- إنضم
- 28 جانفي 2008
- المشاركات
- 3,616
- نقاط التفاعل
- 18
- النقاط
- 157
- الجنس
- ذكر
حكم ترتيب فرائض الوضوء
للشيخ محمد بن مكي
للشيخ محمد بن مكي
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمدًا عبده ورسوله.
أمّا بعد فقد اعتنى فقهاؤنا رحمهم الله بمسائل الفقه عناية منقطعة النظير فشرحوا معانيها وهذّبوا موضوعاتها، وفصّلوا مبهمها واختصروا مطولها لينالها العبد سهلة دانية كما أرادها الشرع الإسلاميّ الحنيف ﴿الَّذِي لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت:42].
لأجل هذا عكف الفقهاء على بيان وتوضيح المسائل الفقهية بقسميها العبادات والمعاملات ليأتي العبد بالمطلوب وينزجر عن الممنوع لينال رضى ربه عزّ وجلّ بعد ما يتصوّرها ويعقل معناها، ومن بين هذه المسائل في قسم العبادات مسألة ترتيب فرائض الوضوء على نسق الآية، بحيث من نكس أعضاء وضوءه هل يصحّ وضوؤه وبالتالي تصحّ صلاته أم ليس الأمر كذلك ؟
هذا ما سنحاول أن نبيّنه في ضوء المذاهب الفقهيّة السنّية. فانتظم البحث مقدّمة، بيّنت فيها تصوّر المسألة ثمّ عرض الأقوال مع أدلّتها بذكر الاعتراضات والجواب عليها قدر الإمكان مع بيان القول الراجح، وهي بمثابة الخاتمة لهذا البحث الصغير فنقول:
تعريف الترتيب لغة: هو من رتب الشيء يرتب رتوبًا، وترتب ثبت ولم يتحرّك، يقال رتَبَ الكعبُ أي انتصب انتصابة ورتّبه ترتيبًا أثبته(1).
وشرعًا: هو غسل الوجه ثمّ اليدين إلى المرفقين ثمّ مسح الرأس ثمّ غسل الرجلين إلى الكعبين.
وللفقهاء في حكم ترتيب أفعال الوضوء على نسق الآية قولان:
الأوّل: أنّ ترتيب أفعال الوضوء على نسق الآية واجب، بمعنى أنّ الله تعالى أراد إيجاب الترتيب وقصده في الوضوء ويكون شرطًا في صحّة الطهارة.
وبه قال الشافعيّ(2) وأحمد(3) ومالك(4) وإليه ذهب أبو مصعب صاحب مالك وذكره في مختصره وحكاه عن أهل المدينة ومالك معهم وهو: أنّ من قدّم في الوضوء يديه على وجهه ولم يتوضّأ على ترتيب الآية فعليه الإعادة لما صلى بذلك الوضوء.
القول الثاني: إنّ الترتيب في الوضوء على نسق الآية غير واجب بل هو مستحبّ.
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه(5) وحكاه المتأخّرون من أصحاب مالك على المشهور في المذهب(6) وبه قال النووي والأوزاعي والليث بن سعد وداود بن عليّ، وحكاه ابن المنذر عن عليّ وابن مسعود رضي الله عنهما واختاره(7).
وبه قال ابن المسيّب والحسن وعطاء ومكحول والنخعي والزهري وربيعة والمزني من الشافعية.
الأدلّة:
استدلّ أصحاب القول الأوّل القائلون بوجوب الترتيب بالآية والحديث والإجماع والقياس.
1 ـ الكتاب:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلىَ الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ﴾ الآية [المائدة 7].
وفيها ثلاث دلالات:
الأولى: أنّ الله تعالى أدخل المسح بين الغسلين وقطع حكم النظير عن النظير فدلّ على أنّه قصد إيجاب الترتيب، وعادة العرب إذا ذكرت أشياء متجانسة جمعت المتجانسات على نسق ثمّ عطفت غيرها لا يخالفون ذلك إلاّ لفائدة ؛ فلو لم يكن الترتيب واجبًا لما قطع النظير عن نظيره بخروج التلاوة من ذكر غسل الوجه واليدين إلى مسح الرأس ثمّ رجعت إلى ذكر غسل الرجلين.
وأجيب أنّ فائدة هذا النسق إنّما هو لاستحباب الترتيب لا غير.
وأجيب أيضًا أنّه قد تكون الفائدة التنبيه على وجوب الاقتصار في صبّ الماء على الأرجل أي أنّها مظنّة الإسراف فعطف على الرأس الممسوح لا المسح ولكن لينبّه على وجوب الاقتصاد في صبّ الماء عليها، فكأنّه قال: »واغسلوا أرجلكم غسلاً خفيفًا لا إسراف فيه كما هو المعتاد«، فاختصرت هذه المقاصد بإشراكه الأرجل مع الممسوح ونبّه بهذا التشريك الذي لا يكون إلاّ في الفعل الواحد أو الفعلين المتقاربين حدًّا على أنّ الفعل المطلوب في الأرجل غسل خفيف يقارب المسح. فحسن إدراجه معه تحت صيغة واحدة.
ردّ أصحاب القول بالوجوب على الفائدة الأولى من وجهين:
أحدهما: أنّ الأمر للوجوب على المختار وهو مذهب جمهور الأصوليين.
الوجه الثاني: أنّ الآية بيان للوضوء الواجب لا المسنون فليس فيها شيء من سنن الوضوء.
والدلالة الثانية: أنّ مذهب العرب إذا ذكرت أشياء وعطفت بعضها على بعض تبتدئ الأقرب فالأقرب لا يخالفون ذلك إلاّ لمقصود.
فلمّا بدأ سبحانه بالوجه، ثمّ اليدين، ثمّ الرأس ثمّ الرجلين. دلّ على الأمر بالترتيب، وإلاّ لقال فاغسلوا وجوهكم وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أيديكم وأرجلكم.
أجيب أنّ هذا استدلال باطل، ووجه بطلانه أنّ الفاء وإن اقتضت الترتيب لكن المعطوف على ما دخلت عليه بالواو مع ما دخلت عليه كشيء واحد كما هو مقتضى الواو، فمعنى الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء، فأفادت الفاء ترتيب غسل الأعضاء على القيام إلى الصلاة ترتيب بعضها على بعض. فإنّه لا شكّ أنّ السيّد لو قال لعبده إذا دخلت السوق فاشتر خبزًا وتمرًا لم يلزمه تقديم الخبز بل كيفما اشتراها كان ممتثلاً بشرط كون الشراء بعد دخول السوق. كما أنّه هنا يغسل الأعضاء بعد القيام إلى الصلاة.
الدلالة الثالثة: أنّ الله تعالى قال: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾ فعقب القيام بغسل الوجه بالفاء والفاء للترتيب إذ لا قائل بالترتيب في البعض.
أجيب: لا نسلّم أنّ الفاء للتعقيب وإنّما هي لجواب الشرط، وإنّما تكون للترتيب في العطف خاصّة.
2 ـ أمّا استدلالهم بالسنة:
فما رواه أنس رضي الله عنه قال: «دَعَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم بِوَضُوءٍ فَغَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً مَرَّةً وَيَدَيْهِ مَرَّةً وَرِجْلَيْهِ مَرَّةً وَقَالَ هَذَا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ، ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَقَالَ هَذَا وُضُوءٌ مَنْ تَوَضَّأَ ضَاعَفَ اللهُ لَهُ الأَجْرَ مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ دَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ ثَلاَثًا قَالَ هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي».
ووجه دلالته على المطلوب واضح إذ توضّأ عليه الصلاة والسلام مرتّبًا وفعله مبيّن لما هو واجب.
أجيب أنّ الحديث لم يذكر فيه الترتيب صراحة فلا يؤخذ ذلك من قوله فيه: فغسل وجهه مرّة ويديه مرّة ورجليه مرّة لأنّ الواو لمطلق الجمع فلا تفيد الترتيب.
وقوله صلى الله عليه وسلَّم «هَذَا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللهُ الصَّلاَةَ إِلاَّ بِهِ»، إنّما هو إشارة إلى الوضوء مرّة مرّة، كما أنّ الإشارة بذلك في الفقرتين الأخريين إنّما هو للوضوء مرّتين مرّتين؛ والوضوء ثلاثًا ثلاثًا فلا دلالة في الحديث على الترتيب ولا وجوبه.
كما استدلّوا أيضًا من السنة بالأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعة من الصحابة في صفة وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلَّم وكلّهم وصفوه مرتّبًا مع كثرتهم وكثرة المواطن التي رأوه فيها وكثرة اختلافهم في صفاته في مرّة ومرّتين وثلاثًا وغير ذلك، ولم يثبت فيه مع اختلاف أنواعه صفة مرتّبة وفعله صلى الله عليه وسلَّم بيان للوضوء المأمور به.
ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز كما ترك التَّكرار في أوقات.
أجيب أنّ حرف الواو للجمع المطلق، والجمع بصيغة الترتيب جمع مقيّد ولا يجوز تقييد المطلق إلاّ بدليل، وفعل النبيّ صلى الله عليه وسلَّم يمكن أن يحمل على موافقة الكتاب، وهو أنّه إنّما فعل ذلك لدخوله تحت الجمع المطلق حيث أنّه مرتّب وعلى هذا الوجه يكون عملاً بموافقة الكتاب. كمن أعتق رقبة مؤمنة في كفّارة اليمين، أو الظِّهار أنّه يجوز بالإجماع وهذا لا ينفي أن تكون الرقبة المطلقة مرادة من النصّ لأنّ جواز المؤمنة من حيث هي رقبة لا من حيث هي مؤمنة كذا هنا.
ولأنّ الأمر بالوضوء للتطهير وهو لا يتوقّف على الترتيب.
ـ وأيضًا ما جاء من حديث عبد خير عن عليّ فيه ذكر الترتيب صريحًا بحرف «ثمّ» الذي يفيد الترتيب والتعقيب وهو قوله صلى الله عليه وسلَّم: «لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةَ امْرِئٍ حَتىَّ يَضَعَ الطهورَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ يَدَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَهُ».
ـ أجيب أنّه حديث ضعيف لا يتمّ الاحتجاج به. قال النووي في المجموع: «ضعيف غير معروف».
ـ كما استدلّ القائلون بالوجوب بما رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه من فعله ثمّ يُسْنِد ذلك إلى النبيّ صلى الله عليه وسلَّم.
ـ وأجيب أنّه لا يدلّ على الوجوب لأنّه هو صفة فعل ترتّبت عليه فضيلة ولم يترتّب عليه عدم إجزاء الصلاة إلاّ إذا ورد بصفة، ولم يرد بلفظ يدلّ على إيجاب صفاته.
وأجيب أيضًا أنّكم نقلتم الإجماع على أنّ تقديم اليمين في الوضوء سنّة من خالفها فاته فضل، وتمّ وضوؤه ولم تقولوا بوجوب الترتيب في اليدين ولا في الرجلين واعتبرتموهما بمنزلة العضو الواحد. ومن هنا يتبيّن ضعف الاستدلال بمواظبته صلى الله عليه وسلَّم على وضوئه مرتّبًا أنّه لا يدلّ على الوجوب، وإنّما يدلّ ذلك على تأكيد السنّة لا الوجوب(8).
كما أجيب أيضًا أنّه لا ينتهض الترتيب بـ «ثمّ» على الوجوب لأنّه من لفظ الراوي، وغايته أنّه وقع من النبيّ صلى الله عليه وسلَّم على ذلك الصفة، والفعل المجرّد لا يدلّ على الوجوب.
كما استدلّ القائلون بالوجوب بحديث رواه مسلم في صحيحه أنّه صلى الله عليه وسلَّم لمّا طاف بالبيت خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَوَّفَ بِهِمَا﴾الآية، ثمّ قال: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ». ولفظ النسائي «ابْدَأُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ»، وهذا لفظ أمر قال ابن كثير : إسناده صحيح.
فدلّ على وجوب البداءة بما بدأ الله به.
أجيب عمّا رواه مسلم بأنْ قالوا: لسنا ننكر إذا صحب «الواوَ» بيانٌ يوجب التقدمة أنّ ذلك كلّه لموضع البيان، كما ورد البيان بالإجماع في قوله تعالى ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾. وهذا الحديث إنّما هو حجّة عليكم لا لكم لأنّ الواو لو كانت توجب الرتبة ما احتاج النبيّ صلى الله عليه وسلَّم أن يبيّن الابتداء بالصفا، وإنّما بيّن ذلك إعلامًا لمراد الله من الواو بذلك الموضع. كما في الحديث الذي رواه مسلم.
3 ـ الدليل من الإجماع:
نقل الإجماع ابن كثير بقوله: «إنّ الآية دلّت على وجوب غسل الوجه ابتداءً فوجب الترتيب فيما بعده بالإجماع حيث لا فارق» ـ اهـ، لأنّه ليس هناك من يقول يبدأ بالوجه أوّلاً ثمّ لا يجب الترتيب بعده.
أجيب أنّه كيف يتمّ الإجماع وهناك من خالف من عهد الصحابة والتابعين وتابع التابعين ؟!
4 ـ الدليل من القياس من وجهين:
الأوّل: كونه عبادة تشتمل على أفعال متغايرة يرتبط بعضها ببعض كالصلاة والحجّ.
والوجه الثاني: كونه عبادة تشتمل على أفعال يبطلها الحدث فوجب ترتيبها كالصلاة.
5 ـ الدليل من اللغة:
إنّ الواو للترتيب وهو مذهب الفرّاء وثعلب.
أجيب أنّ الواو لا تقتضي ترتيبًا، ومن ادّعاه فهو مكابر فلو اقتضت الترتيب لما صحّ قولهم تقاتل زيد وعمرو، كما خطّأوا قول القائل تقاتل زيد ثمّ عمرو، قال النووي: «وهو الصواب المعروف لأهل العربية وغيرهم».
إلاّ أنّ ابن كثير قال: «ثمّ نقول بتقدير تسليم كونها لا تدلّ على الترتيب اللغوي هي دالّة على الترتيب شرعًا فيما من شأنه أن يرتّب».
أمّا الفريق الثاني فقد استدلّ على ما ذهبوا إليه من استحباب الترتيب لأعضاء الوضوء على نسق الآية بالكتاب والسنة والأثر والقياس والاستصحاب واللغة والمعقول.
1 ـ الكتاب:
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلىَ المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَْجُلَكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ﴾ الآية.
وجه الدلالة من الآية: أنّ الله عزّ وجلّ عقب القيام إلى الصلاة بغسل مجموع الأعضاء، لأنّه عطف بعضها على بعض بحرف الواو، وهي لا تقتضي الترتيب ولا يمكن التعبير عنها مفصلة إلاّ بذكر اسم كلّ واحد منها فوقع ذكر الأوّل من ضرورة التفضيل، فكيفما غسل المتوضّأ أعضاءه كان ممتثلاً للأمر، فكأنّه قال: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء وهذا يمنع الترتيب، ونظيره قول القائل: إذا دخلت السوق فاشتر الخبز واللحم والفاكهة، فإنّ ذلك لا يقتضي تقديم ما بدأ به وإنّما ينبغي تحصيلها مجموعة.
2 ـ أمّا استدلالهم من السنة:
فإنّ الأحاديث الصحيحة المستفيضة عن جماعة من الصحابة في صفة وضوء النبيّ صلى الله عليه وسلَّم حين وصفوه مرتّبًا.
فمواظبة النبيّ صلى الله عليه وسلَّم على الترتيب لدليل قاطع على أنّه سنة مؤكّدة، لأنّهم إنّما يحكون وضوءه صلى الله عليه وسلَّم الذي هو دأبه وعادته.
وهذا لقرينة دالّة على ذلك، وهو ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلَّم من:
أ/ حديث المقدام بن معد يكرب قال: «أَتَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ ثَلاَثًا ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلاَثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا». رواه أحمد في مسنده (132/4) وأبوداود في سننه (88/1) بإسناد صحيح. قال الشوكاني: في نيل الأوطار (125/1) «إسناده صالح».
ب/ حديث الربيع بنت معوذ بن عفراء قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يَأْتِينَا فَحَدَّثَتْنَا أَنَّهُ قَالَ: «اسْكُبِي لِي وَضُوءً، فَذَكَرَتْ وُضُوءَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم قَالَتْ فِيهِ، فَغَسَلَ كَفَّيْهِ ثَلاَثًا وَوَضَّأَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مَرَّةً وَوَضَّأَ يَدَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مُرَتَّبًا يَبْدَأُ بِمُؤَخَّرِ رَأْسِهِ ثُمَّ بِمُقَدَّمِهِ، وَبِأُذُنَيْهِ كِلْتَيْهِمَا ظُهُورِهِمَا وَبُطُونِهِمَا وَوَضَّأَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا». رَوَاهُ أَبُو دَاودَ فِي سُنَنِهِ (90/1).
وجه الدلالة منهما، أنّ الحديثين يدلاّن على أنّه صلى الله عليه وسلَّم لم يلتزم الترتيب في بعض المرّات، فهذا دليل على أنّ الترتيب غير واجب ولا مقصود في الآية، ومحافظته صلى الله عليه وسلَّم عليه في غالب أحواله دليل على سنّيّته.
أجيب: أنّ حديث المقدام بن معد يكرب روايته شاذّة لا تعارض الرواية المحفوظة التي فيها تقديم المضمضة والاستنشاق على غسل الوجه.
قال ابن تيمية: «وعلى فرض صحّته فإنّه لو قيل بسقوط الترتيب بالعذر لتوجّه، وأنّ تاركهما لم يعلم وجوبهما فكان معذورًا بالترك فلم يجب الترتيب في ذلك، كمن ترك غسل وجهه أو يديه لجرح أو مرض وغسل سائر أعضاء الوضوء ثمّ زال العذر قبل انتقاض الوضوء فهذا إذا قيل يغسل ما ترك أوّلاً ولا يضرّه ترك الترتيب كان متوجّهًا على هذا الأصل، بخلاف من لم يعذر كمنكس الأعضاء الظاهرة».
رُدَّ قول صاحب عون المعبود بأنّ ”حديث المقدام روايته شاذّة“ فالظاهر من كلامه هذا أنّه لا يقصد الشذوذ الاصطلاحي عند المحدّثين وإنّما قصد الشذوذ اللغويّ ـ وهو كلّ ما انفرد به عن الجمهور، لأنّ الشاذّ عند المحدّثين هو أن يروي الثقة حديثًا يخالف من هو أوثق منه لفظًا وأكثر ضبطًا وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره.
وحديث المقدام أخبر بما لم يخبر به غيره من الصحابة رضي الله عنهم فيكون من علم وحفظ حجّة على من لم يعلم أو يحفظ.
وله متابع من حديث الربيع بنت معوذ، وتكون الأحاديث الصحيحة المستفيضة في حكاية فعل النبيّ صلى الله عليه وسلَّم في الوضوء حيث وصفت وضوءه مرتّبًا إنّما هو بيان لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلىَ الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم﴾ الآية.
والقاعدة الأصولية تنصّ على أنّ ما كان من أفعاله عليه الصلاة والسلام بيانًا للكتاب فهو متمّم له ويكون حكمه كحكم ما بيّنه، ولمّا كان الوضوء واجبًا فالأصل أنّ جميع أفعاله صلى الله عليه وسلَّم المنقولة في بيان كيفية الوضوء واجبة، لأنّ بيان الواجب واجب، وأكّد هذا قوله صلى الله عليه وسلَّم لمّا توضّأ مرّة مرّة ثمّ قال: «هَذَا وُضُوءٌ لاَ يَقْبَلُ اللهُ صَلاَةً إِلاَّ بِهِ»، إلاّ أنّ هذا ليس على وجوبه لوجود قرينة صارفة عنه وهما حديثا المقدام والربيع.
3 - الدليل من الأثر:
وذلك ما روى عبد الله بن عمرو بن هند قال قال عليّ رضي الله عنه: «ما أبالي إذا أتممت بأيّ أعضائي بدأت» عنَى بذلك عدم المبالاة من تقديم بعض أعضاء الوضوء على بعض، فلا يدلّ ذلك على نفي استحباب غسل اليمين قبل الشمال.
أجيب أنّ الدارقطني قال: «إنّ في سنده عوفًا ليس بقويّ».
وعن عبد الله بن مسعود أنّه قال: «لا بأس أن تبدأ برجليك قبل يديك».
أجيب أنّ الدارقطني قال: «هذا مرسل لا يثبت».
وعن عبد الله بن مسعود أنّه سئل عن رجل توضّأ فبدأ بمياسره فقال: «لا بأس صحيح».
أجيب أنّه إنْ ثبث وصحّ عن ابن مسعود هذا فإنّه لا حجّة في أحد مع القرآن إلاّ في الذي أمر ببيانه وهو رسول الله صلى الله عليه وسلَّم.
4 - الدليل من القياس في ثلاثة أوجه:
(1) قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتىَّ تَغْتَسِلُوا وَإِن كُنتُم مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا﴾[النساء الآية:43].
وقال تعالى:﴿فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِنْهُ﴾[المائدة:الآية 6].
فبدأ بالوجه قبل اليدين وقع في البخاري من حديث عمّار في باب التيمّم ضربةً، ذكر اليدين قبل الوجه فهو قياس على تنكيس الوضوء.
وفي رواية عن عمّار بن ياسر رضي الله عنه قال: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا فَضَرَبَ بِكَفِّهِ عَلَى الأَرْضِ ثُمَّ نَفَضَهَا ثُمَّ مَسَحَ بِهَا ظَهْرَ كَفِّهِ بِشِمَالِهِ أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ ثُمَّ مَسَحَ بِهَا وَجْهَهُ…» الحديث.
قال ابن حجر: «فيه أنّ الترتيب غير مشترط في التيمّم».
فمتى سقط اشتراطه في التيمّم سقط في الوضوء إذ لا قائل بالفرق.
(2) أنّ الوضوء طهارة من حدث فلم يجب فيها ترتيبٌ قياسًا على غسل الجنابة لأنّه بالإجماع ألاّ ترتيب في غسل أعضاء الجنابة، فكذلك غسل أعضاء الوضوء، لأنّ الْمَغيّ أو الغاية في ذلك الغسل لا التبدية.
أجيب عن قياسهم على غسل الجنابة أنّه قياس مع الفارق لأنّ جميع البدن للجنب شيء واحد فلم يجب ترتيبه كالوجه بخلاف أعضاء الوضوء فإنّها متغايرة متفاضلة.
والدليل على أنّ بدن الجنب شيء واحد أنّه لو جرى الماء من موضع منه إلى غيره أجزأه كالعضو الواحد في الوضوء بخلاف الوضوء فإنّه لو انتقل من الوجه إلى اليد لم يجزه.
(3) وذلك قياسًا على تقديم اليمين على الشمال.
وأجيب عن هذا القياس من وجهين:
الأوّل: أنّ الله تعالى رتّب الأعضاء الأربعة وأطلق الأيدي والأرجل ولو وجب ترتيبهما لقال وأيمانكم.
الوجه الثاني: أنّ اليدين كعضو واحد لانطلاق اسم اليد عليها فلم يكن فيها ترتيب كالخدّين بخلاف الأعضاء الأربعة فإنّها متغايرة منفصلة بعضها عن بعض.
أمّا استدلال القائلين بعدم وجوب الترتيب بالاستصحاب، وذلك أنّ الأصل لا تكليف فلا حاجة إلى إقامة الدليل على عدم الافتراض وإنّما مدّعيه هو الذي مطالب به.
5 ـ أمّا استدلالهم بالمعقول:
فإنّ الله عزّ وجلّ قدّم الوجه على اليدين واليدين على الرأس والرأس على الرجلين، كما قدّمت اليمنى على اليسار، وذلك أنّ أعضاء الوضوء انقسمت إلى مكشوف غالبًا، وهو الوجه واليدان وإلى ما يتّخذ له ساتر على حِياله وهو الرأس والرجلان فكانت البداءة بالوجه واليدين أولى لتعرّضهما للتلويث ؛ والوجه أشرفهما ثمّ قدّم الرأس على الرجلين لأنّه أشرف المستورين وكلّ هذا على سبيل الاستحباب.
القول الراجح :
بعد عرض أدلّة الفريقين مع بيان أوجه دلالتها تبيّن أنّ الواو لا توجب رتبة حتى قال الإمام الجويني: «ومن ادّعى أنّها توجب رتبة فهو مكابر» وصوّبه النووي.
وأيضًا لا يمكن أنّه إذا صحب الواو بيان يوجب التقدمة كما ورد البيان بالإجماع في قوله تعالى: ﴿ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا﴾ وفي قوله تعالى أيضًا: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللهِ﴾ الآية، جاء البيان قي قوله صلى الله عليه وسلَّم فيها: «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ»، فوجب ذلك كلّه لموضع البيان.
أمّا الاحتجاج بعموم قوله صلى الله عليه وسلَّم «نَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِه» به على وجوب الترتيب، فنقول هذا يتوجّه لو لم يصحّ حديث المقدام وحديث الربيع بنت معوذ، وعليه يحمل كلام القائلين بوجوب الترتيب إذ قال: إنّ الوضوء يغلب فيه التعبّد والاتّباع، لأنّا إذا أوجبنا الترتيب في الصلاة للاتّباع مع أنّنا نعلم أنّ المقصود منها الخشوع والابتهال إلى الله تعالى فلم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلَّم ولا أحد من أصحابه رضي الله عنهم تنكيس الوضوء ولا التخيير فيه والتنبيه على جوازه. ولم يؤثر عن فعل علماء المسلمين وعامّتهم إلاّ الترتيب، كما لم ينقل في أركان الصلاة إلاّ الترتيب وطريقهما الاتّباع، أمّا مع صحّة حديثي المقدام والربيع الذين هما نصّ في عدم وجوب الترتيب مطلقًا فإنّ الطريقة المثلى هي الجمع بين هذه الأحاديث فيقال: إنّه صلى الله عليه وسلَّم أخّر المضمضة في هذين الحديثين لبيان الجواز فيكون هذا في حكم المخصّص لما تقدّم في الترتيب بين أعضاء الوضوء. وهذا ما قاله الشوكانيّ وغيره من أصحاب القول الثاني.
ومع هذا كلّه ينبغي على المتوضّئ أن يحسن وضوءه كما قال عليه الصلاة والسلام: «لاَ يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَيُحْسِنُ الوُضُوءَ فَيُصَلِّي صَلاَةً إِلاَّ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَابَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ الَّتِي قَبْلَهَا» رواه مسلم، وهو أن يأتيَ به تامًّا بكمال صفته وآدابه وأن يحرص على الاعتناء بتعلّم آداب الوضوء وشروطه والعمل بذلك والاحتياط فيه.
وأيضًا الحرص على أن يتوضّأ على وجه يصحّ عند جميع العلماء ولا يترخّص بالاختلاف، فينبغي أن يحرص على التسمية والنية والمضمضة والاستنشاق والاستنثار واستيعاب مسح الرأس ومسح الأذنين ودَلْك الأعضاء والتتابع في الوضوء وترتيبه وغير ذلك من المختلف فيه وتحصيل ماء طهور بالإجماع.
والله تعالى أعلم.
(1) انظر: «اللسان» لابن منظور (1117/2)، «أساس البلاغة» (ص:153)، و «مختار الصحاح» (ص 18).
(2) انظر: «المجموع شرح المهذّب» للنووي (443/1)، و«الاشراف» لابن المنذر (111/1).
(3) انظر: «المغني» لابن قدامة (156/1)، و«الإنصاف» للمرداوي (138/1).
(4) انظر: «المقدّمات» لابن رشد الجدّ (17/1)، و«البداية» لابن رشد الحفيد (75/1،290).
(5) انظر: «المبسوط» للسرخسي (55/1)، و«البدائع» للكاساني (21/1)، و«المختصر» للطحاويّ (ص 18).
(6) انظر: «المقدّمات» لابن رشد الجدّ (16/1)، و«البداية» لابن رشد (75/1)، و«التفريع» لابن جلاّب (192/1)، و«تهذيب المسالك» للفندلاوي (68/1).
(7) انظر: «المجموع» للنووي (443/1) و«الإشراف» لابن المنذر (111/1).
(8) انظر: «البيان والتحصيل» لابن رشد (119/1).
المصدر