من أجمل القصص التي كتبتها قصة **الظل التائه**هي قصة فتاة بسيطة تعيش في قرية صغيرة تعيش ظروفا صعبة في المنزل سببها المشاكل الكثيرة وتسلط أبيها...مجتهدة في دراستها و تحلم بانتهاء معاناتها عندما تكمل دراستها ولكن تسلط وعناد الأب يقف حيال ذلك ....تبدأ المعاناة من مرض أختها ثم الخلافات التي لاتنتهي أبدا بين والديها, انتهاء إلى رغبة أبيها بتزويجها من رجل غني يكبره سنا قبل وصولها سن الثامنة عشر, فتقرر الرحيل بعد استحالة كل الحلول متجهة إلى مصير مجهول ولحسن حظها تلقى نفسها في رعاية عائلة غنية محافظة في المدينة فتكمل دراستها وتتخرج طبيبة أسنان, تعود ألى القرية بعد زمن طويل لتجد نفسها في معركة العادات والتقاليد والمرض النفسي الذي أصابها. وتواصل رحلتها مع الحياة....
أقدم لكم الفصل الأول من القصة في انتظار الفصول الأخرى .... منتظرة بلهف ردودكم و تشجيعاتكم وشكرا...
أقدم لكم الفصل الأول من القصة في انتظار الفصول الأخرى .... منتظرة بلهف ردودكم و تشجيعاتكم وشكرا...
**الفـــــــــــــصل الأول**
أطلق القطار صافرة طويلة...معلنا عن اقترابه من المحطة...كانت جالسة على كرسي تتأمل نقائض ماحولها...رجل يجلس بجانبها يتصفح أوراق جريدته في هدوء ويدخن سيجارته بين الحين و الآخر, غير مبال بما يحدث حوله...وصراخ طفل صغير متشبث بثياب أمه التي تحاول جاهدة حمل حقائبها الكثيرة بعد أن رأت اقتراب القطار,...وصبية يتسابقون فيما بينهم و عبق الفوضى يتصاعد هنا و هناك....
....حملت حقيبتها بيد وبالأخرى التقطت جريدتها المرمية على الأرض,صعدت القطار و بدأت تبحث عن مقعدها الذي كتب رقمه في التذكرة بحوزتها....
جلست بمحاذاة النافذة وفتحت الجريدة لتتصفحها بعد أن تعذر عليها ذلك عندما كانت جالسة في المحطة,بسبب الازدحام والفوضى... لم تمض إلا دقائق حتى اقترب منها رجل طويل الشكل, أنيق المظهر, يحمل بيده حقيبة صغيرة وباليد الأخرى تذكرة, ثم مال برأسه قليلا نحوها قائلا:
- عفوا سيدتي,..من المفترض أن يكون هذا المقعد الذي تجلسين فيه مقعدي أنا, حسب الرقم المكتوب على تذكرتي....
أسرعت باخراج التذكرة من جيبها....إنه مكتوب رقم 23 يعني المقعد المقابل...شعرت باحمرار وجنتيها...ألهذه الدرجة اختلط عليها الرقم23و الرقم24..نهضت مسرعة تتأسف:
-....العفو منك سيدي...لم أنتبه...أنا آسفة...كان علي..أنا...حسنا,تفضل بالجلوس...
قاطعها قائلا بعد أن لاحظ عليها الارتباك:
- ...لاعليك...لم يحدث شيئ..مثل هذه الأخطاء تحدث كثيرا..في الحقيقة لا فرق بين المقعدين مادام كلاهما بمحاذاة النافذة...لقد اعتدت الجلوس دائما أمام النافذة فأنا أشعر بارتياح كبير...
بدأ القطار في التحرك مبتعدا عن المحطة التي اختفت تماما عن الأنظار بعد عدة دقائق..
.....بينما هي تقرأ خبرا مهما عن انتحار فتاة في العشرين من عمرها, إذا بصوت الرجل الأنيق يقاطعها:
- تسافرين للمرة الأولى بالقطار؟
- لا....
جاء جوابا سريعا و مختصرا.سرعان ماشعرت بذلك فأردفت:..في الحقيقة سبق لي و أن ركبت فيه مرة كانت منذ زمن بعيد...
- رحلة عمل أم زيارة عائلية؟
- بل زيارة عائلية,..حصلت على عطلة من العمل فاغتنمت الفرصة..
ساد السكون والهدوء من جديد, بعد أن اقتنع كل منهما باصطناع الحديث. شعرت بعدم رغبتها في مواصلة القراءة فأغلقت الجريدة و وضعتها بجانبها, ثم التفتت إلى النافذة لتتمتع بتلك المناظر الطبيعية الخلابة, كم هي جميلة بلادنا بسحرها و جمال مناظرها, كم مضى من عمرنا في تتبع المشاغل اليومية ولم نخصص من وقتنا الضائع شيئا لتغذية روحنا وعقولنا بهذا السحر الأخاذ...
سرحت بخيالها بعيدا في تذكر الماضي تارة..وتخيل المستقبل تارة أخرى, ..
كم هي جميلة تلك الأيام التي نعترف فيها بماضينا ونشعر فيها بأننا نحن أنفسنا من نقود هذه الروح التي تقطن في أجسادنا ...وكم علينا أن نتحمل من معاني الظلم والاضطهاد حتى نصبر على ظلم وخداع أنفسنا بالأوهام التي نداعب بها أنفسنا كل يوم وليلة دون خوف من القدر....
ومن جهة الذين يتفننون في ظلمنا و خداعنا , هل علينا أن نحترق أمامهم ككومة قش حتى نرضي غرورهم, أم يجب علينا مواصلة سخافتنا و تفاهتنا و خسارة كل ما حولنا....
لقد وصل الآن صوت الضمير إلى قلوبنا التي وجدت ملاذها الأخير بعد أن تاهت عليها السبل...
إن الرجوع إلى الأصل بعد قرابة العشر سنين والاستعداد بكل جوارحك للعودة إلى ما ظننت يوما أنك دفنته بيديك,وتحققت من عدم عودته مجددا إلى حياتك, هو أشبه بمستحيل تجرد من أحقيته في الاستحالة....
لم تختر الرحيل ولكن الرحيل اختارها...هي لم تشأ النسيان بل النسيان من سكن عقلها و روحها قبل قلبها...
سرعان ما دخلت في دوامة كبيرة من الأسئلة و الإستفهامات عن حال عائلتها و حال القرية...كيف هي أمها التي تركتها تعاني الألم,و مرارة العيش الصعب في ذلك المنزل ,...كيف حال أختها زينب الطريحة الفراش,فقد تركتها تعاني المرض منذ عدة شهور قبل رحيلها, كيف هو محمود...أخوها الصغير الذي مازالت براءة عينيه لا تفارق مخيلتها,...يراءة و أمل في طفولة تكاد تنعدم تماما ...
ماهي أحوال جدتها ... وكيف هي ابتسامتها الجميلة التي لا تفارق محياها أبدا,...كيف هي أحوال سكان القرية ... كيف هو مصطفى ذلك الولد المشاغب والنشيط... رفيق الطفولة ... كيف أصبح بعد عشر سنوات...
انتابتها فجأة قشعريرة اهتز لها كل كيانها , و أحست بصداع شديد ... التفت بسرعة البرق إلى حقيبتها مخرجة منها علبة دواء و قارورة ماء ... لابد أن يزول هذا الألم الرهيب بعد تناول الدواء...إنها على هذه الحالة منذ شهرين تقريبا , أي منذ قرار رجوعها,...
نظر إليها الرجل الأنيق نظرة ارتياب و ترقب شديدين ثم قال:
-..هل تشعرين بتحسن الآن؟
رفعت رأسها بسرعة البرق و قد خطف لونها فهي مازالت لم تغادر ذكرياتها بعد , تنهدت ثم قالت :
- نعم...شكرا...أنا أشعر بالتعب هذه الأيام.
- لابد أنها فترة طويلة؟
أجابت بسرعة : ...عفوا؟
- أقصد أنك لم تزوري عائلتك منذ مدة طويلة...لاحظت هذا من خلال حالتك قبل قليل.
يبدو أن هذا الرجل عالم غيب , أو أنه طبيب نفسي, مشكل كبير .. فكل من سيراني يلاحظ حالتي,...تمتمت بهذه الكلمات في نفسها ثم أجابت:
- نعم ... بعض الشيء.
- هل ستزورين بلدة الورود
- يا حبيبي... هذا الرجل محير فعلا فالقرية تبعد فقط بضع الكيلومترات عن بلدة الورود...أجابته بسؤال آخر:
- هل تسكن في بلدة الورود؟
- نعم...أنا من بلدة الورود,أعيش و أعمل بها,أتيت إلى هنا لزيارة صديق لي.
لاحظ الرجل سيادة صمت رهيب فتابع : أنا اسمي أنور, أعمل طبيب نفسي و مد يده للمصافحة ,...لقد صدقت توقعاتها فهو طبيب نفسي لهذا سهل عليه قراءة حالتها إذا, شعرت ببعض الارتياح, وابتسمت قليلا ثم مدت يدها قائلة:
-...ليلى, من قرية التفاح, طبيبة أسنان .
-لاحظت عليك بعض القلق و الخوف فرأيت أنه يجب أن نتعرف.
- لاعجب في دقة ملاحظاتك , فأنت طبيب نفسي
- إذا أنت من قرية التفاح , إنها قريبة جدا من البلدة , أزورها باستمرار فجدتي تقطن هناك.أنا سعيد بمعرفتك آنسة ليلى
-وأنا أيضا سعيدة بمعرفتك يا دكتور أنور.
كانت الرحلة قصيرة جدا , أو هكذا قد خيل لها ... على قدر توقها في الوصول إلى القرية , كان خوفها أكبر بكثير .
لم تعد تستطيع التفكير في الأمر خوفا من الصداع... كانت تنظر إلى ساعتها باستمرار , كل دقيقة تقريبا, وكان أنور في نفس الوقت يلاحظ ويبتسم ابتسامة تحمل كثيرا من التوقعات و التساؤلات .
توقف القطار ...ونودي بصوت عال: مدينة الورود ترحب بكم...شعرت بخفقان شديد في قلبها, ولم تعد تقوى على الحركة. وقف أنور بسرعة وربت على كتفها قائلا:
لقد وصلنا...يمكنك النهوض...
- عجيب هو الإنسان بمنطقه امعاكس, ينتظر بشغف و لهفة أمرا ما, يعتقد في لحظة خيالية أنه كل أمنياته , وأنه من المستحيل أن يتحقق...وما إن يصله هذا الأمر, حتى يبدأ في التفكير اللامبرر ويذهب بعيدا في تكذيبه, وعندما يفوته القطار, يبقى شاردا لا يدري, أيندب حظه المتعثر, أم يستمر في أكاذيبه ليعطي تفكيره مزيدا من المبررات المخادعة.
وقفت ليلى وهي تشعر بأن رجلاها لا تحملانها, استجمعت كل قواها وسارت بخطى متثاقلة نحو الباب. وقفت أمام المحطة وعيناها مركزتان على اللفتة المكتوب عليها :**مدينة الورود ترحب بزوارها**. كان أنور يقف بجانبها ثم قال:
- إذا أردت سأذهب معك؟.قاطعته:
- لا ...شكرا لك سيدي...
ودعها أنور بابتسامة عريضة :
-وداعا آنسة ليلى و أتمنى أن نلتقى في المستقبل, اعتني بنفسك
لم تنطق ليلى بحرف واحد سوى أنها حركت رأسها قليلا...وبدأت تسير في أرجاء المدينة...كل شيء تغير...الأبنية...الشوارع...الم حلات...الناس...وحتى رائحة المدينة تغيرت ولم تعد هي ...أو ربما...نسيت الرائحة...من يدري ...إنه الزمن الذي يتغير و يغير. هاهي الشمس تستعد لسحب آخر شعاع من أشعتها المطلة على المدينة, وهاهو الليل بدوره يساعد لإسدال أول خيط من خيوطه...توجهت ليلى إلى الطريق المؤدية إلى القرية, هي فقط بضع الكيلومترات لا أكثر, بدأ جسمها يضعف والدوار لا يفارقها..تمتمت بكلمات متقطعة:..تبا لهذا الدوار الذي يأبى مفارقتي, وكأنه يريد القضاء علي.
اختلطت كل المشاعر الإنسانية بداخل ليلى , لقد شلت حركتها تماما....كانت قد ابتعدت تماما عن المدينة وفارقت الضجيج والضوضاء...جلست على حافة الطريق واضعة أمتعتها بجانبها ..وأخرجت علبة الدواء مرة أخرى لتتناول حبة منه, لعلها تشعر ببعض التحسن وتكتسب القوة لمواصلة المشوار الذي على ما يبدو طويل جدا ومتعب....
...لم تمض سوى ربع ساعة حتى وقفت ليلى عند الشجرة.شجرة البلوط تلك التي يسمونها مدخل القرية..لاتزال الشجرة على حالها,..حدقت ليلى بها كثيرا..الجذع..الأغصان...الأورا ق...عجبا..ليس في جعبة هذه الشجرة ما تحكيه ..لا تبدو عليها آثار العشر سنين وكأنه فقط انقضى عليها يوم واحد...
خيم سكون الليل على القرية, انقطعت الحركة, سكت ضجيج الأطفال وصراخ الأمهات...انعدمت الحياة في الخارج ...تماما مثل زمان. لم يبق سوى نباح الكلاب
******************************
**الفصل الثاني**
اتجهت ليلى بخطى ثابتة نحو منزلها القديم...وهي لا تكاد ترى شيئا بسبب الظلام الحالك..وقفت أمام المنزل....كارثة ...أصبح زريبة حيوانات...ليس فيه حياة بشر!...ماذا فعلت العشر سنين بهذا المنزل, إذا كان هذا حال المنزل وهو جماد,لامشاعر ولا أحاسيس له,فماذا حل بأهله,أي مشاعر إنسانية بقيت بداخلهم....آه....كم يتقدم الزمن ثم يعود إلى الوراء...لاعبا بنا ككرة في الهواء, فمتى أردناه أن يسرع توقف متعبا ليرتاح,ومتى رجوناه أن يتمهل غادرنا مهرولا في طريقه نحو مناه.....
تمكنت ليلى من رؤية حال المنزل بفضل مصباح صغير وضع على حافة الباب...وبينما هي كذلك إذا بصوت خطوات تقترب منها فالتفتت بسرعة,فإذا بشيخ يدنو منها قائلا: ..
-عفوا..يا ابنتي من أنت وماذا تفعلين هنا في هذا الوقت المتأخر؟!...هل أنت عابرة سبيل؟
-آه...نعم يا عم...أنا ...
-..تفضلي يا ابنتي...سأرافقك إلى بيتي...
....عجبا إنه العم عمر, تقاسيم وجهه..صوته...طريقة كلامه...لم يتغير شيء...سوى أنه كبر قليلا..!
رافقته ليلى دون أن تنطق بكلمة واحدة..واصل العم كلامه:
- من أين جئت؟
- من المدينة.
- هل تزورين أحدا هنا في القرية؟
- لا.فقط عابرة سبيل.
وصلا إلى المنزل وبينما هي تتأمله إذا بعجوز تستقبلهما بحفاوة:
-مرحبا يا رجل, وأهلا بضيفتك ...تفضلي يا ابنتي إلى الداخل.
إنها الخالة خديجة,زوجة العم عمر,..ماأجمل ابتسامتها وكرمها هذا الذي عرفت به منذ القدم...زوجين سعيدين دائما رغم حرمانهما من الذرية..!
جلست ليلى و أخذت نفسا عميقا..إنه يوم حافل جدا,متعب وحزين..ومليء بالمفاجآت.سرحت ليلى بخيالها بعيدا وصورة البيت لاتفارقها وإذا بصوت حنون يقاطعها:
-تفضلي ..العشاء يا ابنتي ..لابد وأنك جائعة.
-شكرا يا خالة ..لم آكل شيئا منذ الصباح.
بعد تناول العشاء..وضعت ليلى رأسها لترتاح قليلا, ولم تشعر بالوقت إلا و المؤذن يقول :الله أكبــــــــــــر..إنه
الفجر!.تسللت قشعريرة غريبة لجسمها...سرعان مازالت عند وقوفها..عجبا لأول مرة منذ عشر سنين...لم يزرها ذلك الكابوس المزعج!..كل مرة تتخيل نفسها تسقط من ربوة عالية أو أنها في غرفة مقفلة وهي تحاول جاهدة فتحها دون جدوى, وصوتها لا يصل لأحد...
اتجهت ليلى إلى الخارج..إنه الفجر,..كل شيء اتضح في الخارج, المنازل...الطريق...الرجال وهم يتجهون إلى المسجد....آه المسجد...إذا فقد اكتمل بناؤه...تذكرت ليلى أنه قبل عشر سنوات كان لايمت بأية صلة للمساجد, كان عبارة عن غرفة كبيرة جدرانها من طين, ليس له باب ولا أفرشة ولا مغسل ولا حتى مكبر صوت ليصل صوت الآذان لكل البيوت...
جلست ليلى على مقعد كان هناك أمام الباب, تتأمل القرية بكل هدوء...لا تقوى على ترجمة ما بداخلها..ليست الذكريات وحدها هي التي توقظ الماضي فينا, بل أن الحزن يوقظ ذكريات الماضي..والحاضر يقتل سعادة المستقبل لدينا, وكلما تقدم بنا الزمن خطوة إلى الأمام,...ذكرنا بخطوة إلى الوراء وذلك لنعيش المستقبل حلما....ونموت بالماضي ندما...وهي على حاله إذا بالعم عمر يتجه نحوها...جلس بجانبها قائلا:
-لقد نمت البارحة مباشرة بعد العشاء, هل ارتحت؟
-نعم كثيرا...لقد كنت متعبة ولم أشعر بذلك.....
-إذا هل سترحلين ؟أم ..أعتقد أنك متعبة ....
-في الحقيقة ياعمي ..أجد نفسي غير قادرة على المواصلة ..لو ...
-تستطعين البقاء البيت بيتك ..ترحلين عندما تتحسنين..
-شكرا يا عمي...أود أن تحدثني عن أهل ذلك البيت المهجور
-البيت الذي رأيتك أمامه أمس؟...نعم..نعم..أصحاب ذلك البيت يا ابنتي حكايتهم طويلة جدا, تفضلي بالدخول سأحكيها لك بالداخل ,الجو بارد هنا وأنت لاتبدين بخير
تناولت ليلى الفطور...أتبعته بدوائها, شعرت بارتياح شديد , بأمان لم تشعر به منذ فترة طويلة..ماأجمل هذا البيت , وما أجمل هذان الزوجان, بقيت تحدق في وجه الخالة خديجة وتبتسم إذ تذكرتها عندما كانت تأتي من المدرسة وتجدها كل يوم أمام المنزل جالسة وهي تتجادل مع العم عمر ..وكانت تحبها كثيرا وتدعوها دائما لتناول الغذاء.
فجأة قطع عليها العم عمر خلوتها مع الذكريات..: قبل نحو عشر سنين..ارتعش جسم ليلى إذ أصبحت كلمة العشر سنين تصيبها بالانتكاسة.
واصل العم كلامه:..كانت عائلة تسكن هنا..رحلت ابنتهم الكبرى من المنزل بعد عصيان أمر والدها, تاركة وراءها عارا كبيرا لعائلتها و قريتها...
شعرت ليلى بدوران شديد..جعلها تتنهد وتستغفر..إذا فهو عصيان للأوامر..هو عار ..عجبا..تحدثوا عن العصيان والعار ولم يتحدثوا عن الاضطهاد والمشاكل, عصت الفتاة والده لأنها رفضت الزواج برجل غني يكبر والدها سنا, عصت والدها لأنها فضلت إتمام دراستها وتتخرج من الجامعة...
عجيبة هي العادات والتقاليد التي ننساق لها ونقدسها لحد العبادة, رغم اقتناعنا الداخلي و الأكيد بأنها خاطئة في أغلبها وتافهة, وهي من وضع البشر وليست نصا قرآنيا..!
إذا فكل القرية تحدثت عن الفتاة و عصيانها...لكنها لم تتحدث عن عيشتها ودراستها و حقها في الحياة..
واصل العم كلامه:..بعد رحيل الفتاة لم تفارق المشاكل المتتالية تلك العائلة المسكينة فبعد طلاق الوالدان ووفاة الجدة..رحل الأب واستقر في البيت المهجور أعلى التلة وتزوج امرأة أخرى ..وبقيت الأم مع ولديها في هذا البيت حيث عاشوا حياة صعبة جدا سببها الأب من جهة , وأهل القرية من جهة أخرى فهم لم يهضموا ما حصل وحملوا أمها كل مافعلته الفتاة.
لم تستطع ليلى التنفس, شعرت باختناق في صدرها, فسقطت مغشيا عليها ولم تفق إلا بعد دقائق..وجدت نفسها نائمة على السرير والعم وزوجته واقفان بجانبها وقد اصفر وجههما ..اختلطت عليهما الحيرة والدهشة ولم يجدا مايقولانه.
لم تتمالك ليلى نفسها وبدأت في هستيريا من البكاء المتواصل دون توقف, اقتربت الخالة خديجة منها , أخذتها في حضنها :
- لاتبك يا ابنتي ..أنا هنا..ضعي رأسك على صدري و ستشعرين بتحسن.
لم تتوقف ليلى ولم يتوقف العم عمر عن التحيق بها وفجأة قال:
- ليلى..لاتبك...كوني شجاعة..
توقفت ليلى و رفعت رأسها بسرعة في صمت وحيرة
- نعم..أنت ليلى ..ارتاحي الآن و سنتحدث فيما بعد..تعالي يا امرأة واتركيها لوحدها قليلا.
نهضت الخالة تتبع العم عمر وهي ترتجف وعلامات الحيرة بادية على وجهها..أغلقت الباب وراءها...غرست ليلى رأسها بين ركبتيها وهي تبكي .... وكلام العم عمر لا يفارق مخيلتها.
-هل ستخبرني بما يحدث؟..قالت الخالة خديجة بنبرة حادة مخاطبة زوجها , وهي لا تزال ترتجف.
-فيما بعد يا امرأة,...فأنا لست بخير..
-هل هي ليلى؟لكن...كيف يعقل؟...أين كانت؟..قاطعها العم عمر:
-ليس وقت الأسئلة, ادخلي وتفقدي حالة البنت...إنها منهارة كليا..
دخلت الخالة إلى الغرفة,وجدت ليلى ممدة , جثة ساكنة ,عيناها مغمضتان,أسرعت إليها تتحسس جسمها,...الحمد لله ...دقات قلبها عادية..نفسها عادي...هي فقط نائمة!..غطتها وجلست على الكرسي المقابل لها تتأملها بعمق..منذ أن رأتها بالأمس للمرة الأولى قرأت حزنا غامضا في عينيها لم تعرفه, وأحست ألما عميقا في قلبها لم تستطع تفسيره..ترى كيف هي حياة هذه المسكينة؟..
مضت برهة من الزمن وهي جالسة تحاكي نفسها وفجأة تحركت ليلى قليلا وفتحت عينيها, ...أرادت أن تجلس فساعدتها الخالة على ذلك..
-كيف تشعرين الآن؟..
بخير يا خالة...شكرا.
-هل أنت متأكدة؟..يمكن أن نأتي بالطبيب إذا...
-لا ..أنا بخير...أين هي أمي الآن وإخوتي؟
-من فضلك يا ابنتي سنتكلم فيما بعد..عندما...
-أرجوك ...أنا بخير.
جلست الخالة و أخذت نفسا عميقا...ثم اعتدلت في جلستها و قالت:
-عندما تزوج أبوك و ذهب إلى منزل الربوة..انت تعرفينه..
وكيف أنساه و قد كان عنوان طفولتي..كان أشبه بصندوق أسراري ..أخبأ فيه آلامي و كل أحلامي...كان كل أطفال القرية يحبونه ..
-بدأت أعمال أبيك تتراجع إذ لم يعد أحد في القرية يشتري خضره وكان يجد صعوبة كبيرة في الذهاب كل يوم إلى البلدة لبيعها, فمرض ولازم الفراش مدة, تخلت عنه زوجته و رجعت إلى بيت أهلها, فبدأ يترجى والدتك لترجع إليه’ و لأن أمك ضاقت ذرعا بالعيش مع أهل القرية وسط الظلم و الاضطهاد , فقد قبلت بالعودة إليه وهم الآن يعيشون معا في ذلك البيت...
نهضت ليلى من سريرها ,فتحت حقيبتها مخرجة علبة الدواء , تناولت حبة منه , والخالة صامتة لاتتحرك, تراقبها بانتباه شديد, خرجت ليلى من الغرفة وفتحت باب المنزل الخارجي ,وجدت العم عمر جالسا أمامها ,تابعت سيرها .
-إلى أين يا ابنتي؟
توقفت ليلى ولكنها لم تستدر...بقيت في مكانها ,نهض العم عمر وكانت زوجته قد وصلت هي الأخرى,ربت العم على كتفيها :
-إلى أين تتجهين؟..لا أظن أنك في حالة تسمح لك بالذهاب إلى هناك.نفسيتك متعبة ومنهارة..لقد أرسلت في طلب الطبيب
من البلدة سيصل قريبا.
-عمي...أرجوك...أنا أريد الذهاب...وانتهى الأمر.
تنهد العم وصمت لحظة , رأى استحالة تراجعها فقال:
-إذا سنرافقك.
لم تنطق ليلى بكلمة وسارت بخطى ثابتة لاتنظر من حولها , عيناها مسمرتان في الأرض, والعم وزوجته يتبعانها دون أي كلام,تجاوزوا القرية ,وصلوا إلى أعلى الربوة...هاهو المنزل...لم يعد يبعد سوى بضع خطوات, توقفت ليلى...رفعت رأسها عاليا...أخرجت نفسا عميقا استدارت إلى العم وزوجته .. نظرت طويلا إليهما..تقدمت منها الخالة خديجة وأمسكتها من ذراعها قائلة:
-أنت شجاعة ...ولم يبق الكثير..
طرق العم عمر الباب ,فتحت الباب..فتاة شابة...طويلة القامة ..نحيلة جدا..ابتسمت وقالت:
-العم عمر .مرحبا..خالتي خديجة..أهلا وسهلا..!إنها حقا مفاجأة. تفضلا بالدخول ..التفتت إلى ليلى: تفضلي يا آنسة.
إنها زينب..لقد كبرت..ترى أمازالت مريضة؟..ألهذا هي نحيلة هكذا...ووجهها مصفر..
دخلوا غرفة صغيرة مفروشة ,جدرانها من طين , وطاولة صغيرة تتوسطها.. جلسوا على الفراش وجلست معهم زينب وهي تنادي:
-أمي ..تعالي ..عندنا ضيوف
خفق قلب ليلى فجأة أحست للحظة أنه سيتوقف...
دخلت الأم وهي تقول:
-مرحبا بضيوفنا...أختي خديجة ..كيف..توقفت فورا ولم تستطع حتى إكمال كلامها...حدقت في وجه ليلى...تجمدت في مكانها ..فتحت فاها..وعينيها...ولم تخط خطوة واحدة..
ترى هل عرفتها؟...هل أحست بأنها هي...لاعجب في ذلك ..ألا يقولون أن قلب الأم يحس.....
*****************************
**الفصل الثالث**
إنها الحياة التي تسير بنا بخطى واثقة تجس نبض قلوبنا بين الفينة و الأخرى للإطمئنان على الخراب الذي تخلفه فينا كل مرة.
التقت ليلى بامها بعد أكثر من عشر سنين...ليس بوسع أحد هنا تفسير ما يحدث أو ما سيحدث.ربما شوق وحنين, أو هو حيرة و دهشة تتخللها تساؤلات كثيرة...جلست أم ليلى و نظراتها لا تفارق ليلى...ليلى التي عبرت دموعها عن كل ما يختلجها ,لم تنطق بكلمة واحدة فاتحة المجال لأمها التي بادرت بالقول:
- لماذا عدت ؟ لم يعد لك مكان بيننا, ماكان عليك الرجوع, نحن دفناك قبل عشر سنين ومن غير المعقول عودة الأموات.
وقعت هذه الكلمات كالصاعقة على ليلى التي توقفت عن البكاء,ومع ذلك لم تستطع الكلام , وكأن شيئا ما عقد لسانها. تابعت الام كلامها:
- ليس مرحبا بك هنا...وانفجرت باكية : لقد تركتني وأنا في أمس الحاجة إليك , كنت وأخويك أغلى شيء في الوجود وكنتم سبب حياتي, كان صبري يقوى و يزداد كلما وجهت نظري إليكم. كنتم كالشمعة التي تضيء دربي الطويل و الصعب...
قاطعتها ليلى: كانت حياتي تضيع مني على مرأى منك ولم تفعلي شيئا, كان مستقبلي يتدمر ولم أقو على النظر فقط.أمي أنا كنت أحلم...صحيح أني بالغت في أحلامي ولكنك من علمنا الطموح و تحقيق أحلامنا, أمي ...أنا تائهة بدونكم, حاولت أن أنسى طوال هذه الفترة لكنكم كنتم بدمائي ..ظلكم يرافقني أينما احل و أرتحل , ولكن لست من ينسى أهله و ماضيه...أنا لم أتربى على هذا.
أمي اصبحت كالظل التائه الذي ضيع صاحبه فتراه يتخبط في العراء دون مأوى, ينبذه كل من حوله,... كطفل متشرد اخذت منه الحياة كل عزيز و تركته للوحوش الآدمية تفترسه يبحث عن رأفة أو رحمة دون جدوى.
امي ...إنه القدر الذي لعب لعبته معي, فأخذ مني حياتي و روحي وتركني جسدا ممزقا تخلى عن كل معالم الحياة.
أمي ...لقد سرق مني أبي أحلامي و حياتي , وكل شيء كان غاليا فيها, حققت أحلامي و احلامكم, لكني لم استقر بعد..
وقفت الأم بسرعة خاطفة و سارت بخطوات مسرعة ثم توقفت وقالت:
- أنصحك بالعودة من حيث أتيت , إذا بقيت لنا مكانة في قلبك . فأنت أبدا لن تتفهمي ما مررنا به ..وخرجت من الغرفة.
خرجت ليلى من المنزل مطأطأة الرأس تحت أنظار أختها زينب , تبعها العم عمر و زوجته , توجهوا ثلاثتهم إلى القرية..دخلت زينب بسرعة عند امها و قبل ان تقول أي كلمة بادرت أمها :
-إنها أختك ليلى...لقد عادت.
جلست زينب وهي بالكاد توازن جسمها فقد نزل الخبر عليها كالصاعقة, وانفجرت باكية :
-هي ليل إذا,عندما رأيتها تنظر إلى , أحسست بشعور غريب لم أستطع تفسيره أو حتى فهمه’ ثم التفتت إلى أمها بسرعة:
-وماذا قلت لها؟..لماذا خرجت هكذا؟ أمي أخبريني ماذا حدث هنا؟..
-زينب اسكتي..لقد أخبرتك بالحقيقة فقط حتى أتفادى أسئلتك هذه , فلا تزيديها علي.
-أمي سألتك سؤالا أجيبي عليه , ماذا أخبرتها؟
-ما يجب إخبارها..ماكان عليها العودة.
-هل طردتها من منزلها؟..أمي هل رفضت عودتها؟..بأي حق تحرميها من عائلتها..حرمها ابي مرة وها انت تختمين المرة الثانية.
خرجت زينب مسرعة متجهة إلى الغرفة التي يرقد فيها والدها الطريح الفراش..اقتربت منه وقالت:
-أبي لقد عادت ليلى...ابنتك يا أبي عادت وأنا ذاهبة لأتيك بها فهي لن تضيع منا مرتين.
كان الأب لايتكلم بسبب المرض الذي يعاني منه , فقط تنهد وحرك رأسه قليلا ثم سقطت من عينه دمعة أحست زينب بأنها دمعة حرقة و أسى وندم فابتسمت و خرجت.
جلست ليلى وجلست الخالة بجانبها..ثم فجأة دخل العم عمر وهو يقول:
-تفضل يا بني, من هنا .
وإذا بشاب أنيق يدخل الغرفة يحمل حقيبة قائلا :
-السلام عليكم, كيف حالك يا خالة؟...التفتت ليلى بسرعة البرق فهذا الصوت حتما مازال في بالها ..إنه الدكتور انور, أحست باحمرار وجنتيها فطأطأت رأسها, اقترب منها أنور قائلا:
-كيف انت يا ليلى؟
-بخير..أقصد..لا ادري لا أشعر أني بخير.
-أنت مريضة يا ليلى, ومرضك نفسي وليس جسدي,فالمرض النفسي الذي تعانين منه يؤثر بشكل رهيب على جسدك لذلك فالصداع لا يفارقك, وكذا الوهن الذي تشعرين به في كامل جسدك ..ليلى يجب ان تخضعي لعلاج في أقرب وقت وأنا هنا لمساعدتك نتى أردت.
انفجرت ليلى باكية:
-انا اعرف أني لست بخير, دائما هناك غصة بداخلي تكاد تقتلني.
امسكت الخالة خديجة بيديها قائلة:
-ابنتي, أنت قوية جدا وستجتازين هذه العقبة , وتشفين بإذن الله . وتذكري دائما أننا هنا بجانبك ...
في هذه اللحظة دخلت زينب تبكي :
-ليلى..أختي لقد اشتقت لك..كيف استطعت..انا..
تعانقت الأختان عناقا حارا وبكتا بكاء أبكا كل من حضر هذه التراجيديا المؤلمة. قصت ليلى قصتها لأختها و سمعها الحاضرون , بكت زينب بحرقة و هي تعانق أختها :
-أختي هيا إلى المنزل..يجب أن تقابلي أبي و..قاطعتها ليلى و قد تغير لون وجهها:
-لا..أبي ..لا أستطيع.
هنا قال الدكتور أنور:
-لا أظن أن ليلى مستعدة لهذا الآن , ثم اختلى بزينب قائلا:
-أختك يا زينب تعاني اضطرابات نفسية حادة, ويجب عليها أولا أن تعالج قبل ان تذهب إلى البيت.
طأطأت زينب رأسها و سارت بخطى متثاقلة نحو الباب واستدارت قائلة:
-سأذهب الآن و اعود غدا, أرجوك يا دكتور عالجها بسرعة..أرجوك
-أكيد سأفعل..لا تقلقي.
لا يمكن لأحد مهما بلغت درجة إيمانه بهذه الحياة أن يقف في وجهها إذا ما كشرت عن انيابها, إنها الحياة التي تسيرنا وفق مناهجها و أهدافها, و تجعل منا كتلا جامدة بعد ان تستودعنا للآلام و الأحزان, لتلعب دورها هذه الأخيرة و تتفنن في تعذيبنا و اللهو بنا ككرة في رحب هذه الدنيا.
ليلى ضحية المجتمع و العادات و التقاليد, بعد ان تمردت عليها بكل شجاعة, وجدت نفسها تحت سيطرة الاضطرابات النفسية الصعبة جدا والتي جردتها من كل المشاعر الانسانية..ليلى بعد ان حققت كل ما كان يدور في بالها و طمحت إليه, ضيعت نفسها في الأخير ولم تعثر على شخصها وسط كل مواويل الحياة التي دمرتها و قضت على كل آمالها.
خضعت ليلى لعلاج مكثف عند الدكتور انور الذي كرس كل وقته لمساعدتها برعاية العم عمر و زوجته اللذان قدما لها كل التسهيلات لذلك, و واصلت زينب زيارتها كل يوم وجلبت معها أخوهما الصغير الذي فرح كثيرا هو الآخر بليلى,
ليلى بدات تتحسن و الكل لاحظ هذا التحسن بعد ان واقت على زيارة والديها , و هاهي تجلس امام والدها بعد مدة عشر سنين, كانت تبدو عليها الشجاعة و هدوء الأعصاب و قمة الارتياح وهي تحكي قصتها على مسمع من أمها و أبيها,.
إنه الزمن الذي يدور بنا و يرمينا تارة إلى العادات و التقاليد, وتارة أخرى إلى تسلط الآباء و جهلهم...أم ليلى التي لم تهضم بعد كل ما حدث و ما يحدث مازالت تتفادى ليلى ..ولكن ..إلى متى؟
ليلى التي استقرت في بيت العم عمر و زوجته بعد ان وجدت فيه راحتها و شعرت بكل الطمأنينة التي غابت عنها مدة طويلة...قررت مواصلة عملها كطبيبة أسنان بعد ان فتحت عيادة طبية بالقرية ...وبدأت تسترجع حياتها شيئا فشيئا...
انتهى...بقلمي