د. أحمد جميل عزم
تصادف هذا الأسبوع الذكرى العشرون لانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية لعام1987، وبقدر ما كان هناك شعور بجو من الحماسة إبّان تلك الانتفاضة، بقدر ما يعيش المراقبون والباحثون الآن مزيجا من الدهشة والتساؤل حول ما أعقب تلك الانتفاضة،وبالتالي حول نتائجها الفعليّة، ويتساءل البعض، هل الأزمة الفلسطينية الراهنة مرتبطة بشكل ما بما حدث في تلك الانتفاضة؟ وواقع الأمر لا بد من تناول هذا السؤال من عدة زوايا، وتحديدا باستعراض مراحل ما قبل تلك الانتفاضة، ومراحل الذروة فيها، ومن ثم تراجعها وظهور السلبيات فيها.
ذاع على لسان الرئيس الفلسطيني الراحل بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عامي1982/1983، مقولة إنّه عائد للداخل، وإنّه عائد للقدس، وبغض النظر عن المعنى والجدية التي كان يتحدث بها الرئيس الراحل عندما بدأ بإطلاق مثل هذه المقولات، فإنّها أصبحت تشير لاحقا لعملية إعادة التركيز على العمل الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، بدل التركيز على القواعد العسكرية والعمل في دول الطوق وحول العالم، خارج فلسطين.
وبحسب ما قال لي البعض ممن كانوا ناشطين في صفوف حركة فتح، في الجامعات في دول عربية في النصف الأول من الثمانينيات أنّ التعليمات التي كانوا يتلقونها آنذاك، ويشرف عليها القائد الراحل خليل الوزير،(أبو جهاد) مسؤول القطاع الغربي آنذاك(مسؤول الداخل الفلسطيني)، هي ضرورة الالتقاء بالطلاب القادمين من الأراضي الفلسطينية للدراسة، والعمل معهم وفق برنامج متدرج، يقضي أولا بترسيخ فكرة رفض البقاء خارج فلسطين بعد التخرج من الجامعة، لأغراض العمل والإقامة، بل ضرورة العودة للداخل، ثم بعد ذلك محاولة تقييم هؤلاء الأشخاص ومدى ملاءمتهم للتجنيد في صفوف حركة فتح، ونوعية العضوية، من حيث ان يكون مجرد نصير، أو عضو فاعل، سياسيا، أو جماهيريا، أو عسكريا، ومن ثم إعداد وتدريب المناسبين منهم للمهام التي يتوقع أن يتولوها عند عودتهم للداخل.
هذه الرؤية كانت تمثل جزءا من عملية تصحيح خطأ تاريخي وقعت به الثورة الفلسطينية، بأن ركزت على التواجد خارج الوطن، في دول الطوق وبنت المعسكرات والقواعد العسكرية النظامية، وعمليا سعت لإقامة دول داخل الدول وتورطت في معارك جانبية لا طائل منها.وبعد العام 1982 بدأت عملية بناء حقيقية لبنية ثورية شعبية مدروسة داخل فلسطين ربما كانت غير مسبوقة(وغير متبوعة حتى الآن). وكما يقول الكاتبان الأميركيان "نيل ليفنجستون"، و"ديفيد هيلفي": "حاول الإسرائيليون تدمير منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ولكنهم فشلوا. وبدل ذلك دفعوا المنظمة لإعادة تشكيل نفسها على نحو أكثر اشتغالا بالسياسة وضمن بنية أكثر فاعلية".
أشرف خليل الوزير على بناء أطر شعبية وجماهيرية عدّة في الداخل الفلسطيني، من أبرزها ما يعرف بحركة الشبيبة، وتم النشاط في الجامعات والنقابات والأندية الشبابية.
ويخبرني أحد النقابيين الفلسطينيين، الذي يقول إنّه لم يكن عضوا فعليا في حركة "فتح" وإن كان يتعاطف معها، أنّه أصبح يخرج في أواسط الثمانينيات لدورات نقابية لدول الطوق، وهناك كان يلتقي بكوادر من منظمة التحرير الفلسطينية، ويقول إنّه فوجئ في احدى المرات باستدعائه للقاء شخص ما، دون أن يعرف من هو، ويقول فوجئت بخليل الوزير يجلس معي ويمضي فترة طويلة يحدثني عن أهمية العمل النضالي الشعبي والجماهيري غير المسلح، ويحدثني عن أهمية الحجر في النضال وكان ذلك قبل أعوام من انتفاضة عام 1987 التي عرفت بانتفاضة الحجارة.
ب- جيل متحرر ومجتمع مختلف
الذي قاد انتفاضة عام 1987 هم جيل نشأ أثناء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، (عام 1967). كانت في كل منطقة فلسطينية مجموعات وكوادر مناضلة شابة، كان منهم على سبيل المثال حسام خضر في نابلس (مواليد عام 1961)، وأحمد الديك في سلفيت (مواليد 1960)، والمرحوم بشير نافع في رام الله (مواليد 1960)، وربما محمد دحلان ورشيد أبو شباك وسفيان أبو زايدة وسمير مشهراوي، وغيرهم في غزة، وكان مروان البرغوثي (مواليد 1959)، قد أبعد من الأراضي الفلسطينية قبل أشهر من اندلاع الانتفاضة من موقعه على رأس الحركة الطلابية في جامعة بير زيت. ومن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، كان هناك الشقيقان محمد وماجد اللبدي، في منطقة القدس، ويقدّر أنّهما من مواليد 1954 و1959.
ولا شك أنّ هناك ظلما واقعا لا محال في محاولتي هذه تسمية بعض كوادر الانتفاضة القياديين، فلا شك أنّ كثيرا من الأسماء لا زالت مجهولة، لم تظهر في الإعلام أو الدراسات المتاحة، كما أن دور الكثيرين بحاجة لفحص وبحث وتمحيص، وهؤلاء كانوا قد تلقوا تأهيلا في الجامعات والأطر الشبابية وفي السجون، وهؤلاء طبعا كان يقودهم عدد أصغر من الكوادر الأكبر سنا، الذين يرتبطون بقيادة الفصائل الفلسطينية في الخارج.
وعمليّا كانت ممارسات الاحتلال عاملا رئيسيا في استفزاز ردة الفعل الفلسطينية، وفي تشكل البنية الشعبية الملائمة لحركة جماهيرية ثوريّة شاملة. ففي العام1981 أقالت السلطات الإسرائيلية رؤساء البلديات الفلسطينيين، ممن كانوا يشكلون نوعا من القيادة الوطنية، وحاولت إسرائيل فرض قيادة محليّة، من خلال صيغة ما عرف آنذاك باسم "روابط القرى"، لتكون قيادة بديلة، وهو ما رفضته القيادات الشابة وبدأت تفرض سلطتها، وكان خروج فصائل المقاومة الفلسطينية، من لبنان بعد الغزو الإسرائيلي، ومجازر صبرا وشاتيلا، كلّها إرهاصات لعودة ثقل العمل الفلسطيني للداخل.
يضاف لذلك ظهور التيار الإسلامي باعتباره جزءا من المقاومة، وهو ما تمثل تحديدا، بظهور تنظيم "الجهاد الإسلامي"، أواسط الثمانينيات، على يد مؤسسها فتحي الشقاقي، والذي ركز نشاطه ونضاله داخل فلسطين.
لقد أدى تحطيم الاحتلال للمؤسسات المجتمعية الفلسطينية الاقتصادية، والسياسية،وأدى تراجع المؤسسة الدينية بسبب اختفاء مواقع دينية رسمية سياسية اقتصادية، كمؤسسات الوقف والإفتاء، وبسبب ضعف التيار السياسي الإسلامي المنظم الذي استنكف عن المساهمة في النضال الوطني المباشر، بفضل كل ذلك ظهر جيل جديد في الانتفاضة لا ينتمي للمجتمع الأبوي العربي التقليدي، فلم يعد للعائلات والوجهاء المحليين أهمية تذكر، إذ لم تعد العائلة ومناصب الأب وسلطته جواز السفر للعمل والدراسة والمكانة الاجتماعية، كما في المجتمع العربي عموما، وظهر جيل جديد من الشباب غير المنتمي لتلك العقلية التقليدية، والمصقول عبر تجارب ذاتية طورته وصنعت منه قيادة محلية جديدة.
وبحسب رواية زئيف شيف وإيهود يعاري، في كتابهما "انتفاضة"، لولادة حركة "الشبيبة" التي مثلت الذراع الجماهيري لحركة، فتح، والعمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية في مرحلة معينة، فإنّ الحركة واسمها الكامل "لجنة الشبيبة للعمل الاجتماعي"، أقيمت في مخيم بلاطة قرب نابلس، في العام 1982، بعد أن أغلق الجيش الإسرائيلي ناديا للشباب في المخيم لأنه كان يشكل مركزا للدعاية والتجنيد لحركة فتح. وسرعان ما تشكلت لجان للحركة في سائر أنحاء الضفة الغربية، وأصبحت اللجان تدير العديد من الأندية والجمعيات الشبابية والخيرية والتعاونية، وكانت تمزج بين حمل أعباء التنشئة واستيعاب الشباب والمجتمع والقيام بنوع من التنظيم والمهام الأمنية والاجتماعية، وبين إعداد الشباب لمواجهة الاحتلال، فكان فرض السلوك الأخلاقي القويم، ومحاربة الكحول، والمخدرات، والدعارة، وما إلى ذلك من مهام اللجان، كما كان التدريب الرياضي والإعداد الجسماني، ومتابعة عملاء الاحتلال، والدخول في مواجهات مع جنود الاحتلال بالزجاجات الحارقة، والحجارة، جزءا من ظاهرة متسعة باضطراد.
وفي غزة كان هناك عملية شبيهة، وكانت جماعة الإخوان المسلمين، بامتدادها الشعبي النسبي الواسع، أيضا تعيش تحولا مهما، فعقب خروج الشيخ أحمد ياسين، من السجن عام 1985 بدأ يوجه عناصر من الجماعة لجمع معلومات عن العملاء، وتجار المخدرات، ومن يتعاطى ويتجر بقضايا غير أخلاقية، وهو حسبما يقول الصحافي مهيب النواتي، في كتابه "حماس من الداخل"، مقدمة لتأسيس جهاز أمني عرف باسم منظمة (الجهاد والدعوة– مجد)، ليكون جهازا "أمنيا داخليا يبني أمنا للمواطن الفلسطيني ولابن الحركة"،وذلك بحسب تعبير الشيخ أحمد ياسين.
وبالمحصلة كانت محصلة20 عاما من الاحتلال هي إنتاج مجتمع جديد غير رعوي، منقطع عن المجتمع العربي التقليدي وتكويناته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
وأدت الانتفاضة إلى الضغط على القيادة الفلسطينية في الخارج للتسريع في تطوير مواقفهم السياسية بشأن الحل السياسي. وأدت الانتفاضة إلى إجهاض مخططات إسرائيل ضم القدس الشرقية وإظهارها جزءا من الغربية، فبعد هذه الانتفاضة أصبح الإسرائيليون يخشون إلى حد كبير حتى التجول الحر في القدس الشرقية. وهناك الكثير من الكتابات التي وثقت إنجازات الانتفاضة ولا داعي للتوقف عندها كثيرا، وربما هناك الحاجة الآن للنظر في الأخطاء التي حصلت وأدت للتدهور الذي أعقب الانتفاضة.
لا بد من الإشارة إلى أنّه فيما ظهرت أثناء الانتفاضة قدرة فلسطينية فائقة على تجاوز الضربات الإسرائيلية الأمنية، وعلى إعادة إنتاج الانتفاضة لذاتها، فإنّه لا بد من الاعتراف الآن، أو على الأقل تبني فرضية لمزيد من البحث، بأنّ الضربات الإسرائيلية أدت لنتائج طويلة المدى مدمرة، فإعادة الإنتاج قصيرة المدى للقيادات المحلية بعد استشهاد واعتقال وإبعاد القيادات، كان تعبيرا عن حيوية مجتمع الانتفاضة وعن حالة فريدة من الشجاعة والجرأة والالتفاف الجماهيري حول الانتفاضة وحركته الوطنية.
لكن اغتيال خليل الوزير، وإبعاد قيادات متعددة من الداخل الفلسطيني، وعدم التفاهم "الوطني"– "الإسلامي" كانت بمثابة عوامل ادت لخلخلة في الهيكل القيادي للانتفاضة لم يتم علاجه، وبعد اغتيال خليل الوزير، مثلا، لم يبرز قائد مركزي آخر للانتفاضة، وتعددت قنوات الاتصال بين الأنوية والخلايا الصلبة داخل فلسطين وبين قيادات الخارج، ومن ضمن الإفرازات التي نتجت عن إبعاد إسرائيل قيادات ميدانية قبل وأثناء الانتفاضة أنّ كثيرا من هذه القيادات تحولت لتصبح قناة الاتصال بين الداخل وبين الرئيس الراحل ياسر عرفات، وذلك سبب أكثر من نوع من الخلل؛ أولها، أنّ كثيرا من القيادات الأكبر سنا سواء داخل أو خارج فلسطين فقدت كثيرا من أهميتها ودورها، وتلك القيادات كان لها علاقات وامتدادات في أنحاء مختلفة من فلسطين.
أمّا القيادات الميدانية المبعدة ففي جزء منها كانت نشاطاتها في المناطق التي جاءت منها، وحدث نوع من التنافس بين القيادات الأكبر سنا وتلك الأصغر، والأهم أنّه حدث تنافس أيضا بين القيادات الشابة المبعدة، التي وجدت نفسها فجأة في دائرة الضوء، ووجدت نفسها تقترب من الصف القيادي التاريخي الأول، ما أدى لصعود سريع لهؤلاء تضمن حرق المراحل بصعودهم لمواقع دون استعداد كاف، وهذا أيضا عمّق "المناطقية" والانفصال بين مجموعات وأجنحة الانتفاضة، التي أصبحت تتشكل وتنقسم وفق قناة اتصالها الخارجية مع القيادة الفلسطينية.
هذه الانقسامات والحالة المناطقيّة، ستتضح وتتعمق أكثر لاحقا عند عودة السلطة الوطنية الفلسطينية للداخل، وسيشتد الصراع المدمر بين القيادات المتنافسة، وستبرز في بعض الحالات ممارسات تدور حولها شبهات الفساد. كما أدى اغتيال أبوجهاد إلى نوع من الفراغ المعلوماتي، بمعنى أنّه يبدو أن كثيرا من العلاقات والمعلومات كان أبوجهاد يتعامل معها بسرية لا يعلمها مساعدوه، أو على الأقل لا يعلمون سوى بأجزاء منها، وبذلك لم يعد هناك ذلك القائد الميداني، المركزي، الخبير، الذي يقود الانتفاضة. وبحسب كلمات د.أحمد الديك في كتابه سوسيولوجيا الانتفاضة، "أحدث استشهاد خليل الوزير إرباكا وتخبطا في الوضع الفلسطيني خاصة من ناحية تماسكه المعلوماتي في التعامل مع الداخل المنتفض".
ب- الانقسام الإسلامي الوطني
حاول خليل الوزير التعامل مع العامل الجديد الذي برز في سياق الانتفاضة، وهو نشاط قوتين إسلاميتين، فاعلتين ومنظمتين، هما جماعة الإخوان المسلمين، التي أسست حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ومنظمة الجهاد الإسلامي، وتشير مصادر إعلامية وأبحاث إلى أنّ الوزير كان يستعد للقاء قيادات من المنظمتين، كانت إسرائيل قد أبعدتها حديثا، عندما تم اغتياله، ويشير زئيف شيف وإيهود معاري، أنّ أبوجهاد كان قد كلّف بعض عناصر ما كان يعرف بالتيار الإسلامي في فتح، بالاتصال بالجهاد الإسلامي للتنسيق معهم، ومن هؤلاء محمد سلطان التميمي المعروف باسم "حمدي".
والواقع أنّ دور وهوية كل من حمدي، ومعه كل من مروان الكيالي ومحمد إبحيص، من القضايا التي يصعب على الباحثين أن يصلوا فيها لتصور واضح في ظل المصادر الموجودة، فهؤلاء الثلاثة تم اغتيالهم في قبرص بتاريخ 14/2/1988، من قبل الموساد، عندما استقل الثلاثة سيارة مروان الكيالي، فتم تفجير السيارة عن بعد.
وتتضارب المصادر بين من يعتبرهم مساعدين رئيسيين لأبي جهاد في إدارة الانتفاضة، مما يوضح أسباب تتبع إسرائيل لهم لقبرص لاغتيالهم, فيما تذهب بعض الكتابات، بأنّهم كانوا تنظيما شبه منفصل - كما جاء في مقال للكاتب مروان شحادة-"عرف باسم "سرايا الجهاد"، انبثق عن حركة فتح، الذين تم اغتيالهما من قبل الموساد الإسرائيلي في مدينة"ليماسول" في قبرص عام 1988، فيما تذهب مصادر أخرى إلى أنّهم من ضمن الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي. (تتضارب المصادر حتى في تحديد أسمائهم الدقيقة).
عموما لا يبدو أنّ عمليات التنسيق بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل الجديدة(الإسلامية)، نجحت، بل ساء الأمر مع الوقت وانتقل الأمر لصدامات بين الطرفين خاصة في السجون، ولحرب إعلامية، وعلى المستوى الميداني لم تتوحد بل انقسمت قوى الانتفاضة لثلاثة أقسام، أحدها ائتلافي يجمع فصائل منظمة التحرير، وثانيها الجهاد الإسلامي، وثالثا، حركة "حماس" التي أسسها الإخوان المسلمون عقب الانتفاضة. وكان لكل منها بياناتها ونشاطاتها المنفصلة، وبدءا من آب/ أغسطس 1988 أي بالتزامن مع إعلان ميثاق حركة "حماس"، بدأت حماس تدعو لأيام إضراب منفصلة تختلف عن التي تعلنها القيادة الوطنية الموحدة، كما كان للجهاد يوم آخر، وكان الصدام على خلفية أيّام الإضرابات من أول معالم الصدام بين "فتح" و"حماس"، بخاصة مع رفض نشطاء في الأولى الالتزام بدعوات "حماس" ومحاولة نشطاء الأخيرة فرض الإضراب بالقوة والتهديد.
هذا الانقسام سيستمر، طبعا، بعد الانتفاضة. وستفشل محاولات دمج "حماس" و"الجهاد"، في منظمة التحرير الفلسطينية، ولن تستطيع السلطة الوطنية الفلسطينية، التفاهم مع "حماس"، ولن تستطيع فرض القانون بوقف عمليات "حماس" أو نزع سلاحها، لأنّ عملية فرض القانون بمجملها فشلت، وسط الاعتداءات الإسرائيلية المتتالية والمستفزة، ولأنّ القيادة الفلسطينية لم تحسم خياراتها بشأن إقامة سلطة ومؤسسات دولة بالفعل.
ج - عسكرة الانتفاضة
أحد المظاهر التي بدأت في مرحلة متأخرة من الانتفاضة الأولى، هي اللجوء للبندقية وللعمل المسلح، رغم أنّ قيادات سياسية في الداخل، وقيادات خارجية كانت قد حذرت علنا من "عسكرة الانتفاضة"، لأسباب أهمها، أنّ طبيعة البيئة الجغرافية الفلسطينية لا تساعد على خوض حرب عصابات مسلحة، حيث لا توجد جبال وغابات للاختفاء فيها، وحيث إنّ التعاطف العالمي مع الانتفاضة سيتراجع، وهذا سيساعد إسرائيل على ردود فعل انتقامية قاسية.
أذكر أنّ أحد كتّاب مجلة "فلسطين الثورة" علق على الوضع الناشئ بعد السنة الثالثة للانتفاضة، بالقول إنّ الانتفاضة تراجعت من كونها "فعلا شعبيا عاما"، لكونها نشاطا تقوم به مجموعات من الشباب يلتف حولهم الشعب. وكما هو محتمل في أي ثورة، فإنّ ظهور مسلحين وأشخاص لهم سلطة ناتجة عن المقاومة، يمكن أن يؤدي لظهور عناصر قليلة التجربة، أو انتهازية، تستغل الظاهرة لتحقيق مآرب خاصة، ولعل من الأعمال التي وثقت ظاهرة الانحراف تلك، ما كتبته الروائية الفلسطينية، سحر خليفة، في روايتها "الميراث" الصادرة عام 1997، التي تناولت ظهور مليشيات تنفذ عمليات مشبوهة لمصالح خاصة.
وبعيدا عن الرواية فإنّ ظاهرة الملثمين في نهاية الانتفاضة أصبحت مصدر رعب محليا بعد أن كانت ترمز للمواجهة مع العدو. وهذه المجموعات من المسلحين ستستمر في العمل والظهور حتى الآن، والحكم على هذه المجموعات صعب، فأنصارها يعتبرون أنّ أعضاءها أبطال وقفوا في وجه الاحتلال وفي وجه الظالمين(من السلطة)، فيما يعتبرهم آخرون، وكما قدّمتهم السلطة في مراحل مختلفة، باعتبارهم خارجين عن القانون، ينشرون الفوضى والانفلات، ومن الحالات المشهورة حالة أحمد الطبوق، في نابلس، عام 1995، الذي تم تقديم قصته آنذاك بأنّه يقود مجموعة تمارس القوة لمصالح خاصة، ولفرض سيطرتها ومكانتها.
وتوثّق الكاتبة الفرنسية، ليتسيا بوكاي، في كتابها "الفلسطيني التائه، الانتفاضة تأكل أبناءها؟!"،الذي ترجمته د.ماري إلياس، تجربة الطبوق، وتنقل قوله "إن مرجعيتي هي الشعب نفسه.فنحن نحاول أن نجسد فكرة حكم الشعب بالشعب، وتنبع قراراتنا من الأعماق الشعبية في غياب سلطة فلسطينية". وتوضّح بوكاي أمثلة مهمة مفصلة لحالات شبان بدؤوا حياتهم مناضلين أشداء، ثم انخرطوا في خلافات ذات بعد اجتماعي وتنظيمي، وكيف تورط بعضهم بعد الانتفاضة ومجيء السلطة في عمليات غير قانونية وغير مشروعة، سرقة السيارات من إسرائيل أحد نماذجها. وكيف تحول بعض هؤلاء للانحراف الأخلاقي، بينما ذهب البعض الآخر للتطرف الديني.
وعلى صعيد حركة "حماس" فإنّ الحركة كانت بلا نشاط عسكري كبير حتى عام1991، وكما يذكر الكاتب مهيب سليمان النواتي، لم تنفذ الحركة سوى16 عملية حتى نهاية عام1991، منها 9 عمليات طعن، وإن شملت عملياتها تلك خطف جنديين إسرائيليين. وفي عامي 1992 و1993 تم تنفيذ70 عملية.
مشكلة عمليات حماس تحديدا، حتى اندلاع انتفاضة الأقصى عام2000، أنّها عكست الانقسام الفلسطيني، وعدم قدرة الشعب الفلسطيني، على توحيد سلاحه وجعله في خدمة حركته السياسية، وهذه الإشكالية ستتورط بها حركة فتح أيضا في انتفاضة الأقصى، وستؤدي الأخطاء المختلفة في توظيف المقاومة المسلحة، والتي لا مجال لنقاشها الآن، إلى نتائج منها تحول المعركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى المجال العسكري الذي تتفوق فيه إسرائيل، وإلى تحول السلاح الفلسطيني لسلاح صراع داخلي، وإلى تراجع التأييد العالمي للنضال الفلسطيني،وقدرة إسرائيل على تسويق الكثير من جرائمها بتوظيفها أنواعا معينة من العمليات العسكرية.
د- الآثار الاجتماعية والاقتصادية للانتفاضة
يمكن ملاحظة الفرق الكبير بين نشطاء انتفاضة عام1987، وبين نشطاء الانتفاضات اللاحقة، أبرزها انتفاضة الأقصى، ومجموعات المسلحين الحالية، فنشطاء الانتفاضة الأولى جاؤوا من داخل المؤسسات الأكاديمية، من نشطاء اتحادات الطلبة، وعلى درجة عالية من التسييس،وأبدى بعضهم حرصا على استيفاء تعليمه العالي، بالمقابل فإنّ كثيرا من القيادات الميدانية المسلحة حاليا، انخرطت في النشاطات المسلحة، مبكرا، دون استيفاء التعليم.وفيما كانت نخبة انتفاضة 1987 تتحدث من واقع فكر سياسي واضح، ومن منطلقات محددة، وفهم متكامل للعملية السلمية والنضال المسلح والنضال الشعبي، وكانت قادرة على مخاطبة فئات الشعب المختلفة بوعي كبير، وقادرة على تحويل الشعارات السياسية العقلانية لشعارات شعبية، فإنّ القادة الميدانيين الحاليين، هم مسلحون في كثير من الحالات دون تأهيل علمي أو فكر سياسي حقيقي، ودون مرجعيات سياسية.
وعلى الرغم من حقيقة أنّ نسب التسرب من المدارس الفلسطينية كبيرة منذ ما قبل انتفاضة 1987، فإنّ الملاحظ أنّ الانتفاضة كان لها أثر مدمر على التعليم، فرغم كل المحاولات للتعليم الشعبي القائم على التعليم في المنازل والأماكن العامة، خلال الانتفاضة الأولى وإغلاق إسرائيل للمؤسسات التعليمية، ورغم الحماسة التي تحاط بها هذه التجربة عادة، إلا أنّ مستوى التعليم تأثر كثيرا، وكان التعليم الشعبي بحسب وصف
د.أحمد الديك "شعارا تطمينيا" للمجتمع، ولم تفشل القيادة الفلسطينية في معالجة التراجع التعليمي إبان الانتفاضة وحسب، بل استمر تراجع المؤسسات التعليمية لاحقا، وفشلت عمليات بناء مؤسسات الدولة والتنمية، بعد تحول تلك المؤسسات لمكان لتوظيف واحتواء نشاط الانتفاضة الأولى، دون النظر لقدراتهم وتأهيلهم.
وبات شائعا تدخل عناصر التنظيمات من الطلبة وغيرهم في العملية التعليمية، ونقل لي بعض الطلبة أمثلة على دور قيادات من السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية في متابعة الانتخابات الطلابية وتوجيهها ومحاولة التأثير بها بالمال، رغم أنّ تلك القيادات في بعض الحالات لم تكن يوما على مقاعد الدراسة الجامعية.
كان طبيعيا في هذه الحالة أنّ نرى في السنتين الأخيرتين أنّ قيمة التعليم في المجتمع الفلسطيني ربما قد تكون تراجعت، فشهدنا القيادات النقابية التعليمية تقود إضرابا عن التدريس لأسابيع طويلة، في ظل عجز حكومة حركة حماس، تأمين الرواتب، دون اهتمام يذكر بمصير الطلبة.
الانتفاضة الفلسطينية، كانت في جزء منها مرحلة إعجازية، وتجربة تاريخية غنية بكثير من الإنجازات والتجليات النضالية التي تعبّر عن روح إنسانية وعن تصميم وإصرار على التحرر، هذا كله لا يجب أن يلغي حقيقة أنّ أخطاء فادحة قد حصلت ويجب دراستها، فقادة تلك الانتفاضة، بكل القيم العالية والإنجاز النادر الذي قاموا به، هم في جزء كبير منهم، الآن، عنوان الأزمة الحالية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، فالصراعات بين تلك القيادات أمر لا ينتهي،والفوضى وعدم المسؤولية في الأداء والمواقف السياسية وحتى الشخصية، تتناقض، في حالة بعضهم النافذ على الأقل، كليا مع ما بدؤوا فيه في تلك الانتفاضة.
تصادف هذا الأسبوع الذكرى العشرون لانطلاقة الانتفاضة الفلسطينية لعام1987، وبقدر ما كان هناك شعور بجو من الحماسة إبّان تلك الانتفاضة، بقدر ما يعيش المراقبون والباحثون الآن مزيجا من الدهشة والتساؤل حول ما أعقب تلك الانتفاضة،وبالتالي حول نتائجها الفعليّة، ويتساءل البعض، هل الأزمة الفلسطينية الراهنة مرتبطة بشكل ما بما حدث في تلك الانتفاضة؟ وواقع الأمر لا بد من تناول هذا السؤال من عدة زوايا، وتحديدا باستعراض مراحل ما قبل تلك الانتفاضة، ومراحل الذروة فيها، ومن ثم تراجعها وظهور السلبيات فيها.
-1-
مقدمات الانتفاضة
أ- مرحلة العودة للداخل(1981- 1987)مقدمات الانتفاضة
ذاع على لسان الرئيس الفلسطيني الراحل بعد خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان عامي1982/1983، مقولة إنّه عائد للداخل، وإنّه عائد للقدس، وبغض النظر عن المعنى والجدية التي كان يتحدث بها الرئيس الراحل عندما بدأ بإطلاق مثل هذه المقولات، فإنّها أصبحت تشير لاحقا لعملية إعادة التركيز على العمل الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة، بدل التركيز على القواعد العسكرية والعمل في دول الطوق وحول العالم، خارج فلسطين.
وبحسب ما قال لي البعض ممن كانوا ناشطين في صفوف حركة فتح، في الجامعات في دول عربية في النصف الأول من الثمانينيات أنّ التعليمات التي كانوا يتلقونها آنذاك، ويشرف عليها القائد الراحل خليل الوزير،(أبو جهاد) مسؤول القطاع الغربي آنذاك(مسؤول الداخل الفلسطيني)، هي ضرورة الالتقاء بالطلاب القادمين من الأراضي الفلسطينية للدراسة، والعمل معهم وفق برنامج متدرج، يقضي أولا بترسيخ فكرة رفض البقاء خارج فلسطين بعد التخرج من الجامعة، لأغراض العمل والإقامة، بل ضرورة العودة للداخل، ثم بعد ذلك محاولة تقييم هؤلاء الأشخاص ومدى ملاءمتهم للتجنيد في صفوف حركة فتح، ونوعية العضوية، من حيث ان يكون مجرد نصير، أو عضو فاعل، سياسيا، أو جماهيريا، أو عسكريا، ومن ثم إعداد وتدريب المناسبين منهم للمهام التي يتوقع أن يتولوها عند عودتهم للداخل.
هذه الرؤية كانت تمثل جزءا من عملية تصحيح خطأ تاريخي وقعت به الثورة الفلسطينية، بأن ركزت على التواجد خارج الوطن، في دول الطوق وبنت المعسكرات والقواعد العسكرية النظامية، وعمليا سعت لإقامة دول داخل الدول وتورطت في معارك جانبية لا طائل منها.وبعد العام 1982 بدأت عملية بناء حقيقية لبنية ثورية شعبية مدروسة داخل فلسطين ربما كانت غير مسبوقة(وغير متبوعة حتى الآن). وكما يقول الكاتبان الأميركيان "نيل ليفنجستون"، و"ديفيد هيلفي": "حاول الإسرائيليون تدمير منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان ولكنهم فشلوا. وبدل ذلك دفعوا المنظمة لإعادة تشكيل نفسها على نحو أكثر اشتغالا بالسياسة وضمن بنية أكثر فاعلية".
أشرف خليل الوزير على بناء أطر شعبية وجماهيرية عدّة في الداخل الفلسطيني، من أبرزها ما يعرف بحركة الشبيبة، وتم النشاط في الجامعات والنقابات والأندية الشبابية.
ويخبرني أحد النقابيين الفلسطينيين، الذي يقول إنّه لم يكن عضوا فعليا في حركة "فتح" وإن كان يتعاطف معها، أنّه أصبح يخرج في أواسط الثمانينيات لدورات نقابية لدول الطوق، وهناك كان يلتقي بكوادر من منظمة التحرير الفلسطينية، ويقول إنّه فوجئ في احدى المرات باستدعائه للقاء شخص ما، دون أن يعرف من هو، ويقول فوجئت بخليل الوزير يجلس معي ويمضي فترة طويلة يحدثني عن أهمية العمل النضالي الشعبي والجماهيري غير المسلح، ويحدثني عن أهمية الحجر في النضال وكان ذلك قبل أعوام من انتفاضة عام 1987 التي عرفت بانتفاضة الحجارة.
ب- جيل متحرر ومجتمع مختلف
الذي قاد انتفاضة عام 1987 هم جيل نشأ أثناء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة، (عام 1967). كانت في كل منطقة فلسطينية مجموعات وكوادر مناضلة شابة، كان منهم على سبيل المثال حسام خضر في نابلس (مواليد عام 1961)، وأحمد الديك في سلفيت (مواليد 1960)، والمرحوم بشير نافع في رام الله (مواليد 1960)، وربما محمد دحلان ورشيد أبو شباك وسفيان أبو زايدة وسمير مشهراوي، وغيرهم في غزة، وكان مروان البرغوثي (مواليد 1959)، قد أبعد من الأراضي الفلسطينية قبل أشهر من اندلاع الانتفاضة من موقعه على رأس الحركة الطلابية في جامعة بير زيت. ومن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، كان هناك الشقيقان محمد وماجد اللبدي، في منطقة القدس، ويقدّر أنّهما من مواليد 1954 و1959.
ولا شك أنّ هناك ظلما واقعا لا محال في محاولتي هذه تسمية بعض كوادر الانتفاضة القياديين، فلا شك أنّ كثيرا من الأسماء لا زالت مجهولة، لم تظهر في الإعلام أو الدراسات المتاحة، كما أن دور الكثيرين بحاجة لفحص وبحث وتمحيص، وهؤلاء كانوا قد تلقوا تأهيلا في الجامعات والأطر الشبابية وفي السجون، وهؤلاء طبعا كان يقودهم عدد أصغر من الكوادر الأكبر سنا، الذين يرتبطون بقيادة الفصائل الفلسطينية في الخارج.
وعمليّا كانت ممارسات الاحتلال عاملا رئيسيا في استفزاز ردة الفعل الفلسطينية، وفي تشكل البنية الشعبية الملائمة لحركة جماهيرية ثوريّة شاملة. ففي العام1981 أقالت السلطات الإسرائيلية رؤساء البلديات الفلسطينيين، ممن كانوا يشكلون نوعا من القيادة الوطنية، وحاولت إسرائيل فرض قيادة محليّة، من خلال صيغة ما عرف آنذاك باسم "روابط القرى"، لتكون قيادة بديلة، وهو ما رفضته القيادات الشابة وبدأت تفرض سلطتها، وكان خروج فصائل المقاومة الفلسطينية، من لبنان بعد الغزو الإسرائيلي، ومجازر صبرا وشاتيلا، كلّها إرهاصات لعودة ثقل العمل الفلسطيني للداخل.
يضاف لذلك ظهور التيار الإسلامي باعتباره جزءا من المقاومة، وهو ما تمثل تحديدا، بظهور تنظيم "الجهاد الإسلامي"، أواسط الثمانينيات، على يد مؤسسها فتحي الشقاقي، والذي ركز نشاطه ونضاله داخل فلسطين.
لقد أدى تحطيم الاحتلال للمؤسسات المجتمعية الفلسطينية الاقتصادية، والسياسية،وأدى تراجع المؤسسة الدينية بسبب اختفاء مواقع دينية رسمية سياسية اقتصادية، كمؤسسات الوقف والإفتاء، وبسبب ضعف التيار السياسي الإسلامي المنظم الذي استنكف عن المساهمة في النضال الوطني المباشر، بفضل كل ذلك ظهر جيل جديد في الانتفاضة لا ينتمي للمجتمع الأبوي العربي التقليدي، فلم يعد للعائلات والوجهاء المحليين أهمية تذكر، إذ لم تعد العائلة ومناصب الأب وسلطته جواز السفر للعمل والدراسة والمكانة الاجتماعية، كما في المجتمع العربي عموما، وظهر جيل جديد من الشباب غير المنتمي لتلك العقلية التقليدية، والمصقول عبر تجارب ذاتية طورته وصنعت منه قيادة محلية جديدة.
وبحسب رواية زئيف شيف وإيهود يعاري، في كتابهما "انتفاضة"، لولادة حركة "الشبيبة" التي مثلت الذراع الجماهيري لحركة، فتح، والعمود الفقري للحركة الوطنية الفلسطينية في مرحلة معينة، فإنّ الحركة واسمها الكامل "لجنة الشبيبة للعمل الاجتماعي"، أقيمت في مخيم بلاطة قرب نابلس، في العام 1982، بعد أن أغلق الجيش الإسرائيلي ناديا للشباب في المخيم لأنه كان يشكل مركزا للدعاية والتجنيد لحركة فتح. وسرعان ما تشكلت لجان للحركة في سائر أنحاء الضفة الغربية، وأصبحت اللجان تدير العديد من الأندية والجمعيات الشبابية والخيرية والتعاونية، وكانت تمزج بين حمل أعباء التنشئة واستيعاب الشباب والمجتمع والقيام بنوع من التنظيم والمهام الأمنية والاجتماعية، وبين إعداد الشباب لمواجهة الاحتلال، فكان فرض السلوك الأخلاقي القويم، ومحاربة الكحول، والمخدرات، والدعارة، وما إلى ذلك من مهام اللجان، كما كان التدريب الرياضي والإعداد الجسماني، ومتابعة عملاء الاحتلال، والدخول في مواجهات مع جنود الاحتلال بالزجاجات الحارقة، والحجارة، جزءا من ظاهرة متسعة باضطراد.
وفي غزة كان هناك عملية شبيهة، وكانت جماعة الإخوان المسلمين، بامتدادها الشعبي النسبي الواسع، أيضا تعيش تحولا مهما، فعقب خروج الشيخ أحمد ياسين، من السجن عام 1985 بدأ يوجه عناصر من الجماعة لجمع معلومات عن العملاء، وتجار المخدرات، ومن يتعاطى ويتجر بقضايا غير أخلاقية، وهو حسبما يقول الصحافي مهيب النواتي، في كتابه "حماس من الداخل"، مقدمة لتأسيس جهاز أمني عرف باسم منظمة (الجهاد والدعوة– مجد)، ليكون جهازا "أمنيا داخليا يبني أمنا للمواطن الفلسطيني ولابن الحركة"،وذلك بحسب تعبير الشيخ أحمد ياسين.
وبالمحصلة كانت محصلة20 عاما من الاحتلال هي إنتاج مجتمع جديد غير رعوي، منقطع عن المجتمع العربي التقليدي وتكويناته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
-2-
اندلاع وإنجازات الانتفاضة
قصة اندلاع الانتفاضة، معروفة، بدأت الشرارة فيها، بمقتل مجموعة فلسطينيين في حادث سير تسبب به سائق شاحنة، في قطاع غزة يوم 8/12/1987، وبالاحتجاجات التي أعقبت الحادث.وحققت الانتفاضة إنجازات تاريخية مهمة، أولها، تحطيم مقولة الاحتلال غير المكلف، فقد حطمت الانتفاضة أحلام قادة إسرائيل في اليسار واليمين، بإمكانية استمرار احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، أو حتى ضمها مستقبلا لإسرائيل، دون ثمن مادي أو معنوي يذكر. وأبرزت الانتفاضة الوهم الإسرائيلي بأنّ القضاء على المقاومة في لبنان سيوقف النضال الفلسطيني، وأدت الانتفاضة ووسائلها غير الدموية إلى انقلاب في الرأي العام الدولي لصالح الحقوق الفلسطينية، وإلى فرض تحرك المجتمع الدولي للتوصل لتسوية سلمية للقضية الفلسطينية، بدل إهمالها كما كان عليه الوضع في السنوات التي سبقتها. اندلاع وإنجازات الانتفاضة
وأدت الانتفاضة إلى الضغط على القيادة الفلسطينية في الخارج للتسريع في تطوير مواقفهم السياسية بشأن الحل السياسي. وأدت الانتفاضة إلى إجهاض مخططات إسرائيل ضم القدس الشرقية وإظهارها جزءا من الغربية، فبعد هذه الانتفاضة أصبح الإسرائيليون يخشون إلى حد كبير حتى التجول الحر في القدس الشرقية. وهناك الكثير من الكتابات التي وثقت إنجازات الانتفاضة ولا داعي للتوقف عندها كثيرا، وربما هناك الحاجة الآن للنظر في الأخطاء التي حصلت وأدت للتدهور الذي أعقب الانتفاضة.
-3-
الأزمات في الانتفاضة
أ- افتقاد المركزيةالأزمات في الانتفاضة
لا بد من الإشارة إلى أنّه فيما ظهرت أثناء الانتفاضة قدرة فلسطينية فائقة على تجاوز الضربات الإسرائيلية الأمنية، وعلى إعادة إنتاج الانتفاضة لذاتها، فإنّه لا بد من الاعتراف الآن، أو على الأقل تبني فرضية لمزيد من البحث، بأنّ الضربات الإسرائيلية أدت لنتائج طويلة المدى مدمرة، فإعادة الإنتاج قصيرة المدى للقيادات المحلية بعد استشهاد واعتقال وإبعاد القيادات، كان تعبيرا عن حيوية مجتمع الانتفاضة وعن حالة فريدة من الشجاعة والجرأة والالتفاف الجماهيري حول الانتفاضة وحركته الوطنية.
لكن اغتيال خليل الوزير، وإبعاد قيادات متعددة من الداخل الفلسطيني، وعدم التفاهم "الوطني"– "الإسلامي" كانت بمثابة عوامل ادت لخلخلة في الهيكل القيادي للانتفاضة لم يتم علاجه، وبعد اغتيال خليل الوزير، مثلا، لم يبرز قائد مركزي آخر للانتفاضة، وتعددت قنوات الاتصال بين الأنوية والخلايا الصلبة داخل فلسطين وبين قيادات الخارج، ومن ضمن الإفرازات التي نتجت عن إبعاد إسرائيل قيادات ميدانية قبل وأثناء الانتفاضة أنّ كثيرا من هذه القيادات تحولت لتصبح قناة الاتصال بين الداخل وبين الرئيس الراحل ياسر عرفات، وذلك سبب أكثر من نوع من الخلل؛ أولها، أنّ كثيرا من القيادات الأكبر سنا سواء داخل أو خارج فلسطين فقدت كثيرا من أهميتها ودورها، وتلك القيادات كان لها علاقات وامتدادات في أنحاء مختلفة من فلسطين.
أمّا القيادات الميدانية المبعدة ففي جزء منها كانت نشاطاتها في المناطق التي جاءت منها، وحدث نوع من التنافس بين القيادات الأكبر سنا وتلك الأصغر، والأهم أنّه حدث تنافس أيضا بين القيادات الشابة المبعدة، التي وجدت نفسها فجأة في دائرة الضوء، ووجدت نفسها تقترب من الصف القيادي التاريخي الأول، ما أدى لصعود سريع لهؤلاء تضمن حرق المراحل بصعودهم لمواقع دون استعداد كاف، وهذا أيضا عمّق "المناطقية" والانفصال بين مجموعات وأجنحة الانتفاضة، التي أصبحت تتشكل وتنقسم وفق قناة اتصالها الخارجية مع القيادة الفلسطينية.
هذه الانقسامات والحالة المناطقيّة، ستتضح وتتعمق أكثر لاحقا عند عودة السلطة الوطنية الفلسطينية للداخل، وسيشتد الصراع المدمر بين القيادات المتنافسة، وستبرز في بعض الحالات ممارسات تدور حولها شبهات الفساد. كما أدى اغتيال أبوجهاد إلى نوع من الفراغ المعلوماتي، بمعنى أنّه يبدو أن كثيرا من العلاقات والمعلومات كان أبوجهاد يتعامل معها بسرية لا يعلمها مساعدوه، أو على الأقل لا يعلمون سوى بأجزاء منها، وبذلك لم يعد هناك ذلك القائد الميداني، المركزي، الخبير، الذي يقود الانتفاضة. وبحسب كلمات د.أحمد الديك في كتابه سوسيولوجيا الانتفاضة، "أحدث استشهاد خليل الوزير إرباكا وتخبطا في الوضع الفلسطيني خاصة من ناحية تماسكه المعلوماتي في التعامل مع الداخل المنتفض".
ب- الانقسام الإسلامي الوطني
حاول خليل الوزير التعامل مع العامل الجديد الذي برز في سياق الانتفاضة، وهو نشاط قوتين إسلاميتين، فاعلتين ومنظمتين، هما جماعة الإخوان المسلمين، التي أسست حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، ومنظمة الجهاد الإسلامي، وتشير مصادر إعلامية وأبحاث إلى أنّ الوزير كان يستعد للقاء قيادات من المنظمتين، كانت إسرائيل قد أبعدتها حديثا، عندما تم اغتياله، ويشير زئيف شيف وإيهود معاري، أنّ أبوجهاد كان قد كلّف بعض عناصر ما كان يعرف بالتيار الإسلامي في فتح، بالاتصال بالجهاد الإسلامي للتنسيق معهم، ومن هؤلاء محمد سلطان التميمي المعروف باسم "حمدي".
والواقع أنّ دور وهوية كل من حمدي، ومعه كل من مروان الكيالي ومحمد إبحيص، من القضايا التي يصعب على الباحثين أن يصلوا فيها لتصور واضح في ظل المصادر الموجودة، فهؤلاء الثلاثة تم اغتيالهم في قبرص بتاريخ 14/2/1988، من قبل الموساد، عندما استقل الثلاثة سيارة مروان الكيالي، فتم تفجير السيارة عن بعد.
وتتضارب المصادر بين من يعتبرهم مساعدين رئيسيين لأبي جهاد في إدارة الانتفاضة، مما يوضح أسباب تتبع إسرائيل لهم لقبرص لاغتيالهم, فيما تذهب بعض الكتابات، بأنّهم كانوا تنظيما شبه منفصل - كما جاء في مقال للكاتب مروان شحادة-"عرف باسم "سرايا الجهاد"، انبثق عن حركة فتح، الذين تم اغتيالهما من قبل الموساد الإسرائيلي في مدينة"ليماسول" في قبرص عام 1988، فيما تذهب مصادر أخرى إلى أنّهم من ضمن الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي. (تتضارب المصادر حتى في تحديد أسمائهم الدقيقة).
عموما لا يبدو أنّ عمليات التنسيق بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل الجديدة(الإسلامية)، نجحت، بل ساء الأمر مع الوقت وانتقل الأمر لصدامات بين الطرفين خاصة في السجون، ولحرب إعلامية، وعلى المستوى الميداني لم تتوحد بل انقسمت قوى الانتفاضة لثلاثة أقسام، أحدها ائتلافي يجمع فصائل منظمة التحرير، وثانيها الجهاد الإسلامي، وثالثا، حركة "حماس" التي أسسها الإخوان المسلمون عقب الانتفاضة. وكان لكل منها بياناتها ونشاطاتها المنفصلة، وبدءا من آب/ أغسطس 1988 أي بالتزامن مع إعلان ميثاق حركة "حماس"، بدأت حماس تدعو لأيام إضراب منفصلة تختلف عن التي تعلنها القيادة الوطنية الموحدة، كما كان للجهاد يوم آخر، وكان الصدام على خلفية أيّام الإضرابات من أول معالم الصدام بين "فتح" و"حماس"، بخاصة مع رفض نشطاء في الأولى الالتزام بدعوات "حماس" ومحاولة نشطاء الأخيرة فرض الإضراب بالقوة والتهديد.
هذا الانقسام سيستمر، طبعا، بعد الانتفاضة. وستفشل محاولات دمج "حماس" و"الجهاد"، في منظمة التحرير الفلسطينية، ولن تستطيع السلطة الوطنية الفلسطينية، التفاهم مع "حماس"، ولن تستطيع فرض القانون بوقف عمليات "حماس" أو نزع سلاحها، لأنّ عملية فرض القانون بمجملها فشلت، وسط الاعتداءات الإسرائيلية المتتالية والمستفزة، ولأنّ القيادة الفلسطينية لم تحسم خياراتها بشأن إقامة سلطة ومؤسسات دولة بالفعل.
ج - عسكرة الانتفاضة
أحد المظاهر التي بدأت في مرحلة متأخرة من الانتفاضة الأولى، هي اللجوء للبندقية وللعمل المسلح، رغم أنّ قيادات سياسية في الداخل، وقيادات خارجية كانت قد حذرت علنا من "عسكرة الانتفاضة"، لأسباب أهمها، أنّ طبيعة البيئة الجغرافية الفلسطينية لا تساعد على خوض حرب عصابات مسلحة، حيث لا توجد جبال وغابات للاختفاء فيها، وحيث إنّ التعاطف العالمي مع الانتفاضة سيتراجع، وهذا سيساعد إسرائيل على ردود فعل انتقامية قاسية.
أذكر أنّ أحد كتّاب مجلة "فلسطين الثورة" علق على الوضع الناشئ بعد السنة الثالثة للانتفاضة، بالقول إنّ الانتفاضة تراجعت من كونها "فعلا شعبيا عاما"، لكونها نشاطا تقوم به مجموعات من الشباب يلتف حولهم الشعب. وكما هو محتمل في أي ثورة، فإنّ ظهور مسلحين وأشخاص لهم سلطة ناتجة عن المقاومة، يمكن أن يؤدي لظهور عناصر قليلة التجربة، أو انتهازية، تستغل الظاهرة لتحقيق مآرب خاصة، ولعل من الأعمال التي وثقت ظاهرة الانحراف تلك، ما كتبته الروائية الفلسطينية، سحر خليفة، في روايتها "الميراث" الصادرة عام 1997، التي تناولت ظهور مليشيات تنفذ عمليات مشبوهة لمصالح خاصة.
وبعيدا عن الرواية فإنّ ظاهرة الملثمين في نهاية الانتفاضة أصبحت مصدر رعب محليا بعد أن كانت ترمز للمواجهة مع العدو. وهذه المجموعات من المسلحين ستستمر في العمل والظهور حتى الآن، والحكم على هذه المجموعات صعب، فأنصارها يعتبرون أنّ أعضاءها أبطال وقفوا في وجه الاحتلال وفي وجه الظالمين(من السلطة)، فيما يعتبرهم آخرون، وكما قدّمتهم السلطة في مراحل مختلفة، باعتبارهم خارجين عن القانون، ينشرون الفوضى والانفلات، ومن الحالات المشهورة حالة أحمد الطبوق، في نابلس، عام 1995، الذي تم تقديم قصته آنذاك بأنّه يقود مجموعة تمارس القوة لمصالح خاصة، ولفرض سيطرتها ومكانتها.
وتوثّق الكاتبة الفرنسية، ليتسيا بوكاي، في كتابها "الفلسطيني التائه، الانتفاضة تأكل أبناءها؟!"،الذي ترجمته د.ماري إلياس، تجربة الطبوق، وتنقل قوله "إن مرجعيتي هي الشعب نفسه.فنحن نحاول أن نجسد فكرة حكم الشعب بالشعب، وتنبع قراراتنا من الأعماق الشعبية في غياب سلطة فلسطينية". وتوضّح بوكاي أمثلة مهمة مفصلة لحالات شبان بدؤوا حياتهم مناضلين أشداء، ثم انخرطوا في خلافات ذات بعد اجتماعي وتنظيمي، وكيف تورط بعضهم بعد الانتفاضة ومجيء السلطة في عمليات غير قانونية وغير مشروعة، سرقة السيارات من إسرائيل أحد نماذجها. وكيف تحول بعض هؤلاء للانحراف الأخلاقي، بينما ذهب البعض الآخر للتطرف الديني.
وعلى صعيد حركة "حماس" فإنّ الحركة كانت بلا نشاط عسكري كبير حتى عام1991، وكما يذكر الكاتب مهيب سليمان النواتي، لم تنفذ الحركة سوى16 عملية حتى نهاية عام1991، منها 9 عمليات طعن، وإن شملت عملياتها تلك خطف جنديين إسرائيليين. وفي عامي 1992 و1993 تم تنفيذ70 عملية.
مشكلة عمليات حماس تحديدا، حتى اندلاع انتفاضة الأقصى عام2000، أنّها عكست الانقسام الفلسطيني، وعدم قدرة الشعب الفلسطيني، على توحيد سلاحه وجعله في خدمة حركته السياسية، وهذه الإشكالية ستتورط بها حركة فتح أيضا في انتفاضة الأقصى، وستؤدي الأخطاء المختلفة في توظيف المقاومة المسلحة، والتي لا مجال لنقاشها الآن، إلى نتائج منها تحول المعركة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى المجال العسكري الذي تتفوق فيه إسرائيل، وإلى تحول السلاح الفلسطيني لسلاح صراع داخلي، وإلى تراجع التأييد العالمي للنضال الفلسطيني،وقدرة إسرائيل على تسويق الكثير من جرائمها بتوظيفها أنواعا معينة من العمليات العسكرية.
د- الآثار الاجتماعية والاقتصادية للانتفاضة
يمكن ملاحظة الفرق الكبير بين نشطاء انتفاضة عام1987، وبين نشطاء الانتفاضات اللاحقة، أبرزها انتفاضة الأقصى، ومجموعات المسلحين الحالية، فنشطاء الانتفاضة الأولى جاؤوا من داخل المؤسسات الأكاديمية، من نشطاء اتحادات الطلبة، وعلى درجة عالية من التسييس،وأبدى بعضهم حرصا على استيفاء تعليمه العالي، بالمقابل فإنّ كثيرا من القيادات الميدانية المسلحة حاليا، انخرطت في النشاطات المسلحة، مبكرا، دون استيفاء التعليم.وفيما كانت نخبة انتفاضة 1987 تتحدث من واقع فكر سياسي واضح، ومن منطلقات محددة، وفهم متكامل للعملية السلمية والنضال المسلح والنضال الشعبي، وكانت قادرة على مخاطبة فئات الشعب المختلفة بوعي كبير، وقادرة على تحويل الشعارات السياسية العقلانية لشعارات شعبية، فإنّ القادة الميدانيين الحاليين، هم مسلحون في كثير من الحالات دون تأهيل علمي أو فكر سياسي حقيقي، ودون مرجعيات سياسية.
وعلى الرغم من حقيقة أنّ نسب التسرب من المدارس الفلسطينية كبيرة منذ ما قبل انتفاضة 1987، فإنّ الملاحظ أنّ الانتفاضة كان لها أثر مدمر على التعليم، فرغم كل المحاولات للتعليم الشعبي القائم على التعليم في المنازل والأماكن العامة، خلال الانتفاضة الأولى وإغلاق إسرائيل للمؤسسات التعليمية، ورغم الحماسة التي تحاط بها هذه التجربة عادة، إلا أنّ مستوى التعليم تأثر كثيرا، وكان التعليم الشعبي بحسب وصف
د.أحمد الديك "شعارا تطمينيا" للمجتمع، ولم تفشل القيادة الفلسطينية في معالجة التراجع التعليمي إبان الانتفاضة وحسب، بل استمر تراجع المؤسسات التعليمية لاحقا، وفشلت عمليات بناء مؤسسات الدولة والتنمية، بعد تحول تلك المؤسسات لمكان لتوظيف واحتواء نشاط الانتفاضة الأولى، دون النظر لقدراتهم وتأهيلهم.
وبات شائعا تدخل عناصر التنظيمات من الطلبة وغيرهم في العملية التعليمية، ونقل لي بعض الطلبة أمثلة على دور قيادات من السلطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية في متابعة الانتخابات الطلابية وتوجيهها ومحاولة التأثير بها بالمال، رغم أنّ تلك القيادات في بعض الحالات لم تكن يوما على مقاعد الدراسة الجامعية.
كان طبيعيا في هذه الحالة أنّ نرى في السنتين الأخيرتين أنّ قيمة التعليم في المجتمع الفلسطيني ربما قد تكون تراجعت، فشهدنا القيادات النقابية التعليمية تقود إضرابا عن التدريس لأسابيع طويلة، في ظل عجز حكومة حركة حماس، تأمين الرواتب، دون اهتمام يذكر بمصير الطلبة.
الانتفاضة الفلسطينية، كانت في جزء منها مرحلة إعجازية، وتجربة تاريخية غنية بكثير من الإنجازات والتجليات النضالية التي تعبّر عن روح إنسانية وعن تصميم وإصرار على التحرر، هذا كله لا يجب أن يلغي حقيقة أنّ أخطاء فادحة قد حصلت ويجب دراستها، فقادة تلك الانتفاضة، بكل القيم العالية والإنجاز النادر الذي قاموا به، هم في جزء كبير منهم، الآن، عنوان الأزمة الحالية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، فالصراعات بين تلك القيادات أمر لا ينتهي،والفوضى وعدم المسؤولية في الأداء والمواقف السياسية وحتى الشخصية، تتناقض، في حالة بعضهم النافذ على الأقل، كليا مع ما بدؤوا فيه في تلك الانتفاضة.
باحث وكاتب أردني مقيم في الإمارات