هكذا حج الصالحون ..
هكذا حج الصالحون ..
د. علي الصياح
أثناء جمعي لمادة هذا المَقَال مِنْ كتب الآثار والسير وغيرها ؛ كانت تمرّ عليّ آثارٌ أجدني مضطراً للوقوف عندها طويلاً مُعْجباً ومندهشاً مما فيها : - مِنْ فقهٍ سليمٍ لحقيقةِ الحجِ وَمقصدِهِ وَحكمتهِ وَغَايتهِ .
- ومِنْ قوةٍ في العَبادةِ ، وَصدقٍ في الالتجاء ، والانطراحِ بين يدي الربّ سبحانهُ وَتعالى .
- ومِنْ صفاء أرواحٍ تستشعرُ قربها مِنْ الله في هذه الشعيرةِ العظيمةِ .
- ومِنْ إخاء ومحبة وبذل وعطاء ...
وَمَا مَثَلي وَمَثل هذه الآثار إلاّ كرجلٍ دَخَلَ حَدِيقَةً ذات بهجة ، تأسر الناظر بكثرة ورودها المتنوعة ، ورائحتها الجميلة ، ويحتار المرء فيما يختار من هذه الورود التي فيها .. فالكلّ جميل ، وإنْ كان بعضها أفضل من بعض .
وأنتَ واجدٌ هذا الاستشعار لحكمة الحج من لدن سلفنا الصالح منذ أوَّل لحظة يُحْرمون فيها بالحج .. إلى أن يطوفوا طواف الوداع .
وكلٌّ يتعبد الله بما يُسّر له بما لا يخرج عن دائرة اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك صحابته الكرام .
فمن السلف من يُسِّر له الصلاة .. ومنهم من يُسِّر له الإكثار من الحج والعمرة ، ومنهم من يُسِّر له الذكر والدعاء ...
والعلم .. والدعوة .. والبكاء من خشية الله .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا يعود إلى فقه المرء بنفسه وطاقتها وميلها .. وهذا الفقه مطلوبٌ شرعاً .
وأعظم ما تلمس في هذه الآثار الواردة في الحجّ : - عنايةُ السّلف بالتوحيدِ .... ونبذ الشرك : نعم ! لا فائدة من حجٍّ لا يقوم على التوحيد .. ونبذ الشرك .. إنّ مَنْ يقول وهو متلبس بشعيرة من أعظم الشرائع : « مَدَداً يا رسولَ الله » أو « مَدَداً يا علي » .. أو يذبح لغير الله ، ويتوسل بالأولياء والصالحين .. ويدعوهم من دون الله .. لم يستشعر أنّ الحج شُرع في الأصل لتوحيد الله عز وجل ، قَالَ تعالى : [ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ]( الحج : 26 ) .
فللتوحيدِ أُقيمَ هذا البيت مُنذُ أوَّل لحظة عرَّف الله مكانه لإبراهيم - عليه السلام - ، وملَّكه أمره ليقيمه على هذا الأساس : [ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ].
وقال تعالى في سياق آيات الحج : [ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ]( الحج : 31 ) .
وفي القرآن الكريم سورة تُسمّى « سورة الحج » ، كلها تتحدث عن التوحيد والعبادة ، ونبذ الشرك بجميع صوره ، وتنعى على أولئك الذين يعبدون غير الله تعالى ، أو يدعون من دونه ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، بل يدعون مَن ضَرُّه أقرب من نفعه .
وفي حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : « ثم أهلَّ بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك » [1] .
ومما يُشرَعُ في يوم عرفة الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاصٍ وصدقٍٍ ، ففي حَدِيثِ عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قَالَ : كانَ أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة : « لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير » [2] .
ومما تلمس في هذه الآثار أيضاً : - تعظيم حرمات الله : وهذا التعظيم امتثال لأمر الله عز وجل في قوله في سياق آيات الحج : [ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّه ]( الحج : 30 ) .
فهل عظَّم حرمات الله من واقعها وفي الحج أيضاًَ ؟! كم نرى في الحج من أخلاق وأفعال لو صدرت من غير الحاج لاستُنكرت ؛ فكيف بالحاج ؟! فيا حجاجَ بيتِ الله ! حُجّوا كَما حَجَّ الصالحون ؛ بدءاً من إمامِ الصالحين المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صحابته الكرام ، ومن تبعهم بإحسان من سلفنا الصالح .. لا أطيل عليك - أيها القارئ الكريم - وأدعك تعيش مع حج الصالحين ...
علّك تضع لك منهجاً علمياً وعملياً مستفيداً من سِيَر هؤلاء الصالحين وأخلاقهم وأعمالهم ...
1 - قَالَ مجاهد : قَالَ رجلٌ عند ابنِ عُمر ما أكثرَ الحاج ! فقالَ ابنُ عمر : ما أقلهم ! قَالَ : فرأى ابنُ عُمَر رَجلاً عَلى بعيرٍٍ عَلى رَحلٍٍ رَثٍّ خطامه حبل ، فَقَالَ : لعلَّ هذا [3] .
2 - قَالَ الجريري : أحرم أنس بن مالك من ذات عرق ، قَالَ : فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله حتى حلّ ، فَقَالَ له : يا ابن أخي هكذا الإحرام [4] .
3 - قَالَ منصور بن المعتمر : « كَانَ شُرَيح هو : ابن الحارث القاضي إذا أحرمَ كأنَّه حَيةٌ صمَّاء » [5] .
قَالَ ابن قدامة تعليقاً على قول أبي القاسم الخرقي : « ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع ، وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صمّاء » : ( وجملة ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل ، فإنَّ مَنْ كثر كلامه كثر سقطه .
وهذا في حال الإحرام أشدُّ استحباباً ؛ لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله عز وجل فيشبه الاعتكاف ، وقد احتج أحمد على ذلك بأن شريحاً - رحمه الله - كان إذا أحرم كأنه حية صماء ، فيُستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى ، أو قراءة القرآن ، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أو تعليم لجاهل ، أو يأمر بحاجته أو يسكت ، وإن تكلم بما لا مأثم فيه أو أنشد شعراً لا يقبح فهو مباح ولا يُكْثِر ) [6] .
4 - قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ : « حَجّ مَسروقٌ هو : ابن الأجدع فَمَا نَامَ إلاّ سَاجداً » [7] .
قَالَ ابنُ مفلح : « باتَ عند الإمام أحمد رجلٌ فَوَضع عنده ماء ، قالَ الرجلُ : فلم أقمْ بالليل ، ولم أستعمل الماء ، فلمَّا أصبحتُ قال لي : لِمَ لا تستعمل الماء ؟ فاستحييتُ وسكتُ ، فقالَ : سبحان الله ! سبحان الله ! ما سمعت بصاحب حديثٍ لا يقوم بالليل .
وجرت هذه القصة معه لرجلٍ آخر ، فقال : أنا مسافر ، قالَ : وإن كنت مسافراً ، حَجَّ مسروقٌ فما نام إلاّ ساجداً .
قال الشيخ تقيّ الدين : فيه أنه يُكره لأهل العلم ترك قيام الليل ، وإن كانوا مسافرين » [8] .
5 - قَالَ محمد بن سوقة عن أبيه أنه حَجّ مَعَ الأَسْود ، فكان إذا حضرت الصلاة أناخ ولو على حجر ، قَالَ : وَحَجَّ نيفاً وَسبعينَ [9] .
6 - وقالَ ضمرةُ بنُ ربيعة : « حَججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة ، فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قط ، كان يصلي ، فإذا غلبه النوم استند إلى القتب » [10] .
7 - قَالَ الربيع بن سليمان : حججنا مع الشافعي ، فما ارتقى شرفاً ولا هبط وادياً إلا وهو يبكي وينشد : يا راكباً قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفنا والناهضِ سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ إن كان رفضاً حب آل محمدِ فليشهد الثقلان أني رافضي [11] 8 - قَالَ خيثمة : « كَانَ يعجبهم أن يموتَ الرجلُ عند خير يعمله ؛ إما حج ، وإما عمرة ، وإما غزوة ، وإما صيام رمضان » [12] .
9 - قَالَ ابنُ المبارك : جئتُ إلى سفيان الثوري عشية عرفة ، وهو جاثٍ على ركبتيه ، وعيناه تهمِلان ، فالتفت إليَّ ، فقلت له : مَنْ أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قَالَ : الذي يظنُّ أن الله لا يغفر لهم [13] .
10 - وروي عن الفُضَيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشيَّة عرفة ، فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانِقاً - يعني : سدس درهم - أكان يردُّهم ؟ قالوا : لا .
قَالَ : والله ! لَلْمغفرة عند الله أهون من إجابة رجلٍ لهم بدانِق .
وكان للسلف عناية بكثرة الحج : 11 - قَالَ إبراهيمُ النخعيّ عن الأسود بن يزيد قَالَ قَالَ عبدُ الله بنُ مسعود : « نُسُكان أحبّ إليَّ أنْ يكونَ لكل واحدٍ منهما : شعثٌ وسفرٌ » ، قَالَ : فسافر الأسود ثمانين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما ، وسافر عبد الرحمن بن الأسود ستين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما [14] .
12 - وقال ابنُ شوذب : « شهدتُ جنازة طاوس بمكة سنة ست ومائة ، فسمعتهم يقولون : رحمك الله يا أبا عبد الرحمن ! حَجَّ أربعين حجة » [15] .
13 - قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ : « جمع الأسود بن يزيد بين ثمانين حجة وعمرة ، وجمع عمرو بن ميمون بين ستين حجة وعمرة » [16] .
14 - قَالَ الحسنُ بنُ عمران - ابن أخي سفيان بن عيينة - : حججتُ مع عمي سفيان آخر حجة حجَّها سنة سبع وتسعين ومائة ، فلمَّا كنا بجمع وصلى استلقى على فراشه ثم قَالَ : قد وافيتُ هذا الموضعَ سبعين عاماً ، أقولُ في كلّ سنة : اللهم ! لا تجعله آخر العهد من هذا المكان ، وإني قد استحييتُ مِنْ الله من كثرة ما أسأله ذلك ، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت أول يوم من رجب سنة ثمان وتسعين ومائة ، ودُفن بالحجون ...
وتوفي وهو ابن إحدى وتسعين سنة [17] .
وممن ذُكر أنه حجّ أكثر من أربعين حجة : سعيد بن المسيب [18] ، عطاء بن أبي رباح [19] ، و محمد بن سوقة [20] ، و بكير بن عتيق [21] ، و ابن أبي عمر العدني [22] ، سعيد بن سليمان [23] ، جعفر الخلدي [24] ، العباس بن سمرة أبو الفضل الهاشمي [25] ، و أيوب السختياني [26] ، و همام بن نافع [27] .. وغيرهم كثير .
ومن المعاصرين سماحة الشيخ : عبد العزيز بن باز - عليه رحمة الله - وغيره .
قلتُ : والأصلُ أنَّ كثرةَ الحج والعمرة مرغبٌ فيها شرعاً ، ففي حديث عبد الله بن مسعود قَالَ : قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تابعوا بين الحج والعمرة ؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة » [28] .
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَنْ حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » [29] .
وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » [30] .
وقال أبو غالب : قَالَ لي ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : « أَدْمِن الاختلافَ إلى هذا البيت ، فإنك إنْ أدمنتَ الاختلافَ إلى هذا البيت ؛ لقيتَ الله عز وجل وأنت خفيف الظهر » [31] .
فيا أخي : لا تغلب على الحج إلاّ من عُذر ، فالعمر قصير ، والفُرص لا تعوّض ، وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والصالحين وحسبك ! نعم ! ربما يكون هناك مصالح تقتضي عدم الإكثار من الحج ، ولكن هذه المصالح لا يقررها إلاّ العلماء العارفون بالكتاب والسنّة .
________________________
(1) رواه مسلم .
(2) رواه : الترمذي في سننه ، (5/572) ، رقم (3585) ، وأحمد بن حنبل في مسنده ، (2/ 210) ، وقال الترمذي : (هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه ، و حماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد ، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني ، وليس بالقوي عند أهل الحديث) ، قلتُ : وللحديث شواهد لعله يتقوَّى بها ، وخاصةً أنَّ الحديث في باب الترغيب .
(3) أخرجه : عبد الرزاق في المصنف ، (5/19) .
(4) الطبقات الكبرى ، (7/22) .
(5) الطبقات الكبرى ، (6/141) .
(6) المغني ، (3/135) .
(7) الطبقات الكبرى ، (6/79) ، مصنف ابن أبي شيبة ، (7/148) ، مسند ابن الجعد ، (1/ 79) ، حلية الأولياء ، (2/95) .
(
الآداب الشرعية ، (2/169) .
(9) الطبقات الكبرى ، (6/72) .
(10) تاريخ مدينة دمشق ، (35/195) ، سير أعلام النبلاء ، (7/119) .
(11) سير أعلام النبلاء ، (10/58) .
(12) حلية الأولياء ، (4/115) .
(13) حسن الظن بالله ، (ص92) .
(14) مصنف ابن أبي شيبة ، (3/291) .
(15) العلل ومعرفة الرجال ، (2/463) .
(16) الثقات ، لابن حبان ، (4/31) ، مصنف ابن أبي شيبة ، (7/157) ، التاريخ الكبير ، لابن أبي خيثمة ، (3/62) .
(17) الطبقات الكبرى ، (5/497) ، المجالسة ، للدينوري ، (3/218) .
(18) حلية الأولياء ، (2/164) .
(19) تاريخ ابن معين ، (رواية الدوري) ، (3/276) .
(20) حلية الأولياء ، (5/6) .
(21) الطبقات الكبرى ، (6/347) .
(22) سير أعلام النبلاء ، (12/97) .
(23) ميزان الاعتدال ، (3/208) .
(24) تاريخ بغداد ، (7/230) .
(25) تاريخ مدينة دمشق ، (26/253) .
(26) حلية الأولياء ، (3/5) ، سير أعلام النبلاء ، (6/21) .
(27) التاريخ الكبير ، للبخاريّ ، (8/237) ، الثقات ، لابن حبان ، (7/586) .
(28) أخرجه : الترمذيّ في سننه كتاب الحج ، باب : ما جاء في ثواب الحج والعمرة ، و النسائي في سننه كتاب الحج ، فضل المتابعة بين الحج والعمرة ، وابن أبي شيبة في المصنف ، و البزار ، و أبو يعلى ، و ابن خزيمة و ابن حبان في صحيحيهما ، وغيرهم ، قَالَ الترمذي : (حديثُ ابن مسعود حديثٌ حسن صحيح غريب) .
(29) رواه البخاري و مسلم و النسائي و ابن ماجه والترمذي ، إلا أنه قَالَ : (غفر له ما تقدم من ذنبه) .
(30) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .
(31) أخبار مكة ، (1/411) ، رقم (886) .
هكذا حج الصالحون ..
د. علي الصياح
أثناء جمعي لمادة هذا المَقَال مِنْ كتب الآثار والسير وغيرها ؛ كانت تمرّ عليّ آثارٌ أجدني مضطراً للوقوف عندها طويلاً مُعْجباً ومندهشاً مما فيها : - مِنْ فقهٍ سليمٍ لحقيقةِ الحجِ وَمقصدِهِ وَحكمتهِ وَغَايتهِ .
- ومِنْ قوةٍ في العَبادةِ ، وَصدقٍ في الالتجاء ، والانطراحِ بين يدي الربّ سبحانهُ وَتعالى .
- ومِنْ صفاء أرواحٍ تستشعرُ قربها مِنْ الله في هذه الشعيرةِ العظيمةِ .
- ومِنْ إخاء ومحبة وبذل وعطاء ...
وَمَا مَثَلي وَمَثل هذه الآثار إلاّ كرجلٍ دَخَلَ حَدِيقَةً ذات بهجة ، تأسر الناظر بكثرة ورودها المتنوعة ، ورائحتها الجميلة ، ويحتار المرء فيما يختار من هذه الورود التي فيها .. فالكلّ جميل ، وإنْ كان بعضها أفضل من بعض .
وأنتَ واجدٌ هذا الاستشعار لحكمة الحج من لدن سلفنا الصالح منذ أوَّل لحظة يُحْرمون فيها بالحج .. إلى أن يطوفوا طواف الوداع .
وكلٌّ يتعبد الله بما يُسّر له بما لا يخرج عن دائرة اتباع هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكذلك صحابته الكرام .
فمن السلف من يُسِّر له الصلاة .. ومنهم من يُسِّر له الإكثار من الحج والعمرة ، ومنهم من يُسِّر له الذكر والدعاء ...
والعلم .. والدعوة .. والبكاء من خشية الله .. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا يعود إلى فقه المرء بنفسه وطاقتها وميلها .. وهذا الفقه مطلوبٌ شرعاً .
وأعظم ما تلمس في هذه الآثار الواردة في الحجّ : - عنايةُ السّلف بالتوحيدِ .... ونبذ الشرك : نعم ! لا فائدة من حجٍّ لا يقوم على التوحيد .. ونبذ الشرك .. إنّ مَنْ يقول وهو متلبس بشعيرة من أعظم الشرائع : « مَدَداً يا رسولَ الله » أو « مَدَداً يا علي » .. أو يذبح لغير الله ، ويتوسل بالأولياء والصالحين .. ويدعوهم من دون الله .. لم يستشعر أنّ الحج شُرع في الأصل لتوحيد الله عز وجل ، قَالَ تعالى : [ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ]( الحج : 26 ) .
فللتوحيدِ أُقيمَ هذا البيت مُنذُ أوَّل لحظة عرَّف الله مكانه لإبراهيم - عليه السلام - ، وملَّكه أمره ليقيمه على هذا الأساس : [ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً ].
وقال تعالى في سياق آيات الحج : [ حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ]( الحج : 31 ) .
وفي القرآن الكريم سورة تُسمّى « سورة الحج » ، كلها تتحدث عن التوحيد والعبادة ، ونبذ الشرك بجميع صوره ، وتنعى على أولئك الذين يعبدون غير الله تعالى ، أو يدعون من دونه ما لا يضرهم ولا ينفعهم ، بل يدعون مَن ضَرُّه أقرب من نفعه .
وفي حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - : « ثم أهلَّ بالتوحيد : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبيك » [1] .
ومما يُشرَعُ في يوم عرفة الإكثار من شهادة التوحيد بإخلاصٍ وصدقٍٍ ، ففي حَدِيثِ عَمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قَالَ : كانَ أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة : « لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، بيده الخير ، وهو على كل شيء قدير » [2] .
ومما تلمس في هذه الآثار أيضاً : - تعظيم حرمات الله : وهذا التعظيم امتثال لأمر الله عز وجل في قوله في سياق آيات الحج : [ ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّه ]( الحج : 30 ) .
فهل عظَّم حرمات الله من واقعها وفي الحج أيضاًَ ؟! كم نرى في الحج من أخلاق وأفعال لو صدرت من غير الحاج لاستُنكرت ؛ فكيف بالحاج ؟! فيا حجاجَ بيتِ الله ! حُجّوا كَما حَجَّ الصالحون ؛ بدءاً من إمامِ الصالحين المتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم صحابته الكرام ، ومن تبعهم بإحسان من سلفنا الصالح .. لا أطيل عليك - أيها القارئ الكريم - وأدعك تعيش مع حج الصالحين ...
علّك تضع لك منهجاً علمياً وعملياً مستفيداً من سِيَر هؤلاء الصالحين وأخلاقهم وأعمالهم ...
1 - قَالَ مجاهد : قَالَ رجلٌ عند ابنِ عُمر ما أكثرَ الحاج ! فقالَ ابنُ عمر : ما أقلهم ! قَالَ : فرأى ابنُ عُمَر رَجلاً عَلى بعيرٍٍ عَلى رَحلٍٍ رَثٍّ خطامه حبل ، فَقَالَ : لعلَّ هذا [3] .
2 - قَالَ الجريري : أحرم أنس بن مالك من ذات عرق ، قَالَ : فما سمعناه متكلماً إلا بذكر الله حتى حلّ ، فَقَالَ له : يا ابن أخي هكذا الإحرام [4] .
3 - قَالَ منصور بن المعتمر : « كَانَ شُرَيح هو : ابن الحارث القاضي إذا أحرمَ كأنَّه حَيةٌ صمَّاء » [5] .
قَالَ ابن قدامة تعليقاً على قول أبي القاسم الخرقي : « ويستحب له قلة الكلام إلا فيما ينفع ، وقد روي عن شريح أنه كان إذا أحرم كأنه حية صمّاء » : ( وجملة ذلك أن قلة الكلام فيما لا ينفع مستحبة في كل حال صيانة لنفسه عن اللغو والوقوع في الكذب وما لا يحل ، فإنَّ مَنْ كثر كلامه كثر سقطه .
وهذا في حال الإحرام أشدُّ استحباباً ؛ لأنه حال عبادة واستشعار بطاعة الله عز وجل فيشبه الاعتكاف ، وقد احتج أحمد على ذلك بأن شريحاً - رحمه الله - كان إذا أحرم كأنه حية صماء ، فيُستحب للمحرم أن يشتغل بالتلبية وذكر الله تعالى ، أو قراءة القرآن ، أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر ، أو تعليم لجاهل ، أو يأمر بحاجته أو يسكت ، وإن تكلم بما لا مأثم فيه أو أنشد شعراً لا يقبح فهو مباح ولا يُكْثِر ) [6] .
4 - قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ : « حَجّ مَسروقٌ هو : ابن الأجدع فَمَا نَامَ إلاّ سَاجداً » [7] .
قَالَ ابنُ مفلح : « باتَ عند الإمام أحمد رجلٌ فَوَضع عنده ماء ، قالَ الرجلُ : فلم أقمْ بالليل ، ولم أستعمل الماء ، فلمَّا أصبحتُ قال لي : لِمَ لا تستعمل الماء ؟ فاستحييتُ وسكتُ ، فقالَ : سبحان الله ! سبحان الله ! ما سمعت بصاحب حديثٍ لا يقوم بالليل .
وجرت هذه القصة معه لرجلٍ آخر ، فقال : أنا مسافر ، قالَ : وإن كنت مسافراً ، حَجَّ مسروقٌ فما نام إلاّ ساجداً .
قال الشيخ تقيّ الدين : فيه أنه يُكره لأهل العلم ترك قيام الليل ، وإن كانوا مسافرين » [8] .
5 - قَالَ محمد بن سوقة عن أبيه أنه حَجّ مَعَ الأَسْود ، فكان إذا حضرت الصلاة أناخ ولو على حجر ، قَالَ : وَحَجَّ نيفاً وَسبعينَ [9] .
6 - وقالَ ضمرةُ بنُ ربيعة : « حَججنا مع الأوزاعي سنة خمسين ومائة ، فما رأيته مضطجعاً في المحمل في ليل ولا نهار قط ، كان يصلي ، فإذا غلبه النوم استند إلى القتب » [10] .
7 - قَالَ الربيع بن سليمان : حججنا مع الشافعي ، فما ارتقى شرفاً ولا هبط وادياً إلا وهو يبكي وينشد : يا راكباً قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفنا والناهضِ سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى فيضاً كملتطم الفرات الفائضِ إن كان رفضاً حب آل محمدِ فليشهد الثقلان أني رافضي [11] 8 - قَالَ خيثمة : « كَانَ يعجبهم أن يموتَ الرجلُ عند خير يعمله ؛ إما حج ، وإما عمرة ، وإما غزوة ، وإما صيام رمضان » [12] .
9 - قَالَ ابنُ المبارك : جئتُ إلى سفيان الثوري عشية عرفة ، وهو جاثٍ على ركبتيه ، وعيناه تهمِلان ، فالتفت إليَّ ، فقلت له : مَنْ أسوأ هذا الجمع حالاً ؟ قَالَ : الذي يظنُّ أن الله لا يغفر لهم [13] .
10 - وروي عن الفُضَيل أنه نظر إلى نشيج الناس وبكائهم عشيَّة عرفة ، فقال : أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجلٍ فسألوه دانِقاً - يعني : سدس درهم - أكان يردُّهم ؟ قالوا : لا .
قَالَ : والله ! لَلْمغفرة عند الله أهون من إجابة رجلٍ لهم بدانِق .
وكان للسلف عناية بكثرة الحج : 11 - قَالَ إبراهيمُ النخعيّ عن الأسود بن يزيد قَالَ قَالَ عبدُ الله بنُ مسعود : « نُسُكان أحبّ إليَّ أنْ يكونَ لكل واحدٍ منهما : شعثٌ وسفرٌ » ، قَالَ : فسافر الأسود ثمانين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما ، وسافر عبد الرحمن بن الأسود ستين ما بين حجة وعمرة لم يجمع بينهما [14] .
12 - وقال ابنُ شوذب : « شهدتُ جنازة طاوس بمكة سنة ست ومائة ، فسمعتهم يقولون : رحمك الله يا أبا عبد الرحمن ! حَجَّ أربعين حجة » [15] .
13 - قَالَ أبو إسحاق السبيعيّ : « جمع الأسود بن يزيد بين ثمانين حجة وعمرة ، وجمع عمرو بن ميمون بين ستين حجة وعمرة » [16] .
14 - قَالَ الحسنُ بنُ عمران - ابن أخي سفيان بن عيينة - : حججتُ مع عمي سفيان آخر حجة حجَّها سنة سبع وتسعين ومائة ، فلمَّا كنا بجمع وصلى استلقى على فراشه ثم قَالَ : قد وافيتُ هذا الموضعَ سبعين عاماً ، أقولُ في كلّ سنة : اللهم ! لا تجعله آخر العهد من هذا المكان ، وإني قد استحييتُ مِنْ الله من كثرة ما أسأله ذلك ، فرجع فتوفي في السنة الداخلة يوم السبت أول يوم من رجب سنة ثمان وتسعين ومائة ، ودُفن بالحجون ...
وتوفي وهو ابن إحدى وتسعين سنة [17] .
وممن ذُكر أنه حجّ أكثر من أربعين حجة : سعيد بن المسيب [18] ، عطاء بن أبي رباح [19] ، و محمد بن سوقة [20] ، و بكير بن عتيق [21] ، و ابن أبي عمر العدني [22] ، سعيد بن سليمان [23] ، جعفر الخلدي [24] ، العباس بن سمرة أبو الفضل الهاشمي [25] ، و أيوب السختياني [26] ، و همام بن نافع [27] .. وغيرهم كثير .
ومن المعاصرين سماحة الشيخ : عبد العزيز بن باز - عليه رحمة الله - وغيره .
قلتُ : والأصلُ أنَّ كثرةَ الحج والعمرة مرغبٌ فيها شرعاً ، ففي حديث عبد الله بن مسعود قَالَ : قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تابعوا بين الحج والعمرة ؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة » [28] .
وفي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قَالَ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مَنْ حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه » [29] .
وعنه - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة » [30] .
وقال أبو غالب : قَالَ لي ابنُ عباس - رضي الله عنهما - : « أَدْمِن الاختلافَ إلى هذا البيت ، فإنك إنْ أدمنتَ الاختلافَ إلى هذا البيت ؛ لقيتَ الله عز وجل وأنت خفيف الظهر » [31] .
فيا أخي : لا تغلب على الحج إلاّ من عُذر ، فالعمر قصير ، والفُرص لا تعوّض ، وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم والصالحين وحسبك ! نعم ! ربما يكون هناك مصالح تقتضي عدم الإكثار من الحج ، ولكن هذه المصالح لا يقررها إلاّ العلماء العارفون بالكتاب والسنّة .
________________________
(1) رواه مسلم .
(2) رواه : الترمذي في سننه ، (5/572) ، رقم (3585) ، وأحمد بن حنبل في مسنده ، (2/ 210) ، وقال الترمذي : (هذا حديثٌ غريبٌ من هذا الوجه ، و حماد بن أبي حميد هو محمد بن أبي حميد ، وهو أبو إبراهيم الأنصاري المديني ، وليس بالقوي عند أهل الحديث) ، قلتُ : وللحديث شواهد لعله يتقوَّى بها ، وخاصةً أنَّ الحديث في باب الترغيب .
(3) أخرجه : عبد الرزاق في المصنف ، (5/19) .
(4) الطبقات الكبرى ، (7/22) .
(5) الطبقات الكبرى ، (6/141) .
(6) المغني ، (3/135) .
(7) الطبقات الكبرى ، (6/79) ، مصنف ابن أبي شيبة ، (7/148) ، مسند ابن الجعد ، (1/ 79) ، حلية الأولياء ، (2/95) .
(
(9) الطبقات الكبرى ، (6/72) .
(10) تاريخ مدينة دمشق ، (35/195) ، سير أعلام النبلاء ، (7/119) .
(11) سير أعلام النبلاء ، (10/58) .
(12) حلية الأولياء ، (4/115) .
(13) حسن الظن بالله ، (ص92) .
(14) مصنف ابن أبي شيبة ، (3/291) .
(15) العلل ومعرفة الرجال ، (2/463) .
(16) الثقات ، لابن حبان ، (4/31) ، مصنف ابن أبي شيبة ، (7/157) ، التاريخ الكبير ، لابن أبي خيثمة ، (3/62) .
(17) الطبقات الكبرى ، (5/497) ، المجالسة ، للدينوري ، (3/218) .
(18) حلية الأولياء ، (2/164) .
(19) تاريخ ابن معين ، (رواية الدوري) ، (3/276) .
(20) حلية الأولياء ، (5/6) .
(21) الطبقات الكبرى ، (6/347) .
(22) سير أعلام النبلاء ، (12/97) .
(23) ميزان الاعتدال ، (3/208) .
(24) تاريخ بغداد ، (7/230) .
(25) تاريخ مدينة دمشق ، (26/253) .
(26) حلية الأولياء ، (3/5) ، سير أعلام النبلاء ، (6/21) .
(27) التاريخ الكبير ، للبخاريّ ، (8/237) ، الثقات ، لابن حبان ، (7/586) .
(28) أخرجه : الترمذيّ في سننه كتاب الحج ، باب : ما جاء في ثواب الحج والعمرة ، و النسائي في سننه كتاب الحج ، فضل المتابعة بين الحج والعمرة ، وابن أبي شيبة في المصنف ، و البزار ، و أبو يعلى ، و ابن خزيمة و ابن حبان في صحيحيهما ، وغيرهم ، قَالَ الترمذي : (حديثُ ابن مسعود حديثٌ حسن صحيح غريب) .
(29) رواه البخاري و مسلم و النسائي و ابن ماجه والترمذي ، إلا أنه قَالَ : (غفر له ما تقدم من ذنبه) .
(30) رواه مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .
(31) أخبار مكة ، (1/411) ، رقم (886) .