النظام الاقتصادي الرأسمالي
تمهيد :
بعد زوال النظام الإقطاعي في اروبا ظهر نظام اقتصادي جديد استقر على تسميته بالنظام الاقتصادي الرأسمالي . الذي ظهر و ازدهر في اروبا الغربية فغير من وجه المعمورة تغييرا جذريا خلال فترة زمنية وجيزة على خلاف الأنظمة الاقتصادية السابقة التي استمرت لفترات طويلة .
و كانت أهم العوامل التي ساهمت في قيام النظام الاقتصادي الرأسمالي و زوال النظام الإقطاعي مايلي :
1- القضاء على طبقة الأشراف و الأسياد و قيام الدولة القومية:
نتيجة للثورة ضد الإقطاع و الاستغلال أصبحت مقاليد الحكم في اروبا في يد عدد قليل من الحكام, فقد استطاع الملوك أن يجمعوا السلطات في أيديهم تدريجيا و يقضوا بالتالي على التفكك ممثلا في الإقطاعيات و بدلك ظهرت الدولة القومية في اروبا (فرنسا . اسبانيا . البرتغال. بريطانيا. هولندا …..) التي يحكمها ملك يمتلك سلطة مركزية داخل أراضيها, و قد ساهمت مجموعة من العوامل في القضاء غلى الإقطاع و ظهور الدولة القومية أهمها:
ا- هروب رقيق الأرض إلى المدن أين يجدون حرية اكبر في العمل و بالتالي تخليهم عن الالتزامات الإقطاعية هو ما ساهم في زعزعة النظام الإقطاعي و دلك باعتبار الفلاحين ركيزة الإنتاج الزراعي في الإقطاعية- الضيعة-
ب- انتشار استعمال النقود ( المعدنية – الذهب و الفضة ) في التبادل , حيث كان تجار و صناع المدينة يتعاملون بالنقود , لدلك اجبر الإقطاعيون إثناء شراء منتوجاتهم إلى دفع المقابل نقدا و هو ما دفعهم إلى التعامل مع أقنان الأرض ( الفلاحين) بالنقود و هو ما أدى إلى تحول الالتزامات الإقطاعية إلى التزامات نقدية ( بعدما كانت عينية – سلع -) و هو ما ساهم في التخفيف من علاقة التبعية التي كانت تربط الفلاح بالسيد و تحولت علاقة التبعية هده إلى أن أصبحت في شكل أيجار .
ج – تحالف تجار المدينة مع الملوك من اجل القضاء على الإقطاع و دلك و دلك الاتفاق مصالح الطرفين
2 – ازدياد عدد السكان:
شهد سكان اروبا عامة و خاصة سكان المدن زيادة كبيرةابتداءا من منتصف القرن 16 و دلك لعدة أسباب و هو ما ساهم بدوره في زيادة الطلب على المنتجات الغذائية الشئ الذي أدى إلى ارتفاع أسعارها
( أثمانها ) و هو ما أدى إلى التحول تدريجيا من زراعة الاكتفاء الذاتي إلى الزراعة الرأسمالية, ( حيث لم يعد المزارع يزرع و ينتج لنفسه و لأسرته أو للإقطاعية فقط بل أصبح ينتج لغرض البيع في السوق و تحقيق ربح ).
3 – الاكتشافات الجغرافية و الفتوحات الاروبية:
خرجت ارويا من عزلتها بعد اكتشافها طريق رأس الرجاء الصالح و الوصول إلى الشرق سنة 1498 و وصولها إلى العالم الجديد سنة 1492,حيث تمكنت من الحصول على مستعمرات واسعة في مختلف أنحاء العالم - أمريكا و أفريقيا و الشرق الأقصى – و كان لهده الفتوحات و الاكتشافات الجغرافية نتائج هامة على الصعيد الاقتصادي حيث ساهمت في ازدهار النظام الرأسمالي:
ا- أدت هده الأخيرة إلى اتساع نطاق الأسواق و المبادلات .
ب – تدفق كميات كبيرة من المعدن النفيس .
ج – توسع كبير في مختلف فروع الإنتاج - صناعة و زراعة .
4- التطور الفكري و الإصلاح الديني:
لم يعد الفكر الديني في أوربا يحتقر وينظر نظرة دونية إلى الأعمال و الأنشطة الاقتصادية خارج نطاق الزراعة كما كان سائدا في العصور الوسطى , بل أصبح يقر بتفوق الذهاب إلى العمل على الذهاب إلى الكنيسة , فأصبح للعمل في الزراعة و الصناعة و كل الأعمال و الأنشطة بمافيا الزراعة نفس الأفضلية, كذلك ظهرت أفكار جديدة لا تعتبر الإقراض بفائدة ربا و إنما مشاركة في الربح و هو ما أعطى دفع قوي للنظام الرأسمالي و لم يعد هناك صعوبات في الحصول على رؤوس الأموال .
5 – تطور النظم النقدية:
حيث لم يعد المدخر أو أصحاب الودائع يدفعون للصيارفة فوائد مقابل احتفاظهم بأموالهم بل أصبح الصيارفة يدفعون فوائد مقابل الودائع و المدخرات للمدخرين و المودعين و هو ما ساهم في زيادة الادخار و بالتالي توفر رؤوس الأموال اللازمة للاستثمار .
و تجدر الإشارة هنا أن النظام الرأسمالي في أول عهده كان ذا صبغة تجارية و من هنا كانت تسمى المرحلة الأولى لهدا النظام بالرأسمالية التجارية.
أولا : الرأسمالية التجارية:
بدا عهد االراسمالية التجارية في أوربا على وجه التقريب من بداية القرن الساد س عشر و استمر خلال القرن السابع عشر و ظل تأثيره على الحياة الاقتصادية إلى غاية منتصف القرن الثامن عشر أين بدأت الرأسمالية الصناعية تاخد مجراها في المجتمعات الاروبية , حيث سيطرت التجارة و المبادلات في هده المرحلة على النشاطين الزراعي و الصناعي, حيث أن كل ما كان ينتج يتم إنتاجه لغرض المبادلة - أي التجارة الداخلية و الخارجية - ( رأس المال التجاري سيطر على الزراعة الصناعة و جعلهما في خدمة التجارة مباشرة ), هدا و قد عرفت هده المرحلة ظهور طريقة الإنتاج الرأسمالية سواء في الزراعة أو الصناعة - ظهور طبقتين اجتماعيتين تختلفان على أساس اقتصادي و هما طبقة الرأسماليين أرباب العمل و طبقة العمال الأجراء تربطهما علاقة تعاقدية -.
بعد أن حققت الدول الاروبية وحدتها السياسية بدأت تعمل على تحقيق وحدتها و قوتها الاقتصادية , حيث بدأت هده الأخيرة بالتدخل في الحياة الاقتصادية على نطاق واسع ابتداءا من القرن السادس عشر ,فلم يعد يقتصر دورها على سن التشريعات و القوانين بل تعدى دورها في المجال الداخلي الى تنظيم التجارة و الصناعة, كان تقوم الدولة بإنتاج أو تشجيع صناعة معينة, كما تقوم في المجال الخارجي بوضع قواعد لتنظيم شؤون تجارتها الخارجية كمنع تصدير سلعة معينة و قد أطلق على هده السياسة تعبير السياسة التجارية أو المركنتيلية و هي التي سادت في اروبا - اسبانيا و فرنسا و البرتغال- إلى منتصف القرن الثامن عشر.
و لقد ساعد على انتشار هده السياسة التجارية ظهور طبقة اجتماعية جديدة سرعان ما انتزعت مكانة مرموقة في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية في عدد من دول اروبا و التي كانت مكونة من التجار و أرباب الأعمال و رجال المال , حيث انسجمت مصالحهم مع مصالح الدول القومية – الملوك – و ازداد نفردهم و كانت حماية مصالحهم موضع اهتمام من طرف السياسيين و مالت بالتالي سياسة الدولة إلى تحقيق مصالح هده الفئة .
و لما كانت قوة الدولة و ثروتها تتحدد بمقدار ما تمتلكه من معادن نفيسة – دهب و فضة – فقد كان من المصلحة الاقتصادية للدولة الناشئة في اروبا أن تدعم نفوذها السياسي بقوة اقتصادية و دلك عن طريق الحصول على اكبر قدر من المعادن النفيسة – ( تولى الحاكم – الملك – إدارة مجهودات الدولة من اجل دلك ) – سواء عن طريق استغلال المناجم التي تحت سيطرتها أو عن طريق التجارة الخارجية و قد اخدت سياسة التجاريين صورا مختلفة نوجزها في ما يلي :
-1السياسة المعدنية في اسبانيا (القرن 16):
اتخذت السياسة التجارية في اسبانيا الشكل المعدني و يعتبر أكثر إشكال السياسة التجارية بساطة , و تقوم هده السياسة على حصول الدولة على المعادن النفيسة بطريقة مباشرة سواء عن طريق استغلال مناجمها أو من مناجم مستعمراتها, و منع خروجها . . و قد تماشت هده السياسة مع حالة اسبانيا في القرن السادس عشر , حيث تدفقت إليها كميات كبيرة من المعادن النفيسة من مستعمراتها في أمريكا – البيرو و المكسيك-, و بالتالي لم يستدعي الأمر إلا الاحتفاظ بهاو و منع خروجها , و لتحقيق هدا الهدف قامت اسبانيا فضلا عن منع خروج الذهب و الفضة بإجبار المصدرين الأسبان على إعادة ثمن صادراتهم في شكل مبالغ نقدية مع إجبار المصدرين الأجانب بإخراج ثمن صادراتهم لاسبانيا في شكل سلع اسبانية لا في شكل نقود – دهب و فضة - , هدا بالإضافة إلى تخفيض قيمة العملة الوطنية الاسبانية – القيمة الاسمية - مقابل العملات الأجنبية من اجل اجتذابها إلى الداخل و بالتالي منع خروج العملة الوطنية إلى الخارج. و قد أدى كل هدا إلى تدفق كميات كبيرة من المعادن النفيسة إلى الخزينة الاسبانية و هو ما أدى إلى زيادة كمية النقود المتداولة الشئ الذي أدى إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار , ( الأمر الذي شجع في المرحلة الأولى بعض الصناعات و نشاط التجارة على اعتبار أن التاجر أو الصناعي يحقق ارباح في ظل ارتفاع الأسعار ) إلا أن هدا الارتفاع في الأسعار تواصل حتى بلغ مستويات قياسية , و في ظل إهمال الأسبان للزراعة أدى هدا إلى انهيار الأوضاع الاقتصادية في اسبانيا و حدث شلل في التجارة الخارجية , و هو الذي أدى إلى خروج كميات كبيرة من المعادن النفيسة و التي كانت تهرب إلى الخارج لفقدان الثقة في الاقتصاد الاسباني .
-2السياسة الصناعية في فرنسا القرن 17:
لم تكن لدى فرنسا مناجم غنية بالذهب و الفضة كاسبانيا, لدى كانت السياسة التجارية فيها مغايرة للسياسة المعدنية, لدلك طبقت فرنسا خلال القرن السابع عشر تحت قيادة الوزير كولبير سياسة تهدف إلى التأثير على حجم المعادن النفيسة التي تمتلكها الدولة عن طريق إقامة قاعدة صناعية قوية و قادرة على المنافسة الدولية , تمكنها من زيادة الصادرات عن الواردات و تحقيق فائض في الميزان التجاري , ( و قد تم التركيز على الصناعة لان الزراعة أكثر عرضة للتقلبات الجوية و لان قيمة المنتوج الصناعي أعلى نسبيا مقارنة من المنتوج الزراعي في حالة تساوي الكمية ) , هدا بالإضافة إلى إقامة أسطول بحري قوي و إقامة الشركات المتخصصة في التجارة الخارجية .
و لقد تم تطبيق هده السياسة الصناعية عن طريق تخفيض نفقات الإنتاج ( تخفيض الأجور و أسعار المنتجات الغذائية ), هدا بالإضافة إلى مساعدة المشروعات بتقديم إعفاءات ضريبية مع منحها امتيازات أخرى ( توفير أدوات العمل, استخدام العمالة الفنية الأجنبية ),هدا بالإضافة إلى إنشاء صناعات و مشروعات مملوكة للدولة , بالإضافة إلى حماية الصناعة الوطنية عن طريق فرض رسوم جمركية عالية على المنتجات الأجنبية ذات المثيل المحلي مع إعفاء الواردات من المواد الأولية للازمة للصناعة المحلية من الرسوم الجمركية, هدا بالإضافة إلى منح إعانات لشركات التصدير ( الصادرات ) لزيادة قدرتها التنافسية في السوق الأجنبية.
ساهمت كل هده الإجراءات في تشجيع الصناعة الوطنية و بالتالي ساهمت في دخول كميات معتبرة من المعادن النفيسة عن طريق تحقيق فائض في الميزان التجاري .
-3السياسة التجارية في انجلترا القرن 17 و18:
لم تكن الأوضاع في انجلترا مماثلة لما كان عليه الحال في كل من فرنسا و اسبانيا و من تم فقد كان الاهتمام الرئيسي للسياسة التجارية فيها موجها لاكتساب المعادن النفيسة عن طرق التجارة مع العلم الخارجي
( التجارة الخارجية ) و بالتالي تحقيق فائض في الميزان التجاري يضمن دخول معادن نفيسة (دهب و فضة ) و كدا عن طريق إعطاء عناية فائقة للأسطول البحري الانجليزي لما يقدمه من خدمات النقل البحري حيث تمثل خدمات النقل البحري صادرات غير منظورة ( ميزان العمليات الجارية )و تساهم في الحصول على المعادن النفيسة .
و لم تصبح في هده المرحلة المعادن النفيسة غاية في حد ذاتها و إنما مجرد وسيلة, فالغاية كانت فتح أسواق خارجية للسلع و المنتجات الانجليزية .
و لقد ساعد على تجسيد كل دلك صدور قانون كرامويل ( 1651 معدل 1660)و ما تضمنه من إجراءات كتخفيض سعر الفائدة و إعفاء المنتجات الوطنية من الضرائب على الصادرات و دعم صناعات التصدير عن طريق خفض تكاليف الإنتاج ( أجور العمال ), كما تضمن القانون بالإضافة إلى بنود أخرى أن تكون السفن القائمة بالتجارة مع العالم الخارجي مملوكة لأشخاص انجليز و أن يكون على الأقل 4/3من عمالها انجليز.
ففي المجال الصناعي:
يذهب اغلب المؤرخون ا ن النظام الرأسمالي وضحت معالمه في مراحله الأولى بانتشار ما يسمى, بالصناعات المنزلية, ( التي تختلف عن الصناعات الحرفية – النقابات الطائفية - ) و كانت هده الصناعات تقوم على مايلي :
يعهد صاحب العمل و هو من التجار أو أصحاب الحرف بمواد أولية إلى عددمن العمال لصناعتها في منازلهم و لحسابه الخاص و دلك طبقا لمواصفات معينة. ثم يقوم بتصريف الإنتاج( بيعه في السوق ).
و كانت أدوات العمل ملكا للصناع على الأقل في المرحلة الأولى, حيث كانوا يضطرون للاقتراض بفائدة مرتفعة من اجل الحصول عليها و في مرحلة ثانية كانت تقدم إليهم من طرف صاحب العمل,و يدفع لهم أجرا.
و قد انتشرت هده الصناعات بين صناع يعملون خارج المدينة تجنبا للقيود التي كانت تفرضها النقابات الطائفية و كان مجال تخصصها في الصناعات الجديدة التي لم تكن بطبيعتها خاضعة لهده النقابات مثل صناعة الورق و الزجاج و بعض الصناعات المعدنية...
لقد ساهم هدا النظام ( الصناعات المنزلية )في التخفيف من القيود الحرفية, وحقق مرونة كبيرة في الجهاز الإنتاجي و أدى إلى زيادة دخول كل من العمال و أصحاب الأعمال ,إلا أنه يعاب عليه تشغيل النساء و الأطفال و بعد المصانع و تشتتها و هو ما أدى إلى صعوبة الإشراف عليها الشئ الذي ساهم في رفع نفقات الإنتاج و انتشار الإهمال و التبذير و عدم انتظام دورة الإنتاج ,يضاف إلى كل دلك محاولة أرباب الأعمال ربط العمال بهم عن طريق القروض فأصبحوا تحت رحمنهم .
و بدلك ساهمت هده الصناعة في التمييز بين فئتين اجتماعيتين على أساس اقتصادي و هما:
-1فئة أرباب العمل المتحملين لمخاطر الإنتاج و المالكين لرأس المال و جزء من أدوات العمل.
-2-فئة العمال المعتمدين على قوة سواعدهم كعمال أجراء.
بالإضافة إلى انتشار الصناعات المنزلية ظهر في القرن السابع عشر و القرن الثامن عشر في عدد من فروع الصناعة ( الملابس و المنسوجات..الزجاج ..الحديد و بناء السفن......) مايسمى بالمصانع اليدوية . يمتلكها أرباب الحرف و التجار . و تتميز بان عملية الإنتاج تتم في مكان واحد يجتمع فيه عمال متخصصين في إنتاج سلعة معينة.و دلك تحت الإشراف المباشر لصاحب العمل أو مندوب عنه, و هنا يظهر المصنع اليدوي و بوضوح التمييز بين فئتين اجتماعيتين على أساس اقتصادي و هما :
1- أرباب العمل:الدين يستمدون سلطتهم من تملكهم لرأس المال و وسائل الإنتاج
2- عمال مأجورين:أصحاب قوة العمل حيث يبيعون قوة عملهم مقابل أجور و تقوم العلاقة بينهما على أساس التعاقد.
و هنا يمكن القول أن أهم ما كان يميز المصانع اليدوية عن الصناعات المنزلية هي سهولة الإشراف و الرقابة و تطبيق أساليب تقسيم العمل في المصنع اليدوي الأمر الذي ساهم في زيادة إنتاجيته.
و بدلك ظهرت وحدة الإنتاج الرأسمالية أو المشروع الرأسمالي و أصبحت الصناعة تدار بطريقة رأسمالية في الفترة التي سادت فيها الرأسمالية التجارية, هدا و بالرغم من ازدهار المصانع اليدوية و انتشارها لتشمل جميع فروع الصناعة ,إلا أن فنون الإنتاج المستخدمة فيها مازالت تقليدية يدوية لا تعتمد على الآلة,و لم تصل في انتشارها لتحل محل الصناعات الحرفية و الصناعات المنزلية, حيث انتشرت هده الأنواع الثلاثة من الصناعة جنبا إلى جنب في مرحلة الرأسمالية التجارية.
أما فيما يخص الزراعة:
فبالرغم من الاهتمام الشديد الذي أولاه التجاريين للصناعة و التجارة فأنهم لم يهملوا الزراعة على اعتبار أنها مصدر المواد الغذائية لعمال الصناعة و سكان المدن , و تجدر الإشارة هنا أن الزراعة الاروبية في هده المرحلة بدات تعرف تحولا نوعيا في طريقة الإنتاج أي التحول من الزراعة الإقطاعية إلى الزراعة الرأسمالية التي يتم فيها الإنتاج لغرض المبادلة في ظل المنافسة و التي يكون الدافع فيها هو تحقيق ربح عن طريق استخدام العامل الأجير .
و أن اقتصر التحول نحو الزراعة الفردية على الزراعة الانجليزية في مرحلة أولى لتحقق التحول في باقي الدول الاروبية في المراحل الزمنية اللاحقة , حيث تأخر التحول في فرنسا إلى ما بعد الثورة الفرنسية و في ألمانيا إلى غاية القرن 19.
حيث عرفت بريطانيا في المجال الزراعي انطلاق حركة إقامة الاسيجة - التسييج – حتى و أن عرفت هده الأخيرة نوع من التراخي في القرن 17 لتبلغ ذروتها في القرن الثامن عشر خاصة بعد حصولها على تأييد من البرلمان -( حيث أدت زيادة الطلب على الصوف في الفترة من القرن 15 – 16- و بالتالي ارتفاع أسعاره ) ,أدت إلى قيام كبار الملاك و أقوياء الريف بتوسيع ملكياتهم العقارية عن طريق احتواء ارضي كانت مخصصة للاستعمال المشترك في القرية و كدا أراضي صغار الفلاحين و بناء سياج حولها و تحويل هده الملكيات إلى مراعي للأغنام و تكون النتيجة أن يصبح عدد من الفلاحين بلا ارض يزرعونها ,بالإضافة إلى دلك قام كبار ملاك الأراضي التي كانت مقسمة على صغار الفلاحين كمستأجرين يزرعونها لإنتاج الحبوب بتحويل ملكياتهم إلى مراعي لتربية الأغنام, و بما أن المراعي لاتحتاج إلى نفس القوة العاملة التي كانت تقوم بزراعة الأرض تكون النتيجة في الحالتين أن لا يكون أمام صغار الفلاحين الدين انتزعت ملكياتهم و صغار المستأجرين الدين أبعدو عن الأرض سوى الاتجاه إلى سوق العمل في المدينة ليزودوا الصناعة المتوسعة بالقوة العاملة .
كما شهد القرن 16 قيام تجار المدينة بالاستثمار في شراء الملكيات الإقطاعية الكبيرة و على نطاق واسع ) رغم أن معظم هده الاستثمارات كانت تتم بغرض المضاربة و ليس بغرض القيام بالنشاط الزراعي. إلا أن البعض من هؤلاء قام بالانفاق على تحسين الأرض و استغلالها بطريقة رأسمالية, و هو ما يصدق على المراعي الكثيرة التي خصصت لتربية الاغنام .
بالإضافة إلى كل دلك قام أغنياء الفلاحين المستقلين بتوسيع ملكياتهم عن سواء عن طريق الشراء أو عن طريق التسييج و قاموا بإدارة مزارعهم بطريقة رأسمالية معتمدين على العمل الأجير الذي يتشكل أساسا من ضحايا التسييج أو من الفلاحين الفقراء .
من هدا كله يمكن الكلام عن ظهور طريقة إنتاج جديدة – طريقة إنتاج رأسمالية – و علاقات إنتاج جديدة سواء في المشروع الصناعي أو الزراعي حيث اصيحت كل من الزراعة و الصناعة تداران بطريقة رأسمالية , حيث حدث دلك التمايز الطبقي الذي نتج عنه ظهور طبقة الرأسماليين المالكين لوسائل الإنتاج و رأس المال و المحملين لنتائج و لمخاطر الإنتاج و طبقة العمال الأجراء الدين يبيعون قوة عملهم مقابل الحصول على أجور.
بالرغم من كل تلك التغيرات التي شهدتها الزراعة و الصناعة و التي أدت إلى ظهور طريقة إنتاج تختلف كيفيا عن السابق إلا أن الإنتاج الزراعي و الصناعي كانا تحت سيطرت رأس المال التجاري في خدمة التجارة و خاصة التجارة الخارجية و التي كانت تمارس في هده المرحلة من طرف الشركات الكبيرة التي تحتكر كل منها الاتجار مع منطقة من العالم .
ثانيا : سياسة الطبيعيين ( الحرية الاقتصادية ):
ظهرت في فرنسا اعتبارا من منتصف القرن الثامن عشر آراء و أفكار الفيزيوقراطيين المبنية على خضوع الظواهر الاجتماعية لنظام طبيعي غير قابل للتغيير و يمكن تطبيقه في كل زمان و مكان ,مع إيمانهم العميق بان مصالح الأفراد لا تتعارض مع بعضها البعض كما أنها لا تتعارض مع مصالح الجماعة, لدلك كله يجب حسب رأيهم أن لا تتدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية - لان تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي يسبب المشاكل-,و يمكن القول أن سياستهم كانت قائمة على أساس حرية العمل و التجارة ( الحرية الاقتصادية ) وفق مبدأ
- دعه يعمل دعه يمرlaisser faire laisser passer - لدلك يمانع الطبيعيون في تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية ,إلا فيما يختص بحماية الأفراد و صيانة حقوق الملكية بالإضافة إلى الدفاع الخارجي و توفير الأمن و العدالة , و القيام بالمشروعات العامة التي لا يستطيع الأفراد القيام بها, كما أنهم كانوا يرون بان المنافسة الحرة كفيلة بتحقيق الثمن العادل – الثمن الذي يحقق للبائعين ربحا من وجهة نظر المستهلك - .
ففي فرنسا: نجد أن ثورة 1789جعلت من مبدأ الحرية احد أهم المبادئ الهامة في دستورها و اتخذت بعد دلك الخطوات اللازمة لتطبيقها في المجال الاقتصادي, ففي سنة 1790اصدر المجلس الوطني الفرنسي قانون تحققت على إثره حرية التجارة الداخلية , كما قامت فرنسا بمحاولة إلغاء القيود الكمية و الرسوم الجمركية على تجارتها الخارجية .
أما في بريطانيا فقد تم الانتقال تدريجا من التدخل الحكومي إلى الحرية الاقتصادية على مراحل, فقيام بريطانيا بإلغاء نظام السخرة و تقرير الحق في إقامة الاسيجة حول المزارع و إلغاء نظام النقابات الطائفية و إلغاء الامتيازات الممنوحة لبعض الطبقات, جاءت محققة لتقرير الحريات الاقتصادية .
أما في الولايات المتحدة الأمريكية فقد تقررت الحرية الاقتصادية نتيجة لثورة 1776 , و سادت الحرية و مورست سواء بطريق سليم أو غير سليم حتى تغيرت سياسة الولايات المتحدة في عام 1933 أين تقرر تقييد الحرية الاقتصادية و ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي في إطار ما كان يسمى بسياسة العهد الجديد.
و يمكن أن نعدد الحريات الاقتصادية التي تحققت في مايلي :
1- وقف التدخل الحكومي: بمعنى عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي و ترك الحرية للإفراد
2- تقرير حرية التجارة: و دلك عن طريق إلغاء القوانين و التعليمات التي تحول دون قيام الأفراد بممارسة التجارة, باللاضافة إلى إلغاء جميع الاحتكارات سواء كانت حكومية أو أهلية .
3- حرية التصرف في الممتلكات:و يشمل حق رهن و بيع و تمليك الثروات و عدم مصادرتها من طرف الدولة إلا في حالات المصلحة العامة.
4- حرية التعاقد: بمعنى حرية الفرد في التعاقد مع الغير و بالتالي تقريرا لبنود التي يشملها العقد: و هو ما أفاد رجال الأعمال و الصناعيين في مطلع الثورة الصناعية في تعاقدهم مع العمال.
5- حرية البقاء أو مغادرة مكان معين :ففي الأزمنة السابقة كانت تفرض قيود على الانتقال, فالعمال مثلا و خاصة منهم المهرة لا يسمح لهم بالانتقال من عمل إلى آخر و دلك خشية أن تتأثر الصناعة,أما في هده المرحلة فقد تحققت حرية العمل و الانتقال من عما أو من مكان إلى آخر .
وهنا يمكن القول أن الحرية الاقتصادية وما تضمنته كانت أمرا لازما لتحقيق التقدم الاقتصادي في اروبا و عاملا مهما لازدهار النظام الرأسمالي .
ثالثا. الثورة الصناعية
تعريف الثورة الصناعية
يقصد بالثورة الصناعية التطورات الكبيرة التي عرفتها الصناعة في اروبا عامة و انجلترا خاصة ابتداءا من منتصف القرن الثامن عشر و التي أدت إلى حدوث تحول كيفي في فنون الإنتاج الصناعي . حيث تم الانتقال من الصناعة اليدوية التي تعتمد على عمل الإنسان – أدوات عمل بسيطة – إلى الصناعة الآلية التي تعتمد على الآلة التي تدفعها قوة محركة. حيث عرفت اروبا في هده المرحلة موجة عارمة من الاختراعات و الاكتشافات ساهم إدخالها في مختلف فروع الصناعة إلى تطويرها – صناعة الحديد و تعدين الفحم . و صناعة المنسوجات . و توليد الطاقة المحركة – الشئ الذي ساهم في حدوث زيادة هائلة في كل من الإنتاج و التكوين الرأسمالي و أصبحت الصناعة على إثرها النشاط الرئيسي في الاقتصاد الوطني .
1- أسباب قيام الثورة الصناعية في اروبا:
يمكن أن نجمل الأسباب الأساسية لقيام الثورة الصناعية في اروبا فيما يلي:
ا - العامل السكاني:
عرف سكان اروبا مند أواخر القرن الثامن عشر زيادة كبيرة و مستمرة و دلك لانخفاض معدلات الوفيات ( توفر الرعاية الصحية خاصة في المدن) . فزيادة عدد السكان تؤدي إلى توفر الأيدي العاملة . و خاصة في ظل تمتع العمال بحرية اختيار الأعمال و الانتقال من عمل إلى آخر .فلا شك أن دلك يساعد على نهضة و تقدم الصناعة .
و عموما يمكن القول أن زيادة عدد السكان يؤدي إلى زيادة عرض العمل و بدلك تجد المشروعات الجديدة و القديمة حاجتها من الأيدي العاملة بأجور معقولة . كذلك فان زيادة عدد السكان تمثل زيادة في الطلب على السلع و الخدمات و هو ما يعمل على اتساع نطاق السوق و بدلك تنمو الصناعة و لا يعوقها التخلص من فائض الإنتاج.
ب - اتساع تجارة اروبا الداخلية و الخارجية ( اتساع الأسواق الداخلية و الخارجية ):
عند التطرق إلى الدور الذي لعبته تجارة اروبا الداخلية و الخارجية في التطور الصناعي في اروبا , يجب الوقوف على اهميةالدور الذي تلعبه وسائل النقل و المواصلات و دلك على اعتبار أن تطورها يساهم في ازدهار التجارة الداخلية و الخارجية , و تجدر الإشارة هنا إلى الطفرة النوعية و التقدم الحاصل على مستوى وسائل النقل و المواصلات سواء كانت مائية أو برية, حيث تمكنت الدول الاروبية من ربط أجزائها المختلفة بوسائل نقل اقتصادية – قطارات و سفن و كان النقل النهري يلعب دور كبير في ربط مختلف أجزاء اروبا - , و كدا الوصول إلى الأسواق الخارجية بعد ظهور الناقلات الحديثة و خاصة السفن التجارية الضخمة و هو ما ساهم في اتساع الأسواق الداخلية و الخارجية.
فقد تطورت تجارة اروبا الداخلية و الخارجية حتى شملت العالم القديم و الجديد – و دلك بعد اكتشاف العالم الجديد و الطريق المؤدي إلى الشرق عبر رأس الرجاء الصالح – و هو ما ساهم في نمو الصناعة في القرنين 18 و 19 , اد تمكنت اروبا من الوصول بمنتجاتها إلى أسواق الدول المختلفة , فكلما كانت السوق قادرة على امتصاص قدر كبير من المنتجات كلما مال حجم المشروعات إلى الكبر, حيث ساهم اتساع نطاق السوق نتيجة للطلب الكبير على السلع في جعل الإنتاج نمطي و أمكن بالتالي إدخال الآلات تدريجيا في العمليات الإنتاجية لمواجهة الطلب المتزايد- خاصة ادا علمنا أن انخفاض أثمان السلع الصناعية نتيجة للإنتاج الكبير و انخفاض تكاليف الشحن أدى إلى توسع كبير في الطلب على السلع الصناعية و ربما بنسبة تفوق بسبة الانخفاض في الأثمان حيث أن الطلب على تلك السلع كان كبير المرونة . كما أن الزيادة في الدخول التي نجمت عن التوسع في الإنتاج في كافة دول العالم الصناعية أو الزراعية أدت إلى التوسع في الطلب على المنتجات الصناعية حيث أن الطلب على هده الأخيرة كان يتمتع بمرونة دخلبة كبيرة -. و بدلك يكون اتساع السوق قد ساعد على التصنيع و التوسع الإنتاج.
ج -وفرة رؤوس الأموال و إمكانيات التراكم الرأسمالي:
كان من أهم النتائج التي ترتبت على اتساع تجارة اروبا الداخلية و الخارجية أن ازدادت أرباح و ثروات أصحاب المصانع و شركات النقل و التجار و الوسطاء, و بدلك تجمع لدى اروبا مبالغ طائلة و أموال كبيرة لمقابلة ما تحتاج إليه الصناعة من أموال, حيث توفرت رؤوس الأموال اللازمة للاستثمار في إنتاج سلع استهلاكية ,وكدا إنتاج العدد و الآلات ( السلع الإنتاجية أو الرأسمالية ), بالإضافة إلى رؤوس الأموال اللازمة
لتمويل عمليات البحث و التطوير ,هدا و قدكانت ندرة رأس المال لدى معظم الدول الاروبية العائق الأساسي أمام قيام الصناعة , و تجدر الإشارة إلى أن الصناعة في اروبا نمت نموا كبيرا عندما تمكنت الصناعة القائمة من تحقيق أرباح وفيرة أعيد استثمارها في إقامة صناعات جديدة, حيث كانت أرباح المنشات تمثل المصدر الرئيسي لمواجهة حاجات الصناعة الناشئة .
و من الأمور الأخرى التي ساهمت في تمويل الصناعة قيام و ظهور شركات المساهمة التي استطاعت أن تجمع المدخرات من صغار و كبار المدخرين على حد سواء, كما أن نشأت البنوك و قيامها بوظيفتها التقليدية المتمثلة في الحصول على الودائع من الأفراد و الهيات و إعادة إقراضها لتمويل الاقتصاد ساهم مساهمة فعالة في ازدهار الصناعة في اروبا .