نحاول هنا في هذا المقام تسليط الضوء و لو باختصار على قضية الريادة في الشعر الحر بين شاعرين عراقيين كبيرين كثر الاجدل حولهما
جمعت لكم بعض المعلومات وصغتها على طريقتي أتمنى الافادة للجميع...
إن سنة 1948سنة حاسمة في التاريخ العربي الحديث فهي لم تشهد نكبة فلسطين وحسب,بل شهدت انهيار المجتمع العربي التقليدي التي تمثلت فيها بعد انهيار أنظمة الحكم الرجعية في سوريا ومصربالحركات الشعبية ضد السيطرة الاستعمارية في مصر والعراق, وليس غريبا أن تشهد السنوات ذاتها بداية حركة الشعر الحر في الوطن العربي.
إن انهيار المجتمع العربي التقليدي لم يكن انهيارا فحسب ذلك أن قيم هذا المجتمع المتخلف المحافظ أخذت تنهار أيضا أمام الحركة النامية في أحشائه تحت تأثير عوامل داخلية و خارجية.
وكانت هذه الحركة من العمق إلى درجة لم يستطع معها الشعر العربي وهو الذي لم يستطع التجديد الجذري أن يقتحمه منذ الجاهلية أن يبقى حيث أراد الخليل بن أحمد الفراهيدي
لقد هيأت للشعر الحرعوامل مختلفة اهمها:
سقوط الوجود العربي التقليدي وزوال صفة القداسة عنده وذلك أنه سقط سياسيا و اجتماعيا وسقط فكريا وثقافيا.
دراسة تجارب الشعر العربي ولا سيما الفرنسي و الانجليزي والتأثر بتياراته المختلفة.
تسرب الفكر الاشتراكي عامة والماركسي خاصة إلى بلادنا وكفاحه من أجل التحرر والتجديد وربطه بينهما.
ولقد حدثت قبل سنة1948ارهاصات في مجال التجديد أهمها محاولات الدكتور لويس عوض وترجمة علي أحمد باكثير لمسرحية شكسبير, والجدير بالذكر أن هذه المحاولات ظلت دون نشرحتى فيض لها أن تصدر سنة1947 وتعتبر محاوات الدكتور لويس عوض جادة وهامة لأنها تخطت مفاهيم الشعر العربي تخطيا نهائيا إذ أنه حاول أن يبتكر أوزانا جديدة سواء بالاستفادة من العروض العربي أو بالاستفادة من العروض الانجليزي كما حاول أن يحرر الشعر من اللغة الجامدة لغة المعاجم و الفقهاء وتضم هذه المجموعة قصائد فيحة عامية قصائد موزونة و غير موزونة,وتعتبر مجموعة تجارب واعية و لكن صدورها سنة 1947جعلها ذات أثر محدودفي تجربة الشعر الحديث ولقد ضاعت في الموجة التي أخذت تتسارع في السنة التالية غير ملتفتة إلى شيء.
الريادة في الشعر الحر:
انها قضيةمختلف فيها وهناك ما يدعو إلى الالتباس و ذلك أن القضية ليست واضحة تماما فمن الناحية التاريخية سهل علينا أن نحدد تواريخ كثير من القصائد التي تعتبر القصائد الأولى في تجربة الشعر الحر ولكنه ليس من السهل أبدا أن نحكم أي من القصائد هي النموذج الأول لتجربة الشعر الحر
هناك اتفاق من الناحية الزمنية على أن محاولات الدكتور لويس عوض و علي أحمد باكثير هي الحائزة قصب السبق في هذا المجال ولكن هذه المحاولات كانت كالصيحة في الوادي فعوض و باكثير لم يخوضا معركة التجديد و توقفا حيث كان البدء و محاولاتهما لم تكن ذات أثر في العراق , ومن العراق سنة1948بقيت الريادة بعد نشر قصيدتين لشاعرين عراقيين قصيدة هل كان حبا لبدر شاكر السياب و قصيدة الكوليرا لنازك الملائكة وهما الشاعران الذان تمحور حولهما موضوع الريادة....
اولا نعرج على حياة الشاعرين باختصار شديد:
بدر شاكر السياب:
ولد عام 1926 فى قرية (جيكور) على الفرات ، قرب مدينة البصرة جنوب العراق ... تخرج من دار المعلمين فى بغداد
دخل (السياب) معترك الحياة السياسية وعانى منها الكثير فقددخل السجن عدة مرات وطرد من الوظيفة ونفى خارج البلاد . صدر مجموعته الأولى ( أزهار ذابلة) عام 1947فى القاهرة وكان كتب فى منفاه أجمل قصائده ومناجاته الشعرية (غريب على الخليج وصهرت هذه المرحلة شعره ليتبلورفيها صوته وتكتمل أداته
ويكتب ذروة نصه الشعرى الذى صار يتميز به بعد رحيله.
شكلت السنوات الأخيرة (1960 – 1964) مأساة (السياب)الصحية والأجتماعية حتى مات بمرض الســــــل فى يوم 24/12/1964 فى المستشفى الأمريكى بالكويت .
أسس (الساب) لحداثتنا شعرا وقصائداً لا ماضى لها فى الشعر الغربى لمعاصر ويمتاز شعره بالمناجاة الغنائية العميقة والصورة البارعة التى تمتزج فيها الغة بالرؤية وبالإيقاع ى مدى شعرى ممتد بين روعة الأداء وعمق الدلالة . صدرت له المجموعات الشعرية التالية
أزهار وأساطير – المعبد الغريق – منزل الأقنان –
أنشودة المطر – شناشيل ابنة الجبـــــــــلى .
نازك الملائكة:
ولدت الشاعرة نازك الملائكة في بغداد عام 1923م ، ونشأت في بيت علمٍ وأدب ، في رعاية أمها الشاعرة سلمى عبد الرزاق أم نزار الملائكة وأبيها الأديب الباحث صادق الملائكة ، فتربَّت على الدعة وهُيئتْ لها أسباب الثقافة . وما أن أكملتْ دراستها الثانوية حتى انتقلت إلى دار المعلمين العالية وتخرجت فيها عام 1944 بدرجة امتياز ، ثم توجهت إلى الولايات المتحدة الأمريكية للاستزادة من معين اللغة الانكليزية وآدابها عام 1950 بالإضافة إلى آداب اللغة العربية التي أُجيزت فيها . عملت أستاذة مساعدة في كلية التربية في جامعة البصرة .
تجيد من اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية ، بالإضافة إلى اللغة العربية ، وتحمل شهادة الليسانس باللغة العربية من كلية التربية ببغداد ، والماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكونس أميركا .
مثّلت العراق في مؤتمر الأدباء العرب المنعقد في بغداد عام 1965 .
آثارها : لها من الشعر المجموعات الشعرية التالية :
عاشقة الليل صدر عام 1947.
شظايا ورماد صدر عام 1949 .
قرارة الموجة صدر عام 1957 .
شجرة القمر صدر عام 1965 .
مأساة الحياة وأغنية للإنسان صدر عام 1977 .
للصلاة والثورة صدر عام 1978 .
يغير ألوانه البحر طبع عدة مرات .
الأعمال الكاملة - مجلدان - ( عدة طبعات ) .
ولها من الكتب :
قضايا الشعر المعاصر .
التجزيئية في المجتمع العربي .
الصومعة والشرفة الحمراء .
سيكولوجية الشعر
توفيت عام 2007
.
ندرج القصيدتين اللتين دخلتا سباق الريادة:
هل كان حبا؟لبدر شاكر السياب:
هل تسمين الذي ألقى هياما؟
أم جنونا بالأماني أم غراما؟
ما يكون الحب ؟نوحا و ابتساما ؟
أم خفوق الأضلع الحرى إذا حان التلاقي
بين عينينا فرارا باشتياقي
عن سماء ليست تسقيني إذا ما؟
جئتها مستسقيا إلا أواما
......
العين الحور لو أصبحن ظلا في شرابي
جفت الأقداح في أيدي أصحابي
دون أن يحظين حتى بالحباب
هيئي يا كأس من حافاتك السكرى مكانا
تتلاقى فيه يوما شفتانا
في خفوق و التهاب
وابتعاد شاع في آفاقه ظل اقتراب
.......
كم تمنى قلبي المكلوم لو لم تستجيبي
من بعيد للهوى أو من قريب
آه.. لو تعرفي قبل التلاقي من حبيب
أي ثغر مس هاتيك الشفاها
ساكبا شكواه آها.,..ثم.آها
غير أنني جاهل معنى سؤالي عن هواها
أهو شيء من هواها يا هواها؟
......
أحسد الضوء الطروبا
موشكا مما يلاقني أن يذوبا
في رباط أوسع الشعر التثاما
السماء البكر من ألوانه آنا و آنا
لا ينيل الطرف إلا ارجوانا
ليت قلبي لمحة من ذلك الضوء السجين
أهو حب كل هذا ؟ أخبريني
الكوليرا لنازك الملائكة:
سكن الليل..
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ, تحتَ الصمتِ, على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو, تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ, يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ
في كل فؤادٍ غليانُ
في الكوخِ الساكنِ أحزانُ
في كل مكانٍ روحٌ تصرخُ في الظُلُماتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
في كلِّ مكانٍ يبكي صوتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
يا حُزْنَ النيلِ الصارخِ مما فعلَ الموتْ
طَلَع الفجرُ
أصغِ إلى وَقْع خُطَى الماشينْ
في صمتِ الفجْر, أصرخْ, انظُرْ ركبَ الباكين
عشرةُ أمواتٍ, عشرونا
لا تُحْصِ أصِغ للباكينا
اسمعْ صوتَ الطِّفْل المسكين
مَوْتَى, مَوْتَى, ضاعَ العددُ
مَوْتَى, موتَى, لم يَبْقَ غَدُ
في كلِّ مكانٍ جَسَدٌ يندُبُه محزونْ
لا لحظَةَ إخلادٍ لا صَمْتْ
هذا ما فعلتْ كفُّ الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
تشكو البشريّةُ تشكو ما يرتكبُ الموتْ
في كَهْفِ الرُّعْب مع الأشلاءْ
في صمْت الأبدِ القاسي حيثُ الموتُ دواءْ
استيقظَ داءُ حقْدًا يتدفّقُ موْتورا
هبطَ الوادي المرِحَ الوُضّاءْ
يصرخُ مضطربًا مجنونا
لا يسمَعُ صوتَ الباكينا
في كلِّ مكانٍ خلَّفَ مخلبُهُ أصداء
في كوخ الفلاّحة في البيتْ
لا شيءَ سوى صرَخات الموتْ
الموتُ الموتُ الموتْ
في شخص الكوليرا القاسي ينتقمُ الموتْ
الصمتُ مريرْ
لا شيءَ سوى رجْعِ التكبيرْ
حتّى حَفّارُ القبر ثَوَى لم يبقَ نَصِيرْ
عوامل الريادة:
هناك أربعة شروط ينبغي أن تتوفر لكي نعتبر قصيدة ما هي بداية هذه الحركة وهي:
1/أن يكون ناظم القصيدة واعيا إلى أنه قد استحدث بقصيدته أسلوبا وزنيا جديدا سيكون مثيرا أشد الإثارة حيث يظهر للجمهور .
2/أن يقدم الشاعر قصيدته تلك مصحوبة بدعوة إلى الشعراء يدعوهم فيها الى استعمال هذا اللون في جرأة و ثقة شارحا الأساس العروضي لما يدعو له.
3/أن تستثير دعوته صدى بعيد لدى النقاد و القراء فيضجون فورا سواء كان ذلك ضجيج اعجاب أم استنكار, ويكتبون مقالات كثيرة يناقشون فيها الدعوة.
4/أن يستجيب الشعراء للدعوة و يبدأوا فورا باستعمال اللون الجديد و تكون الاستجابة على نطاق واسع يشمل العالمالعربي كله.
تقول نازك الملائكة في :{عام 1962صدر كتابي هذا و فيه حكمت أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف ألى أقطار الوطن العربي و لم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعرا حرا قد نظم في العالم العربي قبل 1947سنة نظمي لقصيدة الكوليرا , ثم فوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الادبية و الكتب منذ سنة1932 وهو امر عرفته من كتابات الباحثين و المعلقين لانني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها. و إذ أسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم علي أحمد باكثير و محمد فريد أبي حديد و محمود حسن اسماعيل وعرار شاعر الاردن و لويس عوض وسواهم.ثم عثرت أنا نفسي على قصيدة حرة منشورة قبل قصيدتي وقصيدة بدر شاكر السياب للشاعر بديع حقي و هذا مطلع منها:
أي نسمة
حلوة الخفق عليلة
تمسح الأوراق في لين و رحمة
تهرق الرعشة في طيات نغمة
وأنا في الغاب أبكي
أملا ضاع و حلما أو مواعيد ظليلة
والمنى قد هربت من صفرة الغصن النحيلة
فامحى النور و هام الظل يحكي
بعض وسواسي و أوهامي البخيلة }
وأطلقت نازك الملائكة عام 1949ديوان شظايا و رماد وقد ضمته مجموعة من القصائد الحرة وقفت في مقدمته على وجه التجديد في الشعر وبينت مواضع اختلافه عن اسلوب الشطرين وقد قامت له ضجة واسعة واثيرت حوله مناقشات حامية في الاوساط الادبية في بغداد وكان هناك سخط كبير عليه وتنبأ الكثير له بالفشل الذريع.وبعد ذلك بقليل بدأت تظهر قصائد حرة الوزن ينظمها شعراء يافعون في العراق ويبعثون بها إلى الصحف وبدأت الدعوة تنمو وتتسع.
في آذار 1950صدر في بيروت ديوان أول لشاعر عراقي هو عبد الوهاب البياتي و عنوانه ملائكة و شياطين و فيه قصائد حرة الوزن تلاه بعد ذلك ديوان المساء الأخير لشاذل طاقة في صيف 1950ثم صدر أساطير لبدر شاكر السياب في أيلول 1950 وتتالت بعد ذلك الدواوين وراحت دوة الشعر الحر تتخذ مظهرا أقوى حتى راح بعض الشعراء يهجرون أسلوب الشطرين هجرا قاطعا ليستعملوا الاسلوب الجديد.
ريادة نازك الملائكة للشعر الحر:
نسجل للملائكة قدرتها على إيضاح أسس التجربة الجديدة في مقدمة ديوانها شظايا و رماد بينما عجز السياب أن يفعل ذلك في مقدمة مجموعته أساطير سنة 1950.فلقد كانت الملائكة أول من حاول وضع عروض للشعر الحر في كتابها ك قضايا الشعر المعاصر فوضعت له اسس و قواعد وحاولت جاهدة ابراز و تاكيد ريادتها للشعر الحر .
ولكي لا نغمط للشاعرة حقها فإن هناك أسبابا سنذكرها كانت فيما اعتقد وراء زعمها الريادة في الشعر الحر:
1_أنها بعد أن كتبت قصيدتها الكوليرا اتجهت إلى البحث و الدرس في تطبيق النظريات و الطرق العروضية العربية على الشكل الذي كتبت فيه قصيدتها.
2_توسعها في ضبط هذا الاسلوب الشعري و تطبيق قوانين العروض العربية عليه لتقيه و تصونه من العبث كما تقول.
3استمرارها في نظم قصائدها بالشكل الجديد في وقت مبكر حتى ضم ديوانها الأول 6قصائد حرة الوزن
وعلى هذا الأساس اتجه كثير من النقاد الى ابراز نازك الملائكة كرائدة دون السياب لأن السياب لم يؤسس للشعر الحر و لم يضع له قوانين و لعل حياته القصيرة كانت سببا في هذا .
يقول بدر شاكر السياب: {مهما يكن فإن كوني أنا أو نازك الملائكة أو باكثير أول من كتب الشعر الحر أو آخر من كتبه ليس بالامر المهم و إنما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد فيها و لن تشفع له أنه أول من كتب على هذا الوزن أو تلك المقدمة}
وفي ختام الحديث يجب أن نشير إلى أن إبراز الرائد في الشعر الحر شيء هادر للوقت و الفكر و عمل لا حاجة به ولا منفعة منه, وكل من الملائكة و السياب رائد لهذا الشعر الحر ولكن ما يجب أن نبرزه هو دور كل واحد في إيقاظ هذا النوع من الشعر الذي كان العصر و الزمن ملائمين لظهوره, و لقد نجحت هذه الحركة الجديدة نجاحا باهرا يدل عليه ظهور أسماء لامعة بعد الملائكة و السياب على غرار البياتي و عبد الصبور و حجازي و مازال هذا الشعر يستقطب العديد من الشعراء المعاصرين الذين راحوا يبدعون فيه إبداعا لا نظير له يواكب الزمان و المكان في قصائد خلدت أسماء أصحابها عبر مختلف العصور زمانا و مكانا.
من حكايا الورد.....10/11/21012