كتبهاالأستاذ هرادة عبد الكريم maitre herrada a.elkarim ، في 29 مارس 2008 الساعة: 10:25 ص
أضع هذا المقال الذي كان أخرما كتب المرحوم قبل وفاته بتاريخ :2009/09/23 تكريما لروحه الطاهرة دون أن أنسى فضله علي فلولاه ماكنت لأكون ماأنا اليوم عليه أسكنه الله فسيح جنانه أمين.
الكفن الأسود
لم أكن – قبل التحاقي بمهنة المحاماة – قادرا على أن أستوعب معاناة ذلك الفنان الذي رمت به الأيام إلى تولي منصب النيابة العامة في أحد الأرياف المصرية فخنق شوكها براعم مواهبه الفنية كما خنقت مواهب الكثيرين ممن سبقوه للجلوس على ذلك المقعد وتركوا بصماتهم على مكاتب ومنصة النيابة العامة وهم يحفرون دفق تلك المواهب على أسطحها باعتبارها المساحة الحرة وحيدة المتاحة للتعبير عن مكنوناتهم أو ربما هروبا من رتابة العمل القضائي .
ولم أكن كذلك قادرا – قبل أن أختبر ذلك بنفسي- على استيعاب موت حتى الأحاسيس البشرية في هؤلاء وهم يشاهدون أو يمارسون تمزيق وتشريح الجسم الآدمي بحثا عن الأدلة أووصولا إلى قناعة معينة فلم يعد هذا الجسد بين أيديهم إلا كما الساعة المعطوبة بين يدي مصلح الساعات يفككها ثم يعيد ترتيبها .
عندما ولجت عالم القضاء ومهنة المحاماة –كمتدرب- كنت أحاول أن أشغل كل حواسي وأضبطها كما تضبط أزرار جهاز الاستقبال على الموجات العالية والقصيرة حتى لا تفلت مني لا كبيرة ولاصغيرة فأذناي مبرمجتان لاستقبال المرافعات وأطوار الإجراءات والمحاكمات وعيناي تبحثان في همهمات وهمسات الألسن والشفاه و حركات الأقلام وتعابير الوجوه ، لذلك لفت انتباهي أن وكيل الجمهورية آن ذاك ليس كزملائه من القضاة والمحامين ، رجل يتمتع بموهبة خاصة خارجة عن المواهب المألوفة في هؤلاء وفي رجال النيابة العامة بالخصوص .
كان الرجل يغرق في بعض الأحيان بين أوراقه أو ينكب على طاولته لزمن فدفعني الفضول إلى استراق النظر فإذا به يحرك قلمه على غير حركات الكتابة فاختلست نظرة قريبة فإذا به يرسم رسومات عادية وأخرى من شخوص المحكمة، رسوم تنم عن موهبة تأبى الاختباء وتحاول أن تطل برأسها رغما عن إرادة الرجل ، ثم ما لبثت أن رأيت غيره من أصحاب الجبة السوداء يوارون رسوماتهم كما تواري العذراء ما ظهر من زينتها .
تقافزت إلى ذهني شخصية البطل في رواية توفيق الحكيم (( يوميات نائب في الأرياف)) وقلت في نفسي هذه الصورة التي حاول خيال الكاتب إبرازها على لسان البطل تتجسد أمامي حقيقة لا وهما، ومع الأيام ومع السنون ما فتئت مواهب فنية وأدبية تومض خلسة في ظلمة السواد المتشح به هؤلاء (( حزنا على الحقوق الضائعة أو على العدالة المفقودة أو على أشياء أخرى )) كما يومض شهاب في ديجور الليل المعتم .
ومع هذه الأيام والسنوات برقت مواهب وأرعدت ثم ما لبث إن اكفهرت سحبها وانجلت دون مطر وذهبت مع الريح دون أن تترك أي اثر ، وكنت وما زلت –إلى اليوم-أرى الأدب –شعرا ونثرا-يذوي على أفواه هؤلاء القوم كالفسائل النظرة التي لم تتعهد بالرعاية والسقاية ولحق عليها الصقيع البارد للقانون ونصوصه الجافة فأصابها بالجمود فأضحت مثله جافة كوقيد من خشب عتيد .
يدخل المحامي الجديد إلى المهنة مليئا بروح الشباب مسلحا بالكلمة الأدبية الرنانة يوظف في مرافعاته أجود أقوال الحكماء وعيون أبيات الشعراء غير أنه مع الأيام ما تلبث أن تتراجع تلك المسحة الجمالية من مرافعاته –شيئا فشيئا – فينبذ الاقتباس ويهجر الاستشهاد ثم ما ينفك أن يتخلى عن لغة الأدباء ليستعيض عنها بالغة الدارجة حتى تصبح في النهاية كل مرافعاته دارجة خالصة .
والمحامي معذور في ذلك لأنه مع تقدمه في المهنة يكتشف أن من واجبه أن يخاطب مستمعيه بما يفهمون من كلمات و من واجبه كذلك أن يرافع بما يتلاءم مع ما يخدم مصلحة موكله ، فكثير من القضاة النظاميين ومعظم القضاة الشعبيين لا يتقنون اللغة العربية الفصحى ولا يفهمونها بحكم تكوينهم أو بحكم صفاتهم وقد تختلف حتى لهجات دارج لسانهم من منطقة لأخرى، وكثيرا ما يقاطع القضاة المحامين المعربين ليستحثوهم على المرافعة (( بالعربية الدارجة))، ولعلى لا أخفي سرا إن قلت أنني كنت واحدا من ضحايا هؤلاء وكنت واحدا من اللذين أجهزت المحاماة على مواهبهم بالجملة .
ولعل القارئ الكريم سيستشف من هذا المقال تردي لغتي ولعل من يعرفني طالبا أو محاميا مبتدئا سيشهد بذلك، ويشهد أيضا على طلاقي البائن مع هوايتي وحرفتي القديمة –الرسم التشكيلي ، وفن الكاريكاتير – فلم أعد مذ طال الأمد علي في المحاماة بقادر على إمساك الريشة والألوان ولا على استنشاق رائحة الحبر الصيني .
إن مهنة المحاماة – على الرغم من نبلها وعراقتها- وفضلا على ما سبق ذكره من عيوبها لا تترك متسعا من الوقت ولا من صفاء الذهن للإبداع الفني تماما كمهنة القضاء وعلى رأسها القضاء الواقف، ولعل في زملائي من يشاطرني الرأي بان من لبس الجبة السوداء فإنما قد لبس في الحقيقة كفن مواهبه .
الأستاذ عبدالكريم هرادة
أضع هذا المقال الذي كان أخرما كتب المرحوم قبل وفاته بتاريخ :2009/09/23 تكريما لروحه الطاهرة دون أن أنسى فضله علي فلولاه ماكنت لأكون ماأنا اليوم عليه أسكنه الله فسيح جنانه أمين.
الكفن الأسود
لم أكن – قبل التحاقي بمهنة المحاماة – قادرا على أن أستوعب معاناة ذلك الفنان الذي رمت به الأيام إلى تولي منصب النيابة العامة في أحد الأرياف المصرية فخنق شوكها براعم مواهبه الفنية كما خنقت مواهب الكثيرين ممن سبقوه للجلوس على ذلك المقعد وتركوا بصماتهم على مكاتب ومنصة النيابة العامة وهم يحفرون دفق تلك المواهب على أسطحها باعتبارها المساحة الحرة وحيدة المتاحة للتعبير عن مكنوناتهم أو ربما هروبا من رتابة العمل القضائي .
ولم أكن كذلك قادرا – قبل أن أختبر ذلك بنفسي- على استيعاب موت حتى الأحاسيس البشرية في هؤلاء وهم يشاهدون أو يمارسون تمزيق وتشريح الجسم الآدمي بحثا عن الأدلة أووصولا إلى قناعة معينة فلم يعد هذا الجسد بين أيديهم إلا كما الساعة المعطوبة بين يدي مصلح الساعات يفككها ثم يعيد ترتيبها .
عندما ولجت عالم القضاء ومهنة المحاماة –كمتدرب- كنت أحاول أن أشغل كل حواسي وأضبطها كما تضبط أزرار جهاز الاستقبال على الموجات العالية والقصيرة حتى لا تفلت مني لا كبيرة ولاصغيرة فأذناي مبرمجتان لاستقبال المرافعات وأطوار الإجراءات والمحاكمات وعيناي تبحثان في همهمات وهمسات الألسن والشفاه و حركات الأقلام وتعابير الوجوه ، لذلك لفت انتباهي أن وكيل الجمهورية آن ذاك ليس كزملائه من القضاة والمحامين ، رجل يتمتع بموهبة خاصة خارجة عن المواهب المألوفة في هؤلاء وفي رجال النيابة العامة بالخصوص .
كان الرجل يغرق في بعض الأحيان بين أوراقه أو ينكب على طاولته لزمن فدفعني الفضول إلى استراق النظر فإذا به يحرك قلمه على غير حركات الكتابة فاختلست نظرة قريبة فإذا به يرسم رسومات عادية وأخرى من شخوص المحكمة، رسوم تنم عن موهبة تأبى الاختباء وتحاول أن تطل برأسها رغما عن إرادة الرجل ، ثم ما لبثت أن رأيت غيره من أصحاب الجبة السوداء يوارون رسوماتهم كما تواري العذراء ما ظهر من زينتها .
تقافزت إلى ذهني شخصية البطل في رواية توفيق الحكيم (( يوميات نائب في الأرياف)) وقلت في نفسي هذه الصورة التي حاول خيال الكاتب إبرازها على لسان البطل تتجسد أمامي حقيقة لا وهما، ومع الأيام ومع السنون ما فتئت مواهب فنية وأدبية تومض خلسة في ظلمة السواد المتشح به هؤلاء (( حزنا على الحقوق الضائعة أو على العدالة المفقودة أو على أشياء أخرى )) كما يومض شهاب في ديجور الليل المعتم .
ومع هذه الأيام والسنوات برقت مواهب وأرعدت ثم ما لبث إن اكفهرت سحبها وانجلت دون مطر وذهبت مع الريح دون أن تترك أي اثر ، وكنت وما زلت –إلى اليوم-أرى الأدب –شعرا ونثرا-يذوي على أفواه هؤلاء القوم كالفسائل النظرة التي لم تتعهد بالرعاية والسقاية ولحق عليها الصقيع البارد للقانون ونصوصه الجافة فأصابها بالجمود فأضحت مثله جافة كوقيد من خشب عتيد .
يدخل المحامي الجديد إلى المهنة مليئا بروح الشباب مسلحا بالكلمة الأدبية الرنانة يوظف في مرافعاته أجود أقوال الحكماء وعيون أبيات الشعراء غير أنه مع الأيام ما تلبث أن تتراجع تلك المسحة الجمالية من مرافعاته –شيئا فشيئا – فينبذ الاقتباس ويهجر الاستشهاد ثم ما ينفك أن يتخلى عن لغة الأدباء ليستعيض عنها بالغة الدارجة حتى تصبح في النهاية كل مرافعاته دارجة خالصة .
والمحامي معذور في ذلك لأنه مع تقدمه في المهنة يكتشف أن من واجبه أن يخاطب مستمعيه بما يفهمون من كلمات و من واجبه كذلك أن يرافع بما يتلاءم مع ما يخدم مصلحة موكله ، فكثير من القضاة النظاميين ومعظم القضاة الشعبيين لا يتقنون اللغة العربية الفصحى ولا يفهمونها بحكم تكوينهم أو بحكم صفاتهم وقد تختلف حتى لهجات دارج لسانهم من منطقة لأخرى، وكثيرا ما يقاطع القضاة المحامين المعربين ليستحثوهم على المرافعة (( بالعربية الدارجة))، ولعلى لا أخفي سرا إن قلت أنني كنت واحدا من ضحايا هؤلاء وكنت واحدا من اللذين أجهزت المحاماة على مواهبهم بالجملة .
ولعل القارئ الكريم سيستشف من هذا المقال تردي لغتي ولعل من يعرفني طالبا أو محاميا مبتدئا سيشهد بذلك، ويشهد أيضا على طلاقي البائن مع هوايتي وحرفتي القديمة –الرسم التشكيلي ، وفن الكاريكاتير – فلم أعد مذ طال الأمد علي في المحاماة بقادر على إمساك الريشة والألوان ولا على استنشاق رائحة الحبر الصيني .
إن مهنة المحاماة – على الرغم من نبلها وعراقتها- وفضلا على ما سبق ذكره من عيوبها لا تترك متسعا من الوقت ولا من صفاء الذهن للإبداع الفني تماما كمهنة القضاء وعلى رأسها القضاء الواقف، ولعل في زملائي من يشاطرني الرأي بان من لبس الجبة السوداء فإنما قد لبس في الحقيقة كفن مواهبه .
الأستاذ عبدالكريم هرادة