أفكارك بين المعقــول واللامعقــول

وردة الروح

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
9 سبتمبر 2008
المشاركات
10,483
نقاط التفاعل
243
النقاط
323
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
أفكارك بين المعقول واللامعقول

هل سبب مشكلاتك هو ذاتك أم ما يحدث لك؟
• شخص رسب في الامتحان فأصيب باكتئاب.
• فتاة تأخر زواجها فأصابها القلق الشديد .
• شاب نشأ في بيئة فقيرة ، ويشعر بالإحباط الشديد .

هذا الإحباط ، والاكتئاب ، والقلق .. هل نشأوا بسبب الأحداث المباشرة (الرسوب ، تأخر الزواج ، الفقر) .. أم بسبب شيء آخر يسبقهم ؟

حاول المعالجون النفسيون الإجابة عن هذا السؤال ، وبسببه نشأت الكثير من المدارس العلاجية ، ومن أهمها : مدرسة العلاج العقلاني الانفعالي عند أليس .

نظريــــة ABC :

إذا حدثت " نتيجة انفعالية سلوكية " emotional behavioural consequence
بعد حدث نشط activating event
فإن من الخطأ أن نقول " إن النتيجة الانفعالية السلوكية " سببها " الحدث النشط " لأن هناك عنصراً آخر خفياً هو الأهم " نظام المعتقدات Belief system " .

بلغة أخرى :
إذا كان لدينا حدث .. ثم تلاه نتيجة .. فلا ينبغي أن نجعل الحدث سبباً للنتيجة .. دون أن ننظر إلى ما يتوسط بينهما من " نظام المعتقدات الخاص بالفرد " .

مثلاً :
مثال الرسوب والاكتئاب
:
الاكتئاب هو C " النتيجة " ، والرسوب هو A " الحدث " .. ولهذا كثيراً ما نقول "الرسوب أدى إلى اكتئاب" .. ولكن .. لماذا لم يكتئب كثيرون غيره رسبوا ؟
الإجابة على هذا السؤال تحيل إلى العنصر الثالث الأهم A " نظام المعتقدات " .

إذن : فالمشكلات النفسية لا تنتج عن ضغوط خارجية ، ولكن عن أفكار لا عقلانية يتمسك بها الشخص ، وتؤدي به إلى أن يملي رغباته ، ويصر على الاستجابة لها كي يكون سعيداً .

ومهمة العلاج العقلاني الانفعالي : مهاجمة الاعتقادات اللاعقلانية المؤذية للذات ، وتعليم العميل أنماط تفكير أكثر عقلانية .

الأفكار تتوسط بين الفعل (الحدث) .. والفعل (النتيجة) .. بين المثير والاستجابة .

كيف يتكون نظام الأفكار ؟
منذ ميلادك وأنت تستجمع الخبرات من البيئات المحيطة بك (الأسرة ، المدرسة ، الرفاق ، النماذج .. ) وكل خبرة تتآلف مع الخبرة المشابهة لها لتكون مجموعات من التصنيفات ، وأنماطاً من الأفكار .. تتجمع هذه الأنماط مكونة أنساقاً أكثر صلابة وعمقاً هي ما يمكننا أن نسميه (نظام القيم والمعتقدات) .
هذه المعتقدات هي العدسة التي تنظر من خلالها إلى الوجود ، وهي بالغة القوة ، وإن كانت شديدة الخفاء .. حتى على صاحبها .

مثال :
قال المعرور بن سويد - رضي الله عنه -: « رأيتُ أبا ذرّ وعليه حُلَّة ، وعلى غلامه مثلُها ، فسألته عن ذلك ؟ فذكر أنه سَابَّ رجلا على عهدِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- ( وكانت أمه أعجمية ) فعيَّره بأُمِّه ، فأتى الرجلُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ، فذكر ذلك له ، فقال له النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: إِنك امْرُؤ فيك جاهلية ، قلت: على ساعتي هذه من كِبرَ السنّ ؟ قال : نعم ، هم إِخوانُكم وَخَوَلُكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فلْيُطْعِمْه مما يأكلُ، ولْيُلْبِسه مما يَلْبَسُ ، ولا تُكلِّفُوهم ما يغلبهم ، فإن كلّفتموهم فأعينوهم عليه».أخرجه البخاري ، ومسلم.

في هذا الحديث بيان رائع لخفاء " نظام المعتقدات " حتى على صاحبه .
سيدنا أبو ذر رضي الله عنه قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أظلَّتِ الخضراءُ ، ولا أقلَّتِ الغبراءُ مِنْ ذِي لَهْجَة أصْدَقَ ولا أوْفى مِن أبي ذرّ، شبهِ عيسى ابن مريم ، فقال عمرُ بنُ الخطاب كالحاسد : يا رسولَ الله أفنعرِفُ ذلك له؟ قال : نعم فاعرِفوه ».أخرجه الترمذي.
ورغم هذا الصدق الفائق ، والمتابعة الدقيقة للهدي النبوي ، إلا أن جزءاً – بالغ الصغر - من أفكاره كان فيه شيء من حياته السابقة في مجتمع الجاهلية (والذي يدور على التفاخر والتنابز) ، وهو حين عيَّره بأمه " في رواية أنه قال : يا ابن السوداء " بين له النبي صلى الله عليه وسلم ما كان خافياً عليه من أمر نفسه .. وقد تعجب سيدنا أبو ذر من أن يكون فيه شيء من أمر الجاهلية مع كبر سنه ..
...............
الرائع في الحديث هو صدق استجابة سيدنا أبي ذر للتوجيه النبوي .. فقد أصبح بعد ذلك لا يلبس إلا ما يلبسه إخوانه الخدم .. متخلصاً بذلك من بقايا نظام المعتقدات الجاهلي السابق .

ملاحظة :
لابد من الإشارة إلى أن لفظ " المعتقدات " هنا لا يعني المعنى الاصطلاحي للعقيدة .. وإنما المعنى اللغوي : وهو ما عقد الإنسان قلبه عليه من أفكار ومبادئ .

ماذا تصنع الأفكار ؟
لا يمكنك أن تسير في الحياة دون أن يكون لك نظام من الأفكار يعمل بمثابة " المرشح " يوجهك إلى ما ينبغي أن تراه ، ثم يفسر لك ما ترى .
مثلاً :
لنفترض أن ثلاثة وقفوا أمام مكتب :

خطاط وتاجر وباحث في العلوم الإنسانية .
فما الظواهر التي سينظر إليها كل واحد منهم ؟
الخطاط سيهتم بلوحة المكتب ( وسيتذكر المكتب بعد ذلك بلوحته ، ويقول : نعم .. المكتب الذي استخدم في لوحته الخط الديواني !! ) .
والتاجر سيشغله تقييم إيرادات المكتب ومصروفاته وأرباحه .
والباحث الإنساني سيهتم بأنماط العلاقات بين العاملين .
( هنا أثر نظام القيم في : ماذا ترى من الظاهرة )
ثم يحدث موقف أمام الثلاثة ، فيفسره كل واحد منهما تفسيراً مختلفاً بحسب نظام القيم الخاص به .
(وهنا أثر نظام القيم في تفسير الأحداث) .

ما أسباب الخلاف بين الناس رغم أن الأحداث واحدة ؟
السبب هو اختلاف أنظمة القيم عندهم .. لأن تفسير كل واحدٍ منهما للحدث يتبع نظام القيم الخاص به .

خذ هذه التجربة :
اجلس أمام برنامج من البرامج الحوارية المتعارضة .. وانظر إلى المتحاورين .. ستجد أمامك أستاذين جامعيين متميزين ، يناقشان موضوعاً واحداً .. وأحدهما في الشرق والآخر في الغرب .. وسبب الخلاف ليس الموضوع .. وإنما نظام أفكار كل واحد منهما .

ما هي الأفكار العقلانية ، وغير العقلانية ؟
في تاريخ البشرية الكثير من الخلاف على " الفكرة العاقلة " و " الفكرة غير العاقلة" ، لأن ما هو عقلاني عند قوم قد لا يكون كذلك على الإطلاق عند آخرين ( ولعل فيما جرى من أزمة الرسوم الدانيماركية الرديئة مثالاً على ذلك .. فهم يرون تعديهم على مقدساتنا سلوكاً عقلياً مستنداً إلى حرية الفكر .. بينما نوقن أنه أبعدُ ما يكون عن التعقل .. وأقربُه إلى السَّفَه !! ) .
غير أن هناك أفكاراً يمكن أن نتفق على أنها لا تساعد الإنسان على الرقي ، وتزيد من آلامه .. وهي الأفكار التي حددها أليس في ثلاثة محاور :

1- الشعور بالاكتئاب أو القلق أو الهلع أو الإحباط عندما تقول لنفسك : " لابد أن يكون أدائي ممتازاً.. وأن يستحسنه الآخرون، وإلا.. فأنا شخص غير محبوب ". (إلزام الذات بالتميز الفائق .. دائماً) .
2- الشعور بالغضب الشديد، أو الحنق، أو المرارة، عندما تفكر : " يجب أن يعاملني الآخرون برفق وعدل وإلا فهم سيئون، ويستحقون العذاب.. خاصة من عاملتهم برفق ". (إلزام الآخرين بالسلوك الأفضل .. دائماً) .
3- خيبة الأمل، أو الاكتئاب، أو الشعور بالإشفاق على الذات عندما تقول لنفسك : " لابد أن تكون الظروف التي أعيشها سهلة وممتعة، وإلا فإن العالم مكان رهيب لا أطيق احتماله، ولن أعرف السعادة أبداً ". (إلزام القدر أن يكون حسب ما أريد تماماً .. بصورة دائمة).

هذه العناصر اللاعقلانية الثلاثة تحدد طريقة تعاملك مع :
• نفسك.
• الآخرين.
• الظروف المحيطة بك.
فأنت تقسو على نفسك حين تلزمها بكثير من الأوامر الملحة.. والتي يشعرك عدم قدرتك على القيام بها بالإحباط، وتجعل نفسك رهناً للآخرين حين تنتظر منهم الثناء.. وتخدع نفسك حين تظن أن ظروف الحياة ينبغي أن تكون ملائمة لك.. وإلا فإنك ستنسحب منها.

ويميز الأفكار غير العقلانية ميزتان هما :
الإلزام .
• والعمومية .
فأنت تستخدم ألفاظاً مثل " يجب ، لابد ، لا يمكنني إلا أن أفعل ... ، يستحيل عليَّ القبول إلا بـ ..... " .
وأنت تعمم ذلك في كل ما تفعل ، ولا تقبل إلا به في الظروف المختلفة .

ما الفرق بين الإلزام والالتزام ؟
الإنسان بطبعه يسعى نحو الكمال ؛ يريده لنفسه ، وينتظره من الآخرين ، ويرجوه في الظروف المحيطة به .. ولهذا كان الوعد الإلهي بالجنة ، غذاء لهذا الجانب "الكمالي" من الإنسان .
غير أن الإنسان في عالم " الدنيا " لا يمكنه أن يعيش هذا الكمال المطلق الأسمى .. وينبغي أن يكتفي من ( ونفسه ، والآخرين ، وظروفه المحيطة ) بالمتاح ، ويقول :
• الأفضل أن أكون متميزاً في بعض الأعمال ، ولكن .. إن لم أتميز فهذا لا يعني أنه لا قيمة لي .
• الأفضل أن يعاملني الآخرون بصورة حسنة ، ولكن .. إن لم يحدث ذلك فلن أكرههم .
• الأفضل أن تكوني ظروفي جيدة .. ولكن .. إن لم يحدث ذلك فسأسعى إلى جعلها كذلك بالاستعانة بالله جل وعلا .

هنا تكون قد انتقلت
• من " الإلزام " إلى " التفضيل " .
• ومن " العمومية " إلى " النسبية " .
• ومن الاكتئاب إن لم يحدث ما تريد .. إلى التسليم لله ، ومحاولة التغيير . والالتزام يعني أن أفي بما تعهدت بالوفاء به .
أما الإلزام – هنا - فهو أن أوجب على نفسي ، وعلى الآخرين ، وعلى قدَري الخاص ما لا يمكن تحقيقه .. وهو سلوك غير عقلاني .

ما هي أكثر الصور تطرفاً للأفكار غير العقلانية :
أكثر الصور تطرفاً .. هي أكثر النماذج السلبية تكراراً في القرآن ، وهي نموذج "فرعون" .
كان فرعون يرى أنه بالغ التميز إلى الحد المتجاوز لمستوى البشرية " ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً " .
وهو لا يسمح للآخرين أن يتصرفوا إلا بحسب ما يريد تماماً ، فهو يقول للسحرة المؤمنين " آمنتم له قبل أن آذن لكم ؟!! " .
وهو يريد أن تكون الظروف بالغة الكمال بالنسبة له : " إن هؤلاء لشرذمة قليلون ، وإنهم لنا لغائظون " .. حتى وإن أدى ذلك إلى أن يقتل كل نسل بني إسرائيل خوفاً من تبدل الظروف عليه !!
" إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم ، إنه كان من المفسدين " .
إذن فالبعد " اللاعقلاني " فيه جزء من " الصورة الفرعونية " التي يسعى صاحبها إلى أن يكون كل ما يرد تاماً بالنسبة له .

الصورة المثالية للأفكار العقلانية :
تتمثل في موقف واحد من مواقف المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وهو موقف عودته من الطائف ، بعد أن سبه أهلها ، وآذوه ، وأدموا قدمه الشريف ، وجاءه ملك الجبال يستأذنه أن يطبق عليهم الأخشبين .. فأبى سائلاً الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله .. وقال دعاءه العظيم المحتوي على الصورة الأسمى في المحاور الثلاثة كلها :
اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين . أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي . إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو مَلَّكتَه أمري ؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل عليَّ سخطك أو ينزل بي غضبك . لك العتبى حتى ترضى .

ولا حول ولا قوة إلا بك .

هنا التجرد التام لله جل وعلا ، والعبودية بين يديه ، والتسليم لقضائه ؛
لا يكره الآخرين لما بدر منهم .. وإنما يلتمس لهم الرحمة .
ولا ينقم على القدر الإلهي بل يسلم له .
ولا يرى نفسه – وهو سيد الناس – موجباً على الله جل وعلا أن ينصره .. وإنما يطلب الصفح والعفو ، ويتسعيذ به من غضبه .

وقاعدة " اليس " عن الأفكار العقلانية وغير العقلانية لا تستقيم ( بمنهجية دقيقة ، وأبعاد فلسفية أعمق ليس هذا مجال طرحها ) إلا بافتراض " العبودية لله جل وعلا والتسليم له " ..
وكأنما ينبغي أن تعاد صياغتها من جديد لتكون الأفكار العقلانية وغير العقلانية نقطتين متباعدتين على متصل واحد :

العبودية (عقلانية)

الفرعونية (غير عقلانية)

والعبودية تقتضي معرفة الإنسان حدود نفسه ، وعلاقاته بالآخرين ، وظروف حياته المقدرة له .
والفرعونية ترى أنه واجب لها أن تنال الكمال في نفسها ، وعلاقات غيرها بها ، وظروفها المحيطة .

كيف تحدث الأفكار غير العقلانية الاضطرابات النفسية ؟
إذا عملت آلةٌ ما بعكس طبيعتها فإن هذا يستدعي اختلال وظائفها أو فسادها بالكلية.
وهذا ما تفعله الأفكار غير العقلانية في الحياة الإنسانية . إذ يتصور صاحبها أن "من حقه " الحصول على أفضل التوقعات في جميع الحالات ، بينما واقع الحياة حسب سنن الله الكونية بعكس ذلك ، وهذا يوقع الإنسان في صراع بين (ما يعتقده) و (ما يحدث له) . ويفقده البوصلة الحكيمة في التعامل مع الوقائع ، ويشعر أن كل ما يفعله يزيده بعداً عن هدفه ، لأن هدفه في الأًصل هدف غير صحيح ، وهو أقرب إلى " طلب حياة الفردوس .. في الدنيا " .
قال الشاعر عن الدنيا :
جُبِلَت على كدَرٍ وأنت تريدها صفواً من الأكدار والأقذاءِ
ومُكَلِّفُ الأيامِ ضد طباعها متطلبٌ في الماءِ جذوةَ نارِ

وكأنما يريد الشاعر أن يقول " إن من يطلب الكمال في الحياة .. كمن يطلب فكرة مستحيلة !! " .



تحيــــاتي
و دعواتكـــم
ور الـــروح دة
 
موضوع جميل جدا
بارك الله فيك وجعله في ميزان حسناتك
دمتي متألقة
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top