خديجة الجيجلية
:: عضو منتسِب ::
- إنضم
- 12 أكتوبر 2012
- المشاركات
- 53
- نقاط التفاعل
- 15
- النقاط
- 3
البئر الملعونة
انسلت يدها السمراء ببطء وهدوء لتطفأ القنديل المتقد لهبا، بعد أن هتك العمل الشاق جسدها النحيل الصغير، فوضعت رأسها على الوسادة مستقبلة النوم براحة ساعديها، تناجي الأحلام السعيدة ، أحلام الليل التي قد تفرحها وتزيل هموم نهارها ، فهي تعيش حياة ريفية بسيطة وشاقة، الحياة الأقرب إلى الطبيعة، حيث بيدها تغزل الصوف الذي جزته من ظهور الأغنام، وتشرب الحليب الذي حلبته من ضرع الشاة، وتخبز الخبز من القمح الذي زرعته وحصدته جارتنا هذه المرأة الريفية ، توفي زوجها ولم يترك لها غير ولد صغير، وحيد يسمى " عمر"، كان قطعة من الظرف وخفة الروح وجهه البريء يجعلك تبتسم فكنت لا أخطو خطوة إلآ وهو في أعقابي، فإذا عدت من المزارع في الليل تعشى معي، و أخد يلعب ويصخب فرحا، و أنا ألاحظه كأخي الصغير الذي لم أحظى به ، فإذا تعب نام في غرفتي و في الصباح استمتع بصحوة و بتلك العبارات التي لا يصدرها إلا الأطفال في سنه .
ذات يوم عدت من مدرستي مساء، وسألت عنه فقالت أمي: لاشك أنه مع الأطفال في ضواحي المزرعة.......لا هم له سوى اللعب طوال النهار، وبينما نحن في هذا سمعنا ضجة ووقع أقدام فنظرت من النافذة و سألت، فقالت امرأة تعدو: "عمر عمر" ولم تزد على ذلك، هرولت إلى الطريق فعلمت أن عمر وقع في بئر مهجورة في طريق المزرعة، كانوا يسمونها "الغولة" لرهبتها، ووصلت إلى البئر فإذا الناس حول الحافة فشققت طريقي بينهم بصعوبة انقدت بين الأقدام، و نظرت في البئر و سألت : هل أنتم متأكدون أنه وقع؟ قلتها بنبرة تعلوها البكاء و ترجو بالنفي لكن غلاما من أترابه يشهق بالبكاء رد: نعم ، كنا نلعب هنا، وتحدانا بأن ينزل بضع دراجات ليرينا مهارته فزلقت قدمه ووقع قمت برد فعل لم أكن له بالحسبان، تدليت في البئر قدرما استطعت وناديت : عمر.....عمر....وسمعت من قاع البئر صوتا رقيقا خائفا يناديني ويستغيث انه صوت عمر.
هممت بالنزول، فإذا بأمي مقبلة تصرخ وتستغيث ثم أنشبت بيدها بقوة حول عنقي، و أخذت تولول و تقسم أنني لن أنزل أبدا، حاولت التخلص منها عبثا، فقد تصلبت يدها حول عنقي وقالت: إن الغلام مات من زمن ولن أتركك أنت الأخرى تموتين رغم محاولتي بإقناعها أنه مازال حيا، و أن صوته في أذني يستغيث لكنها جنت و لم تعد تفهم شيئا و انضم إليها نفر من نساء حملتني بالقوة قائلات أن الرجال موجودين وكيف لفتاة مثلي تجازف بحياتها و تلعب دورا بطوليا ليس بنصيبها، في تلك اللحظة أغمي علي و لم أعد أدري شيئا، أفقت بعد ساعات فوجدت نفسي على الأريكة وليس في البيت أحد عدا أمي، تسللت خفية مخافة أن تستيقظ و أخذت مصباحا و مضيت نحو البئر.
كانت الساعة الرابعة صباحا، نزلت إلى البئر و الخوف يتملكني، فجسمي يرتعش بردا وقلبي يدق كالبندير، استمررت بالنزول إلى أن اصطدمت بشيء، لم أملك الشجاعة لإشعال المصباح و لكني تحسسته، فوجدت الطفل جثة هامدة، ساعتها شعرت بغضب لا أنساه طول عمري فهو لم يمت غرقا ولكنه مات فزعا، حملت جثمان الطفل بعناء و أنا أبكي بدموع تشق خدي وتذيب ثلوج صدري، و لا أحد يعزيني أو يواسيني.
لم استطع حضور الجنازة، بل مضيت مع صديقة لي أهيم طوال اليوم، وبعدها لم أكن أطيق النظر في وجه أمي التي كنت أراها هي التي قتلته بدافع الخوف علي.
قالت صديقتي بعد ذلك: لا تبالغي يا جميلة إن أمك لم تقتله لقد فعلت ما كانت تفعله أية أم في مثل هذه الظروف: حالت بينك و بين الموت .
لم أعطي لها بالا و أكملت هيمي وحيدة، فسعادتي انتهت في هذا المكان و ماتت مع عمر في البئر الملعونة .