ملف أخطائي مع أبنائي
<B>ملف أخطائي مع أبنائي
«بينما موسى في قومه يُذكِّرهم بأيام الله ـ أي أيام نعمائه وبلائه ـ فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. فعتب الله عليه، إذ لم يردَّ العلم إليه - جل وعلا -. فأوحى الله إليـه: إن عبـداً من عـبادي بمجمع البحرين ـ أي مكان التقاء البحرين ـ هو أعلم منك. قال موسى: أيْ رب! كيف لي به؟ دُلَّني عليه! »[1].
لقد كان موقفاً تربوياً رائعاً أن يعترف موسى - عليه السلام - بخطئه، ويستجيب سريعاً للعتاب والمراجعة الإلهية. ولهذا كان الموقف الراقي الذي ورثه عنه فتاه يوشع بن نون؛ حينما اعترف أيضاً بخطئه أمام سيده، فخلّده القرآن الكريم بآياتٍ تتلى إلى يوم القيامة: {فَإنِّي نَسِيتُ الْـحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 36]. وكذلك كان اعتراف آدم - عليه السلام - وزوجه بمعصيتهما؛ وكذلك كانت أوبتهما السريعة للغفور الرحيم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْـخَاسِرِينَ} [الأعراف: 32].
• لُمْ نفسك أولاً:
لقد كان من التوجيهات القرآنية الرفيعة؛ أنه إذا أصاب المرءَ مكروهٌ؛ فعليه أن يواجه أخطــاءه ولا يبررها، ولا يلتمس لنفسه الأعذار، ولا يهرب من المسؤولية.
وأول خطوة في طريق المواجهة والمراجعات النفسية للبحث عن الأسباب؛ هي أن ينتقد ذاته؛ فيفتش عن أخطائه النفسية وعيوبه الذاتية قبل أن يلوم الآخرين.
وهذا من أبرز الدروس التربوية الراقية؛ التي تعلَّمها الجيل الأول الفريد؛ عُقيب مصيبة أحد: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 561].
• سِمَة بشرية:
فالخطأ ابتداءً ليس عيباً، بل هو سِمَة بشرية. وكذلك الوقوع في الذنب؛ لأن العصمة للحبيب - صلى الله عليه وسلم - فقط. ولكن العيب هو التمادي في الخطأ، وعدم الرجوع عن الذنب؛ والخيرية لمن تاب وأناب: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[2].
• قيمة الاعتراف بالذنب:
ولقد بشرَنا الحبيب - صلى الله عليه وسلم - بالقيمة الرفيعة والجزاء العظيم للاعتراف بالذنب: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ [أي: أعترف وأُقِرُّ] لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»[3].
• حماقاتٌ ارتكبتُها:
من اللمحات التربوية الراقية؛ أن تعترف ـ ولو سراً ـ بأخطائك مع نفسك أولاً، ثم مع الآخرين.
يقول أحد علماء العلاقات الإنسانية: (في أدراج مكتبي ملف خاص مكتوب عليه ذلك الشعار؛ وأنا أعتبر هذا الملف بمكانة سِجِلٍّ وافٍ للأخطاء والحماقات التي ارتكبتها. وعندما أستخرج سِجِلَّ أخطائي، وأعيد قراءة الانتقادات التي وجهتها إلى نفسي، أحس أنني قادر، مستعيناً بعبء الماضي، على مواجهة أقسى وأشد المشكلات إيلاماً. لقد اعتدت فيما مضى أن ألقي على الناس مسؤولية ما ألقاه من مشكلات، لكنني وقد تقدمت في السن وازددت حنكة وتجربة؛ أدركت آخر الأمر أنني وحدي المسؤول عما أصابني من سوء، وفي ظني أن كثيراً من الناس يدركــون ما أدركت؛ كما قال (نابليون) وهو في منفاه بجزيرة (سانت هيلانه): «لا أحد سواي مسؤول عن هزيمتي، لقد كنت أنا أعظم عدو لنفسي! ».
لقد اكتشف (فرانكلين) أن هناك ثلاثة عشر خطأً خطيراً يقترفها على الدوام، وهذه هي أهم ثلاثة منها:
1 - تضييع الوقت سدى.
2 - الانشغال بالتوافه.
3 - الجدال.
ويقول (والت ويتمان): (أتُراكَ تعلمت دروس الحياة من أولئك الذين امتدحوك وآزروك، وحَنَوْا عليك؟! أم تعلمتها من أولئك الذين هاجموك وانتبذوك، وقست قلوبهم عليك؟!)[4].
• كافئ أفضل المخطئين:
من الطريف والجديد أن هذا هو الشعار المبتكر لشركة (بروجان)؛ وهي إحدى وكالات الإعلان في (ديترويت).
فقد تخسر وظيفتك وتدفع منصبك ثمناً لأخطائك؛ لكن الأمر ليس كذلك في هذه الشركة.
فمنذ أربع عشرة سنة أَدخلتْ (ماسي بروجان) مديرة الشركة نظامَ جائزة (أفضل أخطاء الشهر)، والتي من شأنها تكريم الموظفين الذين يعترفون بأخطائهم أمام زملائهم، ويحصل الفائز على مبلغ خمسين دولاراً، وذلك بعد
المنافسة مع اثنين من زملائه وبعد تصويت موظفي الوكالة (الستين) في اجتماعهم الشهري على أفضل الأخطاء؛ حتى لا يكررها غيره مستقبلاً.
أليست هذه أفضل وسيلة لتحسين الأداء؟!
لماذا نركز على إبداعاتنا دون هفواتنا؟!
كل الناس يتعلمون من إخفاقاتهم أكثر من إنجازاتهم، ثم إن الاعتراف بالخطأ فضيلة؛ وهذه من سمات القادة[5].
• الوالد يعترف:
متى يتعلم الوالدان أن السلوكيات، سواء الحسنة منها أو السيئة، هي كالمال؛ يتوارثها الأبناء جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل؟!
وليس عيباً أن يقف الأب ـ أو الأم ـ لحظة صدق مع نفسه؛ ليزيل هذا الحمل الثقيل عن صدره، ولا تأخذه العزة بالإثم، ويريح ضميره؛ فيعترف بأخطائه مع أبنائه؛ ولو سراً على الورق!
فلعله يعين غيره ويحذره من أن يكرر أخطاءه.
وتدبر معي تلك الرسالة الرائعة، من روائع الأدب العالمي؛ وذلك تحت عنوان: (بابا ينسى): (يا بني! أكتب هذا وأنت راقد أمامي على فراشك، سادر في نومك، وقد توسدتَ كفك الصغير، وانعقدت خصلات شعرك فوق جبهتك الغضة.
فمنذ لحظات خلَتْ كنتُ جالساً إلى مكتبي أطالع الصحيفة، وإذا بفيض غامر من الندم يطغى عليَّ، فما تمالكت إلا أن تسللت إلى مخدعك ووخزُ الضمير يصليني ناراً.
وإليك الأسباب التي أشاعت الندم في نفسي: أتذكُرُ صباح اليوم..؟!
لقد عنّفتك وأنت ترتدي ثيابك تأهُّباً للذهاب إلى المدرسة؛ لأنك عزفت عن غسل وجهك، واستعضت عن ذلك بمسحه بالمنشفة..!
ولمتك لأنك لم تنظف حذاءك كما ينبغي.. !
وصحتُ بك مغضباً؛ لأنك نثرتَ بعض الأدوات عفواً على الأرض.. !
وعلى مائدة الإفطار، أحصيت لك الأخطاء واحدةً واحدة؛ فقد أرَقْتَ حساءك، والتهمتَ طعامك، وأسندتَ مرفقيك إلى حافة المائدة، ووضعتَ نصيباً من الزبد على خبزك أكثر مما يقتضيه الذوق.. !
وعندما ولّيت وجهك شطرَ ملعبك، واتخذتُ أنا الطريق إلى محطة القطار، التفتَّ إليَّ ولوَّحت لي بيدك، وهتفت: «مع السلامة يا بابا! » وقطّبت لك جبيني ولم أجبك.
ثم أعدت الكَرَّة في المساء؛ فينما كنتُ أعبر الطريق لمحتك جاثياً على ركبتيك تلعب «البلي» وقد بدت على جوربيك ثقوب، فأذللتك أمام أقرانك؛ إذ سيّرتك أمامي إلى المنزل مغضَباً باكياً: «إن الجوارب، يا بني، غالية الثمن، ولو كنت أنت الذي تشتريها لتوفرتَ على العناية بها والحرص عليها».
أفتتصور هذا يحدث من أب؟!
ثم أتذكر بعد ذلك ـ وأنا أطالع في غرفتي ـ كيف جئتَ تجر قدميك متخاذلاً، وفي عينيك عتاب صامت، فلما نحيت الصحيفة عني وقد ضاق صدري لقطعك عليّ حبل خلوتي، وقفتَ بالباب متردداً، وصحت بك أسألك: «ماذا تريد؟ ».
لم تقل شيئاً، ولكنك اندفعت إليَّ وطوقت عنقي بذراعيك وقبّلتني، وشددت ذراعيك الصغيرتين حولي في عاطفة أودعها الله قلبك الطاهر مزدهرة، لم يقوَ حتى الإهمال على أن يذوي بها.
ثم انطلقتَ مهرولاً، تصعد الدرج إلى غرفتك.
يا بني! لقد حدث بعد ذلك ببرهة وجيزة، أن انزلقت الصحيفة من بين أصابعي، وعصف بنفسي ألمٌ عاتٍ.
يا الله! إلى أين كانت «العادة» تسير بي.. ؟
عادة التفتيش عن الأخطاء..
عادة اللوم والتأنيب..
أكان ذلك جزاؤك مني على أنك ما زلت طفلاً؟
كلا! لم يكن مردُّ الأمر أني لا أحبك، بل كان مرده أني طالبتك بالكثير، برغم حداثتك.
كنت أقيسك بمقياس سني، وخبرتي، وتجاربي[6].
• قفِ الآن.. وراجع نفسك!
من أجمـل اللمحات التربوية أن يحاسب المرء نفسه، وأن يداوم على تقييم وضعه؛ لأن «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله»[7].
ويروى عن ميمون بن مهران أنه قال: (لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه: من أين مطعمه وملبسه؟!).
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وطالبوا بالصدق في الأعمال قبل أن تطالَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، وتزينوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 81].
وقال الحسن البصري - رحمه الله - : «أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسـهـم لله - عز وجل - في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم؛ فإن كان الدين لله همّوا بالله، وإن كان عليهم أمسكوا، وإنما يثقل الحساب على الذين أهملوا الأمور فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر؛ فقالوا: {يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 94][8].
والآن.. هل من منصف؟
هل من والد ـ أو والدة ـ رشيد؛ فيَكفّ عن الشكوى والصراخ وندْبِ حظه من سلوكيات وأخطاء أبنائه؛ فيرى الصورة بمنظار آخر، ويقف لحظات صدق فيراجع نفسه.. ؟!
أي: لِمَ لا يجلس الأب وحده، أو الأم وحدها، أو كلاهما معاً، فيُعين أحدهما الآخر على أن يزيلا هذا الحمل الثقيل عن صدريهما؛ ليريحا ضميريهما؛ فيعترفا ولو سراً على الورق؛ فيذكرا ثلاثة أخطاء قاتلة ارتكباها في حق الأبناء؟
فلعل هذا الاعتراف يجد مخلصاً كتوماً فيسجله سراً؛ فينشره على الحائرين الآخرين من الآباء والأمهات، فيحذرهم لعلهم يرجعون عما هم فيه؛ فلا يكررون الأخطاء نفسها.
فَلِمَ لا نتعلم من أخطاء الآخرين؟
وَلِمَ لا نتعلم من تجارب غيرنا؟
فهذا هو مفتاح التطوير والنماء إلى الأفضل.
ومن هنا سيبدأ التغيير بعون الله تعالى؛ سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي، ثم بعون المخلصين المتعاونين.
والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
• ماذا عن أشهر الأخطاء الوالدية التربوية القاتلة؟!
كانت هذه التجربة الثرية والرائعة عن استبيان سرِّيٍّ وزّعتُه في عددٍ من الدورات؛ التي تقيمها (وحدة التنمية البشرية) بـ (مركز ولدي الطبي للأطفال بدمنهور) على الآباء والأمهات، وكان يدور حول: (اذكر ـ أو اذكري ـ ثلاثة أخطاء قاتلة ارتكبتها مع أبنائك وندمت كثيراً عليها، وتتمنى ألا يكررها غيرك!).
وكانت نتيجة الاستبيان تدور حول هذه الباقة الفريدة من الأخطاء الوالدية التربوية القاتلة في حق الأبناء:
الخطأ الأول: الآبائية:
وهو أن يمارس الوالدان أساليب التعامل التقليدية نفسها وطرق التربية القديمة ذاتها مع أبنائهم، وهي تلك الأساليب نفسها التي كانوا يُعَامَلون بها من قِبَل والديهم.
بل هي نفسها تلك الطرق التي كانوا ينبذونها وينتقدونها على والديهم؛ حتى وإن كان انتقاداً سرياً.
ونقصد بها الموروثات العائلية التي تتحكم فينا عن بعد وكأنها (Remote Control) الريموت كونترول.
• وما أبرز مظاهر هذه الآبائية القاتلة؟
1 - تفضيل الصبيان على البنات:
حتـى ولــو كـانت مجــرد نظــرات، أو لمسـات بسيـطة، أو ابتسامات دفينة؛ فهذه تعطي رسائل قاتلة ومدمرة يفهمها جيداً الأذكياء الصغار، ويفسرونها بمنظار رؤيتهم وسماتهم الشخصية التي من أهمها حب الذات.
2 - تفضيل الكبير على الصغير:
حتى ولو بمصاحبته في معظـــم سفــريات الوالـــدين، ولو بتقريبه من مجالس الوالدين.
3 - عدم الحوار أو طريقته:
أي إمــا أن الـــوالديــن لا يسمــعان أو لا يتحـــدثان أو لا يتحاوران مع الأبناء، أو أن طريقة الحوار بينهما تتم بطريقة غير تربوية، مختلة وتقليـدية؛ فمثلاً: لا يحدّث الابن والديه إلا واقفاً وليس جالـساً، وبعيداً وليس قريباً منهما!
4 - كثرة الحواجز والقيود والخطوط الحمراء:
ولو بدعوى الاحترام والتقديس والتبجيل؛ فتــرى الأبنــاء لا يتجرؤون على محادثة الوالد، أو الجلوس معه أو القرب منه، فتكثر في البيت علامات الممنوع والخطوط الحمراء، وتعيش الأسرة دوماً في ظل قانون الطوارئ.
5 - كثرة الأخطاء الوالدية الأخرى:
وذلك تأثراً بالأسباب التي ذكرناها.
• فما أبرز أسباب هذه الآبائية القاتلة؟!
1 - الانغلاق البيئي:
وهو أن تتوارث الأســرة قِيَماً أو أعرافاً خاصة بــها، ثم لا تستطيع التخلي عنها قيد أنملة؛ بدعوى هذه المقولة الخالدة: (عائلتنا محافظة)، وتعيش الأسرة داخل شرنقتها التي صنعتها بأيديها؛ بحجة (على هذا تربّينا وفلحنا).
2 - الانغلاق الثقافي:
وهو أن ينغلق الوالدان على ثقافة (معتادة) متهالكة، ولا يجدا الحافز أو الدافع لقراءة الأساليب الجديدة في التربية وفي فن التعامل مع الأبناء، فإذا نبهتهما إلى أهمية الثقافة التربوية في فن الاستثمار في الأبناء، أو دعوتَهما لحضور دورة في مهارة التعامل مع الأبناء؛ صدّاك بقولهما: (لا تفلسفوها ولا تعقدوها، بل اتركوها!).
وليت هؤلاء الآباء ـ والأمهات ـ صمتوا وما قالوها!
3 - الانغلاق الاجتماعي:
أي أن يجهل الوالدان فقه الواقع؛ وهو أن يجهل الوالدان فقه الظروف المحيطة بالأبناء، أو أن يتجاهلا مسايرة المتغيرات المستمرة في الزمان والمكان والأجيال.
وتدبّر حكمة علي - رضي الله عنه - : (أدِّبوا أولادكم بآدابٍ غير آدابكم، فإنهم خُلِقوا لزمانٍ غير زمانكم).
• وقفاتٌ مع النفس:
لهذا كان علينا جميعاً ـ معشرَ الآباء والأمهات ـ أن نقف وقفات ووقفات؛ لنراجع أنفسنا، ولنفتح ملفات حماقاتنا مع أبنائنا!
ولْنبدأ مشوار نقد الذات بإطلالات تأملية على هذه اللمحات التربوية:
1 - القرآن الكريم ينبذ هذه الآبائية، ويلوم سلوكيات الآبائيين: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 32]. {إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 96 - 07].
2 - لماذا نصرُّ على قطع رأس وذيل السمكة؟
هناك قصة طريفة تحكى عن رجل أكل سمكاً عند صديقه؛ فأعجبه، فذهب إلى زوجته وأخذ يثني على طعم هذا السمك وعلى طريقة طهيه؛ خاصة أنهم يقطعون رأس وذيل السمكة!
فما كان من زوجته إلا أن اتصلت بزوجة صديقه، لتسألها عن سر قطع الرأس والذيل على طعم السمك؛ فأخبرتها أنها تعلمتها من صديقة لها؛ فاتصلت بتلك الصديقة لتعرف السر؛ فأخبرتها أنها تعلمتها من أمها؛ فاتصلت بأمها؛ فأخبرتها أنها تعلمتها من أمها!
فاتصلت بالجدة العزيزة الذكية؛ فكشفت لها السر الكبير الذي أخذ الجميع يقلدونه على مر الأجيال، دون محاولة للسؤال عن السبب، وقالت الجدة: إن الموضوع هو أنها كانت تقطع رأس وذيل السمك؛ لأنها كانت لا تملك إلا مقلاة صغيرة لا تستطيع احتواء حجم السمك الكبير.
وهكذا عرفنا السر العظيم في هذا التقليد المتوالي والتحجر المتكرر والخالد؛ وهو سر الآبائية ذات الصّور المتعددة؛ إنه التقليد الأعمى؛ وعدم تكلف مجرد عناء السؤال البسيط عن الأسباب.
3 - هل نحن أغبياء؟
هذه الآبائية هي صنوان للنمطية التي تعتبر من أبرز صور الغباء. لهذا كان (ألبرت أينشتين) يعرِّف الغباء بالنمطية؛ فيقول: (تعريفي للغباء: هو أن تداوم على فعل الأشياء نفسها بالطريقة نفسها، وتتوقع أن تحصل في كل مرة على نتائج مختلفة).
فقل لي بربك: كيف سنتطور، وكيف سننمو، وكيف سنتغير، وكيف نطمع في إيجاد أجيال أفضل لمستقبل أفضل؛ ونحن نكرر أخطاء السابقين؟
يقول (د. لاري جيه كوينج) مؤسس أكثر الندوات عن التربية ورعاية الأبناء شهرةً في الولايات المتحدة؛ عن أخطر الأخطاء السبعة الأساسية التي يرتكبها الآباء في حق الأبناء؛ هو (عدم التعلم من الأخطاء السابقة)[9].
4 - لماذا نُلْدَغ من الجحر نفسه؟!
إنه الغباء.
وإنها النمطية التي هي سبب دفين لأي خطأ يتكرر، ولهذا كان تحذيره - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُلدَغ المؤمن من جحر واحد مرتين».. ؛[10]. فَلِمَ نستمرئ اللدغ؛ ومن الجحر نفسه؟
5 - المعالجة السببية:
وهو أن نفتش في أنفسنا فنعرف الأسباب التي ذكرناها؛ لنعالجها معاً.
ولْنتساءل:
(1) هل نحن أسرى لظروف بيئية منغلقة؛ أغلقت عقولنا وقيدت أفكارنا؛ فظلمنا أنفسنا، وأرهقنا أحبابنا؟
فَلِمَ لا نكسر القيود.. ؟
لِمَ لا نتحرر.. ؟
لِمَ لا نحرر أنفسنا؛ فيتحرر أبناؤنا.. ؟
(2) هل نحن من ذوي الثقافة الضحلة.. ؟
لِمَ لا نغير أنفسنا.. ؟
لِمَ لا نحضر دورة في تربية الأبناء؛ فنتطور ونتجدد؟
لِمَ لا نطالع ولو كتاباً في تربية الأبناء؛ فنسموَ على ثقافتنا الرديئة البالية؟
(3) هل ما زلنا نصارع مَنْ يكشف لنا واقعنا، ونقاوم التغيير؟
فَلِمَ لا نفقه ما يحيط بنا وبأبنائنا من ظروف ومتغيرات؛ فنتعامل معها بمرونة ورفق؛ فنفهم زمان أبنائنا، فنفهم سماتهم، ونتفهم سلوكياتهم؟
6 - لِمَ لا نلجأ إلى الركن الشديد؟
والآن، وبعد أن علمنا الخطأ ومظاهره وأسبابه، فلنحاول الأخذ بالأسباب لمراجعة أنفسنا والعلاج الذاتي لأخطائنا؛ ولكن هذه المراجعة الذاتية لا تكتمل إلا باللجوء إلى الركن الشديد - سبحانه -؛ فندعوه دوماً: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة: 682].
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
منقووووول من موقع طريق الإيمان
لا تنسوني من صالح الدعاء
</B>
<B>ملف أخطائي مع أبنائي
ملف أخطائي مع أبنائي
د. حمدي رحيم شعيب(*)
د. حمدي رحيم شعيب(*)
«بينما موسى في قومه يُذكِّرهم بأيام الله ـ أي أيام نعمائه وبلائه ـ فسُئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. فعتب الله عليه، إذ لم يردَّ العلم إليه - جل وعلا -. فأوحى الله إليـه: إن عبـداً من عـبادي بمجمع البحرين ـ أي مكان التقاء البحرين ـ هو أعلم منك. قال موسى: أيْ رب! كيف لي به؟ دُلَّني عليه! »[1].
لقد كان موقفاً تربوياً رائعاً أن يعترف موسى - عليه السلام - بخطئه، ويستجيب سريعاً للعتاب والمراجعة الإلهية. ولهذا كان الموقف الراقي الذي ورثه عنه فتاه يوشع بن نون؛ حينما اعترف أيضاً بخطئه أمام سيده، فخلّده القرآن الكريم بآياتٍ تتلى إلى يوم القيامة: {فَإنِّي نَسِيتُ الْـحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 36]. وكذلك كان اعتراف آدم - عليه السلام - وزوجه بمعصيتهما؛ وكذلك كانت أوبتهما السريعة للغفور الرحيم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْـخَاسِرِينَ} [الأعراف: 32].
• لُمْ نفسك أولاً:
لقد كان من التوجيهات القرآنية الرفيعة؛ أنه إذا أصاب المرءَ مكروهٌ؛ فعليه أن يواجه أخطــاءه ولا يبررها، ولا يلتمس لنفسه الأعذار، ولا يهرب من المسؤولية.
وأول خطوة في طريق المواجهة والمراجعات النفسية للبحث عن الأسباب؛ هي أن ينتقد ذاته؛ فيفتش عن أخطائه النفسية وعيوبه الذاتية قبل أن يلوم الآخرين.
وهذا من أبرز الدروس التربوية الراقية؛ التي تعلَّمها الجيل الأول الفريد؛ عُقيب مصيبة أحد: {أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 561].
• سِمَة بشرية:
فالخطأ ابتداءً ليس عيباً، بل هو سِمَة بشرية. وكذلك الوقوع في الذنب؛ لأن العصمة للحبيب - صلى الله عليه وسلم - فقط. ولكن العيب هو التمادي في الخطأ، وعدم الرجوع عن الذنب؛ والخيرية لمن تاب وأناب: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»[2].
• قيمة الاعتراف بالذنب:
ولقد بشرَنا الحبيب - صلى الله عليه وسلم - بالقيمة الرفيعة والجزاء العظيم للاعتراف بالذنب: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ [أي: أعترف وأُقِرُّ] لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ. قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ»[3].
• حماقاتٌ ارتكبتُها:
من اللمحات التربوية الراقية؛ أن تعترف ـ ولو سراً ـ بأخطائك مع نفسك أولاً، ثم مع الآخرين.
يقول أحد علماء العلاقات الإنسانية: (في أدراج مكتبي ملف خاص مكتوب عليه ذلك الشعار؛ وأنا أعتبر هذا الملف بمكانة سِجِلٍّ وافٍ للأخطاء والحماقات التي ارتكبتها. وعندما أستخرج سِجِلَّ أخطائي، وأعيد قراءة الانتقادات التي وجهتها إلى نفسي، أحس أنني قادر، مستعيناً بعبء الماضي، على مواجهة أقسى وأشد المشكلات إيلاماً. لقد اعتدت فيما مضى أن ألقي على الناس مسؤولية ما ألقاه من مشكلات، لكنني وقد تقدمت في السن وازددت حنكة وتجربة؛ أدركت آخر الأمر أنني وحدي المسؤول عما أصابني من سوء، وفي ظني أن كثيراً من الناس يدركــون ما أدركت؛ كما قال (نابليون) وهو في منفاه بجزيرة (سانت هيلانه): «لا أحد سواي مسؤول عن هزيمتي، لقد كنت أنا أعظم عدو لنفسي! ».
لقد اكتشف (فرانكلين) أن هناك ثلاثة عشر خطأً خطيراً يقترفها على الدوام، وهذه هي أهم ثلاثة منها:
1 - تضييع الوقت سدى.
2 - الانشغال بالتوافه.
3 - الجدال.
ويقول (والت ويتمان): (أتُراكَ تعلمت دروس الحياة من أولئك الذين امتدحوك وآزروك، وحَنَوْا عليك؟! أم تعلمتها من أولئك الذين هاجموك وانتبذوك، وقست قلوبهم عليك؟!)[4].
• كافئ أفضل المخطئين:
من الطريف والجديد أن هذا هو الشعار المبتكر لشركة (بروجان)؛ وهي إحدى وكالات الإعلان في (ديترويت).
فقد تخسر وظيفتك وتدفع منصبك ثمناً لأخطائك؛ لكن الأمر ليس كذلك في هذه الشركة.
فمنذ أربع عشرة سنة أَدخلتْ (ماسي بروجان) مديرة الشركة نظامَ جائزة (أفضل أخطاء الشهر)، والتي من شأنها تكريم الموظفين الذين يعترفون بأخطائهم أمام زملائهم، ويحصل الفائز على مبلغ خمسين دولاراً، وذلك بعد
المنافسة مع اثنين من زملائه وبعد تصويت موظفي الوكالة (الستين) في اجتماعهم الشهري على أفضل الأخطاء؛ حتى لا يكررها غيره مستقبلاً.
أليست هذه أفضل وسيلة لتحسين الأداء؟!
لماذا نركز على إبداعاتنا دون هفواتنا؟!
كل الناس يتعلمون من إخفاقاتهم أكثر من إنجازاتهم، ثم إن الاعتراف بالخطأ فضيلة؛ وهذه من سمات القادة[5].
• الوالد يعترف:
متى يتعلم الوالدان أن السلوكيات، سواء الحسنة منها أو السيئة، هي كالمال؛ يتوارثها الأبناء جيلاً بعد جيل، وقبيلاً بعد قبيل؟!
وليس عيباً أن يقف الأب ـ أو الأم ـ لحظة صدق مع نفسه؛ ليزيل هذا الحمل الثقيل عن صدره، ولا تأخذه العزة بالإثم، ويريح ضميره؛ فيعترف بأخطائه مع أبنائه؛ ولو سراً على الورق!
فلعله يعين غيره ويحذره من أن يكرر أخطاءه.
وتدبر معي تلك الرسالة الرائعة، من روائع الأدب العالمي؛ وذلك تحت عنوان: (بابا ينسى): (يا بني! أكتب هذا وأنت راقد أمامي على فراشك، سادر في نومك، وقد توسدتَ كفك الصغير، وانعقدت خصلات شعرك فوق جبهتك الغضة.
فمنذ لحظات خلَتْ كنتُ جالساً إلى مكتبي أطالع الصحيفة، وإذا بفيض غامر من الندم يطغى عليَّ، فما تمالكت إلا أن تسللت إلى مخدعك ووخزُ الضمير يصليني ناراً.
وإليك الأسباب التي أشاعت الندم في نفسي: أتذكُرُ صباح اليوم..؟!
لقد عنّفتك وأنت ترتدي ثيابك تأهُّباً للذهاب إلى المدرسة؛ لأنك عزفت عن غسل وجهك، واستعضت عن ذلك بمسحه بالمنشفة..!
ولمتك لأنك لم تنظف حذاءك كما ينبغي.. !
وصحتُ بك مغضباً؛ لأنك نثرتَ بعض الأدوات عفواً على الأرض.. !
وعلى مائدة الإفطار، أحصيت لك الأخطاء واحدةً واحدة؛ فقد أرَقْتَ حساءك، والتهمتَ طعامك، وأسندتَ مرفقيك إلى حافة المائدة، ووضعتَ نصيباً من الزبد على خبزك أكثر مما يقتضيه الذوق.. !
وعندما ولّيت وجهك شطرَ ملعبك، واتخذتُ أنا الطريق إلى محطة القطار، التفتَّ إليَّ ولوَّحت لي بيدك، وهتفت: «مع السلامة يا بابا! » وقطّبت لك جبيني ولم أجبك.
ثم أعدت الكَرَّة في المساء؛ فينما كنتُ أعبر الطريق لمحتك جاثياً على ركبتيك تلعب «البلي» وقد بدت على جوربيك ثقوب، فأذللتك أمام أقرانك؛ إذ سيّرتك أمامي إلى المنزل مغضَباً باكياً: «إن الجوارب، يا بني، غالية الثمن، ولو كنت أنت الذي تشتريها لتوفرتَ على العناية بها والحرص عليها».
أفتتصور هذا يحدث من أب؟!
ثم أتذكر بعد ذلك ـ وأنا أطالع في غرفتي ـ كيف جئتَ تجر قدميك متخاذلاً، وفي عينيك عتاب صامت، فلما نحيت الصحيفة عني وقد ضاق صدري لقطعك عليّ حبل خلوتي، وقفتَ بالباب متردداً، وصحت بك أسألك: «ماذا تريد؟ ».
لم تقل شيئاً، ولكنك اندفعت إليَّ وطوقت عنقي بذراعيك وقبّلتني، وشددت ذراعيك الصغيرتين حولي في عاطفة أودعها الله قلبك الطاهر مزدهرة، لم يقوَ حتى الإهمال على أن يذوي بها.
ثم انطلقتَ مهرولاً، تصعد الدرج إلى غرفتك.
يا بني! لقد حدث بعد ذلك ببرهة وجيزة، أن انزلقت الصحيفة من بين أصابعي، وعصف بنفسي ألمٌ عاتٍ.
يا الله! إلى أين كانت «العادة» تسير بي.. ؟
عادة التفتيش عن الأخطاء..
عادة اللوم والتأنيب..
أكان ذلك جزاؤك مني على أنك ما زلت طفلاً؟
كلا! لم يكن مردُّ الأمر أني لا أحبك، بل كان مرده أني طالبتك بالكثير، برغم حداثتك.
كنت أقيسك بمقياس سني، وخبرتي، وتجاربي[6].
• قفِ الآن.. وراجع نفسك!
من أجمـل اللمحات التربوية أن يحاسب المرء نفسه، وأن يداوم على تقييم وضعه؛ لأن «الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله»[7].
ويروى عن ميمون بن مهران أنه قال: (لا يكون العبد تقياً حتى يحاسب نفسه كما يحاسب شريكه: من أين مطعمه وملبسه؟!).
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وطالبوا بالصدق في الأعمال قبل أن تطالَبوا، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غداً، وتزينوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 81].
وقال الحسن البصري - رحمه الله - : «أيسر الناس حساباً يوم القيامة الذين حاسبوا أنفسـهـم لله - عز وجل - في الدنيا فوقفوا عند همومهم وأعمالهم؛ فإن كان الدين لله همّوا بالله، وإن كان عليهم أمسكوا، وإنما يثقل الحساب على الذين أهملوا الأمور فوجدوا الله قد أحصى عليهم مثاقيل الذر؛ فقالوا: {يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 94][8].
والآن.. هل من منصف؟
هل من والد ـ أو والدة ـ رشيد؛ فيَكفّ عن الشكوى والصراخ وندْبِ حظه من سلوكيات وأخطاء أبنائه؛ فيرى الصورة بمنظار آخر، ويقف لحظات صدق فيراجع نفسه.. ؟!
أي: لِمَ لا يجلس الأب وحده، أو الأم وحدها، أو كلاهما معاً، فيُعين أحدهما الآخر على أن يزيلا هذا الحمل الثقيل عن صدريهما؛ ليريحا ضميريهما؛ فيعترفا ولو سراً على الورق؛ فيذكرا ثلاثة أخطاء قاتلة ارتكباها في حق الأبناء؟
فلعل هذا الاعتراف يجد مخلصاً كتوماً فيسجله سراً؛ فينشره على الحائرين الآخرين من الآباء والأمهات، فيحذرهم لعلهم يرجعون عما هم فيه؛ فلا يكررون الأخطاء نفسها.
فَلِمَ لا نتعلم من أخطاء الآخرين؟
وَلِمَ لا نتعلم من تجارب غيرنا؟
فهذا هو مفتاح التطوير والنماء إلى الأفضل.
ومن هنا سيبدأ التغيير بعون الله تعالى؛ سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي، ثم بعون المخلصين المتعاونين.
والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
• ماذا عن أشهر الأخطاء الوالدية التربوية القاتلة؟!
كانت هذه التجربة الثرية والرائعة عن استبيان سرِّيٍّ وزّعتُه في عددٍ من الدورات؛ التي تقيمها (وحدة التنمية البشرية) بـ (مركز ولدي الطبي للأطفال بدمنهور) على الآباء والأمهات، وكان يدور حول: (اذكر ـ أو اذكري ـ ثلاثة أخطاء قاتلة ارتكبتها مع أبنائك وندمت كثيراً عليها، وتتمنى ألا يكررها غيرك!).
وكانت نتيجة الاستبيان تدور حول هذه الباقة الفريدة من الأخطاء الوالدية التربوية القاتلة في حق الأبناء:
الخطأ الأول: الآبائية:
وهو أن يمارس الوالدان أساليب التعامل التقليدية نفسها وطرق التربية القديمة ذاتها مع أبنائهم، وهي تلك الأساليب نفسها التي كانوا يُعَامَلون بها من قِبَل والديهم.
بل هي نفسها تلك الطرق التي كانوا ينبذونها وينتقدونها على والديهم؛ حتى وإن كان انتقاداً سرياً.
ونقصد بها الموروثات العائلية التي تتحكم فينا عن بعد وكأنها (Remote Control) الريموت كونترول.
• وما أبرز مظاهر هذه الآبائية القاتلة؟
1 - تفضيل الصبيان على البنات:
حتـى ولــو كـانت مجــرد نظــرات، أو لمسـات بسيـطة، أو ابتسامات دفينة؛ فهذه تعطي رسائل قاتلة ومدمرة يفهمها جيداً الأذكياء الصغار، ويفسرونها بمنظار رؤيتهم وسماتهم الشخصية التي من أهمها حب الذات.
2 - تفضيل الكبير على الصغير:
حتى ولو بمصاحبته في معظـــم سفــريات الوالـــدين، ولو بتقريبه من مجالس الوالدين.
3 - عدم الحوار أو طريقته:
أي إمــا أن الـــوالديــن لا يسمــعان أو لا يتحـــدثان أو لا يتحاوران مع الأبناء، أو أن طريقة الحوار بينهما تتم بطريقة غير تربوية، مختلة وتقليـدية؛ فمثلاً: لا يحدّث الابن والديه إلا واقفاً وليس جالـساً، وبعيداً وليس قريباً منهما!
4 - كثرة الحواجز والقيود والخطوط الحمراء:
ولو بدعوى الاحترام والتقديس والتبجيل؛ فتــرى الأبنــاء لا يتجرؤون على محادثة الوالد، أو الجلوس معه أو القرب منه، فتكثر في البيت علامات الممنوع والخطوط الحمراء، وتعيش الأسرة دوماً في ظل قانون الطوارئ.
5 - كثرة الأخطاء الوالدية الأخرى:
وذلك تأثراً بالأسباب التي ذكرناها.
• فما أبرز أسباب هذه الآبائية القاتلة؟!
1 - الانغلاق البيئي:
وهو أن تتوارث الأســرة قِيَماً أو أعرافاً خاصة بــها، ثم لا تستطيع التخلي عنها قيد أنملة؛ بدعوى هذه المقولة الخالدة: (عائلتنا محافظة)، وتعيش الأسرة داخل شرنقتها التي صنعتها بأيديها؛ بحجة (على هذا تربّينا وفلحنا).
2 - الانغلاق الثقافي:
وهو أن ينغلق الوالدان على ثقافة (معتادة) متهالكة، ولا يجدا الحافز أو الدافع لقراءة الأساليب الجديدة في التربية وفي فن التعامل مع الأبناء، فإذا نبهتهما إلى أهمية الثقافة التربوية في فن الاستثمار في الأبناء، أو دعوتَهما لحضور دورة في مهارة التعامل مع الأبناء؛ صدّاك بقولهما: (لا تفلسفوها ولا تعقدوها، بل اتركوها!).
وليت هؤلاء الآباء ـ والأمهات ـ صمتوا وما قالوها!
3 - الانغلاق الاجتماعي:
أي أن يجهل الوالدان فقه الواقع؛ وهو أن يجهل الوالدان فقه الظروف المحيطة بالأبناء، أو أن يتجاهلا مسايرة المتغيرات المستمرة في الزمان والمكان والأجيال.
وتدبّر حكمة علي - رضي الله عنه - : (أدِّبوا أولادكم بآدابٍ غير آدابكم، فإنهم خُلِقوا لزمانٍ غير زمانكم).
• وقفاتٌ مع النفس:
لهذا كان علينا جميعاً ـ معشرَ الآباء والأمهات ـ أن نقف وقفات ووقفات؛ لنراجع أنفسنا، ولنفتح ملفات حماقاتنا مع أبنائنا!
ولْنبدأ مشوار نقد الذات بإطلالات تأملية على هذه اللمحات التربوية:
1 - القرآن الكريم ينبذ هذه الآبائية، ويلوم سلوكيات الآبائيين: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 32]. {إنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ * فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 96 - 07].
2 - لماذا نصرُّ على قطع رأس وذيل السمكة؟
هناك قصة طريفة تحكى عن رجل أكل سمكاً عند صديقه؛ فأعجبه، فذهب إلى زوجته وأخذ يثني على طعم هذا السمك وعلى طريقة طهيه؛ خاصة أنهم يقطعون رأس وذيل السمكة!
فما كان من زوجته إلا أن اتصلت بزوجة صديقه، لتسألها عن سر قطع الرأس والذيل على طعم السمك؛ فأخبرتها أنها تعلمتها من صديقة لها؛ فاتصلت بتلك الصديقة لتعرف السر؛ فأخبرتها أنها تعلمتها من أمها؛ فاتصلت بأمها؛ فأخبرتها أنها تعلمتها من أمها!
فاتصلت بالجدة العزيزة الذكية؛ فكشفت لها السر الكبير الذي أخذ الجميع يقلدونه على مر الأجيال، دون محاولة للسؤال عن السبب، وقالت الجدة: إن الموضوع هو أنها كانت تقطع رأس وذيل السمك؛ لأنها كانت لا تملك إلا مقلاة صغيرة لا تستطيع احتواء حجم السمك الكبير.
وهكذا عرفنا السر العظيم في هذا التقليد المتوالي والتحجر المتكرر والخالد؛ وهو سر الآبائية ذات الصّور المتعددة؛ إنه التقليد الأعمى؛ وعدم تكلف مجرد عناء السؤال البسيط عن الأسباب.
3 - هل نحن أغبياء؟
هذه الآبائية هي صنوان للنمطية التي تعتبر من أبرز صور الغباء. لهذا كان (ألبرت أينشتين) يعرِّف الغباء بالنمطية؛ فيقول: (تعريفي للغباء: هو أن تداوم على فعل الأشياء نفسها بالطريقة نفسها، وتتوقع أن تحصل في كل مرة على نتائج مختلفة).
فقل لي بربك: كيف سنتطور، وكيف سننمو، وكيف سنتغير، وكيف نطمع في إيجاد أجيال أفضل لمستقبل أفضل؛ ونحن نكرر أخطاء السابقين؟
يقول (د. لاري جيه كوينج) مؤسس أكثر الندوات عن التربية ورعاية الأبناء شهرةً في الولايات المتحدة؛ عن أخطر الأخطاء السبعة الأساسية التي يرتكبها الآباء في حق الأبناء؛ هو (عدم التعلم من الأخطاء السابقة)[9].
4 - لماذا نُلْدَغ من الجحر نفسه؟!
إنه الغباء.
وإنها النمطية التي هي سبب دفين لأي خطأ يتكرر، ولهذا كان تحذيره - صلى الله عليه وسلم -: «لا يُلدَغ المؤمن من جحر واحد مرتين».. ؛[10]. فَلِمَ نستمرئ اللدغ؛ ومن الجحر نفسه؟
5 - المعالجة السببية:
وهو أن نفتش في أنفسنا فنعرف الأسباب التي ذكرناها؛ لنعالجها معاً.
ولْنتساءل:
(1) هل نحن أسرى لظروف بيئية منغلقة؛ أغلقت عقولنا وقيدت أفكارنا؛ فظلمنا أنفسنا، وأرهقنا أحبابنا؟
فَلِمَ لا نكسر القيود.. ؟
لِمَ لا نتحرر.. ؟
لِمَ لا نحرر أنفسنا؛ فيتحرر أبناؤنا.. ؟
(2) هل نحن من ذوي الثقافة الضحلة.. ؟
لِمَ لا نغير أنفسنا.. ؟
لِمَ لا نحضر دورة في تربية الأبناء؛ فنتطور ونتجدد؟
لِمَ لا نطالع ولو كتاباً في تربية الأبناء؛ فنسموَ على ثقافتنا الرديئة البالية؟
(3) هل ما زلنا نصارع مَنْ يكشف لنا واقعنا، ونقاوم التغيير؟
فَلِمَ لا نفقه ما يحيط بنا وبأبنائنا من ظروف ومتغيرات؛ فنتعامل معها بمرونة ورفق؛ فنفهم زمان أبنائنا، فنفهم سماتهم، ونتفهم سلوكياتهم؟
6 - لِمَ لا نلجأ إلى الركن الشديد؟
والآن، وبعد أن علمنا الخطأ ومظاهره وأسبابه، فلنحاول الأخذ بالأسباب لمراجعة أنفسنا والعلاج الذاتي لأخطائنا؛ ولكن هذه المراجعة الذاتية لا تكتمل إلا باللجوء إلى الركن الشديد - سبحانه -؛ فندعوه دوماً: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة: 682].
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
منقووووول من موقع طريق الإيمان
لا تنسوني من صالح الدعاء