السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الخطأ هو مقولة (اختلاف أمتي رحمة) .. و التي يستند إليها كل صاحب هوى عندما يريد أن يحل حراما أو ينزل به لدرجة مكروه ليحلله لنفسه.
طبعا لم أرق بعد لدرجة أن أصحح الأخطاء .. و ما أنا إلا ناقل ، و لا أجد بين يدي الآن أفضل من كتابات شيخنا العلامة ناصر الدين الألباني - رحمه الله - لأنقل عنه ما أورده في هذا الشأن .. و من يريد الإطلاع عليه فهو موجود بمقدمة كتاب (صفة صلاة النبي) .. و أنصح الجميع باقتناء هذا الكتاب القيم (ثمنه حوالي 150 ج) فمقدمته كتابا . و مادته كتابا آخر .. و كلاهما لا يخلو من الاستناد إلى الدليل الصحيح - رحم الله شيخنا الألباني و رفع قدره .. - و نترك المجال لشيخنا الجليل -
** قال بعضهم: لا شك أن الرجوع إلى هدي نبينا صلى الله عليه وسلم في شؤون ديننا أمر واجب ، لا سيما فيما كان منها عبادة محضة لا مجال للرأي والاجتهاد فيها ؛ لأنها توقيفية ؛ كالصلاة مثلاً ، ولكننا لا نكاد نسمع أحداً من المشايخ المقلدين يأمر بذلك ، بل نجدهم يُقرِّون الاختلاف ، ويزعمون أنه توسعة على الأمة ، ويحتجون على ذلك بحديث - طالما كرروه في مثل هذه المناسبة رادين به على أنصار السنة - : (( اختلاف أمتي رحمة )) ، فيبدو لنا أن هذا الحديث يخالف المنهج الذي تدعو إليه ، وألفت كتابك هذا وغيره عليه ، فما قولك في هذا الحديث ؟
الجواب من وجهين :
الأول : أن هذا الحديث لا يصح ، بل هو باطل لا أصل له ؛ قال العلامة السبكي : (( لم أقف له على سند صحيح ، ولا ضعيف ، ولا موضوع )) .
قلت : وإنما روي بلفظ : (( ... اختلاف أصحابي لكم رحمة )) .
و (( أصحابي كالنجوم ؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم )) .
وكلاهما لا يصح : الأول واه جدًّا ، والآخر موضوع ، وقد حققت القول في ذلك كله في (( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة )) ( رقم 58 و 59 و 61 ) .
الثاني : أن الحديث مع ضعفه مخالف للقرآن الكريم ، فإن الآيات الواردة فيه - في النهي عن الاختلاف في الدين ، والأمر في الاتفاق فيه - أشهر من أن تذكر ، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال ، قال الله تعالى : (( وَلا تَنازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم )) ، وقال : (( وَلا تَكُونوا مِنَ المُشرِكينَ * مِنَ الذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعاً كُلُّ حِزبٍ بِما لَديهم فَرِحون )) ،وقال : (( وَلا يَزالُونَ مُختَلِفينَ * إلا مَن رَحِمَ رَبُّكَ )) ، فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون ، وإنما يختلف أهل الباطل ؛ فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة ؟
فثبت أن هذا الحديث لا يصح ، لا سنداً ولا متناً ، وحينئذٍ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة الذي أمر به الأئمة )) .
** وقال آخرون: إذا كان الاختلاف في الدين منهيّاً عنه؛ فماذا تقولون في اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم ؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم واختلاف غيرهم من المتأخرين ؟ .
فالجواب: نعم؛ هناك فرق كبير بين الاختلافين ، ويظهر ذلك في شيئين:
الأول: سببه .
والآخر: أثره .
فأما اختلاف الصحابة؛ فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم؛ لا اختياراً منهم للخلاف ، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم ، استلزمت اختلافهم ثم زالت من بعدهم ( 2 ) ، ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليّاً ، ولا يلحق أهله الذم الوارد في الآيات السابقة وما في معناها؛ لعدم تحقق شرط المؤاخذة ، وهو القصد أو الإصرار عليه .
وأما الاختلاف القائم بين المقلدة؛ فلا عذر لهم فيه غالباً ، فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة ، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة ، فيدعها لا لشيء إلا لأنها خلاف مذهبه ، فكأن المذهب عنده هو الأصل ، أو هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ!
وآخرون منهم على النقيض من ذلك ، فإنهم يرون هذه المذاهب - على ما بينها من اختلاف واسع- كشرائع متعددة؛ كما صرح بذلك بعض متأخريهم ( 1 ) : لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء ، ويدع ما شاء ، إذ الكل شرع! وقد يحتج هؤلاء وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل: ( اختلاف أمتي رحمة ) ، وكثيراً ما سمعناهم يستدلون به على ذلك !
ويعلل بعضهم هذا الحديث ويوجهونه بقولهم: إن الاختلاف إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة! ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة ، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده .
قال ابن القاسم:
( سمعت مالكاً وليثاً يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناس: ( فيه توسعة ) ؛ ليس كذلك ، إنما هو خطأ وصواب ) ( 2 ) .
وقال أشهب:
( سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أتراه من ذلك في سعة ؟
فقال: لا والله حتى يصيب الحق ، ما الحق إلا واحد ، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً ؟ ! ما الحق والصواب إلا واحد ) ( 3 ) .
ـ وقال المزني صاحب الإمام الشافعي:
( وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خطأ بعضهم بعضاً ، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها ، ولو كان قولهم كله صواباً عندهم ، لما فعلوا ذلك ، وغضب عمر بن الخطاب ، من اختلاف أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في الثوب الواحد؛ إذ قال أُبيّ: إن الصلاة في الثواب الواحد حسن جميل . وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك والثياب قليلة . فخرج عمر مغضباً ، فقال: اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن ينظر إليه ويؤخذ عنه! وقد صدق أبيّ ، ولم يأل ابن مسعود ، ولكني لا أسمع أحداً يختلف فيه بعد ما مقامي هذا إلا فعلت به كذا وكذا ) ( 1 ) . ) .
وقال الإمام المزني أيضاً:
( يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة ، فقال أحدهما: حلال ، والآخر: حرام؛ أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق: أبأصل قلت هذا أم بقياس ؟ فإن قال: بأصل؛ قيل له: كيف يكون أصلاً والكتاب ينفي الاختلاف ؟ ! وإن قلت: بقياس؛ قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف ، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف ؟ هذا ما لا يجوّزه عاقل ، فضلاً عن عالم ) ( 2 )
فإن قال قائل: يخالف ما ذكرته عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد ما جاء في كتاب ( المدخل الفقهي ) للأستاذ الزرقا ( 1/89 ) :
( ولقد همّ أبو جعفر المنصور ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك وكتابه ( الموطأ ) قانوناً قضائيّاً للدولة العباسية ، فنهاهما مالك عن ذلك وقال:
( إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في البلدان ، وكل مصيب ) .
وأقول: إن هذه القصة معروفة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله ، لكن قوله في آخرها: ( وكل مصيب ) ما لا أعلم له أصلاً في شيء من الروايات والمصادر التي وقفت عليها ( 1 ) ، اللهم! إلا رواية واحدة أخرجها أبو نُعيم في ( الحلية ) ( 6/332 ) بإسناد فيه المقدام بن داود ، وهو ممن أوردهم الذهبي في ( الضعفاء ) ، ومع ذلك فإن لفظها: ( وكل عند نفسه مصيب ) ، فقوله: ( عند نفسه ) يدل على أن رواية ( المدخل ) مدخولة ، وكيف لا تكون كذلك وهي مخالفة لما رواه الثقات عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد كما سبق بيانه ؟ ! وعلى هذا كل الأئمّة من الصحابة والتابعين والأئمّة الأربعة المجتهدين وغيرهم .
قال ابن عبد البر ( 2/88 ) :
( ولو كان الصواب في وجهين متدافعين؛ ما خطأ السلف بعضهم بعضاً في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم ، والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صواباً كله ، ولقد أحسن من قال: (إثبات ضدين معاً في حال أقبح ما يأتي من المحال ) .
فإن قيل: إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام ؛ فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه ( الموطأ ) ولم يُجبه إلى ذلك ؟
فأقول: أحسن ما وقفت عيه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في ( شرح اختصار علوم الحديث ) ( ص 31 ) ، وهو أن الإمام قال:
( إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها ) .
وذلك من تمام علمه وإنصافه؛ كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى .
فثبت أن الخلاف شرّ كلُّه ، وليس رحمة ، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب ، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم ، ووفقنا لاتباعهم .
فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة .
وخلاصته:
أن الصحابة اختلفوا اضطراراً ، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف ، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً .
وأما المقلدة- فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منهم- فلا يتفقون ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه ، فشتان إذن بين الاختلافين .
ذلك هو الفرق من جهة السبب .
وأما الفرق من جهة الأثر؛ فهو أوضح؛ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم- مع اختلافهم المعروف في الفروع- كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة ، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة ، ويصدع الصفوف ، فقد كان فيهم مثلاً من يرى مشروعية الجهر بالبسملة ، ومن يرى عدم مشروعيته ، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين ، ومن لا يراه ، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة ، ومن لا يراه؛ ومع ذلك فقد كانوا يصلون جميعاً وراء إمام واحد ، ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلافٍ مذهبي .
وأما المقلدون؛ فاختلافهم على النقيض من ذلك تماماً؛ فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين؛ ألا وهو الصلاة ، فهم يأبون أن يصلوا جميعاً وراء إمام واحد؛ بحجة أن صلاة الإمام باطلة أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه ، وقد سمعنا ذلك ، ورأيناه كما رآه غيرنا ( 1 ) ، كيف لا وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة على الكراهة أو البطلان ؟ ! وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع ، يصلي فيها أئمة أربعة متعاقبين ، وتجد أناساً ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي!
بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين؛ مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعي ، ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية - وهو الملقب ب ( مفتي الثقلين ) - فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية ، وعلل ذلك بقوله: ( تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب ) ( 1 ) ! ومفهوم ذلك - ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم- أنه لا يجوز العكس ، وهو تزوج الشافعي بالحنفية ، كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة ؟ !
هذان مثالان من أمثلة كثيرة توضح للعاقل الأثر السيئ الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه؛ بخلاف اختلاف السلف ، فلم يكن له أي أثر سيء في الأمة ، ولذلك فهم منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين- بخلاف المتأخرين- هدانا الله جميعاً إلى صراطه المستقيم .
وليت أن اختلافهم المذكور انحصر ضرره فيما بينهم ، ولم يتعده إلى غيرهم من أمة الدعوة؛ إذن لهان الخطب بعض الشيء ، ولكنه - ويا للأسف!- تجاوزهم إلى غيرهم من الكفار في كثير من البلاد والأقطار ، فصدوهم بسبب اختلافهم عن الدخول في دين الله أفواجاً! جاء في كتاب ( ظلام من الغرب ) للأستاذ الفاضل محمد الغزالي ( ص 200 ) ما نصه:
( حدث في المؤتمر الذي عقد في جامعة ( برينستون ) بأمريكا أن أثار أحد المتحدثين سؤالاً- كثيراً ما يثار في أوساط المستشرقين والمتهمين بالنواحي الإسلامية- قال:
( بأي التعاليم يتقدم المسلمون إلى العالم؛ ليحددوا الإسلام الذي يدعون إليه ؟
أبتعاليم الإسلام كما يفهمهما السنيون ؟ أم بالتعاليم التي يفهمها الشيعة من إمامية أو زيدية ؟
ثم إن كلاً من هؤلاء وأولئك مختلفون فيما بينهم .
وقد يفكر فريق منهم في مسألة ما تفكيراً تقدميّاً محدوداً ، بينما يفكر آخرون تفكيراً قديماً متزمتاً .
والخلاصة؛ أن الداعين إلى الإسلام يتركون المدعوين إليه في حيرة؛ لأنهم هم أنفسهم في حيرة ) .
ـ وفي مقدمة رسالة ( هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جابان ) للعلامة محمد سلطان المعصومي رحمه الله تعالى:
( إنه كان ورد عليّ سؤال من مسلمي بلاد جابان ( يعني اليابان ) من بلدة ( طوكيو ) و ( أوصاكا ) في الشرق الأقصى ، حاصله:
ما حقيقة دين الإسلام ؟ ثم ما معنى المذهب ؟ وهل يلزم من تشرف بدين الإسلام أن يتمذهب على أحد المذاهب الأربعة ؟ أي: أن يكون مالكياً ، أو حنفياً أو شافعياً ، أو غيرها ، أو لا يلزم ؟
لأنه قد وقع هنا اختلاف عظيم ، ونزاع وخيم؛ حينما أراد عدة أنفار من متنوري الأفكار من رجال ( يابونيا ) أن يدخلوا في دين الإسلام ، ويتشرفوا بشرف الإيمان ، فعرضوا ذلك على جمعية المسلمين الكائنة في ( طوكيو ) ، فقال جمع من أهل الهند: ينبغي أن يختاروا مذهب الإمام أبي حنيفة؛ لأنه سراج الأمة .
وقال جمع من أهل إندونيسيا ( جاوا ) : يلزم أن يكون شافعيّاً! فلما سمع الجابانيون كلامهم تعجبوا جداً ، وتحيروا فيما قصدوا ، وصارت مسألة المذاهب سدّاً في سبيل إسلامهم! ) .
3- ويزعم آخرون أن معنى هذا الذي تدعون إليه من الاتباع للسنة ، وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها؛ ترك الأخذ بأقوالهم مطلقاً والاستفادة من اجتهاداتهم وآرائهم .
فأقول: إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب ، بل هو باطل ظاهر البطلان ، كما يبدو ذلك جليّاً من الكلمات السابقات ، فإنها كلها تدل على خلافه ، وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب ديناً ، ونصبها مكان الكتاب والسنة؛ بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع ، أو عند إرادة استنباط أحكام لحوادث طارئة؛ كما يفعل متفقهة هذا الزمان ، وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية ، والنكاح والطلاق ، وغيرها دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة ليعرفوا الصواب منها من الخطأ ، والحق من الباطل ، وإنما على طريقة ( اختلافهم رحمة ) ! وتتبع الرخص والتيسير أو المصلحة- زعموا- وما أحسن قول سليمان التيمي رحمه الله تعالى:
( إن أخذت برخصة كل عالم؛ اجتمع فيك الشر كله ) .
رواه ابن عبد البر ( 2/91- 92 ) وقال عقبة:
( هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً ) .
فهذا الذي ننكره ، وهو وفق الإجماع كما ترى .
وأما الرجوع إلى أقوالهم ، والاستفادة منها ، والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة ، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح؛ فأمر لا ننكره ، بل نأمر به ونحض عليه؛ لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة .
ـقال العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى ( 2/172 ) :
( فعليك يا أخي! بحفظ الأصول والعناية بها ، واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ، ونظر في أقاويل الفقهاء- فجعله عوناً له على اجتهاده ، ومفتاحاً لطرائق النظر ، وتفسيراً لجمل السنن المحتملة للمعاني- ولم يقلد أحداً منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر ، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها ، واقتدى بها في البحث والتفهم والنظر ، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه ، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ، ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرؤوا أنفسهم منه؛ فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح ، وهو المصيب لحظه ، والمعاين لرشده ، والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم .
ومن أعفّ نفسه من النظر ، وأضرب عما ذكرنا ، وعارض السنن برأيه ، ورام أن يردها إلى مبلغ نظره؛ فهو ضال مضل ، ومن جهل ذلك كله أيضاً ، وتقحم في الفتوى بلا علم؛ فهو أشد عمى ، وأضل سبيلاً ) .
فهذا هو الحق ما به خفاء فدعني عن بنيات الطريق .
4- ثم إن هناك وهماً شائعاً عند بعض المقلدين ، يصدهم عن اتباع السنة التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها ، وهو ظنهم أن اتباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب ، والتخطئة معناها عندهم الطعن في الإمام ، ولما كان الطعن في فرد من أفراد المسلمين لا يجوز؛ فكيف في إمام من أئمتهم ؟ !
والجواب: أن هذا المعنى باطل؛ وسببه الانصراف عن التفقه في السنة ، وإلا فكيف يقول ذلك المعنى مسلم عاقل ؟ ! و رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل: ( إذا حكم الحاكم ، فاجتهد فأصاب؛ فله أجران ، وإذا حكم ، فاجتهد فأخطأ ، فله أجرٌ واحد ) البخاري ومسلم ، فهذا الحديث يرد ذلك المعنى ، ويبين بوضوح لا غموض فيه أن قول القائل: ( أخطأ فلان ) معناه في الشرع: ( أثيب فلان أجراً واحداً ) ، فإذا كان مأجوراً في رأي من خطّأه؛ فكيف يتوهم من تخطئته إياه الطعن فيه ؟ ! لا شك أن هذا التوهم أمر باطل يجب على كل من قام به أن يرجع عنه ؛ وإلا فهو الذي يطعن في المسلمين ، وليس في فرد عادي منهم ، بل في كبار أئمتهم؛ من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وغيرهم ، فإننا نعلم يقيناً أن هؤلاء الأجلة كان يُخَطِّئُ بعضهم بعضاً ، ويرد بعضهم على بعض ( 1 ) ، أفيقول عاقل: إن بعضهم كان يطعن في بعض ، بل لقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّأ أبا بكر رضي الله عنه في تأويله رؤيا كان رآها رجل ، فقال صلى الله عليه وسلم له: ( أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً ) البخاري ومسلم ، فهل طعن صلى الله عليه وسلم في أبي بكر بهذه الكلمة ؟ !
ومن عجيب تأثير هذا الوهم على أصحابه؛ أنه يصدهم عن اتباع السنة المخالفة لمذهبه؛ لأن اتباعهم إياها معناه عندهم الطعن في الإمام ، وأما اتباعهم إياه - ولو في خلاف السنة - فمعناه احترامه وتعظيمه! ولذلك فهم يصرون على تقليده فراراً من الطعن الموهوم .
ولقد نسي هؤلاء- ولا أقول: تناسوا- أنهم بسبب هذا الوهم وقعوا فيما هو شر مما منه فرّوا ، فإنه لو قال لهم قائل: إذا كان الاتباع يدل على احترام المتبوع ، ومخالفته تدل على الطعن فيه؛ فكيف أجزتم لأنفسكم مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وترك اتباعها إلى اتباع إمام المذاهب في خلاف السنة ، وهو معصوم ، والطعن فيه ليس كفراً ؟ ! فلئن كان عندكم مخالفة الإمام تعتبر طعناً فيه ؛ فمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر في كونها طعناً فيه ، بل ذلك هو الكفر بعينه - والعياذ بالله منه- لو قال لهم ذلك قائل؛ لم يستطيعوا عليه جواباً؛ اللهم! إلا كلمة واحدة- طالما سمعناها من بعضهم- وهي قولهم: إنما تركنا السنة ثقة بإمام المذهب ، وأنه أعلم بالسنة منا .
وجوابنا على هذه الكلمة من وجوه يطول الكلام عليها في هذه المقدمة ، ولذلك فإني أقتصر على وجه واحد منها ، وهو جواب فاصل بإذن الله ، فأقول:
ليس إمام مذهبكم فقط هو أعلم منكم بالسنة؛ بل هناك عشرات- بل مئات- الأئمة هم أعلم أيضاً منكم بالسنة ، فإذا جاءت السنة الصحيحة على خلاف مذهبكم- وكان قد أخذ بها أحد من أولئك الأئمة- فالأخذ بها- والحالة هذه - حتم لازم عندكم؛ لأن كلمتكم المذكورة لا تنفق هنا ، فإن مخالفكم سيقول لكم معارضاً: إنما أخذنا بهذه السنة ثقة منا بالإمام الذي أخذ بها؛ فاتباعه أولى من اتباع الإمام الذي خالفها . وهذا بيّن لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى .
ولذلك فإني أستطيع أن أقول:
إن كتابنا هذا لمّا جمع السنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في صفة صلاته؛ فلا عذر لأحد في ترك العمل بها؛ لأنه ليس فيه ما اتفق العلماء على تركه- حاشاهم من ذلك- بل ما من مسألة وردت فيه؛ إلا وقد قال بها طائفة منهم ، ومن لم يقل
ـ بها؛ فهو معذور ومأجور أجراً واحداً؛ لأنه لم يرد إليه النص بها إطلاقاً ، أو ورد لكن بطريق لا تقوم عنده به الحجة أو لغير ذلك من الأعذار المعروفة لدى العلماء ، وأما من ثبت النص عنده من بعده؛ فلا عذر له في تقليده ، بل الواجب اتباع النص المعصوم ، وذلك هو المقصود من هذه المقدمة ، والله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) [ الأنفال 24 ] .
والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل ، وهو نعم المولى ونعم النصير .
نعود
لسلسلة الأخطاء الشائعة و نتناول خطأ شائع .. بل خطأ تكاد لا توفيه كلمة خطأ حقه.الخطأ هو مقولة (اختلاف أمتي رحمة) .. و التي يستند إليها كل صاحب هوى عندما يريد أن يحل حراما أو ينزل به لدرجة مكروه ليحلله لنفسه.
طبعا لم أرق بعد لدرجة أن أصحح الأخطاء .. و ما أنا إلا ناقل ، و لا أجد بين يدي الآن أفضل من كتابات شيخنا العلامة ناصر الدين الألباني - رحمه الله - لأنقل عنه ما أورده في هذا الشأن .. و من يريد الإطلاع عليه فهو موجود بمقدمة كتاب (صفة صلاة النبي) .. و أنصح الجميع باقتناء هذا الكتاب القيم (ثمنه حوالي 150 ج) فمقدمته كتابا . و مادته كتابا آخر .. و كلاهما لا يخلو من الاستناد إلى الدليل الصحيح - رحم الله شيخنا الألباني و رفع قدره .. - و نترك المجال لشيخنا الجليل -
** قال بعضهم: لا شك أن الرجوع إلى هدي نبينا صلى الله عليه وسلم في شؤون ديننا أمر واجب ، لا سيما فيما كان منها عبادة محضة لا مجال للرأي والاجتهاد فيها ؛ لأنها توقيفية ؛ كالصلاة مثلاً ، ولكننا لا نكاد نسمع أحداً من المشايخ المقلدين يأمر بذلك ، بل نجدهم يُقرِّون الاختلاف ، ويزعمون أنه توسعة على الأمة ، ويحتجون على ذلك بحديث - طالما كرروه في مثل هذه المناسبة رادين به على أنصار السنة - : (( اختلاف أمتي رحمة )) ، فيبدو لنا أن هذا الحديث يخالف المنهج الذي تدعو إليه ، وألفت كتابك هذا وغيره عليه ، فما قولك في هذا الحديث ؟
الجواب من وجهين :
الأول : أن هذا الحديث لا يصح ، بل هو باطل لا أصل له ؛ قال العلامة السبكي : (( لم أقف له على سند صحيح ، ولا ضعيف ، ولا موضوع )) .
قلت : وإنما روي بلفظ : (( ... اختلاف أصحابي لكم رحمة )) .
و (( أصحابي كالنجوم ؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم )) .
وكلاهما لا يصح : الأول واه جدًّا ، والآخر موضوع ، وقد حققت القول في ذلك كله في (( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة )) ( رقم 58 و 59 و 61 ) .
الثاني : أن الحديث مع ضعفه مخالف للقرآن الكريم ، فإن الآيات الواردة فيه - في النهي عن الاختلاف في الدين ، والأمر في الاتفاق فيه - أشهر من أن تذكر ، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال ، قال الله تعالى : (( وَلا تَنازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم )) ، وقال : (( وَلا تَكُونوا مِنَ المُشرِكينَ * مِنَ الذينَ فَرَّقوا دينَهُم وَكانوا شِيَعاً كُلُّ حِزبٍ بِما لَديهم فَرِحون )) ،وقال : (( وَلا يَزالُونَ مُختَلِفينَ * إلا مَن رَحِمَ رَبُّكَ )) ، فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون ، وإنما يختلف أهل الباطل ؛ فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة ؟
فثبت أن هذا الحديث لا يصح ، لا سنداً ولا متناً ، وحينئذٍ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة الذي أمر به الأئمة )) .
** وقال آخرون: إذا كان الاختلاف في الدين منهيّاً عنه؛ فماذا تقولون في اختلاف الصحابة والأئمة من بعدهم ؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم واختلاف غيرهم من المتأخرين ؟ .
فالجواب: نعم؛ هناك فرق كبير بين الاختلافين ، ويظهر ذلك في شيئين:
الأول: سببه .
والآخر: أثره .
فأما اختلاف الصحابة؛ فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم؛ لا اختياراً منهم للخلاف ، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم ، استلزمت اختلافهم ثم زالت من بعدهم ( 2 ) ، ومثل هذا الاختلاف لا يمكن الخلاص منه كليّاً ، ولا يلحق أهله الذم الوارد في الآيات السابقة وما في معناها؛ لعدم تحقق شرط المؤاخذة ، وهو القصد أو الإصرار عليه .
وأما الاختلاف القائم بين المقلدة؛ فلا عذر لهم فيه غالباً ، فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة ، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة ، فيدعها لا لشيء إلا لأنها خلاف مذهبه ، فكأن المذهب عنده هو الأصل ، أو هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ!
وآخرون منهم على النقيض من ذلك ، فإنهم يرون هذه المذاهب - على ما بينها من اختلاف واسع- كشرائع متعددة؛ كما صرح بذلك بعض متأخريهم ( 1 ) : لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء ، ويدع ما شاء ، إذ الكل شرع! وقد يحتج هؤلاء وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل: ( اختلاف أمتي رحمة ) ، وكثيراً ما سمعناهم يستدلون به على ذلك !
ويعلل بعضهم هذا الحديث ويوجهونه بقولهم: إن الاختلاف إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة! ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة ، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده .
قال ابن القاسم:
( سمعت مالكاً وليثاً يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس كما قال ناس: ( فيه توسعة ) ؛ ليس كذلك ، إنما هو خطأ وصواب ) ( 2 ) .
وقال أشهب:
( سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أتراه من ذلك في سعة ؟
فقال: لا والله حتى يصيب الحق ، ما الحق إلا واحد ، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً ؟ ! ما الحق والصواب إلا واحد ) ( 3 ) .
ـ وقال المزني صاحب الإمام الشافعي:
( وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خطأ بعضهم بعضاً ، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها ، ولو كان قولهم كله صواباً عندهم ، لما فعلوا ذلك ، وغضب عمر بن الخطاب ، من اختلاف أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في الثوب الواحد؛ إذ قال أُبيّ: إن الصلاة في الثواب الواحد حسن جميل . وقال ابن مسعود: إنما كان ذلك والثياب قليلة . فخرج عمر مغضباً ، فقال: اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن ينظر إليه ويؤخذ عنه! وقد صدق أبيّ ، ولم يأل ابن مسعود ، ولكني لا أسمع أحداً يختلف فيه بعد ما مقامي هذا إلا فعلت به كذا وكذا ) ( 1 ) . ) .
وقال الإمام المزني أيضاً:
( يقال لمن جوز الاختلاف وزعم أن العالمين إذا اجتهدا في الحادثة ، فقال أحدهما: حلال ، والآخر: حرام؛ أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق: أبأصل قلت هذا أم بقياس ؟ فإن قال: بأصل؛ قيل له: كيف يكون أصلاً والكتاب ينفي الاختلاف ؟ ! وإن قلت: بقياس؛ قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف ، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف ؟ هذا ما لا يجوّزه عاقل ، فضلاً عن عالم ) ( 2 )
فإن قال قائل: يخالف ما ذكرته عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد ما جاء في كتاب ( المدخل الفقهي ) للأستاذ الزرقا ( 1/89 ) :
( ولقد همّ أبو جعفر المنصور ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك وكتابه ( الموطأ ) قانوناً قضائيّاً للدولة العباسية ، فنهاهما مالك عن ذلك وقال:
( إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع ، وتفرقوا في البلدان ، وكل مصيب ) .
وأقول: إن هذه القصة معروفة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله ، لكن قوله في آخرها: ( وكل مصيب ) ما لا أعلم له أصلاً في شيء من الروايات والمصادر التي وقفت عليها ( 1 ) ، اللهم! إلا رواية واحدة أخرجها أبو نُعيم في ( الحلية ) ( 6/332 ) بإسناد فيه المقدام بن داود ، وهو ممن أوردهم الذهبي في ( الضعفاء ) ، ومع ذلك فإن لفظها: ( وكل عند نفسه مصيب ) ، فقوله: ( عند نفسه ) يدل على أن رواية ( المدخل ) مدخولة ، وكيف لا تكون كذلك وهي مخالفة لما رواه الثقات عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد كما سبق بيانه ؟ ! وعلى هذا كل الأئمّة من الصحابة والتابعين والأئمّة الأربعة المجتهدين وغيرهم .
قال ابن عبد البر ( 2/88 ) :
( ولو كان الصواب في وجهين متدافعين؛ ما خطأ السلف بعضهم بعضاً في اجتهادهم وقضائهم وفتواهم ، والنظر يأبى أن يكون الشيء وضده صواباً كله ، ولقد أحسن من قال: (إثبات ضدين معاً في حال أقبح ما يأتي من المحال ) .
فإن قيل: إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام ؛ فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه ( الموطأ ) ولم يُجبه إلى ذلك ؟
فأقول: أحسن ما وقفت عيه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في ( شرح اختصار علوم الحديث ) ( ص 31 ) ، وهو أن الإمام قال:
( إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها ) .
وذلك من تمام علمه وإنصافه؛ كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى .
فثبت أن الخلاف شرّ كلُّه ، وليس رحمة ، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب ، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم ، ووفقنا لاتباعهم .
فظهر أن اختلاف الصحابة هو غير اختلاف المقلدة .
وخلاصته:
أن الصحابة اختلفوا اضطراراً ، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف ، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً .
وأما المقلدة- فمع إمكانهم الخلاص منه ولو في قسم كبير منهم- فلا يتفقون ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه ، فشتان إذن بين الاختلافين .
ذلك هو الفرق من جهة السبب .
وأما الفرق من جهة الأثر؛ فهو أوضح؛ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم- مع اختلافهم المعروف في الفروع- كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة ، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة ، ويصدع الصفوف ، فقد كان فيهم مثلاً من يرى مشروعية الجهر بالبسملة ، ومن يرى عدم مشروعيته ، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين ، ومن لا يراه ، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة ، ومن لا يراه؛ ومع ذلك فقد كانوا يصلون جميعاً وراء إمام واحد ، ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلافٍ مذهبي .
وأما المقلدون؛ فاختلافهم على النقيض من ذلك تماماً؛ فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين؛ ألا وهو الصلاة ، فهم يأبون أن يصلوا جميعاً وراء إمام واحد؛ بحجة أن صلاة الإمام باطلة أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه ، وقد سمعنا ذلك ، ورأيناه كما رآه غيرنا ( 1 ) ، كيف لا وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة على الكراهة أو البطلان ؟ ! وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع ، يصلي فيها أئمة أربعة متعاقبين ، وتجد أناساً ينتظرون إمامهم بينما الإمام الآخر قائم يصلي!
بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين؛ مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعي ، ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية - وهو الملقب ب ( مفتي الثقلين ) - فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية ، وعلل ذلك بقوله: ( تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب ) ( 1 ) ! ومفهوم ذلك - ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم- أنه لا يجوز العكس ، وهو تزوج الشافعي بالحنفية ، كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة ؟ !
هذان مثالان من أمثلة كثيرة توضح للعاقل الأثر السيئ الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه؛ بخلاف اختلاف السلف ، فلم يكن له أي أثر سيء في الأمة ، ولذلك فهم منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين- بخلاف المتأخرين- هدانا الله جميعاً إلى صراطه المستقيم .
وليت أن اختلافهم المذكور انحصر ضرره فيما بينهم ، ولم يتعده إلى غيرهم من أمة الدعوة؛ إذن لهان الخطب بعض الشيء ، ولكنه - ويا للأسف!- تجاوزهم إلى غيرهم من الكفار في كثير من البلاد والأقطار ، فصدوهم بسبب اختلافهم عن الدخول في دين الله أفواجاً! جاء في كتاب ( ظلام من الغرب ) للأستاذ الفاضل محمد الغزالي ( ص 200 ) ما نصه:
( حدث في المؤتمر الذي عقد في جامعة ( برينستون ) بأمريكا أن أثار أحد المتحدثين سؤالاً- كثيراً ما يثار في أوساط المستشرقين والمتهمين بالنواحي الإسلامية- قال:
( بأي التعاليم يتقدم المسلمون إلى العالم؛ ليحددوا الإسلام الذي يدعون إليه ؟
أبتعاليم الإسلام كما يفهمهما السنيون ؟ أم بالتعاليم التي يفهمها الشيعة من إمامية أو زيدية ؟
ثم إن كلاً من هؤلاء وأولئك مختلفون فيما بينهم .
وقد يفكر فريق منهم في مسألة ما تفكيراً تقدميّاً محدوداً ، بينما يفكر آخرون تفكيراً قديماً متزمتاً .
والخلاصة؛ أن الداعين إلى الإسلام يتركون المدعوين إليه في حيرة؛ لأنهم هم أنفسهم في حيرة ) .
ـ وفي مقدمة رسالة ( هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جابان ) للعلامة محمد سلطان المعصومي رحمه الله تعالى:
( إنه كان ورد عليّ سؤال من مسلمي بلاد جابان ( يعني اليابان ) من بلدة ( طوكيو ) و ( أوصاكا ) في الشرق الأقصى ، حاصله:
ما حقيقة دين الإسلام ؟ ثم ما معنى المذهب ؟ وهل يلزم من تشرف بدين الإسلام أن يتمذهب على أحد المذاهب الأربعة ؟ أي: أن يكون مالكياً ، أو حنفياً أو شافعياً ، أو غيرها ، أو لا يلزم ؟
لأنه قد وقع هنا اختلاف عظيم ، ونزاع وخيم؛ حينما أراد عدة أنفار من متنوري الأفكار من رجال ( يابونيا ) أن يدخلوا في دين الإسلام ، ويتشرفوا بشرف الإيمان ، فعرضوا ذلك على جمعية المسلمين الكائنة في ( طوكيو ) ، فقال جمع من أهل الهند: ينبغي أن يختاروا مذهب الإمام أبي حنيفة؛ لأنه سراج الأمة .
وقال جمع من أهل إندونيسيا ( جاوا ) : يلزم أن يكون شافعيّاً! فلما سمع الجابانيون كلامهم تعجبوا جداً ، وتحيروا فيما قصدوا ، وصارت مسألة المذاهب سدّاً في سبيل إسلامهم! ) .
3- ويزعم آخرون أن معنى هذا الذي تدعون إليه من الاتباع للسنة ، وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها؛ ترك الأخذ بأقوالهم مطلقاً والاستفادة من اجتهاداتهم وآرائهم .
فأقول: إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب ، بل هو باطل ظاهر البطلان ، كما يبدو ذلك جليّاً من الكلمات السابقات ، فإنها كلها تدل على خلافه ، وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب ديناً ، ونصبها مكان الكتاب والسنة؛ بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع ، أو عند إرادة استنباط أحكام لحوادث طارئة؛ كما يفعل متفقهة هذا الزمان ، وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية ، والنكاح والطلاق ، وغيرها دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة ليعرفوا الصواب منها من الخطأ ، والحق من الباطل ، وإنما على طريقة ( اختلافهم رحمة ) ! وتتبع الرخص والتيسير أو المصلحة- زعموا- وما أحسن قول سليمان التيمي رحمه الله تعالى:
( إن أخذت برخصة كل عالم؛ اجتمع فيك الشر كله ) .
رواه ابن عبد البر ( 2/91- 92 ) وقال عقبة:
( هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً ) .
فهذا الذي ننكره ، وهو وفق الإجماع كما ترى .
وأما الرجوع إلى أقوالهم ، والاستفادة منها ، والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة ، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح؛ فأمر لا ننكره ، بل نأمر به ونحض عليه؛ لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة .
ـقال العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى ( 2/172 ) :
( فعليك يا أخي! بحفظ الأصول والعناية بها ، واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن ، ونظر في أقاويل الفقهاء- فجعله عوناً له على اجتهاده ، ومفتاحاً لطرائق النظر ، وتفسيراً لجمل السنن المحتملة للمعاني- ولم يقلد أحداً منهم تقليد السنن التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر ، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها ، واقتدى بها في البحث والتفهم والنظر ، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه ، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم ، ولم يبرئهم من الزلل كما لم يبرؤوا أنفسهم منه؛ فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح ، وهو المصيب لحظه ، والمعاين لرشده ، والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهدي صحابته رضي الله عنهم .
ومن أعفّ نفسه من النظر ، وأضرب عما ذكرنا ، وعارض السنن برأيه ، ورام أن يردها إلى مبلغ نظره؛ فهو ضال مضل ، ومن جهل ذلك كله أيضاً ، وتقحم في الفتوى بلا علم؛ فهو أشد عمى ، وأضل سبيلاً ) .
فهذا هو الحق ما به خفاء فدعني عن بنيات الطريق .
4- ثم إن هناك وهماً شائعاً عند بعض المقلدين ، يصدهم عن اتباع السنة التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها ، وهو ظنهم أن اتباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب ، والتخطئة معناها عندهم الطعن في الإمام ، ولما كان الطعن في فرد من أفراد المسلمين لا يجوز؛ فكيف في إمام من أئمتهم ؟ !
والجواب: أن هذا المعنى باطل؛ وسببه الانصراف عن التفقه في السنة ، وإلا فكيف يقول ذلك المعنى مسلم عاقل ؟ ! و رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القائل: ( إذا حكم الحاكم ، فاجتهد فأصاب؛ فله أجران ، وإذا حكم ، فاجتهد فأخطأ ، فله أجرٌ واحد ) البخاري ومسلم ، فهذا الحديث يرد ذلك المعنى ، ويبين بوضوح لا غموض فيه أن قول القائل: ( أخطأ فلان ) معناه في الشرع: ( أثيب فلان أجراً واحداً ) ، فإذا كان مأجوراً في رأي من خطّأه؛ فكيف يتوهم من تخطئته إياه الطعن فيه ؟ ! لا شك أن هذا التوهم أمر باطل يجب على كل من قام به أن يرجع عنه ؛ وإلا فهو الذي يطعن في المسلمين ، وليس في فرد عادي منهم ، بل في كبار أئمتهم؛ من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وغيرهم ، فإننا نعلم يقيناً أن هؤلاء الأجلة كان يُخَطِّئُ بعضهم بعضاً ، ويرد بعضهم على بعض ( 1 ) ، أفيقول عاقل: إن بعضهم كان يطعن في بعض ، بل لقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطّأ أبا بكر رضي الله عنه في تأويله رؤيا كان رآها رجل ، فقال صلى الله عليه وسلم له: ( أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً ) البخاري ومسلم ، فهل طعن صلى الله عليه وسلم في أبي بكر بهذه الكلمة ؟ !
ومن عجيب تأثير هذا الوهم على أصحابه؛ أنه يصدهم عن اتباع السنة المخالفة لمذهبه؛ لأن اتباعهم إياها معناه عندهم الطعن في الإمام ، وأما اتباعهم إياه - ولو في خلاف السنة - فمعناه احترامه وتعظيمه! ولذلك فهم يصرون على تقليده فراراً من الطعن الموهوم .
ولقد نسي هؤلاء- ولا أقول: تناسوا- أنهم بسبب هذا الوهم وقعوا فيما هو شر مما منه فرّوا ، فإنه لو قال لهم قائل: إذا كان الاتباع يدل على احترام المتبوع ، ومخالفته تدل على الطعن فيه؛ فكيف أجزتم لأنفسكم مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، وترك اتباعها إلى اتباع إمام المذاهب في خلاف السنة ، وهو معصوم ، والطعن فيه ليس كفراً ؟ ! فلئن كان عندكم مخالفة الإمام تعتبر طعناً فيه ؛ فمخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر في كونها طعناً فيه ، بل ذلك هو الكفر بعينه - والعياذ بالله منه- لو قال لهم ذلك قائل؛ لم يستطيعوا عليه جواباً؛ اللهم! إلا كلمة واحدة- طالما سمعناها من بعضهم- وهي قولهم: إنما تركنا السنة ثقة بإمام المذهب ، وأنه أعلم بالسنة منا .
وجوابنا على هذه الكلمة من وجوه يطول الكلام عليها في هذه المقدمة ، ولذلك فإني أقتصر على وجه واحد منها ، وهو جواب فاصل بإذن الله ، فأقول:
ليس إمام مذهبكم فقط هو أعلم منكم بالسنة؛ بل هناك عشرات- بل مئات- الأئمة هم أعلم أيضاً منكم بالسنة ، فإذا جاءت السنة الصحيحة على خلاف مذهبكم- وكان قد أخذ بها أحد من أولئك الأئمة- فالأخذ بها- والحالة هذه - حتم لازم عندكم؛ لأن كلمتكم المذكورة لا تنفق هنا ، فإن مخالفكم سيقول لكم معارضاً: إنما أخذنا بهذه السنة ثقة منا بالإمام الذي أخذ بها؛ فاتباعه أولى من اتباع الإمام الذي خالفها . وهذا بيّن لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى .
ولذلك فإني أستطيع أن أقول:
إن كتابنا هذا لمّا جمع السنن الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم في صفة صلاته؛ فلا عذر لأحد في ترك العمل بها؛ لأنه ليس فيه ما اتفق العلماء على تركه- حاشاهم من ذلك- بل ما من مسألة وردت فيه؛ إلا وقد قال بها طائفة منهم ، ومن لم يقل
ـ بها؛ فهو معذور ومأجور أجراً واحداً؛ لأنه لم يرد إليه النص بها إطلاقاً ، أو ورد لكن بطريق لا تقوم عنده به الحجة أو لغير ذلك من الأعذار المعروفة لدى العلماء ، وأما من ثبت النص عنده من بعده؛ فلا عذر له في تقليده ، بل الواجب اتباع النص المعصوم ، وذلك هو المقصود من هذه المقدمة ، والله عز وجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) [ الأنفال 24 ] .
والله يقول الحق ، وهو يهدي السبيل ، وهو نعم المولى ونعم النصير .