحي فأراد العقاد أن يصنع فيلماً بلغة سينمائية تخاطب الجمهور الغربي لكي يوصل الرسالة التي بدأها إلي أكبر عدد ممكن. وهذا ليس بجديد علي العقاد الذي انشغل باله بقضايا أخري مثل الشيشان والبوسنة والهرسك، وكان يتمني أن يقدم عملاً عن المجاهد محمد شامل الشيشاني الذي حارب قياصرة الروس، كما كان عنده مشروع عمل عن صبيحة الأندلسية المرأة التي حكمت الأندلس، كذلك بدأ في تحضير سيناريو يتناول الوثيقة البريطانية المهمة التي نشرتها صحيفة صاندي تايمز الشهيرة عن وفد أرسله ملك إنجلترا جون الثالث إلي والي قرطبة المسلمة بإسبانيا عام 1213م يقترح فيها أن تكون بلاده تحت حماية المسلمين بعد أن تعتنق الإسلام، وأن تدفع إنجلترا الجزية له، ولكن جواب الخليفة كان إن ملكاً يقبل أن يبيع شعبه ومملكته لا يستحق حمايتنا .
بدأت هذه الروح المفعمة بالإسلام معه منذ البداية فقد قال في لقاء له مع التلفزيون السعودي: عندما ذهبت إلي المطار وأنا في ريعان شبابي كان معي والدي يودعني فوضع 200 دولار في أحد جيبيّ والقرآن الكريم في الآخر، وهذا مما ترك الأثر في حياته المهنية فيما بعد، وهذا الأثر كان جلياً في حياته العربية ونهجه وموالاته لدينه الإسلامي في معاشه بأمريكا. وهذا ما أكدته الفنانة السورية القديرة مني واصف، التي لعبت دور آكلة الأكباد هند بنت عتبة في الرسالة ، وفي حديثها عن العقاد قالت: عندما أراد العقاد تسجيل فيلم الرسالة أعطي كل فرد من أفراد الطاقم العاملين بالفيلم نسخة من القرآن الكريم وطلب منهم القراءة لكي يطلعوا عليه ويعيشوا الإسلام من خلاله.
دخل العقاد عقول الغرب والعرب والمسلمين أكثر بفيلمه الشهير الرسالة الذي حكي فيه قصة الإسلام من خلال حياة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وبعثته للعالمين بطريقة عالية الإتقان والإخراج جمعت بين التراث وروح العصر وجوهر الإسلام وما فيه من تسامح ومحبة، وكان الراحل يؤكد علي أن العالمية هي: اللغة والتقنية، وكانت المملكة المغربية في بادئ الأمر مسرحاً لإخراج الفيلم لمدة أسابيع، وتم تمويل المشروع بأموال بالدرجة الأولي ليبية وكويتية، وبموافقة أتباع المذاهب السنية والشيعية بمرجعياتها سواء في الأزهر الشريف في مصر أو المجلس الإسلامي الشيعي الأعلي بلبنان، وجاء في بيان وزارة الإعلام والثقافة المصرية قبيل الشروع في تصوير أحداث الفيلم:
يمنع ظهور صورة الرسول عليه الصلاة والسلام صراحةً أو رمزاً أو صورة أحد الخلفاء الراشدين وأهل البيت والعشرة المبشرين بالجنة وسماع أصواتهم وكذلك يمنع إظهار صورة السيد المسيح وصور الأنبياء بصفة عامة ويراعي الرجوع في كل ما سبق للجهات الدينية المختصة.
ولوحظ غياب المملكة العربية السعودية بمؤسساتها الدينية والمالية، الأمر الذي فسر تخلي المغرب عن المشروع في منتصف الطريق، وقيل بأنه كانت ثمة ضغوط دينية سعودية، ألزمت المغرب بالانسحاب من المشروع فاضطر فريق عمل فيلم الرسالة إلي الذهاب إلي الصحراء الليبية لتكملة الفيلم. وبالفعل أُكمل الفيلم في ليبيا وجرت أحداثه في الصحراء الليبية وخاصة معركتي بدر وأُحد في مدينة سبها في قلب صحراء الجنوب الليبي المعروفة بسيوف رمالها الذهبية الخلابة، والبقية كانت بضواحي العاصمة الليبية طرابلس بتشجيع ليبي علي كل المستويات الرسمية والشعبية والفنية لما للإسلام وأهله من محبة عند شعب ليبيا المسلم أسوة بسائر مسلمي الأرض. فلقد لعب عدد من الممثلين في ليبيا أدواراً متفاوتة كعبد الفتاح الوسيع في دور عبادة ومحمد الساحلي في دور التاجر المرابي، وعيسي عبد الحفيظ الذي دل كفار قريش علي موقع الرسول وصاحبه الصديق، والفنان القدير عمران المدنيني الذي لعب دور سهيل بن عمرو وظهر في لقطة صلح الحديبية مفاوضاً باسم قريش، ولكن أهم هذه الأدوار هي التي لعبها الفنانان الليبيان القديران علي أحمد سالم في دور بلال بن رباح وسالم قدارة في دور وحشي قاتل حمزة. وفي هذا الصدد يحكي العقاد طرفة مفادها أنه كان يعيش فيلم الرسالة عندما كان منشغلاً بإخراجه لدرجة أنه كان جالساً بفندقه بطرابلس يراقب الناس في رواحهم وغدوهم وإذا بكهربائي من أبناء طرابلس يصلح الإضاءة في الفندق وقد تطاير الشرر من عينيه، وإذا بتلك الشرارات تصيب العقاد ليتخذ من سالم قدارة ممثلاً ليلعب دور وحشي، وبالفعل أجاد سالم ذاك الدور بمهارة وإتقان، وهذا لم يكن غريباً علي الأستاذ سالم قدارة الذي عُرف بين أبناء حيي الحارة وباب البحر بطرابلس بـ سالم عيون النار وقد كلفه هذا الدور الكثير من أهل ليبيا الذين كرهوه لقتله حمزة، الأمر الذي أفقده وظيفته فاضطر، علي حد قول مصطفي العقاد، إلي أن يتصل بالعقاد ويشكو ما جرّ عليه دور وحشي من كره الليبيين له لزعمهم أنه قتل سيدنا حمزة، ويقول العقاد: اضطررت إلي أن أتصل بوزارة الإعلام الليبية وأطلب منهم تخصيص راتب تقاعدي لهذا الرجل لكي يحيي كريماً كبقية البشر، وهذه كانت إحدي لمسات العقاد الإنسانية بقدر عفوية أهلنا وحبهم لدينهم.
كان ذلك في النصف الثاني من السبعينيات، والشيء بالشيء يذكر، فقد صادف ذلك تغيير العملة الليبية التي طُبعت علي فئة العشرة الدنانير منها صورة وجه الشهيد الرمز عمر المختار، وحدث أن دُفع لفريق فيلم الرسالة جزء من رواتبهم بالعملة الليبية التي حملت صورة عمر المختار فنظر الممثل الأمريكي انتوني كوين، الذي لعب دور حمزة في فيلم الرسالة، وقال لمن حوله إن هذا الرجل، مشيراً إلي وجه عمر المختار، يشبهني، وامتلكت صورة عمر المختار مخيلة انتوني كوين، فأصر علي أن يتعرف علي عمر المختار .. ولماذا هو الرمز الذي كان لدرجة أن تطبع صورته علي العملة، فلعله عظيم، كبنيامين فرنكلين المرسوم علي فئة 100 دولار أو جورج واشنطن علي الدولار الواحد في أمريكا الذي هو أيضاً صورته علي الدولار الأمريكي، إذن الرجل عظيم. وبهذه التساؤلات انطلقت قصة فيلم أسد الصحراء .. عمر المختار ، فذهب انتوني كوين يبحث ميمنة وميسرة وأخفقت رفوف المكتبات الليبية أن تشفي غليله بلغته الإنجليزية بيد أن لغته العربية لم تكن بالمستوي المطلوب لاستكشاف مجاهل عظمة عمر المختار. فاتجه انتوني كوين مصمماً علي التعرف إلي عمر المختار في الدولة التي كانت حكومتها الفاشية قد قتلته وعاملت شعبه الثائر ضد جورهم معاملة يندي لها جبين الإنسانية التي يتشدق بعضهم بها في أيامنا الغابرة، وبالفعل تعرف انتوني كوين علي الشهيد الرمز من خلال كتابات الطليان وإذا به أمام رجل عظيم بكل المعايير دافع عن إسلامه، الذي دافع عنه انتوني كوين في فيلم الرسالة في شخصية حمزة، وها هو مع موعد ثان مع الشهادة، الأول كان في دور حمزة والآن مع دور استشهادي ثان في شخص عمر المختار الذي استشهد من أجل مبدأ سام اختزل فيه حرية شعبه وحقه في أن يحيي مسلماً وإذا شاء الله أن يموت مسلما.
[mark="6600CC"]كوين والأرشيف الإيطالي[/mark]
فبعد قضاء انتوني كوين وقتاً في الأرشيف الإيطالي قرر أن يتبني هذه الشخصية التي دخلت قلبه وعقله وبعد الانتهاء من تصوير فيلم الرسالة بليبيا اقنع انتوني كوين مصطفي العقاد بجدوي صناعة فيلم عن هذا الفارس الشهيد، وألح علي العقاد بأن يتكفل بإخراج الفيلم وأن يتفاوض مع الليبيين بشأن المشروع، ويقول العقاد في هذا الصدد إنه اختار قصة المناضل عمر المختار لسببين الأول: هو أنني لم أكن أرغب في شخصية عربية معاصرة في زمننا هذا، بل كنت أبحث عن شخصية تستطيع أن تفرض أهمّيتها علي المشاهد العالمي تماماً كما هو الحال في فيلمي الأول. السبب الثاني: هو أنني كنت أريد مواجهة كل هذه الادعاءات بأننا شعب مهزوم لا يُقاتل ولا ينتصر وكنت أريد أن أوضّح كيف أننا عانينا من الاحتلال الفاشي والاستعمار ومعسكرات التعذيب تماماً كما اليهود. إنها صفحة مجهولة في التاريخ إن لم نقدّمها ضاعت. لذلك كان وبشهادة الكثير فيلم عمر المختار أفضل من الرسالة سينمائياً ودرامياً.
وسرعان ما تبنت الحكومة الليبية المشروع وأبدت استعداداً للتعاون وتمويل الفيلم الذي بلغت تكلفته 36 مليون دولار أمريكي، كان نصيب انتوني كوين منها مليون ونصف فقط ورشح مارلون براندو للعب دور موسليني ولكنه طلب ثمانية ملايين لأنه كان قد نال لتوه جائزة الأوسكار علي فيلمه الذي تقاضي عليه ثمانية ملايين، ولعل أكثر أعمال براندو شهرة فيلمه العرّاب الأب الروحي للمافيا ولكن أُعطي الدور للمثل الأمريكي رود ستايغر مقابل مليونٍ فقط من الدولارات فأجاد فيه عجرفة موسليني .. دوتشي الظلم والبغي .. ولعب الممثلان البريطانيان اوليفر ريد دور السفاح غراتسياني وجون غليوغود في دور المفتري عليه الشارف الغرياني. وكتب السيناريست الايرلندي الرائع هاري كرايغ سيناريو عمر المختار، وهو نفس السيناريست الذي فاز بـ 4 جوائز أوسكار وسبق له أن كتب سيناريو فيلمي الرسالة ولورانس العرب. وقد بني كرايغ حوار الفيلم بناءً علي كل ما يمت لعمر المختار من كتب ووثائق ومشافهة متت بصلة للثلاث سنوات الأخيرة من حياة الشيخ الشهيد 28 ـ 1931 كلقائهم واستعانتهم بالمجاهدين الذين كانوا حينئذ علي قيد الحياة ولعل أبرزهم كان المجاهد التواتي عبد الجليل المنفي، أحد أبناء عمومة عمر المختار ورئيس حرسه الخاص الذي كان يعرف بـ طابور المعية وكان التواتي من جملة من كانوا مع عمر المختار حين سقط أسيراً، ولكن المجاهد التواتي استطاع أن يفلت من كماشة العدو ويهاجر إلي مصر ليرجع ضابطاً في جيش التحرير بصحبة الفيلق الثامن البريطاني وتكتب له الحياة ليساعد العقاد وطاقمه في توصيف شخص عمر المختار. هذا وقد أُنفق ما يقرب من ثمانية ملايين علي الآلات والمعدات التي احتاجها مشروع الفيلم في حين لعب الليبيون دوراً لا يقل قيمة وأداء عن نظرائهم مقابل حفنة من المئات في أحسن الأحوال لم تتجاوز الآلاف من الدولارات مقابل جهدهم. وقد استند العقاد علي المختصين الليبيين في فهم المزاج الليبي وخاصة البدوي منه فاتخذ لنفسه مخرجين مساعدين من الليبيين وهما الأستاذ محمد نجم والأستاذ علي أحمد سالم، كما كان هناك المبدع والأديب عبد السلام قادربوه إلي جانب الأستاذ محمد بوفانة مساعداً لمدير الإنتاج والأستاذ حسن بن دردف مصمماً للأزياء الليبية، ومن الممثلين الليبيين كان الأساتذة مختار الأسود وفتحي بدر وغيرهما، والرجل الآن ـ إيهاب الورفلي ـ الذي لعب دور الطفل علي آنذاك الذي التقط نظارة عمر المختار عندما هوت في علامة علي استمرار درب ونهج عمر المختار، بل حتي أن بعض الليبيين أراد الإسهام بطريقة أو أخري كالأستاذ فوزي الدغيلي مدير الشركة العامة للمباني الذي تبرع ببناء بهو مجاني لإطعام طاقم الفيلم.
[mark="6600CC"]فريق من الفرسان [/mark]
وفي لقاء مطول مع الأستاذ محمد نجم ـ مساعد مخرج الفيلم ـ أخبرني أن العقاد جاء بفريق من الفرسان الغربيين للقيام بحركات بهلوانية فوق ظهور الخيل من أجل الإثارة في الفيلم ولكن الدهشة والإعجاب أصابتا أعضاء الفريق بسبب ما شاهدوه من فرسان ليبيين قاموا بحركات بهلوانية من فوق ظهور الخيل فاقت ما كانوا هم مستعدين له، كامتطاء الرجل الواحد حصانين والسباق بثبات أو دوران حول جسد الحصان وهو يجري. أذهل هذا الأمر نظراءهم الغربيين الذين أرغموا علي تبني حركات أولئك الفرسان، وكان من بين أولئك الفرسان البارعين أحمد حبيب وعبد الحميد بوسحيب وغيرهما الذين لعبوا دوراً لا يستهان به في الجمع بين متطلبات السينما التقنية والإبداعية وتجسيد جسارة وفروسية الأجداد والآباء ضد المستعمرين الطليان.
تجلت روح الإبداع هذه عند العقاد في عمر المختار أكثر منها في الرسالة في نظر كثير من المراقبين ولعل ما قاله العقاد يذهب إلي تعزيز ذلك فقد قال: في فيلم الرسالة واجهتنا صعوبة في الكشف عن وجوه كل من الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين ولم نستطع إظهار صورهم، ولا أصواتهم، ولا حتي ظلالهم طوال أحداث الفيلم لما في ذلك من حساسية عند جمهور المسلمين، وبالتالي كانت ثمة صعوبة في وضع شخصية محورية في السيناريو يتتبع المشاهد، وخاصة الغربي المتعود علي بطل في أفلامه، فما كان علينا إلا أن اخترنا حمزة ولكنه قتل مبكراً في معركة أحد ليترك لنا فراغاً، أما بالنسبة لفيلم عمر المختار فإننا تمتعنا بمتسع للتصرف بسيرة وشخص عمر المختار المتعددة الأوجه الأمر الذي أعطي انتوني كوين الحرية المطلقة وبدون قيود ليعيش عمر المختار ويقلده في جلوسه ومأكله وفي امتطائه جواده .. الخ، حتي أن انتوني كوين صرح للقناة الرابعة في التلفزيون البريطاني بأنه أحب هذه الشخصية وعاشها ولعب دورها كما لم يلعب أي دور مماثل من قبل في مسيرته الفنية. وفي مهاتفة للعقاد لبيت انتوني كوين اشتكت زوجة الأخير للعقاد بأن زوجها لا يزال يعيش شخصية عمر المختار بعد سنة من إتمام الفيلم ولم يستطع بعد التخلص منها وتمنت عليه أن ينصحه ويرجعه إلي طوره. وهذه كانت شخصية انتوني كوين التي ذابت في فيلم عمر المختار حتي عندما كان يتجول انتوني كوين من وقت إلي آخر في مدينتي شحات والبيضاء برفقة المترجم فوزي بادي وغالباً ما كان يرتدي الزي الليبي المعروف عندنا بالبذلة العربية الذي ظهر بها في الفيلم فكان الناس يصيحون عليه من بعيد منادين .. يا سيدي عمر، يا سيدي عمر .. ظناً منهم بأنه سيدي عمر المختار، حتي قيل له بأن الشيخ الشهيد كانت فيه قزلة أي عرجة خفيفة فقد قلدها كما هو عمر المختار، وأخبرني الأصدقاء من تلك المنطقة أن اوليفر ريد الذي لعب دور السفاح غراتسياني كان يصارع شيوخ قبيلة الحاسة دغدغة منه لهم أو العكس صحيح.
[mark="6600CC"]إيطاليا لم تعرض فيلم عمر المختار [/mark]
ومن المفارقات أن أفلام العقاد التي لقيت استحساناً بين النقاد وجمهوره العريض علي ضفتي الحضارة الإنسانية سواء كانت العربية الإسلامية أو الغربية بصفة خاصة، فإن فيلم عمر المختار لم يعرض في إيطاليا بعد، وأخبرني أحد العارفين للحالة الإيطالية بأن الفيلم ممنوع ولكني أرفض أن أقبل ذلك منه لا سيما إيطاليا التي عُرفت بحرية الصحافة إلي حد الإباحية وإهانة المسيحية حيث معقل الكاثوليك في الفاتيكان، ولكن ازدادت شدة استغرابي عندما قرأت بأن فيلم الرسالة وعلي الرغم من مضي 28 عاماً علي إطلاقه ما يزال ممنوعاً من العرض في سورية ومصر علي الرغم من انتشاره علي أشرطة الفيديو والأقراص المدمجة في العالم كله، والأغرب من ذلك كله أن ملف فيلم الرسالة ما زال في الرقابة التي لا تجد اعتراضاً رقابياً عليه.
وتكتمل جمالية الموسيقي والأغاني الشجية التي صحبت الفيلمين، فقد استوحي الموسيقار الفرنسي موريس جار الموسيقي التصويرية لفيلم الرسالة من الأذان عندما نزل القاهرة يبحث عن الموسيقي العربية الملائمة للفيلم فلم يجد إلا الأذان وعذوبة أصوات مؤذني المساجد المصرية ليتوشح بها الفيلم، والشيء نفسه عندما اختار نشيد الفاشست الإيطالي جوفينستا .. ومعناه: يا شباب .. ليصور بموسيقاه بشاعة الطليان في احتلالهم واحة الكفرة وهم يحتفلون بنشوة النصر علي تلك الأشلاء التي مزقتها دباباتهم، واستطاع أن يقلب بالموسيقي هذا النشيد الفاشي الحماسي إلي مشجية حزينة تردد بلحن بطيء جداً جوفينستا .. جوفينستا وكأنهم مستحون من هذا النصر الرخيص علي أناس أقل منهم عدداً وعدةً ولكن فاقوهم في الاستبسال والتصدي لآليات الحديد والنار التي أنتجتها أوروبا بتكتيف فرسان قبيلة الزوية لأرجلهم والتغني بأهزوجة المؤمن .. مرحب بالجنة جت تدني .. ليلقوا ربهم صابرين مظلومين بما ابتلوا به، وزادت العين بللاً والقلب حزناً اللبنانية نجاح سلام عندما غنت لمعتقلات الموت والوحشية التي كاد يفني فيها الأجداد والآباء.
أخبرني الأستاذ محمد نجم بأن التصوير بدأ في فيلم عمر المختار عام 1979 وانتهي في 1980م آخذاً عشرة أشهر بالتمام في ما يقرب من خمس ساعات ونصف من التصوير بالكامل، ومن ثم تمنتج في هيئته النهائية في ساعتين وأربعين دقيقة في استوديوهات ريتشموند بجنوب لندن، وصورت أغلب وقائعه بين واحتي أوجله وجالو في الصحراء والجبل الأخضر في ليبيا بينما صورت بعض المشاهد التي تعني بالحقبة الموسلينية من الفيلم في روما. هذا وقد عُرض الفيلم في ما يقرب من 450 دار عرض في أمريكا وحدها في اليوم الأول من نيسان (أبريل) عام 1980م، وسبق ذلك عرض الفيلم علي نخبة من السلك الدبلوماسي المقيم في طرابلس ولفيف من المهتمين الذين أثار إعجابهم هذا العمل الرائع بقدر ما أثارت مشاهد المعتقلات واحتلال الكفرة ولحظات إعدام الشيخ الشهيد أنفس الحضور حتي أن بعضهم أجهش بالبكاء علي ما رأوه، وهذا ما حدث مع الأهالي الذين طلب منهم المشاركة في تمثيل الإعدام فلم تتمالك النساء أنفسهن فبكين وكأن التصوير قد أعاد إليهم مشهد شنق الشيخ القائد من جديد.
العمل كان ضخماً بكل المقاييس فقد بنيت مدينة سينمائية كاملة في مدينة شحات الأثرية بالجبل الأخضر حيث كان جهاد عرين الليث في آخر أيامه، وأعطي العقد لشركة بولندية وبموجبه بنت 120 بيتاً عائلياً وزوجياً وفردياً وحوض سباحة مع طائرة خاصة بطاقم الفيلم ومغسلة وصالات ألعاب وترفيه، وكان هناك طاقم طبي كامل من أطباء وممرضين وفنيين، ومطابخ قدمت خمس وجبات يومياً لستمائة شخص قُدم فيها 1200 بيضة و600 فردة خبز في الصباح هذا وقد استخدم أكثر من مليون كوب بلاستيكي واستهلك العاملون في الفيلم عشرة أطنان من الأغذية.
وعلي الرغم من نجاح الفيلم الباهر ودقة ومصداقية أغلب ما جاء فيه بنسبة تفوق 95 بالمئة إلا أننا نتفق مع بعض النقاد بوجود هفوات كان بالإمكان تجنبها حيث بدت وكأنها شابت مصداقية الفيلم بشيء من التصحيف، ولعل أولها هو من وضع حبل المشنقة حول رقبة عمر المختار، فالرجل لم يكن عسكرياً إيطالياً كما شاهدنا في الفيلم بل من أبناء جلدتنا ويدعي عبد السلام التاورغي ويكني بـ اللونقو، كان يسكن فيما عُرف آنذاك بزرايب العبيد محاذياً لشط مدينة بنغازي، وكان سكيراً نكيراً مات مخموراً كما ذكر شهود عيان عاصروه وعرفوه، أما الخطأ التاريخي الكبير كان تخوين السادة السنوسية ومشايخهم بالجملة في شخص الشارف باشا الغرياني وهذا لم يكن صحيحاً ولا دقيقاً حتي أن صحفياً إيطالياً كان مرافقاً لطاقم فيلم عمر المختار في الجبل الأخضر وعمل مراسلاً لصحيفة التيمبو الإيطالية Tempo فجر قنبلة علاقة عمر المختار بالسنوسية عندما نشر رسالة علي صدر الصحيفة من الشيخ عمر المختار إلي السيد إدريس السنوسي يقر فيها له بالولاء والطاعة والإمارة ويطلب فيها بعض الأطعمة والذخيرة، الأمر الذي أزعج البعض وزادهم إصراراً علي تخوينهم، كما استبعد الفيلم الشيخ القائد عبد الحميد العبار تماماً الذي كان ملازماً لعمر المختار وأحد أعوانه الذي استطاع أن ينجو بأعجوبة وينفذ إلي مصر ليحمل شعلة الجهاد ويعيد الكرة علي الطليان في الحرب العالمية الثانية ويشهد دحر الطليان في ليبيا ويساهم في بناء دولة مستقلة تولي فيها رئاسة مجلس الشيوخ، ومن ثم يحمل علي أكتافه مع رفاق الجهاد رفات عمر المختار في فخر واعتزاز لما قاموا به ويضعه في ضريحه ببنغازي عام 1960م أي بعد ما يقرب من 30 عاماً من استشهاده.
لقد أحسن العقاد حين درس شخصية عمر المختار دراسة متأنية، وهذا دأبه مع كل أعماله، فقد قابل بعض المجاهدين والإيطاليين وكثيرون منهم كانت لهم صلة من قريب أو بعيد بجهاد عمر المختار، وختم العقاد حين قال: ما ألهمني في عمر المختار هو سنه ويقينه بأن النصر له علي القوة الفاشية الهائلة ولو بعد حين وصمود ومتابعة عمر المختار للجهاد وبالتالي الشهادة جعلت منه قصة رائعة، مع أن إيطاليا جاءت لتفني الشعب الليبي وليس استعماره، ولو كان الشعب العربي لديه الروح التي تحلي بها الليبيون آنذاك لكان الأمر أهون، في حين رأي اوليفر ريد في عمر المختار رجلاً عظيماً علي حد تعبيره ومقاتلاً عظيماً كما كان صموده خارقاً أمام السفاح غراتسياني، أما انتوني كوين فقال: إن قوة عمر المختار كقوة غاندي في هدوئه، وساعدني الشبه الذي بيني وبينه وقرب سنه مني، ولكنه كان أنشط مني في سنه. أما تأثيره علي النشء فكان بليغاً جداً فأطفالي لم يملوا من مشاهدة هذا الفيلم علي الرغم من عدم فهمهم بالضبط أحداث قصته نظراً لحداثة سنهم. وكما قال لي أحد أطفال المغاربة المهاجرين بأن عمر المختار في الجنة لأنه بطل، أما ابني عبد العزيز الذي لم يتجاوز الثامنة فيري في عمر المختار ما لا يراه في غيره وقد سألني ذات مرة إن كان عمر المختار ربي.. تعالي الله عن ذلك .. لما يمثله من روعة وعظمة فقلت له هو من عند ربي وبين يدي ربي الآن، وأكد لي بعض الدعاة بأن هذه كلها مؤشرات علي قبول هذا الرجل ـ أي عمر المختار ـ حيث ختم الله حياته في هذه الدنيا بالشهادة وبذكره بيننا بالسعادة وسخر له هؤلاء الجنود المجندة ليأتي (انتوني كوين) رجل أمريكي أصول أبيه ايرلندية وأمه مكسيكية ليلعب دوره فيحبه الناس ويحبوا عمر المختار أكثر. إنها لمن علامات القبول للشيخ الشهيد عند الله والتمكين له في الدنيا والآخرة، وخاصة أن يكتب السيناريو باللغة الإنجليزية ومن ثم يقوم الأردني جبرا إبراهيم جبرا بترجمته إلي العربية عكس ما حدث في فيلم الرسالة حيث لعب عبد الله غيث الدور العربي لحمزة بينما انتوني كوين باللغة الإنجليزية وكان ثمة تباين واضح في الأداء حيث تفوق عبد الله غيث بكثير بينما أبدع انتوني كوين في عمر المختار . علمنا أخيراً من بعض المصادر أن الفنان المصري نور الشريف يعد للقيام بدور عمر المختار في عمل جديد له، وهو الأمر الذي يفرحنا كليبيين، ولكن في المقابل نتمني من الأستاذ الكبير نور الشريف أن يتريث حتي يتقن الاستعداد لكي لا يظهر بمظهر لا يتناسب مع الأثر الكبير والعميق الذي تركه الدور الذي قام به انتوني كوين في فيلم العقاد، هذا مع تمنياتنا له بالتوفيق والنجاح وأن يضيف شيئاً جديداً من سيرة المختار ليكون له أثر كبير أيضا.
هذه قصة مخرج مع مجاهد تحكي ملحمة رسالة .. وملحمة شعب أراد الحياة فكتب له النصر ولقائده الشهادة ولمخرج هذه القصة العرفان بالروعة والإبداع حتي استحق لقب شهيد الفن الإسلامي الرفيع
كاتب واكاديمي ليبي يقيم في لندن
نقلا عن صحيفة القدس العربي اللندنية
الله يرحم مخرجنا وادخله فسيح جناته
انتوني كوين وجد شبها بينه وصورة عمر المختار علي العملة الليبية فقرر التعرف عليه وتمثيل دوره
سالم عيون النار جلب عليه دور وحشي كل المتاعب.. كرهه الليبيون لقتله حمزة علي الشاشة وفقد وظيفته
كم توقفت عند مقولة دريد لحام في حق الراحل مصطفي العقاد عندما وصفه بأنه أخرج فيلم الرسالة ولكنه كان رسالة ، اغتيل هذه المبدع الذي خدم الإسلام طيلة مسيرته السينمائية بأيدٍ تحمل الهم نفسه ولكن بطرق مختلفة تدعي بها أنها تدافع عن الإسلام وشرف أهله !
لقد مات حسرةً علي الإسلام حتي أنه لم يجد من يمول حلمه الذي احتضنه فكره وعقله لسنين علي الرغم من أن تكلفة حلمه في إنتاج فيلم صلاح الدين كانت أكثر من ثمن طائرة F16 واحدة في جيش عربي واحد أُحيل علي التقاعد. ونحن الليبيين أكثر من فُجع برحيل العقاد الذي مثل لنا الكثير، فنحن وهو تبادلنا الجميل معاً، فقد أخرج لنا ـ لليبيا وللأمتين العربية الإسلامية ـ فيلمي الرسالة وعمر المختار، فليبيا ولا فخر في ذلك وفرت له التمويل والأرض والخبرات المتواضعة في إنتاج أفضل فيلمين عرفتهما السينما العربية الإسلامية. في يلي سأسلط الضوء علي العقاد، الشخصية والمخرج والمنتج المبدع، وعلي فيلم الرسالة الذي كان بوابته إلي المشاهد العربي، وسأطلق العنان لقلمي للتعريف بفيلم عمر المختار الذي استطاع العقاد أن يتناول به مادة غاية في الصعوبة، وهي حقبة جهاد الأجداد والآباء، كما استطاع أن يبرزه كتحفة سينمائية لا تكاد تجد بيتاً في أرجاء الوطن العربي إلا وقد دخلته، ليس هذا فحسب بل دخل أيضاً بطريقة لا أقول مقبولة فقط العالم الغربي، واتفق علي روعة الإخراج في تصوير هذا البطل الرمز ليصبح مثلاً يحتذي به في الصبر والتضحية في سبيل الله والوطن والأهل وقبساً ينير طريقنا نحو التحرر من الخوف والظلم والموت.
ولد مصطفي العقاد في أسرة متواضعة الحال في مدينة حلب الشهباء بسورية عام 1934، وانتقل لدراسة السينما في الولايات المتحدة عام 1954، ودرس الفنون المسرحية في جامعة لوس أنجلوس في ولاية كاليفورنيا، وتخرج منها عام 1958م، والراحل حلم منذ كان عمره 14 سنة بأن يصبح يوماً ما مخرجاً، وبالفعل أصبح بالإرادة والجد أكبر مخرج ومنتج عربي حقق شهرة علي الساحة العالمية بعمله في هوليوود نفسها، فقد أنتج 13 فيلماً أخرج ثلاثة منها، ويعد العقاد من أكبر المخرجين العالميين، حيث أخرج الفيلم الشهير الرسالة عام 1976م، وفيلم عمر المختار عام 1980م، كما شارك في إخراج سلسلة أفلام الرعب هالوين Halloween أولها في سنة 1978م لينتج الفيلم الثامن عام 2002م وقبيل موته كان بصدد الفيلم رقم تسعة من هذه السلسلة.
وعلي الرغم من إقامة العقاد في الغرب أكثر من نصف حياته فإن هموم العرب والمسلمين لم تفارقه حتي مماته، فقد ظل يحلم بمدينة عربية للإنتاج السينمائي يصنع فيها سنوياً فيلماً عن مآثر العرب وتاريخ المسلمين. كما كان منذ سنوات يحضر لإخراج فيلم جديد عن صلاح الدين الأيوبي يختلف عن الأعمال السابقة التي أنتجت عن هذا البطل العربي الذي أنصفه الغرب المسيحي فأراد العقاد أن يصنع فيلماً بلغة سينمائية تخاطب الجمهور الغربي لكي يوصل الرسالة التي بدأها إلي أكبر عدد ممكن. وهذا ليس بجديد علي العقاد الذي انشغل باله بقضايا أخري مثل الشيشان والبوسنة والهرسك، وكان يتمني أن يقدم عملاً عن المجاهد محمد شامل الشيشاني الذي حارب قياصرة الروس، كما كان عنده مشروع عمل عن صبيحة الأندلسية المرأة التي حكمت الأندلس، كذلك بدأ في تحضير سيناريو يتناول الوثيقة البريطانية المهمة التي نشرتها صحيفة صاندي تايمز الشهيرة عن وفد أرسله ملك إنجلترا جون الثالث إلي والي قرطبة المسلمة بإسبانيا عام 1213م يقترح فيها أن تكون بلاده تحت حماية المسلمين بعد أن تعتنق الإسلام، وأن تدفع إنجلترا الجزية له، ولكن جواب الخليفة كان إن ملكاً يقبل أن يبيع شعبه ومملكته لا يستحق حمايتنا .
بدأت هذه الروح المفعمة بالإسلام معه منذ البداية فقد قال في لقاء له مع التلفزيون السعودي: عندما ذهبت إلي المطار وأنا في ريعان شبابي كان معي والدي يودعني فوضع 200 دولار في أحد جيبيّ والقرآن الكريم في الآخر، وهذا مما ترك الأثر في حياته المهنية فيما بعد، وهذا الأثر كان جلياً في حياته العربية ونهجه وموالاته لدينه الإسلامي في معاشه بأمريكا. وهذا ما أكدته الفنانة السورية القديرة مني واصف، التي لعبت دور آكلة الأكباد هند بنت عتبة في الرسالة ، وفي حديثها عن العقاد قالت: عندما أراد العقاد تسجيل فيلم الرسالة أعطي كل فرد من أفراد الطاقم العاملين بالفيلم نسخة من القرآن الكريم وطلب منهم القراءة لكي يطلعوا عليه ويعيشوا الإسلام من خلاله.
دخل العقاد عقول الغرب والعرب والمسلمين أكثر بفيلمه الشهير الرسالة الذي حكي فيه قصة الإسلام من خلال حياة رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وبعثته للعالمين بطريقة عالية الإتقان والإخراج جمعت بين التراث وروح العصر وجوهر الإسلام وما فيه من تسامح ومحبة، وكان الراحل يؤكد علي أن العالمية هي: اللغة والتقنية، وكانت المملكة المغربية في بادئ الأمر مسرحاً لإخراج الفيلم لمدة أسابيع، وتم تمويل المشروع بأموال بالدرجة الأولي ليبية وكويتية، وبموافقة أتباع المذاهب السنية والشيعية بمرجعياتها سواء في الأزهر الشريف في مصر أو المجلس الإسلامي الشيعي الأعلي بلبنان، وجاء في بيان وزارة الإعلام والثقافة المصرية قبيل الشروع في تصوير أحداث الفيلم:
يمنع ظهور صورة الرسول عليه الصلاة والسلام صراحةً أو رمزاً أو صورة أحد الخلفاء الراشدين وأهل البيت والعشرة المبشرين بالجنة وسماع أصواتهم وكذلك يمنع إظهار صورة السيد المسيح وصور الأنبياء بصفة عامة ويراعي الرجوع في كل ما سبق للجهات الدينية المختصة.
ولوحظ غياب المملكة العربية السعودية بمؤسساتها الدينية والمالية، الأمر الذي فسر تخلي المغرب عن المشروع في منتصف الطريق، وقيل بأنه كانت ثمة ضغوط دينية سعودية، ألزمت المغرب بالانسحاب من المشروع فاضطر فريق عمل فيلم الرسالة إلي الذهاب إلي الصحراء الليبية لتكملة الفيلم. وبالفعل أُكمل الفيلم في ليبيا وجرت أحداثه في الصحراء الليبية وخاصة معركتي بدر وأُحد في مدينة سبها في قلب صحراء الجنوب الليبي المعروفة بسيوف رمالها الذهبية الخلابة، والبقية كانت بضواحي العاصمة الليبية طرابلس بتشجيع ليبي علي كل المستويات الرسمية والشعبية والفنية لما للإسلام وأهله من محبة عند شعب ليبيا المسلم أسوة بسائر مسلمي الأرض. فلقد لعب عدد من الممثلين في ليبيا أدواراً متفاوتة كعبد الفتاح الوسيع في دور عبادة ومحمد الساحلي في دور التاجر المرابي، وعيسي عبد الحفيظ الذي دل كفار قريش علي موقع الرسول وصاحبه الصديق، والفنان القدير عمران المدنيني الذي لعب دور سهيل بن عمرو وظهر في لقطة صلح الحديبية مفاوضاً باسم قريش، ولكن أهم هذه الأدوار هي التي لعبها الفنانان الليبيان القديران علي أحمد سالم في دور بلال بن رباح وسالم قدارة في دور وحشي قاتل حمزة. وفي هذا الصدد يحكي العقاد طرفة مفادها أنه كان يعيش فيلم الرسالة عندما كان منشغلاً بإخراجه لدرجة أنه كان جالساً بفندقه بطرابلس يراقب الناس في رواحهم وغدوهم وإذا بكهربائي من أبناء طرابلس يصلح الإضاءة في الفندق وقد تطاير الشرر من عينيه، وإذا بتلك الشرارات تصيب العقاد ليتخذ من سالم قدارة ممثلاً ليلعب دور وحشي، وبالفعل أجاد سالم ذاك الدور بمهارة وإتقان، وهذا لم يكن غريباً علي الأستاذ سالم قدارة الذي عُرف بين أبناء حيي الحارة وباب البحر بطرابلس بـ سالم عيون النار وقد كلفه هذا الدور الكثير من أهل ليبيا الذين كرهوه لقتله حمزة، الأمر الذي أفقده وظيفته فاضطر، علي حد قول مصطفي العقاد، إلي أن يتصل بالعقاد ويشكو ما جرّ عليه دور وحشي من كره الليبيين له لزعمهم أنه قتل سيدنا حمزة، ويقول العقاد: اضطررت إلي أن أتصل بوزارة الإعلام الليبية وأطلب منهم تخصيص راتب تقاعدي لهذا الرجل لكي يحيي كريماً كبقية البشر، وهذه كانت إحدي لمسات العقاد الإنسانية بقدر عفوية أهلنا وحبهم لدينهم.
كان ذلك في النصف الثاني من السبعينيات، والشيء بالشيء يذكر، فقد صادف ذلك تغيير العملة الليبية التي طُبعت علي فئة العشرة الدنانير منها صورة وجه الشهيد الرمز عمر المختار، وحدث أن دُفع لفريق فيلم الرسالة جزء من رواتبهم بالعملة الليبية التي حملت صورة عمر المختار فنظر الممثل الأمريكي انتوني كوين، الذي لعب دور حمزة في فيلم الرسالة، وقال لمن حوله إن هذا الرجل، مشيراً إلي وجه عمر المختار، يشبهني، وامتلكت صورة عمر المختار مخيلة انتوني كوين، فأصر علي أن يتعرف علي عمر المختار .. ولماذا هو الرمز الذي كان لدرجة أن تطبع صورته علي العملة، فلعله عظيم، كبنيامين فرنكلين المرسوم علي فئة 100 دولار أو جورج واشنطن علي الدولار الواحد في أمريكا الذي هو أيضاً صورته علي الدولار الأمريكي، إذن الرجل عظيم. وبهذه التساؤلات انطلقت قصة فيلم أسد الصحراء .. عمر المختار ، فذهب انتوني كوين يبحث ميمنة وميسرة وأخفقت رفوف المكتبات الليبية أن تشفي غليله بلغته الإنجليزية بيد أن لغته العربية لم تكن بالمستوي المطلوب لاستكشاف مجاهل عظمة عمر المختار. فاتجه انتوني كوين مصمماً علي التعرف إلي عمر المختار في الدولة التي كانت حكومتها الفاشية قد قتلته وعاملت شعبه الثائر ضد جورهم معاملة يندي لها جبين الإنسانية التي يتشدق بعضهم بها في أيامنا الغابرة، وبالفعل تعرف انتوني كوين علي الشهيد الرمز من خلال كتابات الطليان وإذا به أمام رجل عظيم بكل المعايير دافع عن إسلامه، الذي دافع عنه انتوني كوين في فيلم الرسالة في شخصية حمزة، وها هو مع موعد ثان مع الشهادة، الأول كان في دور حمزة والآن مع دور استشهادي ثان في شخص عمر المختار الذي استشهد من أجل مبدأ سام اختزل فيه حرية شعبه وحقه في أن يحيي مسلماً وإذا شاء الله أن يموت مسلما.
[mark="6600CC"]كوين والأرشيف الإيطالي[/mark]
فبعد قضاء انتوني كوين وقتاً في الأرشيف الإيطالي قرر أن يتبني هذه الشخصية التي دخلت قلبه وعقله وبعد الانتهاء من تصوير فيلم الرسالة بليبيا اقنع انتوني كوين مصطفي العقاد بجدوي صناعة فيلم عن هذا الفارس الشهيد، وألح علي العقاد بأن يتكفل بإخراج الفيلم وأن يتفاوض مع الليبيين بشأن المشروع، ويقول العقاد في هذا الصدد إنه اختار قصة المناضل عمر المختار لسببين الأول: هو أنني لم أكن أرغب في شخصية عربية معاصرة في زمننا هذا، بل كنت أبحث عن شخصية تستطيع أن تفرض أهمّيتها علي المشاهد العالمي تماماً كما هو الحال في فيلمي الأول. السبب الثاني: هو أنني كنت أريد مواجهة كل هذه الادعاءات بأننا شعب مهزوم لا يُقاتل ولا ينتصر وكنت أريد أن أوضّح كيف أننا عانينا من الاحتلال الفاشي والاستعمار ومعسكرات التعذيب تماماً كما اليهود. إنها صفحة مجهولة في التاريخ إن لم نقدّمها ضاعت. لذلك كان وبشهادة الكثير فيلم عمر المختار أفضل من الرسالة سينمائياً ودرامياً.
وسرعان ما تبنت الحكومة الليبية المشروع وأبدت استعداداً للتعاون وتمويل الفيلم الذي بلغت تكلفته 36 مليون دولار أمريكي، كان نصيب انتوني كوين منها مليون ونصف فقط ورشح مارلون براندو للعب دور موسليني ولكنه طلب ثمانية ملايين لأنه كان قد نال لتوه جائزة الأوسكار علي فيلمه الذي تقاضي عليه ثمانية ملايين، ولعل أكثر أعمال براندو شهرة فيلمه العرّاب الأب الروحي للمافيا ولكن أُعطي الدور للمثل الأمريكي رود ستايغر مقابل مليونٍ فقط من الدولارات فأجاد فيه عجرفة موسليني .. دوتشي الظلم والبغي .. ولعب الممثلان البريطانيان اوليفر ريد دور السفاح غراتسياني وجون غليوغود في دور المفتري عليه الشارف الغرياني. وكتب السيناريست الايرلندي الرائع هاري كرايغ سيناريو عمر المختار، وهو نفس السيناريست الذي فاز بـ 4 جوائز أوسكار وسبق له أن كتب سيناريو فيلمي الرسالة ولورانس العرب. وقد بني كرايغ حوار الفيلم بناءً علي كل ما يمت لعمر المختار من كتب ووثائق ومشافهة متت بصلة للثلاث سنوات الأخيرة من حياة الشيخ الشهيد 28 ـ 1931 كلقائهم واستعانتهم بالمجاهدين الذين كانوا حينئذ علي قيد الحياة ولعل أبرزهم كان المجاهد التواتي عبد الجليل المنفي، أحد أبناء عمومة عمر المختار ورئيس حرسه الخاص الذي كان يعرف بـ طابور المعية وكان التواتي من جملة من كانوا مع عمر المختار حين سقط أسيراً، ولكن المجاهد التواتي استطاع أن يفلت من كماشة العدو ويهاجر إلي مصر ليرجع ضابطاً في جيش التحرير بصحبة الفيلق الثامن البريطاني وتكتب له الحياة ليساعد العقاد وطاقمه في توصيف شخص عمر المختار. هذا وقد أُنفق ما يقرب من ثمانية ملايين علي الآلات والمعدات التي احتاجها مشروع الفيلم في حين لعب الليبيون دوراً لا يقل قيمة وأداء عن نظرائهم مقابل حفنة من المئات في أحسن الأحوال لم تتجاوز الآلاف من الدولارات مقابل جهدهم. وقد استند العقاد علي المختصين الليبيين في فهم المزاج الليبي وخاصة البدوي منه فاتخذ لنفسه مخرجين مساعدين من الليبيين وهما الأستاذ محمد نجم والأستاذ علي أحمد سالم، كما كان هناك المبدع والأديب عبد السلام قادربوه إلي جانب الأستاذ محمد بوفانة مساعداً لمدير الإنتاج والأستاذ حسن بن دردف مصمماً للأزياء الليبية، ومن الممثلين الليبيين كان الأساتذة مختار الأسود وفتحي بدر وغيرهما، والرجل الآن ـ إيهاب الورفلي ـ الذي لعب دور الطفل علي آنذاك الذي التقط نظارة عمر المختار عندما هوت في علامة علي استمرار درب ونهج عمر المختار، بل حتي أن بعض الليبيين أراد الإسهام بطريقة أو أخري كالأستاذ فوزي الدغيلي مدير الشركة العامة للمباني الذي تبرع ببناء بهو مجاني لإطعام طاقم الفيلم.
[mark="6600CC"]فريق من الفرسان [/mark]
وفي لقاء مطول مع الأستاذ محمد نجم ـ مساعد مخرج الفيلم ـ أخبرني أن العقاد جاء بفريق من الفرسان الغربيين للقيام بحركات بهلوانية فوق ظهور الخيل من أجل الإثارة في الفيلم ولكن الدهشة والإعجاب أصابتا أعضاء الفريق بسبب ما شاهدوه من فرسان ليبيين قاموا بحركات بهلوانية من فوق ظهور الخيل فاقت ما كانوا هم مستعدين له، كامتطاء الرجل الواحد حصانين والسباق بثبات أو دوران حول جسد الحصان وهو يجري. أذهل هذا الأمر نظراءهم الغربيين الذين أرغموا علي تبني حركات أولئك الفرسان، وكان من بين أولئك الفرسان البارعين أحمد حبيب وعبد الحميد بوسحيب وغيرهما الذين لعبوا دوراً لا يستهان به في الجمع بين متطلبات السينما التقنية والإبداعية وتجسيد جسارة وفروسية الأجداد والآباء ضد المستعمرين الطليان.
تجلت روح الإبداع هذه عند العقاد في عمر المختار أكثر منها في الرسالة في نظر كثير من المراقبين ولعل ما قاله العقاد يذهب إلي تعزيز ذلك فقد قال: في فيلم الرسالة واجهتنا صعوبة في الكشف عن وجوه كل من الرسول عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين ولم نستطع إظهار صورهم، ولا أصواتهم، ولا حتي ظلالهم طوال أحداث الفيلم لما في ذلك من حساسية عند جمهور المسلمين، وبالتالي كانت ثمة صعوبة في وضع شخصية محورية في السيناريو يتتبع المشاهد، وخاصة الغربي المتعود علي بطل في أفلامه، فما كان علينا إلا أن اخترنا حمزة ولكنه قتل مبكراً في معركة أحد ليترك لنا فراغاً، أما بالنسبة لفيلم عمر المختار فإننا تمتعنا بمتسع للتصرف بسيرة وشخص عمر المختار المتعددة الأوجه الأمر الذي أعطي انتوني كوين الحرية المطلقة وبدون قيود ليعيش عمر المختار ويقلده في جلوسه ومأكله وفي امتطائه جواده .. الخ، حتي أن انتوني كوين صرح للقناة الرابعة في التلفزيون البريطاني بأنه أحب هذه الشخصية وعاشها ولعب دورها كما لم يلعب أي دور مماثل من قبل في مسيرته الفنية. وفي مهاتفة للعقاد لبيت انتوني كوين اشتكت زوجة الأخير للعقاد بأن زوجها لا يزال يعيش شخصية عمر المختار بعد سنة من إتمام الفيلم ولم يستطع بعد التخلص منها وتمنت عليه أن ينصحه ويرجعه إلي طوره. وهذه كانت شخصية انتوني كوين التي ذابت في فيلم عمر المختار حتي عندما كان يتجول انتوني كوين من وقت إلي آخر في مدينتي شحات والبيضاء برفقة المترجم فوزي بادي وغالباً ما كان يرتدي الزي الليبي المعروف عندنا بالبذلة العربية الذي ظهر بها في الفيلم فكان الناس يصيحون عليه من بعيد منادين .. يا سيدي عمر، يا سيدي عمر .. ظناً منهم بأنه سيدي عمر المختار، حتي قيل له بأن الشيخ الشهيد كانت فيه قزلة أي عرجة خفيفة فقد قلدها كما هو عمر المختار، وأخبرني الأصدقاء من تلك المنطقة أن اوليفر ريد الذي لعب دور السفاح غراتسياني كان يصارع شيوخ قبيلة الحاسة دغدغة منه لهم أو العكس صحيح.
[mark="6600CC"]إيطاليا لم تعرض فيلم عمر المختار [/mark]
ومن المفارقات أن أفلام العقاد التي لقيت استحساناً بين النقاد وجمهوره العريض علي ضفتي الحضارة الإنسانية سواء كانت العربية الإسلامية أو الغربية بصفة خاصة، فإن فيلم عمر المختار لم يعرض في إيطاليا بعد، وأخبرني أحد العارفين للحالة الإيطالية بأن الفيلم ممنوع ولكني أرفض أن أقبل ذلك منه لا سيما إيطاليا التي عُرفت بحرية الصحافة إلي حد الإباحية وإهانة المسيحية حيث معقل الكاثوليك في الفاتيكان، ولكن ازدادت شدة استغرابي عندما قرأت بأن فيلم الرسالة وعلي الرغم من مضي 28 عاماً علي إطلاقه ما يزال ممنوعاً من العرض في سورية ومصر علي الرغم من انتشاره علي أشرطة الفيديو والأقراص المدمجة في العالم كله، والأغرب من ذلك كله أن ملف فيلم الرسالة ما زال في الرقابة التي لا تجد اعتراضاً رقابياً عليه.
وتكتمل جمالية الموسيقي والأغاني الشجية التي صحبت الفيلمين، فقد استوحي الموسيقار الفرنسي موريس جار الموسيقي التصويرية لفيلم الرسالة من الأذان عندما نزل القاهرة يبحث عن الموسيقي العربية الملائمة للفيلم فلم يجد إلا الأذان وعذوبة أصوات مؤذني المساجد المصرية ليتوشح بها الفيلم، والشيء نفسه عندما اختار نشيد الفاشست الإيطالي جوفينستا .. ومعناه: يا شباب .. ليصور بموسيقاه بشاعة الطليان في احتلالهم واحة الكفرة وهم يحتفلون بنشوة النصر علي تلك الأشلاء التي مزقتها دباباتهم، واستطاع أن يقلب بالموسيقي هذا النشيد الفاشي الحماسي إلي مشجية حزينة تردد بلحن بطيء جداً جوفينستا .. جوفينستا وكأنهم مستحون من هذا النصر الرخيص علي أناس أقل منهم عدداً وعدةً ولكن فاقوهم في الاستبسال والتصدي لآليات الحديد والنار التي أنتجتها أوروبا بتكتيف فرسان قبيلة الزوية لأرجلهم والتغني بأهزوجة المؤمن .. مرحب بالجنة جت تدني .. ليلقوا ربهم صابرين مظلومين بما ابتلوا به، وزادت العين بللاً والقلب حزناً اللبنانية نجاح سلام عندما غنت لمعتقلات الموت والوحشية التي كاد يفني فيها الأجداد والآباء.
أخبرني الأستاذ محمد نجم بأن التصوير بدأ في فيلم عمر المختار عام 1979 وانتهي في 1980م آخذاً عشرة أشهر بالتمام في ما يقرب من خمس ساعات ونصف من التصوير بالكامل، ومن ثم تمنتج في هيئته النهائية في ساعتين وأربعين دقيقة في استوديوهات ريتشموند بجنوب لندن، وصورت أغلب وقائعه بين واحتي أوجله وجالو في الصحراء والجبل الأخضر في ليبيا بينما صورت بعض المشاهد التي تعني بالحقبة الموسلينية من الفيلم في روما. هذا وقد عُرض الفيلم في ما يقرب من 450 دار عرض في أمريكا وحدها في اليوم الأول من نيسان (أبريل) عام 1980م، وسبق ذلك عرض الفيلم علي نخبة من السلك الدبلوماسي المقيم في طرابلس ولفيف من المهتمين الذين أثار إعجابهم هذا العمل الرائع بقدر ما أثارت مشاهد المعتقلات واحتلال الكفرة ولحظات إعدام الشيخ الشهيد أنفس الحضور حتي أن بعضهم أجهش بالبكاء علي ما رأوه، وهذا ما حدث مع الأهالي الذين طلب منهم المشاركة في تمثيل الإعدام فلم تتمالك النساء أنفسهن فبكين وكأن التصوير قد أعاد إليهم مشهد شنق الشيخ القائد من جديد.
العمل كان ضخماً بكل المقاييس فقد بنيت مدينة سينمائية كاملة في مدينة شحات الأثرية بالجبل الأخضر حيث كان جهاد عرين الليث في آخر أيامه، وأعطي العقد لشركة بولندية وبموجبه بنت 120 بيتاً عائلياً وزوجياً وفردياً وحوض سباحة مع طائرة خاصة بطاقم الفيلم ومغسلة وصالات ألعاب وترفيه، وكان هناك طاقم طبي كامل من أطباء وممرضين وفنيين، ومطابخ قدمت خمس وجبات يومياً لستمائة شخص قُدم فيها 1200 بيضة و600 فردة خبز في الصباح هذا وقد استخدم أكثر من مليون كوب بلاستيكي واستهلك العاملون في الفيلم عشرة أطنان من الأغذية.
وعلي الرغم من نجاح الفيلم الباهر ودقة ومصداقية أغلب ما جاء فيه بنسبة تفوق 95 بالمئة إلا أننا نتفق مع بعض النقاد بوجود هفوات كان بالإمكان تجنبها حيث بدت وكأنها شابت مصداقية الفيلم بشيء من التصحيف، ولعل أولها هو من وضع حبل المشنقة حول رقبة عمر المختار، فالرجل لم يكن عسكرياً إيطالياً كما شاهدنا في الفيلم بل من أبناء جلدتنا ويدعي عبد السلام التاورغي ويكني بـ اللونقو، كان يسكن فيما عُرف آنذاك بزرايب العبيد محاذياً لشط مدينة بنغازي، وكان سكيراً نكيراً مات مخموراً كما ذكر شهود عيان عاصروه وعرفوه، أما الخطأ التاريخي الكبير كان تخوين السادة السنوسية ومشايخهم بالجملة في شخص الشارف باشا الغرياني وهذا لم يكن صحيحاً ولا دقيقاً حتي أن صحفياً إيطالياً كان مرافقاً لطاقم فيلم عمر المختار في الجبل الأخضر وعمل مراسلاً لصحيفة التيمبو الإيطالية Tempo فجر قنبلة علاقة عمر المختار بالسنوسية عندما نشر رسالة علي صدر الصحيفة من الشيخ عمر المختار إلي السيد إدريس السنوسي يقر فيها له بالولاء والطاعة والإمارة ويطلب فيها بعض الأطعمة والذخيرة، الأمر الذي أزعج البعض وزادهم إصراراً علي تخوينهم، كما استبعد الفيلم الشيخ القائد عبد الحميد العبار تماماً الذي كان ملازماً لعمر المختار وأحد أعوانه الذي استطاع أن ينجو بأعجوبة وينفذ إلي مصر ليحمل شعلة الجهاد ويعيد الكرة علي الطليان في الحرب العالمية الثانية ويشهد دحر الطليان في ليبيا ويساهم في بناء دولة مستقلة تولي فيها رئاسة مجلس الشيوخ، ومن ثم يحمل علي أكتافه مع رفاق الجهاد رفات عمر المختار في فخر واعتزاز لما قاموا به ويضعه في ضريحه ببنغازي عام 1960م أي بعد ما يقرب من 30 عاماً من استشهاده.
لقد أحسن العقاد حين درس شخصية عمر المختار دراسة متأنية، وهذا دأبه مع كل أعماله، فقد قابل بعض المجاهدين والإيطاليين وكثيرون منهم كانت لهم صلة من قريب أو بعيد بجهاد عمر المختار، وختم العقاد حين قال: ما ألهمني في عمر المختار هو سنه ويقينه بأن النصر له علي القوة الفاشية الهائلة ولو بعد حين وصمود ومتابعة عمر المختار للجهاد وبالتالي الشهادة جعلت منه قصة رائعة، مع أن إيطاليا جاءت لتفني الشعب الليبي وليس استعماره، ولو كان الشعب العربي لديه الروح التي تحلي بها الليبيون آنذاك لكان الأمر أهون، في حين رأي اوليفر ريد في عمر المختار رجلاً عظيماً علي حد تعبيره ومقاتلاً عظيماً كما كان صموده خارقاً أمام السفاح غراتسياني، أما انتوني كوين فقال: إن قوة عمر المختار كقوة غاندي في هدوئه، وساعدني الشبه الذي بيني وبينه وقرب سنه مني، ولكنه كان أنشط مني في سنه. أما تأثيره علي النشء فكان بليغاً جداً فأطفالي لم يملوا من مشاهدة هذا الفيلم علي الرغم من عدم فهمهم بالضبط أحداث قصته نظراً لحداثة سنهم. وكما قال لي أحد أطفال المغاربة المهاجرين بأن عمر المختار في الجنة لأنه بطل، أما ابني عبد العزيز الذي لم يتجاوز الثامنة فيري في عمر المختار ما لا يراه في غيره وقد سألني ذات مرة إن كان عمر المختار ربي.. تعالي الله عن ذلك .. لما يمثله من روعة وعظمة فقلت له هو من عند ربي وبين يدي ربي الآن، وأكد لي بعض الدعاة بأن هذه كلها مؤشرات علي قبول هذا الرجل ـ أي عمر المختار ـ حيث ختم الله حياته في هذه الدنيا بالشهادة وبذكره بيننا بالسعادة وسخر له هؤلاء الجنود المجندة ليأتي (انتوني كوين) رجل أمريكي أصول أبيه ايرلندية وأمه مكسيكية ليلعب دوره فيحبه الناس ويحبوا عمر المختار أكثر. إنها لمن علامات القبول للشيخ الشهيد عند الله والتمكين له في الدنيا والآخرة، وخاصة أن يكتب السيناريو باللغة الإنجليزية ومن ثم يقوم الأردني جبرا إبراهيم جبرا بترجمته إلي العربية عكس ما حدث في فيلم الرسالة حيث لعب عبد الله غيث الدور العربي لحمزة بينما انتوني كوين باللغة الإنجليزية وكان ثمة تباين واضح في الأداء حيث تفوق عبد الله غيث بكثير بينما أبدع انتوني كوين في عمر المختار . علمنا أخيراً من بعض المصادر أن الفنان المصري نور الشريف يعد للقيام بدور عمر المختار في عمل جديد له، وهو الأمر الذي يفرحنا كليبيين، ولكن في المقابل نتمني من الأستاذ الكبير نور الشريف أن يتريث حتي يتقن الاستعداد لكي لا يظهر بمظهر لا يتناسب مع الأثر الكبير والعميق الذي تركه الدور الذي قام به انتوني كوين في فيلم العقاد، هذا مع تمنياتنا له بالتوفيق والنجاح وأن يضيف شيئاً جديداً من سيرة المختار ليكون له أثر كبير أيضا.
هذه قصة مخرج مع مجاهد تحكي ملحمة رسالة .. وملحمة شعب أراد الحياة فكتب له النصر ولقائده الشهادة ولمخرج هذه القصة العرفان بالروعة والإبداع حتي استحق لقب شهيد الفن الإسلامي الرفيع
كاتب واكاديمي ليبي يقيم في لندن
نقلا عن صحيفة القدس العربي اللندنية
مصدر الموضوع د. فرج نجم: العقاد الرسالة.. وقصة فيلم عمر المختار