ما أصعب الكلام
للشاعر أحمد مطر
في تأبين ناجي العلي
عن القصيدة
امتدت إليه يد الغدر السوداء في الثاني والعشرين من شهريوليو1987 في أحد شوارع لندن وبقي يصارع الموت خمسة أسابيع إلى أن حل الأجل وأسلم الروح في التاسع والعشرين من شهرأغسطس 1987. تلك كانت لحظة ميلاده الثانية التي خلدت أعماله وذكراه في قلوب وعقول كل محب للحرية متمرد على الظلم متعلق بالمعالي مترفع عن الدنايا. تلك كانت لحظة شب فيها “حنظلة” عن الطوق وبلغ سن الرشد فانطلق يواصل مسيرة النضال في وعي الأمة ووجدانها.
ولئن كان الغموض اكتنف هوية قاتله ولم يؤد تحقيق سلطات
الأمن البريطاني إلى دليل قطعي فإن الأوبزيرفر البريطانية لم تتردد في توجيه أصابع الاتهام إلى جهات فلسطينية داخلية عبر نشرالكاريكاتير الذي قيل أنه كان السبب في إصدار الأمر بتصفيته.
الكاريكاتير يتندر بالسلطات الواسعة التي كانت رشيدة مهران تتمتع بها داخل الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين نظراً لقرب مكانتها من ياسر عرفات الذي ألفت فيه كتاباً حفل بالتمجيد والتبجيل.
وقد كان الكاريكاتير في الأدنى آخر ما حررته ريشته المبدعة حيث وجد معه لحظة اغتياله. لعل إحياء ذكرى ناجي العلي اليوم هو أقل ما يمكن للمرء فعله ونحن نعيش موجة جديدة من الانبطاح والتفريط والتنازلات تحت عنوان المفاوضات المباشرة التي يذهب إليها عباس مخفوراً مذؤوماً مدحوراً!
الشاعر أحمد مطر، صديق ناجي المقرب، كان من أول الواصلين إلى المستشفى حال ورود نبأ الاغتيال فكان أن فاضت قريحيته برثاء رائع قل نظيره:
شكـراً علـى التأبيـنِ والإطــراءِ
يـا معشـرَالخطبـاء والشـعـراءِ
شكراً على ما ضـاعَ مـن أوقاتكـم
فـي غمـرةِ التدبـيـج والإنـشـاءِ
وعلى مـدادٍ كـان يكفـي بعضُـه
أن يُـغـرِقَ الظلـمـاءَ بالظلـمـاءِ
وعلى دموعٍ لو جَـرتْ فـي البيـدِ
لانحلّتْ وسار المـاءُ فـوق المـاءِ
وعواطـفٍ يغـدو علـى أعتابـهـا
مجنـونُ ليلـى أعـقـلَ العـقـلاءِ
وشجاعـةٍ باسـم القتيـلِ مشـيـرةٍ
للقاتلـيـن بغـيـرِمـا أسـمــاءِ
شكراً لكم، شكـراً، وعفـواً إن أنـا
أقلعتُ عن صوتي وعـن إصغائـي
عفواً، فلا الطاووس في جلـدي ولا
تعلـو لسـانـي لهـجـةُ الببـغـاءِ
عفواً، فـلا تـروي أسـاي قصيـدةٌ
إن لـم تكـن مكتـوبـةً بدمـائـي
عفـواً، فإنـي إن رثـيـتُ فإنّـمـا
أرثـي بفاتحـة الـرثـاء رثـائـي
عفـواً، فإنـي مَيِّـتٌ يــا أيُّـهـا
الموتى، وناجـي آخـر الأحيـاء !
*****
“ ناجي العليُّ” لقـد نجـوتَ بقـدرةٍ
مـن عارنـا، وعـلَـوتَ للعلـيـاءِ
إصعدْ، فموطنـك السّمـاءُ، وخلِّنـا
فـي الأرضِ، إن الأرضَ للجبنـاءِ
للمُوثِقيـنَ علـى الّربـاطِ رباطَـنـا
والصانعيـنَ النصـرَ فـي صنعـاءِ
مِمّن يرصّـونَ الصُّكـوكَ بزحفهـم
ويناضـلـونَ بـرايـةٍ بـيـضـاءِ
ويُسافِحـونَ قضيّـةً مـن صُلبهـم
ويُصافـحـونَ عــداوةَ الأعــداءِ
ويخلِّفـون هزيمـةً، لـم يعـتـرفْ
أحـدٌ بهـا.. مـن كثـرة الآبـاءِ !
إصعَدْ فموطنـك المُرّجَـى مخفـرٌ
متـعـددُاللهجــات والأزيـــاءِ
للشرطـة الخصيـان، أوللشرطـة
الثـوار، أو للشـرطـة الأدبــاءِ
أهلِ الكروشِ القابضين على القروشِ
مـن العـروشِ لقتـل كـلِّ فدائـي
الهاربيـن مـن الخنـادق والبنـادق
للفنـادق فـيحِـمـى العُـمـلاءِ
القافزين من اليسـارإلـى اليميـن
إلى اليسار إلىاليمين كقفزة الحِرباءِ
المعلنيـن مـن القصـورِقصورَنـا
واللاقطـيـن عطـيّـةَ اللـقـطـاءِ
إصعدْ، فهذي الأرض بيـتُ دعـارةٍ
فيـهـا البـقـاءُ معـلّـقٌ ببـغـاءِ
مَنْ لم يمُت بالسيـفِ مـات بطلقـةٍ
مـن عـاش فينـا عيشـة الشرفـاء
مـاذا يضيـرك أن تُفـارقَ أمّــةً
ليست سـوى خطـأ مـن الأخطـاءِ
رملٌ تداخـلَ بعضُـهُ فـي بعضِـهِ
حتـى غـداكالصخـرة الصـمّـاءِ
لا الريـحُ ترفعُهـاإلـى الأعـلـى
ولا النيـرانتمنعهـا مـن الإغفـاءِ
فمدامعٌ تبكيـك لـو هـيأنصفـتْ
لرثـتْ صحافـةَ أهلهـا الأُجـراءِ
تلك التي فتحَـتْ لنَعيِـكَصدرَهـا
وتفنّـنـت بـروائـعِالإنـشــاءِ
لكنَهـا لـم تمتلِـكْ شرفـاًلـكـي
ترضى بنشْـرِ رسومـك العـذراءِ
ونعتك من قبـل الممـات، وأغلقـت
بـابَ الرّجـاءِ بـأوجُـهِ الـقُـرّاءِ
وجوامعٌ صلّـت عليـك لـو انّهـا
صدقـت، لقرّبـتِ الجهـادَ النائـي
ولأعْلَنَـتْ باسـم الشريعـة كُفرَهـا
بشـرائـع الأمــراءِ والـرؤسـاءِ
ولساءلتهـم: أيُّـهـمْ قــد جــاءَ
مُنتخَبـاً لنـابـإرادة البُسـطـاء؟
ولساءلتهم: كيف قـدبلغـوا الغِنـى
وبـلادُنـاتكـتـظُّ بالـفـقـراء؟
ولمنْ يَرصُّـونَ السـلاحَ،وحربُهـمْ
حبٌ، وهم فـي خدمـة الأعـداءِ ؟
وبـأيِّ أرضٍ يحكمـونَ، وأرضُنـا
لم يتركوا منهـا سـوى الأسمـاءِ؟
وبـأيِّ شعـبٍ يحكمـونَ، وشعبُنـا
متشـعِّـبٌبالقـتـل والإقـصــاءِ
يحيا غريـبَالـدارِ فـي أوطانـهِ
ومُطـارَداًبمـواطـنِ الغُـربـاء؟
لكنّمـا يبقـى الـكـلامُمُـحـرّراً
إنْ دارَ فـوقَ الألسـنِ الخـرسـاءِ
ويظـلُّ إطـلاقُ العويـلِمحـلّـلاً
مـا لـم يمُـسَّ بحرمـةالخلـفـاءِ
ويظلُّ ذِكْرُكَ في الصحيفـةِجائـزاً
مـا دام وسْـطَ مساحـةٍ ســوداءِ
ويظـلُّ رأسـكَ عاليـاً مـا دمـتَ
فوق النعشِ محمولاً إلـى الغبـراءِ
وتظلُّ تحت “الزّفـتِ” كـلُّ طباعنـا
ما دامَ هذا النفطُ فـي الصحـراءِ!
*****
القاتـلُ المأجـورُ وجــهٌ أســودٌ
يُخفـي مئـاتِ الأوجـه الصفـراءِ
هي أوجهٌ أعجازُها منهـا استحـتْ
والخِـزْيُ غطَاهـا علـى استحيـاءِ
لمثقـفٍ أوراقُـه رزمُ الصـكـوكِ
وحِـبْـرُهُ فيـهـا دمُ الـشـهـداء
ولكـاتـبٍ أقـلامُـهُ مـشــدودةٌ
بحبـال صـوت جلالـةِ الأمــراء
ولناقـدٍ “بالنـقـدِ” يـذبـحُربَّــهُ
ويبـايـعُ الشيـطـانَ بـالإفـتـاءِ
ولشاعرٍ يكتـظُّ مـن عَسَـلِ النعيـمِ
علـى حسـابِ مَـرارةِ البـؤسـاءِ
ويَجـرُّ عِصمتَـه لأبـواب الخَـنـا
ملفـوفـةً بقصـيـدةٍ عصـمـاءِ!
ولثائـرٍ يـرنـو إلــى الحـريّـةِ
الحمـراءِ عبـرَ الليلـةِ الحـمـراءِ
ويعومُ في “عَرَقِ” النضالِ ويحتسـي
أنخابَـهُ فـي صـحَـة الأشــلاءِ
ويكُفُّ عن ضغـط الزِّنـادِ مخافـةً
من عجز إصبعه لدى “ الإمضـاءِ “!
ولحاكـمٍ إن دقَّ نــورُ الـوعْـي
ظُلْمَتَهُ، شكا مـن شـدَّةِ الضوضـاءِ
وَسِعَـتْ أساطيـلَ الغُـزاةِ بــلادُهُ
لكنَـهـا ضـاقـتْ عـلـى الآراءِ
ونفـاكَ وَهْـوَ مُخَمِّـنٌ أنَّ الـرَدى
بـك مُحْـدقُ، فالنفـيُ كالإفـنـاءِ!
الكـلُّ مشـتـركٌ بقتـلِـكَ، إنّـمـا
نابت يَـدُ الجانـي عـن الشُّركـاءِ
*****
ناجي. تحجّرتِ الدمـوعُبمحجـري
وحشا نزيفُ النـارِ لـيأحشائـي
لمّا هويْـتَ هَويـتَ مُتَّحـدَالهـوى
وهويْـتُ فيـك مـوزَّعَ الأهــواءِ
لم أبكِ، لم أصمـتْ، ولـم أنهـضْ
ولم أرقدْ، وكلّي تـاهَ فـي أجزائـي
ففجيعتي بك أننـي.. تحـت الثـرى
روحي، ومن فوقِ الثرى أعضائـي
أنـا يـا أنـا بـك مـيـتٌ حــيٌّ
ومحتـرقٌ أعـدُّ النـارَ للإطـفـاءِ
برّأتُ مـن ذنْـبِ الرِّثـاء قريحتـي
وعصمتُ شيطانـيعـن الإيحـاءِ
وحلـفـتُ ألا أبتـديـك مـودِّعـاً
حتـى أهـيِّـئَمـوعـداً للـقـاءِ
سأبـدّلُ القلـمَ الرقـيـقَ بخنـجـرٍ
والأُغنـيـاتِ بطعـنَـةٍ نـجــلاءِ
وأمـدُّ رأسَ الحاكميـنََ صحيـفـةً
لقصـائـدٍ.. سأخطُّـهـا بحـذائـي
وأضمُّ صوتكَ بـذرةً فـيخافقـي
وأصمُّهـم فـي غابـة الأصــداءِ
وألقِّـنُ الأطـفـالَ أنَّ عروشَـهـم
زبـدٌ أٌقيـمَ علـى أسـاس الـمـاءِ
وألقِّـنُ الأطـفـالَ أنجيوشـهـم
قطـعٌ مـن الديكـورِ والأضــواءِ
وألقِّـنُ الأطـفـالَ أن قصـورَهـم
مبنـيـةٌ بجـمـاجـمِ الضـعـفـاءِ
وكنـوزَهـم مسـروقـةٌ بالـعـدِل
واستقلالهـم نـوعُ مـن الإخصـاءِ
سأظلُّ أكتُبُ فـيالهـواءِ هجاءهـم
وأعـيـدُهُ بعـواصـفٍ هـوجـاءِ
وليشـتـمِ المتلـوّثـونَ شتائـمـي
وليستـروا عوراتـهـم بـردائـي
وليطلـقِ المستكـبـرون كلابَـهـم
وليقطعـوا عنقـي بــلا إبـطـاءِ
لو لم تَعُـدْ فـي العمـرِ إلا ساعـةٌ
لقضيتُـهـا بشتيـمـةِ الخُلـفـاءِ !
***
أنا لستُ أهجـو الحاكميـنَ،وإنّمـا
أهجـو بذكـر الحاكميـن هجائـي
أمِـنَ التـأدّبِ أن أقـول لقاتـلـي
عُذراً إذا جرحـتْ يديـكَ دمائـي؟
أأقـولُ للكلـبِ العـقـور تـأدُّبـاً:
دغدِغْ بنابـك يـاأخـي أشلائـي؟
أأقـولُ للقـوّاد يــا صِـدِّيـقُ، أو
أدعـو البغِـيَّ بمريـمِ الـعـذراءِ؟
أأقـولُ للمأبـونِ حيـنَ ركـوعِـهِ:
“ حَرَمـاً ” وأمسـحُ ظهـرهُ بثنائـي؟
أأقول لِلّـصِ الـذي يسطـو علـى
كينونتـي: شكـراً علـى إلغائـي؟
الحاكمونَ همُ الكلابُ، مع اعتـذاري
فالـكـلاب حفـيـظـةٌ لـوفــاءِ
وهمُ اللصوصُ القاتلـونَ العاهـرونَ
وكلُّهـم عـبـدٌ بــلا استثـنـاء!
إنْ لمْ يكونوا ظالميـن فمـن تُـرى
مـلأ البـلادَ برهـبـةٍ وشـقـاءِ؟
إنْ لـم يكونـواخائنـيـن فكـيـف
ما زالتْ فلسطيـنٌ لـدى الأعـداءِ؟
عشـرون عامـاً والبـلادُ رهيـنـةٌ
للمخبريـنَ وحـضـرةِ الخـبـراءِ
عشـرون عامـاً والشعـوبُ تفيـقُ
مِـنْ غفواتهـا لتُصـابَ بالإغمـاءِ
عشرون عامـاً والمفكِّـرُ إنْ حكـى
وُهِبـتْ لــهُ طاقـيـةُ الإخـفـاءِ
عشرون عاماً والسجـون مـدارسٌ
منهاجـهـا التنكـيـلُ بالسجـنـاءِ
عشـرون عامـاً والقضـاءُ مُنَـزَّهٌ
إلا مـن الأغــراض والأهــواءِ
فالديـنُ معتقـلٌ بتُهـمـةِ كـونِـهِ
مُتطرِّفـاً يدعـو إلــى الـضَّـراءِ
واللهُ فـي كـلِّ الـبـلادِ مُـطـاردٌ
لضلـوعـهِ بـإثـارةِ الـغـوغـاءِ
عشرون عاماً والنظامُ هـو النظـامُ
مـع اختـلاف اللـونِ والأسـمـاءِ
تمـضـي بــه وتعـيـدُهُ دبّـابـةٌ
تستـبـدلُ العـمـلاءَ بالـعـمـلاءِ
سرقوا حليب صِغارنا، مِنْ أجلِ مَنْ؟
كـي يستعيـدوا موطِـنَ الإسـراءِ
فتكوا بخير رجالنا،مِنْ أجلِ مَـنْ؟
كـي يستعيـدوا موطِـنَ الإسـراءِ
هتكوا حياء نسائنا، مِنْ أجـلِ مَـنْ؟
كـي يستعيـدوا موطِـنَ الإسـراءِ
خنـقـوا بحريّاتـهـم أنفـاسَـنـا
كـي يستعيـدوا موطِـنَ الإسـراءِ
وصلـوا بوحدتهـم إلـى تجزيئنـا
كـي يستعيـدوا موطِـنَ الإسـراءِ
فتحـوا لأمريكـا عفـافَ خليجـنـا
كـي يستعيـدوا موطِـنَ الإسـراءِ
وإذا بمـا قـد عـاد مـن أسلابنـا
رمـلٌ تناثـر فـيثـرى سينـاء!
وإذا بنـا مِـزَقٌ بساحـات الوغـى
وبـواسـلٌ بوسـائـل الأنـبــاءِ
وإذا بـنـانـــرثُ البلاء مُضـاعَـفـاً
ونُــوَرِّثُ الضعفـيـنِ لـلأبـنـاءِ
ونخافُ أن نشكو وضاعـةَ وضعنـا
حتـى ولـو بالصمـت والإيـمـاءِ
ونخـافُ مـن أولادِنـا ونسائـنـا
ومـن الهـواءِ إذا أتــى بـهـواءِ
ونخـافُ إن بـدأ تلدينـا ثــورةٌ
مِـن أن تكـونَ بـدايـة الإنـهـاءِ
موتى، ولاأحـدٌ هنـا يرثـي لنـا
قُمْ وارثنـا.. يـا آخِـرَ الأحيـاءِ !