موسم الهجرة للشمال

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

zella2007

:: عضو مُشارك ::
إنضم
30 نوفمبر 2007
المشاركات
321
نقاط التفاعل
1
النقاط
7



عن الروائي العربي العملاق الطيب صالح ترى ما سرّ كل هذا الإقبال على (( موسم الهجرة إلى الشمال )) ربّما يعود إلى المزاوجة بين سحر الفنّ القصصي التقليدي وسرّ الشخصية القصصية في فن الرواية الحديث. يجمع الطيب صالح بين سحر الماضي وسرّ الحاضر، بطريقة تلتقي فيها عفوية الواقع ـواقع الحياة التي نعيشها ـ مع عفوية الخيال، لا عفوية الفن الذي يقودنا عادة إلى أبعد مما نرى ونسمع ونعلم ونألّف، وهكذا يتداخل الواقع والخيال، ليدعم أحدهما الآخر ويسمو به إلى ماهو أبعد وأسمى.‏ تصل إلينا هذه المواجهة من خلال صورة اللاوعي الجمعيّ، التي تؤثر روحها بطريقة غير مباشرة في شخصية مصطفى سعيد. ويعني هذا أنَّ مصطفى سعيد نفسه هو نتاج هذه المواجهة التي سبقته ولاحقته وظلّت تلاحقه، وأنها ليست من نتاجه كفرد. وعلينا هنا أن نميّز بين التاريخ والأسطورة ، فمصطفى سعيد ليس شخصية تاريخية أو شخصية روائية في سياق تاريخي يروي علينا التاريخ فحسب.ومهما تميز سلوك مصطفى سعيد بالفردية أو الذاتيّة، إلاَّ أنََّه في أصله سلوك لا وعي جماعي، فعلاقته مع النساء (وكل واحدة تمثّل حالة خاصة تختلف عن سواها) لا تمثّل حبَّاً ولا رغبة جنسية ولا طمعاً في الزواج، بل إنها مجتمعة توصل، في اصطلاح شتراوس، رسالةفي مجموعها تشكّل ما يعرف بالإشارة "بالمدونة" .. مصطفى سعيد شخصية قوية ترسخ معالمها في الأذهان من أول لقاء له مع الراوي في القرية، فإنّه ليس كباقي الشخصيات في الروايات العربية التي يمكن أن تطابق واقعاً تاريخياً معيناً، أو تحاكي مشكلة مأمونة تجعلنا نقول إنها أقرب إلى الحقيقة من الخيال.إنَّ ما يسهَّل علينا أمر التعامل مع مصطفى سعيد، هو منظور الشخصية الأسطوري الذي ينظر إلى الأسطورة على أنها قيمة ( فالو ) لا حقيقة، ويمكن أن نقول إنَّه يشبه "الشاهد الغائب"، وهو المنظور الحديث للأسطورة عند رولان بارت ..
السحر الذي يواجهنا به الراوي منذ البداية، هو في أبسط صوره سحر القصص التقليدي الذي يقصّ علينا، ما حدث في تتابع زمني يبدو لنا من أول وهلة وكأنَّه لا يخرج عن المألوف، ويقدّم الراوي نفسه لنا إثر عودته من الغرب بعد غياب سبع سنوات، وكأنَّها رحلات السندباد السبع في بلاد الغربة. ونتهيأً لسماع قصّة الراوي العائد إلى الوطن بشوق وتلهّف، وكأنَّه يقول لنا في كل كلمة إنَّه "راضٍ من الغنيمة بالإياب"، بعد طول الغياب. ومايكاد يتشكّل لدينا هذا التوقّع حتى يلتقي الراوي بمصطفى سعيد، عائد آخر سبقه في العودة، واستقرّ به المقام في القرية، وبهذا نتهيأ من جديد لسماع قصّة جديدة، ليست بالضرورة قصّة الراوي نفسه. وهكذا ينطوي استعدادها الأول الذي أدخلنا الراوي إليه بادئ ذي بدء على استعداد آخر، يخلقه الراوي على التوّ، بعفوية لا تجعلنا نشعر أو نهتم بهذا الانتقال الذي يحوّلنا طوعاً إلى رواية جديدة تكاد تنسينا ما كنّا نتوق لسماعه من رواية الراوي لقصته نفسه، وما حصل معه في الغرب.‏ ومن خلال هذا السحر، وهو ليس بجديد على الفن القصصي الذي تتزعّمه شهرزاد، ينفذ الطيب إلى أعماق الشخصية، ليودع فيها السرّ الأزلي، طاقة كامنة تصبح على مدى الزمن مصدر جاذبية وإلهام للقارئ. والسرّ هو ما لا يستطيع القارئ الوصول إليه بالرغم من كل ما يروى عنه، وبالرغم من كل مافي السر القصصي من سحر يشدّ القارئ إلى الحدث والراوي والشخصية. وهذا النوع من السرّ يختلف عن السرّ الذي يتعلق بالخيال العلمي أو بالحوادث الخارقة للطبيعة، فنحن مثلاً لا نقف متسائلين كثيراً أمام ما يحصل للسندباد من عجائب، وربّما يصيبنا الفزع، ولكنَّنا لا نحتار في سبب ما يحدث، ونكتفي بأنَّ الحوادث مفزعة، إذ أنَّه لا يدخل في حسابنا أمر فزعها، ولا وجود علّة لحدوثها، وكأنَّ تعاقد القارئ مع الحكايات الخارقة للطبيعة يتميّز بنوع من تصفية الحساب، يخفّف من إشكالية التماس بين القارئ والحدث. وهكذا، فإنَّ السرّ لا يكون مشكلة عندما يكون السرد القصصي حدث وحسب، ويكون الحدث مفرّغاً من الشخصية ومقوّماتها البشرية، فالسندباد حدث نتخيّله لا شخصية نتصوّرها، لهذا نطلق له العنان ليفعل ما يشاء، دون حساب أو تساؤل، لأنَّنا لا نَعْرف أنفسنا، ولا نعرّفها من خلال شخصيته وسلوكه، وهو لا يقرّبنا من عالمه واقعياً، بل إنَّه يظلّ بعيداً عنّا بعد الحدث الذي يقوم به ويعبّر عنه. وعندما حاول جويس أن يسمّي السندباد بأسماء عدّة، من خلال تغيير الحروف الأولى في يوليسيز، روايته المشهورة، كان من بين ما هدف إليه التذكير بأنَّ السندباد ليس إلاَّ مجرّد اسم أو لفظ لا يؤثّر استبداله باسم آخر يتشكّل من حروف مختلفة. وينسحب هذا الأمر على القصص والحكايات التي يكون الحدث فيها هو الذي يتحكّم في العملية القصصية، إذ تتقزّم الشخصية، وتصبح مجرّد حدث يحدث فقط. والتطوّر الهائل الذي حدث في الرواية الحديثة، يمكن تلخيصه في التوجّه الجاد نحو الشخصية، وصرف النظر عن الحدث كمركز للثقل في الرواية. وقد أصبح من الواضح أنَّ هذا التوجَّه يشكّل تحدياً هاماً في العلاقة بين القارئ والرواية، عندما أصبحت الشخصية لا الحدث هي حلقة الوصل، وبذا صارت المسافة قريبة وبعيدة في الوقت نفسه، معروفة وغير معروفة، ظاهرة وباطنة في آن واحد، وأصبح السرّ يُروى ولا يُقال ولا يُعرف، يُعرف ولا يوضَّح... إلى آخر ذلك.
والذي يشدّنا إلى موسم الهجرة هو السرّ الذي يطوّق الرواية منذ أن يقابلنا الراوي بعودته من بلاد الصقيع إلى أن يودّعنا بمنظره وهو يطفو في مياه نهر النيل مقهقهاً، وكأنَّه يجذّف في قارب النجاة، وكأنَّه يقول لنا أيضاً إنَّه أفلت من لعبة القدر الذي انتهى بمصطفى سعيد مختفياً في مياه النيل في موسم الفيضانات، إنَّه أخيراً اختطَّ مصيراً لنفسه مغايراً لمصير مصطفى سعيد الذي اختفى إلى الأبد، ليخلّف وراءه مصيراً غامضاً يظلّ مصدر سؤال وتساؤل إلى ما لا نهاية.‏ وكأنَّ الراوي هنا يريدنا أن نكفّ عن السؤال والتساؤل، وكأنَّه يقول لنا: انظروا كيف اختفى مصطفى سعيد، وكيف بقيتُ أنا على قيد الحياة، مجدِّفاً في مياه نفس النهر!... وعندما نتأمّل الوضع نراه غير ذلك تماماً. فالسّر ما زال يحيط بالاثنين، بالراوي والشخصية: مصطفى سعيد. وأول ما يخطر على بالنا هو سرّ الراوي نفسه: ما الذي حدث له خلال السنوات السبع التي قضاها في بلاد الصقيع؟... لا نعلم عن ذلك شيئاً، فبدلاً من أن يخبرنا الراوي بتاريخ حياته خلال تلك المدة، يقصّ علينا حياة شخص آخر، وكأنَّ حياة مصطفى سعيد أصبحت مبرّراً كافياً لإخفاء حياة الراوي. ويظلّ السؤال يطرح نفسه: هل حياة مصطفى سعيد موازية لحياة الراوي الذي عاش مدّة سبع سنوات في المكان نفسه؟... أليس التعاطف بينهما هو سرّ هذا الاعتقاد الذي يغرينا بإقامة موازاة بين الطرفين؟... لماذا لم يجد مصطفى سعيد غير الراوي شخصاً مناسباً في القرية يبوح له بقصته كاملة؟ هل ابتدع الراوي قصة بطلها مصطفى سعيد ليقصّها على نفسه من أجل أن يستوعب ما حصل له فعلاً، وهنا تضيق المسافة بين الشخص والشخصية من أجل تنفيذ المتطلبات الفنية للعمل الروائي؟... لماذا انتظر مصطفى سعيد كل هذه المدّة، حتى يرجع الراوي من الغربة ليقصّ عليه قصّته؟ وبعبارة أخرى ألم يجد مصطفى سعيد في القرية من يستطيع أن يأتمنه، طوال هذه المدة التي عاشها في القرية، ليكون متنفساً لما يعتمل في داخل نفسه، وهو يشارك أهل القرية أعمالهم وأفراحهم وأتراحهم؟ هل يمكن أن نفسّر اللقاء التلقائي بين مصطفى سعيد وبين الراوي بالقول الشائع: "وكل غريب للغريب نسيب؟.. ما سرّ كل هذه المشاركة الوجدانية بين الاثنين؟
 
رد: موسم الهجرة للشمال

بارك الله فيك على النقل الطيب.....
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top