(لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض).

امرأة من زمن الوفاء

:: عضو منتسِب ::
إنضم
28 سبتمبر 2012
المشاركات
21
نقاط التفاعل
1
النقاط
3
عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له في حجة الوداع: استنصت الناس. فقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض). [متفق عليه]



معاني الألفاظ:

- حجة الوداع: سميت بذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودّع الناس فيها وعلمهم في خطبته فيها أمر دينهم وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها إلى من غاب عنها؛ وكانت في السنة العاشرة من الهجرة.

- استنصت الناس: اطلب منهم الإنصات ليسمعوا الخطبة، والفرق بين الاستماع والإنصات أن الإنصات هو السكوت وهو يحصل ممن يستمع وممن لا يستمع، كأن يكون مفكراً في أمر آخر، والاستماع قد يكون مع السكوت وقد يكون مع النطق بكلام آخر لا يشتغل الناطق به عن فهم ما يقول الذي يستمع منه. وبذلك تتضح بلاغة الآية الكريمة وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون.

- لا ترجعوا بعدي كفاراً: ذكر العلماء في معنى هذه الجملة حوالي عشرة أقوال منها:

أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق.

الثاني: المراد كفر النعمة وحق الإسلام.

الثالث: أنه فعل كفعل الكفار.

الرابع: المراد حقيقة الكفر ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين.

الخامس: لا يكفر بعضكم بعضاً فتستحلوا قتال بعضكم بعضاً.


أحكام فقهية ودروس مستفادة من الحديث:

1 - وجوب توقير العلماء العاملين وتكريمهم والإنصات لهم.

2 - العلماء العاملون هم ورثة الأنبياء الذين يعلمون الناس أمور دينهم.

3 - العلماء العاملون هم ولاة الأمر الذين تجب طاعتهم.

4 - منافسة العوام والجهلة للعلماء فيها إفساد لدين الناس ومعاشهم.

5 - أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمة بالتمسك والثبات على دين الإسلام.

6 - حرمة دماء المسلمين، والحرص على تماسك المجتمع الإسلامي والحفاظ على العلاقة الأخوية والرابطة الإسلامية، ومراعاة ما يلزم من ذلك.

مناسبة الحديث لترجمة الباب:

ترجم الإمام البخاري - رحمه الله - لهذا الحديث بالترجمة التالية: "باب الإنصات للعلماء"، ومن المعلوم عند المهتمين بصحيح البخاري من المشتغلين بعلم الحديث أن فقه البخاري في تراجمه، فالمناسبة مناسبة لطيفة، إذ الإنصات لازم للمتعلمين، لأن العلماء هم ورثة الأنبياء، وأهل الحل والعقد، وأولياء الأمر الذين تجب طاعتهم، أعني العلماء العاملين المتلزمين بكتاب الله وسنة رسوله - عليه الصلاة والسلام – ولا يخلو زمان منهم، فهم المعبر عنهم بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق... ".

فمثل هؤلاء العلماء الذين استفاضت عدالتهم وشاع الثناء عليهم وعرفوا بالاستقامة والثبات على الحق، هم موضع ثقة الناس، يعلمونهم أمور دينهم، ويفتونهم فيما لا يعلمون دليله وما أشكل عليهم من أمور. قال - تعالى -: وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون [البقرة: 122].

وأما من كان من غير العلماء العاملين - فإن من أتى السلطان طائعاً حتى انقادت له العامة فذاك لا ينبغي أن يكون من أئمة المسلمين؛ كذا قال الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -، إذ تكلم الجهلة والعوام ووعاظ السلاطين، وتطاولوا على العلماء الربانيين فإن ذلك مؤداه إثارة الفتنة والتكفير والقتل واستباحة الدماء، وهذا هو الواقع اليوم ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً.

الإنصات للعلماء والاستحياء منهم:

من حق العلماء الربانيين على الناس أن ينصتوا لقولهم ويوقروهم ويظهروا مكانتهم ويرفعوا مجالسهم عن غيرهم من الناس، ويستحوا منهم ويهابوهم، لأنهم ورثة الأنبياء، ومصابيح الهداية التي تنير الظلمات في طريق الأمة، وقد نبأنا الله عن أخبار بني إسرائيل وكيف فعل بهم لما آذوا أنبياءهم وعصوهم.

ثم لنتأمل كيف كانت أخلاق السلف الصالح ومواقفهم من العلماء من خلال عرض الأحاديث والآثار التالية:

- عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال: (لقد كنت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلاماً، فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ههنا رجالاً هم أسنُّ مني)[1]. أي أكبر مني سناً.

- وعن مجاهد قال: صحبت ابن عمر إلى المدينة فلم أسمعه يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا حديثاً واحداً، قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتي بحمار. فقال: إن من الشجر شجرة مثلها كمثل المسلم، فأردت أن أقول هي النخلة، فإذا أنا أصغر القوم فسكتُّ. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - هي النخلة[2].

- وعن ابن عباس قال: مكثت سنتين وأنا أريد أن أسال عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له... الخ[3].

- وعن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: إن من حق العالم ألا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، وأن لا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله مادام يحفظ أمر الله، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته [4].

- ويروى عن علي أيضاً أنه قال: (من حق العالم عليك إذا أتيته أن تسلم عليه خاصة وعلى القوم عامة، وتجلس قدامه ولا تشر بيدك، ولا تغمز بعينيك، ولا تقل قال فلان خلاف قولك، ولا تأخذ بثوبه، ولا تلح عليه في السؤال، فإنه بمنزل النخلة المرطبة لا يزال يسقط عليك منها شيء)[5].

وعن الشعبي قال: صلى زيد بن ثابت على جنازة، ثم قربت له بغلة ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال له زيد: خلِّ عنه يا ابن عم رسول الله، فقال ابن عباس هكذا يفعل بالعلماء والكبراء.

وزاد بعضهم في هذا الحديث أن زيد بن ثابت كافأ ابن عباس على أخذه بركابه أن قبّل يده، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا [6]. والأدلة من أقوال السلف ومواقفهم من العلماء توقيراً وتكريماً وهيبة أكثر من أن تحصى.

هكذا كانت أخلاق السلف - رضي الله عنهم -، الكبار والصغار منهم يستحون وبرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتدون، فقد كان - عليه الصلاة والسلام - أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان الصحابة - رضي الله عنهم - إذا جلسوا معه - عليه الصلاة والسلام - كأن على رؤوسهم الطير، وإذا نظروا إليه ما يحدّون إليه النظر... إنهم قوم يستحون، والحياء من الإيمان، ولا يأتي الحياء إلا بخير... والحياء كله خير.

ولا أدري ماذا دهى الناس اليوم، حتى خلعوا جلباب الحياء، فتطاولوا على الأكابر واستهانوا بالعلماء... حتى الأموات من العلماء الربانيين لم يسلموا من الأذية!! مع ذلك فإن من هؤلاء الغوغاء والمشبوهين من يظهر الحرقة على الإسلام!! وقد يكون هذا صحيحاً ولكنها حماقة، وقد ضُرب المثل بحماقة الضب فإنه يأكل صغاره شفقة ورأفة عليها.

فماذا صنع كيد الكافرين بإبراهيم - عليه السلام -، إن كيد الكافرين من كيد الشياطين والله - سبحانه وتعالى- يقول: إن كيد الشيطان كان ضعيفاً إن الباطل كان زهوقاً.

كبّر كبّر:

عن سهل بن أبي حثمة الأنصاري - رضي الله عنه - قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن مسعود إلى خيبر وهي يومئذٍ صلح، فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلاً، فدفنه، ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال [النبي]: كبّر كبّر، وهو أحدث القوم، فسكتَ، فتكلما، فقال: أتحلفون وتستحقون قاتلكم؟... الخ الحديث[7].

وعن عقبة بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواءً فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فأقدمهم سناً، ولا يؤم الرجل الرجل في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه)[8].

- وموضع الشاهد في الحديث الأول: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (كبّر كبّر) أي يتكلم الأكبر.

- وفي الحديث الثاني الأحق بالإمامة الأقرأ لكتاب الله، ثم الأعلم بالسنة، ثم الأقدم هجرة، ثم الأكبر سناً.

إن الأمة الإسلامية عامة وأبناء الحركات الإسلامية والدعاة خاصة بأمس الحاجة إلى دراسة علم الأخلاق الشرعية قبل الشروع في غيرها من علوم الشريعة، كالفقه والحديث والتفسير... وغيرها، بسبب الانحطاط الأخلاقي وحملات الإفساد التي يقوم بها أعداء الأمة الإسلامية.


توقير العلماء والتحذير من أذيتهم:

العلماء الربانيون هم خيرة رجال الأمة، وأولياء الله لكونهم حفظة الدين الذي هو أس السعادة الباقية ونقلة العلم الذي هو المرقاة إلى الرتب العالية، وهم نجوم الهدى ومصابيح الظلم.

قال حنبل: سمعت أبا عبد الله يقول: إنما يحيا الناس بالمشايخ فإذا ذهب المشايخ فماذا بقي؟! [9].

وعن عبد الله بن عون قال: قلت لعمر بن عبد العزيز: يقال إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً، فإن لم تستطع فكن متعلماً، فإن لم تكن متعلماً فأحبهم، فإن لم تحبهم فلا تبغضهم، فقال عمر: سبحان الله! لقد جعل الله - عز وجل - له مخرجاً[10].

وقال الإمام النووي - رحمه الله -: "وقد روينا عن مسلم صاحب الصحيح أنه قال: "إن أول ما يجب على مبتغي العلم وطالبه أن يعرف مقدار مراتب العلماء في العلم ورجحان بعضهم على بعض، ولأن المعرفة بالخواص آصرة ونسب وهي يوم القيامة وصلة إلى شفاعتهم وسبب، ولأن العالم بالنسبة إلى مكتسب علمه بمنزلة الوالد بل أفضل، وإذا كان جاهلاً به فهو كالجاهل بوالده بل أضل"[11].

هذا وقد حرّم الله - سبحانه وتعالى- أذية المؤمنين فقال: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً [الأحزاب: 58]، فكيف بمن يؤذي العلماء الربانيين والدعاة الصالحين أو يتتبع عوراتهم. وقد عرفنا أن العلماء العاملين هم أولياء الله، ومن آذاهم فقد أودى بنفسه إلى الهلاك، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله - تعالى - قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب". ورحم الله من قال: لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، والمتعرض لهم بالسب يخشى عليه موت القلب.

وقال ابن عساكر - رحمه الله -: الوقيعة بما هم منه براء أمر عظيم، والمتناول لأعراضهم بالزور والافتراء مرتع وخيم، والاختلاف على من اختاره الله منهم لنعش العلم خلق ذميم، والاقتداء بما مدح الله قول المتبعين من الاستغفار لمن سبقهم وصف كريم، إذ قال مثنياً عليهم في كتابه وهو بمكارم الأخلاق وضدها عليم: والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

سمت العلماء ودلهم:

ليس العالم من كثرت معلوماته، وإنما العالم من يخشى الله، العالم من إذا رأيته تذكرك رؤيته بخشية الله، وقد تجلس مع شخص فتراه كثير المعلومات يأتي بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة... لكنك تلحظ كثرة كلامه فتمله وتسكت على مضض، وتتمنى صمته، ولا تشعر له بهيبة.

كنت أجلس مع بعض العلماء ويُلاحظ عليّ قلة السؤال، فما كانت رغبتي بالجلوس معهم لأجد جواباً على سؤال فقط إنما كنت مهتماً بملاحظة سمتهم ودلهم وطريقة إجاباتهم وحركاتهم أكثر من اهتمامي بأقوالهم، فإن الكتب كثيرة جداً وقد صنفت الكتب الكثيرة في معظم الفنون، فليست الضحالة والقلة في المصنفات إنما الضحالة والقلة في العلماء والدعاة، وإننا بحاجة لنتعلم من سمت العلماء الربانيين ودلهم، ولا أقول هذا جزافاً من غير دليل بل الأدلة كثيرة أقتصر على نبذة من أقوال الصالحين[12]:

- عن ابن وهب قال: (ما سمعت من أدب مالك أفضل من علمه).

- وعن إبراهيم النخعي قال: (كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه ودله).

- وذكر محمد بن الحسن الشيباني عن أبي حنيفة قال: الحكايات عن العلماء ومجالستهم أحب إلي من كثير من الفقه لأنها آداب القوم وأخلاقهم.

- وعن شريك بن نهيك الخولاني قال: قال أبو الدرداء: من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم.

ختاماً إن من الأمانة والديانة أن ننزل الناس منازلهم ونعرف للعلماء قدرهم ولأهل الفضل فضلهم، وعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.

إذا أنت لم تعرف لذي السن فضله *** عليك فلا تنكر عقوق الأصاغر

قال الشافعي - رحمه الله -: (من حفظ القرآن عظمت حرمته، ومن طلب الفقه نبل قدره، ومن عرف الحديث قويت حجته، ومن نظر في النحو رق طبعه، ومن لم يصن نفسه لم يصنه العلم)، فتأمل أقوال الصالحين وأحوالهم ولا تتشبث برأيك.

قال أحد الحكماء: من أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله ذل، ومن تكبر على الناس ذل، ومن خالط الأنذال حقر، ومن جالس العلماء وقر.

قال - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً [الأحزاب: 69 - 71].


 
بارك الله فيك على الموضوع القيم ....الحديث مشروح بطريقة رائعة
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top