• [ مسابقة الماهر بالقرآن ]: هنيئا لأختنا فاطمة عليليش "Tama Aliche" الفوز بالمركز الأول في مسابقة الماهر بالقرآن التي نظمت من قبل إذاعة جيجل الجهوية وتحت إشراف مديرية الشؤون الدينية والأوقاف لولاية جيجل. ونيابة عن كافة أعضاء وطاقم عمل منتدى اللمة الجزائرية نهنئك بهذا الفوز فألف ألف ألف مليوون مبروك هذا النجاح كما نتمنى لك المزيد من النجاحات والتوفيق وأن يكون هذا الإنجاز إلا بداية لإنجازات أكبر في المستقبل القريب بإذن الله. موضوع التهنئة

أهمية عقيدة القضاء والقدر

ابو ليث

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
8 جانفي 2010
المشاركات
10,466
نقاط التفاعل
10,287
النقاط
356
محل الإقامة
الجزائر
[font=&quot] أهمية عقيدة القضاء والقدر [/font]


موضوع القضاء والقدر موضوع مهم؛ لأنه يتعلق بحياة جميع الناس، فما من إنسان يعيش في هذه الحياة، ويسير في مناكبها على أي ديانة كان، وفي أي اتجاه اتجه في حياته العملية أو العقدية أو غيرها؛ إلا وقضية القضاء والقدر عنده من القضايا التي تشغل باله في كل وقت. ومن ثم فإن الله تبارك وتعالى بين لنا هذه المسألة في كتابه أتم بيان، كما أوضحها لنا رسوله صلى الله عليه وسلم على منهج صحيح. وأول ما يتبادر إلى الذهن حول أهمية القضاء والقدر أنه من أركان الإيمان، ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن الإيمان أجاب بالأركان الستة، وختمها بالإيمان بالقدر خيره وشره. والله تبارك وتعالى أخبرنا في كتابه العزيز أنه خلق كل شيء وقدره، وأن كل ما يجري في هذا الكون فهو بتقديره تبارك وتعالى على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ومن هنا فإن أركان الإيمان وما يتعلق بهذه الأركان من الأمور التي ينبغي لكل مسلم أن يتدبرها وأن يتعلمها وأن يتعمق فيها، وأن يكون إدراكه لها إدراك العالم البصير، وخاصة طلاب العلم؛ لأننا نجد جميع المسلمين -والحمد لله- يؤمنون بهذه الأركان، ولكن الإيمان المبني على الفهم الصحيح من الأدلة نجد الناس يتفاوتون فيه.
ومهمة طالب العلم والداعية إلى الله سبحانه وتعالى هو ألا يكون إيمانه بهذه الأركان إيمان معرفة مجردة، وإنما يكون إيمانه بها بفهم دقيق عميق بحيث يكون داعية إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ضمن ما يدعو إليه أن يبين للناس هذه الأركان، وأن يوضح ما يتعلق بمقتضياتها، وما يتعلق بآثارها في حياة الإنسان .. إلى آخره. وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن فهم العقيدة بأدلتها، وفهم منهج السلف رحمهم الله تعالى بأدلتهم ومنهجهم أمر آخر غير الإيمان المجرد الذي ربما يؤمن به الإنسان وهو سائر في حياته، فحينما يأتي إنسان ملحد أو ضال أو منحرف ليعرض انحرافه أو شبهته، ففي هذه الحالة لا يتمكن من الرد عليه ودحر باطله وبيان الحق من الباطل فيما يقول إلا من تعمق بدراسة العقيدة الإسلامية من جميع جوانبها، وفهمها بأدلتها على منهج السلف الصالح رحمهم الله تعالى.
فحينما نقول: إن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، فالمقصود أن على المسلمين وعلى الدعاة إلى الله منهم خاصة وطلاب العلم أن يفقهوا هذا الركن وغيره على وفق فقه السلف.
كثرة الانحرافات في باب القضاء والقدر:
مسألة القضاء والقدر من المسائل التي كثرت فيها الانحرافات، وتعددت فيها أقوال الطوائف، فصار بيان الحق من الباطل فيها مهماً، لو نظرنا إلى ما قبل الإسلام مثلاً لوجدنا أن الفلاسفة والوثنيين بل ومشركي العرب كل منهم خاضوا في مسألة القضاء والقدر، حتى إن مسألة الاحتجاج بالقدر التي نسمعها إلى الآن لو تأملنا في كتاب الله تعالى لوجدنا أن المشركين قد احتجوا بالقضاء والقدر على شركهم: ((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا ))[الأنعام:148]، فربطوا شركهم بالقدر، واحتجوا بالقدر على شركهم، ولا شك أن حجتهم باطلة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. جاءت رسالة الإسلام، ونزل القرآن العظيم على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وفهم الصحابة العقيدة الفهم السليم؛ لأنهم حضروا التنزيل، وشافهوا الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقوا عنه، ثم جاء بعدهم من يتكلم بلا علم في قضايا العقيدة ومنها: قضية القضاء والقدر.
ولقد حدثت انحرافات خطيرة جداً في القرن الأول في أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم، واستمر الانحراف والتفرق في موضوع القضاء والقدر، وظهرت الطوائف التي لاكته على حسب معتقداتها ومسلماتها فنشأ انحراف خطير. وفي العصر الحاضر نجد أن الفلسفات المعاصرة كلها تجعل قضية القضاء والقدر من قضاياها الأساسية، التي تبلور بها ومن خلالها مناهجها وفلسفاتها، فهناك أصحاب مبدأ الحتمية، والجبرية، وهناك أصحاب مذهب الحرية التامة، وهكذا. كل صورة في عصر من العصور نجد في السابق ما يشابهها، فلما كثرت الانحرافات في هذا الباب كان لزاماً بيان الحق في هذه المسألة، وبحثها على وفق منهج السلف رحمهم الله تعالى.
الشرع مرتبط بالقدر
الإيمان بالقضاء والقدر ليس من الأمور الخبرية التي يسلم بها الإنسان أو لا يسلم بها وفقط، وإنما هو من الأمور التي لا تنفك عن حياة الإنسان العملية، بمعنى: أن الشرع مرتبط بالقدر، وكل من اختل فهمه في عقيدة القضاء والقدر سيختل توازنه في تطبيقه لقضية الأمر والنهي والشرع الذي شرعه الله تبارك وتعالى، وهذا نحسه ونلمسه دائماً من أولئك الذين يحتجون بالقدر أحياناً.
فقضية القضاء والقدر من القضايا المرتبطة ارتباطاً متيناً بقضية ما سيفعله الإنسان، أو ما أمر به وما نهي عنه على مقتضى الشريعة الإسلامية.
ومن هنا كان أولئك الذين يحتجون بالقضاء والقدر أول ما يحتجون به على انحرافهم في اتباع الأمر والنهي، فلما كانت قضية القضاء والقدر قضية عقدية مرتبطة بقضية الشرع وحياة الإنسان العملية، بل واستقراره النفسي في سيره إلى ربه تبارك وتعالى؛ كان من المهم ألا نترك مثل هذه القضية وأن نعرض لها على وفق منهج سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى.
حكم الخوض في القدر :
بعض الناس قد يقول: إن الخوض في القدر هو خوض فيما لا علم للإنسان به، ويقولون: إن القدر سر من أسرار الله، وينبغي الكف عن البحث فيه، ويحتجون لذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ثوبان رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا، وإذا ذكر القدر فأمسكوا) وهذا الحديث رواه الطبراني وغيره، وهو حديث حسن بمجموع طرقه. والعلماء الذين عرضوا لمثل هذه القضية اختلفوا فيها إلى منهجين أو طريقتين: فبعضهم ظن أن دلالة هذا الحديث تقتضي أنه يجب الإمساك عن القدر تماماً، وأنه يجب الكف عن الخوض والكلام فيه، وقال: إن هذا مهم جداً لمن آثر السلامة.
وبعضهم قال: يجوز الخوض في القدر والكلام فيه، وضعف هذه الأحاديث. والذي نرجحه أن هذه الأحاديث تصل بمجموع طرقها إلى درجة الحسن، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم فيها هو نهي واضح لا ينصب على بحث القدر على المنهج الصحيح؛ لأن الإيمان بالقضاء والقدر من أركان الإيمان، وجاءت فيه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وردت فيه آيات كثيرة في القرآن العظيم، فهل معنى ذلك أننا منهيون أن نبحث في معاني هذه الآيات وهذه الأحاديث؟ الجواب: لا، بل إن في الحديث ما يدل على مسألة القضاء والقدر وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: (إذا ذكر أصحابي فأمسكوا)، فما معنى وجوب الإمساك عن ذكر الصحابة؟ هل معنى ذلك أننا لا نتحدث عن الصحابة وأنسابهم وأسمائهم وجهادهم وأحوالهم وأقوالهم .. إلى آخره؟! لا، بل الواضح أن المقصود بذلك: إذا ذكر الصحابة بباطل، وصار الناس يخوضون فيهم بين مخطئٍ لهم وقائل فيهم بما لا يجوز، وخاصة ما جرى بينهم رضي الله عنهم وأرضاهم؛ فواضح جداً أن هذا من الخوض الذي لا يجوز، وقد كان سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى إذا ذكروا مثل هذه القضايا المتعلقة بالصحابة يقولون: تلك دماء طهر الله منها أيدينا فيجب أن نطهر منها ألسنتنا، فلا نخوض فيهم بالباطل. كذلك أيضاً القضاء والقدر، فمعرفته، ومعرفة الأدلة حوله، وأنه ركن من أركان الإيمان، وما يقوي الإيمان فيه، هذه من المسائل المتعلقة بالقدر التي يجوز الخوض فيها، بل مما يزيد الإيمان فيها أن يدرسها الإنسان ويتعمق فيها. لكن إذا جاء خائض ليخوض في باب القدر بالباطل، ويأتي ليقول: لماذا قدر الله؟ لماذا كذا؟ لماذا كذا؟ ثم يأتي محتجاً ومعترضاً . . إلى آخره، ففي هذه الحالة ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وإذا ذكر القدر فأمسكوا).
 
الهدف من دراسة قضية القضاء والقدر وفهمها
بعض الناس قد يظن أن بحث مسألة القضاء والقدر لا يكون إلا حينما يراد للأمة الاستكانة والخضوع، بمعنى: أنه إذا ابتليت الأمة بالمصائب، وتسلط عليها الأعداء من كل جانب، وصار المسلمون ضعفاء، فمن الأنسب أن نقول لهم: ما جرى إنما هو بقضاء الله وقدره، وعليكم أن تؤمنوا بالقضاء والقدر، وهذا الأمر لا يمكن أن ينفك عنكم أبداً .. إلى آخره، كما حكي عن بعض الناس أنه قال مثل هذا الكلام إبان الحروب الصليبية، فلما هجم الصليبيون على العالم الإسلامي تلك الهجمة الشرسة قال بعضهم: إن هذا من القضاء والقدر، وما دام أنه من القضاء والقدر فيجب أن نستسلم له! ونحن نقول: إن بحثنا لمثل هذه القضية، وفي مثل هذه الظروف التي تمر بالأمة الإسلامية، ليس مقصده شيئاً من هذا، بل العكس تماماً؛ لأن الإيمان بالقضاء والقدر والفهم الصحيح له هو الذي يحول الإنسان من إنسان متبلد إلى إنسان مقدام شجاع، وهذه مسألة سنعرض لها؛ لأن بعض مسائل العقيدة أحياناً تفهم على غير وجهها مثل: مسألة المهدي ، ونزول عيسى، فإذا درست أحاديث المهدي ومجيئه في آخر الزمان، وأنه يملأ الأرض عدلاً، ثم ينزل عيسى ويقتل الدجال .. إلخ، يتبلور في أذهان بعض الناس أنه ينبغي أن ينتظر المهدي، وينتظر نزول عيسى ابن مريم، وأن علينا أن نسكت، وأن الدنيا لا تزيد إلا ظلماً، والاستسلام هو الأولى، والسكوت هو الأولى، وعليك بخويصة نفسك .. إلى آخره!
نقول: هذا من الفهم الخاطئ لقضية المهدي ولمسألة نزول عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخبرنا بهذا، والصحابة الذين فهموا هذا، هل جاء في أذهانهم مثل هذه المفاهيم؟! لا، بل عملوا في حياتهم على مقتضى شرع الله؛ لتغيير الواقع، وللنهوض بالأمة الإسلامية بحسب جهدهم وبحسب مقدرتهم، ووفقهم الله سبحانه وتعالى؛ لأنهم كانوا مخلصين في مقاصدهم، وكانوا أيضاً متبعين لشرع الله تعالى في أعمالهم وفي مناهجهم. ومن هنا تجد أن قضية القضاء والقدر عند بعض العلماء لا يمكن أن تمر في ذهنه أنها تدعوه إلى الكسل والتواني، سواءً كان هذا على مستوى الفرد أو على مستوى الأمة، حتى إن عبدالقادر الجيلاني يؤثر عنه أنه قال: ليس الرجل الذي يسلم للأقدار -أي: يستسلم- وإنما الرجل الذي يدفع الأقدار بالأقدار. وهذه قضية واضحة جداً.
كل منا لو نظر في حياته لوجد أنه مضطر إلى هذا، فإذا كنت في أمورك العادية تدفع الأقدار بالأقدار حتى قدر الجوع تدفعه بقدر آخر وهو الأكل، وقدر العطش تدفعه بقدر آخر وهو الشرب والري، وهكذا. كذلك قدر المعصية إذا وقعت تصبح قدراً فإنك تدفعها بقدر آخر وهو الطاعة والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى كما سيأتي.
الطرق الصحيحة في دراسة مسائل القضاء والقدر
من المسائل المتعلقة بالمقدمات المتعلقة بقضية القضاء والقدر هي المنهج الصحيح لدراسة القضاء والقدر. مسألة المنهج الصحيح لدراسة القضاء والقدر يجب أن تدرس دراسة مستقلة؛ لأنها تتعلق بالقضاء والقدر وبغيره، وكل خلط وانحراف في هذا الباب وفي غيره من أبواب الإيمان إنما منشؤه الخلط في المنهج، وانظروا إلى الفرق الإسلامية التي انحرفت، وانظروا إلى المذاهب المعاصرة التي انحرفت، فستجدوا من أسباب انحرافها أن منهجها في تلقي هذه العقيدة وفي فهمها منهج خاطئ. ومن هنا فإنني لن أشير مطيلاً في هذه القضية؛ لأنها قضية تحتاج إلى محاضرات مستقلة، والحمد لله فإن هناك كتيبات وهناك محاضرات تبين مثل هذه المسألة، ولكن الذي أود أن أشير إليه في باب القضاء والقدر هو ثلاثة أمور في المنهج:
الأمر الثالث المتعلق بمنهج دراسة القضاء والقدر: أن الدارس المتفهم لهذه القضية يجب عليه أن يربطها ربطاً تاماً بربه تبارك وتعالى، يربطها بعدل الله، وحكمة الله، ورحمة الله، وصفات الله تبارك وتعالى، فقضية القضاء والقدر مرتبطة بصفات الله تبارك وتعالى الكاملة، فهو سبحانه وتعالى له الكمال المطلق في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته، فلا ينبغي لإنسان يدرس هذه القضية وكأنه يجعل ربه تبارك وتعالى في قفص الاتهام كواحد من البشر، سبحان الله عما يصفون، بل يجب عليه أن ينظر إلى المسألة من منظار أنه عبد وأن الله رب، وأن يعرف جيداً أن هذه القضايا متعلقة بأسماء الله تعالى وصفاته وكماله، والله تبارك وتعالى هو الذي أحاط بكل شيء علماً، وهو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم سبحانه وتعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]. وهو سبحانه الذي أراد أن ينشئ هذا الكون، وأن يوجد هذا الإنسان، وهو الذي اقتضت إرادته أن تنتهي هذه الدنيا، وأن تنكدر النجوم، وتتشقق السماء، وتكور الشمس، وأن يتغير العالم، هو الذي أراد ذلك، وهذا أمر كائن لا محالة، فلننظر إلى هذه المسألة من منظار العقيدة الصافية المفهومة فهماً صحيحاً، وخاصة ما يتعلق منها بأسماء الله تبارك وتعالى وصفاته.
الأخذ من الكتاب والسنة
الأمر الأول: أن عقيدة القضاء والقدر يجب أن تؤخذ من الكتاب والسنة أولاً، ويستعان بما كتبه علماء الإسلام في فهم ما جاء في الكتاب والسنة، بمعنى: أن الإنسان الذي يريد أن يفهم هذه القضية فعليه أن ينطلق من هذا المنطلق، قراءة الكتاب العزيز وتفسيره، وقراءة سنة النبي صلى الله عليه وسلم وفهمها بحيث يستنتج الإنسان في النهاية استنتاجاً متلائماً مترابطاً حول هذه القضية، التي هي قضية القضاء والقدر؛ لأن مسألة القضاء والقدر من المسائل التي كثر الخوض فيها من جانب الفلاسفة ومن جانب المتكلمين، خاض الفلاسفة فيها جميعاً، خاض فيها الصوفية على مختلف أصنافهم، خاض فيها المتكلمون من معتزلة وأشاعرة، خاض فيها مختلف الطوائف من الفرق كالروافض والزيدية وغيرهم، كل خاض في هذه القضية، وهذه الكتب تجد منهجها توجيه هذه القضية توجيهاً منحرفاً، وأقرب مثال على ذلك، من هم أقرب الناس إلى أهل السنة والجماعة، وهم الأشاعرة والماتريدية، لو جئت إلى قضية القضاء والقدر لوجدت أن مناهجهم فيها كثير من الخلط، ولم تصف لهم هذه المسألة؛ لأنهم عندما واجهوا المعتزلة في بعض القضايا أدى بهم الأمر إلى أن يقعوا في الطرف الآخر من المسألة، بينما المنهج الحق هو الوسط لا هذا ولا هذا، وستأتي الإشارة إلى أشياء من هذا إن شاء الله تعالى. إذاً: على الإنسان أن يرجع أولاً إلى الكتاب والسنة في العقيدة عموماً، وفي قضية القضاء والقدر خصوصاً.
الأمر الثاني: أن هناك مجالاً في باب القضاء والقدر لا مدخل للإنسان فيه أبداً، وهو الذي سماه بعض العلماء: سر القدر، قال الطحاوي رحمه الله تعالى: والقدر سر الله لم يطلع عليه ملك مقرب ولا نبي مرسل، هذه القضية يجب أن نعرفها وأن نؤمن بها؛ لكن لا يجوز أن نضعها في غير محلها كما يفهم البعض، مدار قضية أن القدر سر الله، وأن في القدر ما لا يمكن للإنسان أن يبحث فيه: هو التقدير الأزلي من الله سبحانه وتعالى، وهو أن الله تبارك وتعالى هو الذي اختار أن يوجد الناس في هذه الحياة على الابتلاء: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [هود:7] .. وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء:35]. لأن السائل قد يسأل هنا ويقول: لماذا لم يجعلهم الله مهتدين؟ والله تعالى أجاب عن ذلك في كتابه العزيز فقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، لو أراد الله سبحانه وتعالى لجعل الناس كلهم مؤمنين مثل الملائكة: لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]، ولكن الله -وهو الذي له المشيئة المطلقة- أراد ذلك لحكمٍ كثيرة، أراد الله أن يوجد البشر على هذه الأرض، وأن يكونوا مكلفين، وأن يكون منهم أهل استقامة واتباع؛ ليكونوا يوم القيامة من أهل الجنة، وطائفة أخرى أهل انحراف وكفر؛ ليكونوا يوم القيامة من أهل السعير. فمن قال: لماذا لم يجعل الله الناس كلهم مهتدين؟ مثل من جاء ليقول: لماذا لم يجعل الله الأرض على هذا الشكل؟ هذا سؤال لا نسأله نحن، وسيأتي إن شاء الله ما يبين أن الإيمان بهذه القضية من المواطن المهمة جداً لسلامة قلب الإنسان واستقراريته، وبقيت قضايا أخرى تتعلق بمشيئة الإنسان، وهل له حجة على الله؟ وهذه مسائل واضحة تمام الوضوح كما سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. إذاً: على الإنسان ألا يعترض على أصل المشيئة الإلهية، بمعنى: لا يأتي قائل يقول: لماذا أغنى الله هذا وأفقر هذا؟ لماذا هذا يعيش إلى مائة سنة وذاك يعيش عشر سنوات فقط أو عشرين أو ثلاثين؟ لماذا الله تبارك وتعالى أضل وهدى، وجعل الناس صنفين؟ هذه من الأسئلة التي هي موطن سر القدر، والقدر متعلق بمشيئة الله تبارك وتعالى النافذة.
تعريف القضاء والقدر لغة واصطلاحاً
بعد هذه المقدمات الأربع ننتقل إلى المسألة الأولى من المسائل التي نحب أن نبينها، ألا وهي: مسألة تعريف القضاء والقدر، ولا نريد أن نخوض في المعاني اللغوية لمسألة معنى كلمة قضى، ومعنى كلمة قدر، وإنما أحب أن أشير هنا إلى كتاب ابن فارس الذي يسمى بمعجم مقاييس اللغة، وهو من أهم الكتب التي جمعت بين فقه اللغة وبين معنى اللغة، ومعاني الكلمات، فهو يحرص دائماً على بيان علاقة الحروف بالكلمة. ومن هنا فإنني سأشير إشارة صغيرة إلى قول ابن فارس في معنى كلمة قضى حيث قال: القاف والضاد والحرف المعتل أصل صحيح يدل على إحكام أمر وإتقانه وإنفاذه لجهته، وهذا المعنى واضح الدلالة جداً في علاقته بالقضاء والقدر، وإن كان القضاء والقدر له معانٍ أخرى معروفة كثيرة: فيأتي بمعنى الأمر قال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ [الإسراء:23] أي: أمر. ويأتي بمعنى الحكم كما في قوله تعالى: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه:72] في قصة سحرة فرعون، أي: احكم ما أنت حاكم، ما أنت تريد. ويأتي بمعنى الفراغ كما قال الله تعالى: فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:12] أي: أنه سبحانه وتعالى فرغ من خلقهن وتسويتهن. ويأتي بمعنى الأداء تقول: قضى فلان صلاته، أي: أداها يقول سبحانه: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200] أي: إذا أديتم مناسككم. ويأتي بمعنى الإعلام كما في قول الله تعالى: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ [الإسراء:4]، أي: أوحينا وأخبرنا وأعلمنا .. إلى آخر المعاني التي هي معروفة في اللغة العربية. ولكن الذي يهمنا في هذا أن مجمل هذه المعاني ذات ارتباط بالمعنى الأساسي الذي نريده، وهو أن معنى كلمة القضاء مرتبطة بالقدر، فهي دالة على أن الله سبحانه وتعالى قضى هذا الأمر وفرغ منه، ودالة على أن الله أحكم هذا الأمر ونفذه، ودالة على أن الله سبحانه وتعالى قد قدر أن يجري قضاءه كما قدره سبحانه وتعالى. وكذلك كلمة القدر يقول فيها ابن فارس في كتابه المهم معجم مقاييس اللغة: القاف والدال والراء أصل صحيح يدل على مبلغ الشيء ونهايته. ومن هنا فإن القدر يطلق على الحكم والقضاء كما في حديث الاستخارة الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي آخره يقول الداعي: (فاقدره لي ويسره لي). وحينما يحرك الدال: (قَدَر) يكون بمعنى الطاقة، كما قال تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236]. ويأتي القدر بمعنى التضييق كما في قول الله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء:87]، في قصة يونس، أي: ظن أن لن نضيق عليه.
وأيضاً يأتي من التقدير كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (فإن غم عليكم فاقدروا له)، ويوضحه الرواية الأخرى: (فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً). فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) أي: قدروا له عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً، وهذا يتعلق بمسألة فقهية معروفة.
إذاً : إذا نظرنا إلى المعاني اللغوية للقضاء والمعاني اللغوية للقدر نجد أن لها علاقة واضحة بمعنى القضاء والقدر الذي نحن بصدده.
فإذا كان هذا معناهما لغة فما معناهما اصطلاحاً؟ لم يرد تعريف مستقل دقيق لهذا، وإنما جمع العلماء رحمهم الله تعالى ما يتعلق بالأشياء التي يجب الإيمان بها في باب القضاء والقدر، وبينوا من خلالها معنى القضاء والقدر.
ومن هنا فيمكن أن نقول: إن المقصود بالقضاء والقدر: هو تقدير الله تعالى الأشياء في القدم، وعلمه سبحانه وتعالى بأنها ستقع في أوقات معلومة عنده، وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك، ومشيئته له، ثم وقوع هذه الأشياء على مقتضى إرادته ومشيئته وخلقه لها سبحانه وتعالى. وهذا التعريف يشمل عدة مسائل: الأولى: الإيمان بعلم الله الأزلي التام بأن الله سبحانه وتعالى علم في الأزل ما الخلق فاعلون.
الثانية: الإيمان بأن الله تبارك وتعالى كتب -كما ورد في النصوص- في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة -وهو اللوح المحفوظ- ما هو كائن إلى يوم القيامة.
الثالثة: الإيمان بأن الله تعالى له المشيئة النافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
الرابعة: الإيمان أنه لابد أن تقع هذه الأشياء على وفق ما علمها وكتبها وأرادها، والإيمان بأن الله تعالى خالقها، أي: أن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء. إذاً: تترتب هذه الأمور على هذا الترتيب: علم أزلي، ثم كتابة لهذا الأمر، ثم مشيئة إلهية لابد أن تنفذ، ثم وقوع المقدور، وأن الله تعالى هو خالقهم، فكل ما يقع في هذا الكون فهو مخلوق لله كما قال تبارك وتعالى في كتابه العزيز: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، سبحانه وتعالى، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان علاقة هذه القضية بإرادة الإنسان وقدرته.
 
مراتب القدر :
الإيمان بالقضاء والقدر يقتضي من العبد أن يؤمن بأربع مراتب دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والمتتبع للنصوص الواردة في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يجد أن هذه المراتب الأربع كاملة قد ورد الإخبار عنها بما يقتضي نسبتها إلى الله سبحانه وتعالى، وهذه المراتب الأربع هي التي أشرنا إليها إجمالاً في التعريف وهي:
الأولى: مرتبة العلم.
الثانية: مرتبة الكتابة.
الثالثة: مرتبة المشيئة.
الرابعة: مرتبة الخلق. فهذه المراتب الأربع كلها لله سبحانه وتعالى، وقد دلت على ذلك الأدلة من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ونحن هنا نشير إلى بعض الأدلة على هذه المراتب. والإيمان بالقضاء والقدر قد وردت فيه آيات وأحاديث كثيرة جداً، منها: قول الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ[القمر:49]. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (وتؤمن بالقدر خيره وشره)، ويقول في الحديث الآخر: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره من الله تعالى، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه)وهذا حديث صحيح رواه الترمذي وغيره.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث علي رضي الله عنه-: (لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر) وهذا أيضاً رواه الترمذي . وعن طاوس رحمه الله تعالى قال: أدركت ناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر، ثم قال: وسمعت عبدالله بن عمر رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شيء بقدر حتى العجز والكيس، أو الكيس والعجز) ومعنى الكيس: الهمة والنشاط، والعجز: هو عجز الإنسان، فكل شيء بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث هن أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلا الله، ولا نكفره بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد باق منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال ، لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، والإيمان بالأقدار)، وهذا الحديث رواه أبوداود .. إلى آخر الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الإيمان بالقدر بإجمال.
أدلة مرتبة الخلق
الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء في هذا الكون، ومن ذلك أفعال العباد، فالله خالق العباد وخالق أفعالهم. وهذه المسألة -خلق أفعال العباد- هي مسألة القضاء والقدر التي صار فيها الكلام الطويل بين أهل السنة والجماعة وبين المعتزلة، والأدلة على إثباتها كثيرة، ومنها: قول الله تبارك وتعالى في قصة إبراهيم لما كسر أصنامهم وجاءوا إليه فقال لهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام: أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:95-96] أي: خلقكم وعملكم، هذه إذا كانت (ما) مصدرية.
وهناك قول آخر: أن (ما) موصولة، أي: خلقكم وخلق العمل الذي تعملونه. وأيضاً قول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز: ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر:62]، وقوله تعالى أيضاً: قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، وقوله تبارك وتعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62] .. إلى آخر الأدلة الكثيرة الواردة في كتاب الله تعالى. ومن الأحاديث الواردة ما يرويه زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها) وهو في صحيح مسلم، والشاهد قوله: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها) فالفاعل هو الله تعالى، فهو الذي يطلب منه ذلك، وهذا هو معنى قول الله تبارك وتعالى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا[الشمس:8]، قال سعيد بن جبير في تفسير هذه الآية: فالخلق لله، والإنسان قادر على سلوك أيهما شاء، وهو ومخير. وقال ابن زيد في معنى هذه الآية: جعل ذلك فيها بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها بالفجور. وورد حديث صحيح رواه البخاري في كتاب خلق أفعال العباد، ورواه البيهقي أيضاً في الأسماء والصفات، ورواه الحاكم في المستدرك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يصنع كل صانع وصنعته) ، قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ[الصافات:96]، وهذا حديث صحيح.. إلى آخر الأدلة التي تدل على أن الله تبارك وتعالى خالق كل شيء. هذه المراتب الأربع عند أهل السنة والجماعة لابد أن يؤمن بها الإنسان، ناسباً لها لله الواحد القهار علماً وكتابة ومشيئة وخلقاً.

أدلة مرتبة المشيئة:

مرتبة الإرادة والمشيئة -الإرادة الكونية والمشيئة الكونية- المقصود بهذه المرتبة أنه يجب على المؤمن قضيتين: أن كل ما يقع في هذا الكون فهو بمشيئته تبارك وتعالى فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وأنه لا يخرج شيء عن مشيئته مهما كان.
إذاً: مشيئة الله شاملة نافذة عامة في كل ما يقع في هذا الكون. ومن الأدلة على ذلك قول الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ [المائدة:48]، فلو شاء الله تبارك وتعالى لجعل الناس أمة واحدة لا يختلفون أبداً؛ لكن شاء الله أن يبتلينا بالتفرق فنفذت مشيئته. ويقول تبارك وتعالى في قصة شعيب لما قال له قومه: فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنتَ مِنْ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ[هود:32-33]. وأيضاً يقول تبارك وتعالى عن موسى أنه قال: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ[يوسف:99]، وقال موسى: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً[الكهف:69]، وقال الله تعالى لنبيه: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ[الكهف:23-24]. ويقول تبارك وتعالى: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26]. ويقول تعالى: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[آل عمران:6]. ويقول تبارك وتعالى في باب الإرادة الكونية: فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[الأنعام:125]. إذاً: هذه المشيئة والإرادة الكونية هي شاملة لكل شيء، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ [الأنعام:35]، كما قاله تعالى مخاطباً رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الأحاديث الواردة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا في صحيح البخاري - : (اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء) ، فأمر بالشفاعة، وأخبر أن الذي سيقع هو ما شاءه الله سبحانه وتعالى. والنبي صلى الله عليه وسلم أقر علي بن أبي طالب حين سأله الرسول هو وزوجه فاطمة رضي الله عنهما وقال لهما: (ألا تصليان؟ فأجابه علي بقوله: أنفسنا بيد الله فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا، قال علي: فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلي شيئاً، ثم سمعته وهو مول يضرب فخذه وهو يقول: وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً [الكهف:54])، فالشاهد هنا إثبات المشيئة؛ لأن علياً احتج بالمشيئة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه لم يرض بهذا الاحتجاج وإن كان حقاً، ومن ثم قرأ: ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً[الكهف:54]). وللعلماء أقوال حول معنى هذا الحديث منها: أنه قال ذلك تسليماً لعذرهما، وأنه لا عليهما.
ومنها: أنه تعجب من سرعة جوابه وعدم موافقته .. إلى آخره.
وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن قلوب العباد -أو قلوب بني آدم- كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك).
وأيضاً لما قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (ما شاء الله وشئت، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أجعلتني لله نداً؟ -وفي بعض الألفاظ: أجعلتني لله عدلاً؟- بل ما شاء الله وحده)، فالنبي عليه الصلاة والسلام ينفي أن تكون له مشيئة مع مشيئة الله، وإنما المشيئة هي مشيئة الله وحده، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. ويقول تعالى عن سائر العباد: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ[الإنسان:30]، فمشيئة العباد إنما هي داخلة تحت مشيئة الله تبارك وتعالى.
أدلة مرتبة الكتابة
الله تبارك وتعالى كتب مقادير المخلوقات في اللوح المحفوظ، وهذا الكتاب هو الذي ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، كما في قوله تبارك وتعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، على القول الصحيح في تفسير هذه الآية بأن المقصود بالكتاب هو اللوح المحفوظ، وإن كان هناك قول آخر بأن المقصود به هو كتاب الله القرآن. ومن الأدلة التي تدل على إثبات الكتابة قول الله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، فربنا تبارك وتعالى أخبر أن هذا مكتوب مسطور في كتبه، وهذه المرتبة المهمة شاملة للكتابة الشرعية والقدرية. فالكتابة القدرية: أن الله سبحانه وتعالى كتب ما يقع لعباده، ومثال الكتابة الشرعية أن الله سبحانه وتعالى قال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ[النور:55]. وكذلك أيضاً من الأدلة التي تدل على إثبات الكتابة قول الله تبارك وتعالى في قصة أسارى بدر: لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[الأنفال:68] أي: فلولا أن الله تبارك وتعالى قد قدر وسبق في كتابه أنه قد أحل للصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الغنائم، وأن الله تبارك وتعالى قد رفع عن هذه الأمة العذاب الكامل الذي يستأصل شأفتهم لجرى ما ذكره الله تعالى في هذه الآية: لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [الأنفال:68]. ومثله قول الله تعالى في هذه الآية التي تجمع بين المرتبتين: العلم، والكتابة: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، فهذه الآية أشارت إلى المرتبتين كلتيهما. ويقول تعالى: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل:75] أي: ما من أمر خفي أو سر من الأسرار سواءً كان في السماوات أو في الأرض إلا في كتاب مبين، فقد أحاط هذ الكتاب بكل شيء، والأدلة في السنة على ذلك كثيرة منها: حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء) وهذا واضح الدلالة على أن الله كتب ذلك قبل خلق السماوات والأرض. وأيضاً الحديث الطويل الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار -وإلا وقد كتبت شقية أو سعيدة- قال: فقال رجل: يا رسول الله! أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل؟ قال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: اعملوا فكل ميسر، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى[الليل:5-10]) وهذا الحديث في صحيح البخاري، والأحاديث والنصوص الواردة في هذا الباب كثيرة جداً.
 
آخر تعديل:
أدلة مرتبة العلم :
أدلة الإيمان بمراتب القدر الأربع كثيرة في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمرتبة العلم أدلتها كثيرة. يقول الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59].
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن بعض المغيبات، فذكر أن هناك أموراً خمسة من أمور الغيب لا يعلمها إلا الله تعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم -وهو رسول الله- لا يعلم إلا ما أعلمه الله.
ففي هذه الآية: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ)، دلالة على أن العلم عند الله، وإذا أراد تعالى أن يعلم أحداً من خلقه أعلمه ببعض علمه، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [الجن:26-28].
ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل أحياناً فيجيب بقوله: (الله أعلم) كما سئل عن أطفال المشركين فقال: (الله أعلم بما كانوا عاملين). فالأدلة على إثبات علم الله تعالى كثيرة جداً وواضحة في كتاب الله العزيز. ومن السنة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أَعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: نعم، قال: ففيم يعمل العاملون؟ قال: كل ميسر لما خلق له) أي: قد علمهم الله سبحانه وتعالى. وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وعن علي رضي الله عنه وأرضاه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً وفي يده عود ينكت به -يعني: يخط به أو يحرث به- فرفع رأسه فقال: ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار، قالوا: يا رسول الله! ففيم العمل أفلا نتكل؟ قال: لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5-6] .. إلى قوله: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:10])، وهذا الحديث أيضاً في صحيح مسلم .
الفرق بين القضاء والقدر
العلماء لما تحدثوا عن الفرق بينهما قال بعضهم: إنه لا فرق بينهما، فيأتي القضاء بمعنى القدر، ويأتي القدر بمعنى القضاء، أي: قد يذكر القضاء ويراد به القدر، ويذكر القدر لوحده ويراد به القضاء. وبعضهم فرق بينهما بقوله: إن القضاء: هو الحكم بالكليات على سبيل الإجمال الأزلي. والقدر: هو الحكم بوقوع الجزئيات التي من تلك الكليات كما قدرها سبحانه وتعالى.
وبعضهم عكس الأمر فقال: القدر: هو التقدير الكامل الشامل، والقضاء: هو التفصيل والتقطيع.
والصحيح أن هذه الأقوال التي فرقت بين القضاء والقدر لا دليل عليها، بل القدر يأتي بمعنى القضاء، والقضاء يأتي بمعنى القدر، وإذا جمعنا بينهما فإن كلاً منهما بمعنى الآخر، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه لم يرد في ذلك نص يوضح هذا.
ودلالة اللغة العربية في مسألة الفرق بينهما تدل على أن كلاً منهما يستعمل استعمالات أخرى، ومن استعمالاتهما أن يكون القضاء بمعنى القدر الذي نحن بصدده.
من أقوال السلف في باب القدر
روى أبو داود في سننه بإسناد صحيح إلى خالد الحذاء قال: قلتُ : يا أبا سعيد! أخبرني هل آدم للسماء خلق أم للأرض؟ قال: لا، بل للأرض. قلت: أرأيت لو اعتصم فلم يأكل من الشجرة؟ قال: لم يكن له منه بد. قلت: أخبرني عن قوله تعالى: مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ [الصافات:162-163]؟ قال: إن الشياطين لا يفتنون بضلالتهم إلا من أوجب الله عليه الجحيم. وهذا رواه أبو داود في كتاب السنة: باب لزوم السنة.
وهذا يثبت بأن السلف رحمهم الله تعالى يؤمنون بالقضاء والقدر. والله تبارك وتعالى قال: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]، فصدق قدره؛ لأنه لابد أن يكون هذا الإنسان في هذه الأرض. ومن هنا نجد أن آدم عليه الصلاة والسلام لما سأله موسى وقال له: (كيف أخرجتنا من الجنة؟ فأجابه آدم عليه الصلاة والسلام بقوله: أتلومني في شيء قد كتبه الله علي قبل أن أخلق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى). وفي هذا الحديث لم يحتج آدم بالقدر على المعصية، وإنما احتج بالقدر على المصيبة؛ لأنه من المعلوم أن آدم لما سأله موسى كان قد تاب وتاب الله عليه ومحي عنه الذنب، وهو ليس بحاجة إلى أن يحتج بالذنب، ولكن لما سأله موسى أجاب آدم بالقدر السابق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى).
ومن هنا قالوا: يجوز الاحتجاج بالقدر في حالتين:
الحالة الأولى: في حالة المصائب التي تصيب الإنسان.
الحالة الثانية: فيما إذا أذنب الإنسان وتاب إلى الله واستغفره ورجع وعمل الحسنة بعد تلك السيئة، فيجوز أن يقول: إن تلك المعصية كانت بقضاء وقدر، أما أن يحتج بالقدر مسوغاً لها فهذا لا يقبل. وروى أبو داود بسند صحيح إلى عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى: فإنه كتب إلى أحد أصحابه رسالة يقول فيها: كتبت تسأل عن الإقرار بالقدر فعلى الخبير -بإذن الله- وقعت، ما أحدث الناس من محدثة، ولا ابتدعوا من بدعة، هي أبين أثراً ولا أثبت أمراً من الإقرار بالقدر، لقد كان ذكره في الجاهلية الجهلاء يتكلمون به في كلامهم، وفي شعرهم يعزون به أنفسهم على ما فاتهم، ثم لم يزده الإسلام بعد إلا شدة، ولقد ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير حديث ولا حديثين، وقد سمعه منه المسلمون، فتكلموا به في حياته وبعد وفاته يقيناً وتسليماً لربهم، وتضعيفاً لأنفسهم أن يكون شيء لم يحط به علمه، ولم يحصه كتابه، ولم يمض فيه قدر، وإنه مع ذلك لفي محكم كتابه، منه اقتبسوه ومنه تعلموه .. إلخ.
وهذا أثر من عمر بن عبدالعزيز رحمه الله تعالى يبين أن الإيمان بالقدر هو سبيل السلف في أن الأمر كله لله سبحانه وتعالى، فإذا جاء المعتزلة أو القدرية أو غيرهم لينحرفوا في هذا الباب ، وليقولوا: إن هذا ظلم أو هذا كذا أو هذا كذا؛ فهذا كله لا يقبله السلف وإنما يرفضونه رفضاً تاماً.
ومن هنا فإننا نجد أن السلف رحمهم الله تعالى كانوا شديدين جداً على أولئك الذين ضلوا في مسألة القضاء والقدر، ولم تكن محل إشكال عندهم، روى أبو داود في كتاب السنة: باب لزوم السنة -وهو حديث حسن الإسناد- أن عبدالله بن عمر كتب إلى صديق له من أهل الشام كان يكاتبه: إنه بلغني أنك تكلمت في شيء من القدر، فإياك أن تكتب إلي! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه سيكون في أمتي أقوام يكذبون بالقدر).
ومن هنا كانت للسلف مواقف قوية في هذا الباب، وقد تكلم غيلان القدري أحد القدرية مع ربيعة بن عبدالرحمن (ربيعة الرأي) الإمام المشهور، فقال له: يا أبا عثمان ! أيرضى الله عز وجل أن يعصى؟ فقال له ربيعة: أفيعصى قصراً؟! فسكت. وكلمة غيلان: أفيرضى ربنا أن يعصى؟ هي مبنية إشكال عندهم سيأتي بيانه بعد قليل في مسألة التفريق بين الإرادة والرضا، لكن انظر إلى الجواب: (أفيعصى قصراً؟) أي: لا تحل أنت المشكلة بمشكلة أخرى، وهذا ما وقع فيه كل من الجبرية والمعتزلة، وهذا الأثر رواه اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة برقم (1265).
ومن قصص عمر بن عبدالعزيز مع هذا الرجل القدري وهو غيلان الدمشقي أنه لما بلغه قوله بالقدر استدعاه عمر بن عبد العزيز فقال له: يا غيلان ويحك ما هذا الذي بلغني عنك؟! قال: يكذب عليّ يا أمير المؤمنين، ويقال علي ما لا أقول. قال: ما تقول في العلم؟ أي: علم الله الأزلي. قال: نفذ العلم. فقال له عمر بن عبدالعزيز : أنت مخصوم، اذهب الآن فقل ما شئت، يا غيلان! إنك إن أقررت بالعلم خصمت، وإن جحدته كفرت، وإنك إن تقر به فتخصم، خير لك من أن تجحده فتكفر. ثم قال له: اقرأ (يس). فقرأ: وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس:9] .. إلى آخر قصته مع غيلان.
وهذا القول من عمر بن عبدالعزيز من أعظم ما ورد في باب القدر عن السلف، وفيه فقه مذهب السلف، وبيان الرد على مذهب المعتزلة؛ لأن المعتزلة يقرون بالعلم، فإذا أقروا بالعلم فما فائدة أن يأتوا ويقولوا: الإنسان حر مختار إذا كان لا يقع شيء إلا وفق علم الله سبحانه وتعالى؟! وسيأتي بيان شيء من ذلك.
ورواية عمر بن عبدالعزيز مع غيلان رواها عبدالله بن الإمام أحمد في كتابه السنة برقم (948)، وأيضاً اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة برقم (1325). وأورد اللالكائي هنا أيضاً برقم (1339) في كتاب شرح اعتقاد أهل السنة حكاية عن رجل اتفق مع رجل أن يعبر الشاطئ وأن يعطيه كذا من المال، فصار الرجل يعوم ليعبر الشاطئ، فلما قرب منه قال الرجل: عبرت والله، ما بقي له إلا قليل. فقال له ذلك الرجل: قل: إن شاء الله. قال: شاء أو لم يشأ. قال: فأخذته الأرض وابتلعته. وأيضاً أورد اللالكائي قصة الجارية التي كانت سيدها قدرياً، وكان يقول إذا أتته بقدح من ماء: إنني يمكنني أن أشربه أو ألا أشربه، كأنه يقرر أنه سيشرب هذا القدح شاء الله أولم يشأ! فهذه الجارية أعطته الماء مرة وهو يريد أن يشربه، وكان قد قال لها: إن لم أشربه فأنت حرة لوجه الله؛ فضربت القدح فسقط على الأرض وسال الماء؛ فعتقت الجارية، وكانت تسمى بمولاة السنة. والقدر كان عند السلف رحمهم الله تعالى أمر مسلم، حتى إن أحد أئمة المعتزلة -وهو عمرو بن عبيد- كان جالساً مع أصحابه في أحد المرات، فجاء أعرابي ووقف وقال: إن ناقتي سرقت؛ فادعوا الله أن يردها علي. فقال عمرو بن عبيد المعتزلي القدري: اللهم إنك لم ترد أن تسرق فسرقت، فردها عليه.
انتبه لكلمة: (لم ترد أن تسرق)؛ فهو يعتقد أن هناك أشياء لا يريدها الله، وهو يقصد الإرادة الكونية، وليست الإرادة الدينية، فالأعرابي بفطرته قال له: لا حاجة لي في دعائك! قال: لماذا؟ قال: إذا كان الله أراد ألا تسرق فرغماً عنه سرقت، فأخاف أن يريد أن ترد فرغماً عنه لا ترد علينا، فلا حاجة في دعائك.
أعرابي على الفطرة خصم هذا الشيخ المعتزلي الذي أمضى في الفلسفة وعلم الكلام وقتاً طويلاً؛ لأن الأمر بيد الله سبحانه وتعالى وبقدره.
علاقة القدر بالإنسان
بعد هذا ننتقل إلى مسألة أخرى تتعلق بمذهب أهل السنة والجماعة في باب القدر، وهي علاقة القدر بالإنسان. نحن في الفقرات السابقة شرحنا وأوضحنا علاقة القدر بالله سبحانه وتعالى، وقلنا:
إن مراتب القدر الأربع يجب على العبد أن يؤمن بها، وأن هذا هو مقتضى الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى.. لكن بالنسبة للإنسان نفسه هل له إرادة ومشيئة وقدرة أو ليس له ذلك؟
هنا نذكر نقطتين هامتين:
النقطة الأولى: أن الإنسان غير مجبور على فعله، ولم يرد عن السلف رحمهم الله تعالى حتى كلمة الجبر، لم ترد في النصوص، وإنما الوارد (الجَبْل) يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأشج عبدالقيس : (إن فيك خلقين جبلت عليهما: الحلم والأناة) . فالله سبحانه وتعالى يخلق الإنسان على جبلة، لكن لفظ (جبر) لم يرد، حتى إن أباعبيد وهو أحد أئمة اللغة قال: إن لفظ الجبر في باب القدر لفظ مولد، يعني: لم يأت إلا بعد استكمال النصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: قضية أن الإنسان مجبور لم ترد في النصوص، وإنما الوارد في النصوص أشياء أخرى كما في قضية المشيئة: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]. وورد في النصوص الختم والطبع، قال الله تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، وقال تعالى: وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155]، ويقول تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:6-7]، والختم والطبع الوارد في كتاب الله تبارك وتعالى إنما هو عقوبة وجزاء لمن لم يسلك الطريق الصحيح، ولهذا لا تجد نصاً يفيد أن الله يطبع على القلب ابتداءً، وإنما يرد الطبع وزيغ القلب إذا لم يترك الإنسان المعصية، وهذه تكون من باب العقوبات الإلهية، فالله تعالى يعاقب العبد إذا فعل المعصية بأن يفعل معاصي أخرى، وتكون هذه عقوبة له على المعصية الأولى.
النقطة الثانية: أننا لو نظرنا إلى قضية الإنسان وأفعاله لوجدنا أن الله سبحانه وتعالى في باب المحافظة والتكليف فرق بين عدة أشياء بالنسبة للإنسان، هناك أشياء تقع في الإنسان مثل كونه يولد في وقت كذا، أو يولد طويلاً، أو يولد قصيراً، أو يولد ولونه أسمر أو لونه أحمر أو لونه أبيض، أو كون الإنسان يعيش خمسين سنة أو أربعين سنة، أو كون الإنسان يعيش بأعضاء متكاملة بعضها أقوى من بعض، هذه الأمور التي تجري في الإنسان أوجدها الله سبحانه وتعالى له بدون إرادة منه، لهذا فهو لا يحاسب عليها، فلا يأتي الإنسان يحاسب الله ويقول: لماذا كنت أسود أو أحمر أو غير ذلك..؟!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
 
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته ...~_

اولا بارك الله فيك على اسهام الدائم هنا في تعريف بقيم الدين الحقة

ثانيا :

توحشتك يا اخي و ان شاء الله راك بخير وعافية

تهلا في روووحك

ثالثا :

ارجو من الله ان يرزقناالقلب الذي يحمل الايمان بالقضاء و القدر خيييييييييره و شررررره

ربنا لا يحرمكم الاجر االجزيييييييييييل

تقبل مرووووري

اخووووك من العاصمة *أمير الخير* ^_
 
حياك الله و بياك و جعل الجنة مستقرك و مثواك.
أهلا بالأخ الطيب أمير الخير، و الله مثلكم من المرء يفرح بقدومهم بعد الذهاب و بإيابهم بعد الغياب.
لا طال غيابك عنا أيها الحبيب.
 
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

أخي ابو ليث جزاك الله كل خير و جعل هذا العمل في ميزان حسناتك

موضوع يستحق القراءة و الفهم العميق

حقا جهد يستحق الشكر

بالتوفيق أخي ابى ليث
 
مشكوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووور
 
3ish.tchof، تم حظره "حظر دائم". السبب: مخالفة القوانين
لم اكمل الموضوع لكن برك الله

لكن في بعض احيان يجهل انسان وينسي ان كلمصيب هي قضاء وقدر
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الرحمن بك مشرفنااا
ولا حرمك ربي الاجر وجعله في ميزان حسناتك
صدقااا لقد عرفت أمورا كنت أجهلها
الله يجعلك من أهل الجنة
وفقكم الباري لما يحب ويرضى
 
الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، ولا يقبل الله من عبدٍ صرفاً ولا عدلاً حتى يؤمن به وفق ما جاءت به النصوص، وللإيمان به معالم منها: الإدراك الجازم بأن الله عز وجل حكم عدل لا يظلم أحداً، والاعتقاد الجازم بأنه سبحانه قد علم كل شيء أزلاً، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وبهذا يصل العبد إلى كمال الراحة والطمأنينة فيما قدره الله تعالى له، فلا يجزع من مصيبة، ولا يضرب نصوص الشرع بعضها ببعض.

بارك الله فيك
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الرحمن بك مشرفنااا
ولا حرمك ربي الاجر وجعله في ميزان حسناتك
صدقااا لقد عرفت أمورا كنت أجهلها
الله يجعلك من أهل الجنة
وفقكم الباري لما يحب ويرضى
و فيكم بارك الله، و لكم بمثل ما دعوتم.
 
الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، ولا يقبل الله من عبدٍ صرفاً ولا عدلاً حتى يؤمن به وفق ما جاءت به النصوص، وللإيمان به معالم منها: الإدراك الجازم بأن الله عز وجل حكم عدل لا يظلم أحداً، والاعتقاد الجازم بأنه سبحانه قد علم كل شيء أزلاً، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وبهذا يصل العبد إلى كمال الراحة والطمأنينة فيما قدره الله تعالى له، فلا يجزع من مصيبة، ولا يضرب نصوص الشرع بعضها ببعض.

بارك الله فيك
و فيك بارك الله أخي الفاضل.
 
thanksfortheadd86.gif
 
بارك الله فيك اخي الكريم وجزاك الله الفردوس الاعلى على طرحك هذا
 
موضوع قيم جدا فالايمان بالقضاء والقدر من أهم الأمور اليتي يجب تعلمها وفهمها بفهم سلف الأمة ليكون المؤمن صحيح العقيدة سليم المعتقد, وهذه رسالة مختصرة للشيخ ابن باز رحمه الله في هذا الباب:

من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم.... سلمه الله وتولاه آمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد:
فقد وصلني كتابكم الكريم المؤرخ بدون وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق. وما تضمنه من الإفادة عن عزمكم على تأليف كتاب مختصر يتضمن بيان مذهب السلف الصالح في مسألة القضاء والقدر التي قد غلط فيها كثير من الناس ورغبتكم في أن نكتب إليكم في الموضوع رسالة مختصرة تشتمل على بيان الحق في هذا الأمر الجليل كان معلوما.
وإني بهذه المناسبة أسأل المولى عز وجل أن يسدد خطاكم ويمنحكم التوفيق لإصابة الحق فيما تكتبون وإنها لهمة عالية وعزم مبارك أرجو أن يحقق الله لكم بذلك ما تريدون من إيضاح الحق بدليله وكشف اللبس وإزاحة الشبهة إنه جواد كريم.
ويسرني أن أساهم في هذا العمل الجليل بما أشرتم إليه فأقول:
قد دل الكتاب العزيز والسنة الصحيحة وإجماع سلف الأمة على وجوب الإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه من أصول الإيمان الستة التي لا يتم إسلام العبد ولا إيمانه إلا بها، كما دل على ذلك آيات من القرآن الكريم، وأحاديث صحيحة مستفيضة بل متواترة عن الرسول الأمين عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم، ومن ذلك قوله عز وجل: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[1]، وقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[2]، وقال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[3]، وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبرائيل عن الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث وتؤمن بالقدر كله)) قال: صدقت الحديث وهذا لفظ مسلم. وخرج مسلم في صحيحه من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جبرائيل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فأجابه بقوله: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره))، فقال له جبرائيل: صدقت، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الإيمان بالقدر يجمع أربعة أمور: الأمر الأول: الإيمان بأن الله سبحانه علم الأشياء كلها قبل وجودها بعلمه الأزلي وعلم مقاديرها وأزمانها وآجال العباد وأرزاقهم وغير ذلك كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[4]، وقال تعالى: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[5]، وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[6]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
الثاني: من مراتب الإيمان بالقدر: كتابته سبحانه لجميع الأشياء من خير وشر وطاعة ومعصية وآجال وأرزاق وغير ذلك كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[7] في آيات كثيرة سبق بعضها آنفا. وفي الصحيحين من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار))، قالوا: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما كان من أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة))، ثم قرأ رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}[8] الآيتين وفي هذا المعنى أحاديث كثيرة ومنها حديث عبد الله بن مسعود المخرج في الصحيحين في ذكر خلق الجنين وأنه يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد.

الأمر الثالث: من مراتب الإيمان بالقدر: أنه سبحانه وتعالى لا يوجد في ملكه ما لا يريد ولا يقع شيء في السماء والأرض إلا بمشيئته، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[9]، وقال تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}[10] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[11]، وقال تعالى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[12]، وقال عز وجل: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء}[13]، والآيات في هذا المعنى كثيرة جدا معلومة من كتاب الله والإرادة في هذه الآية بمعنى المشيئة وهي إرادة كونية قدرية بخلاف الإرادة في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}[14] فالإرادة في هذه الآيات الثلاث إرادة شرعية أو دينية بمعنى المحبة، والفرق بين الإرادتين الأولى: لا يتخلف مرادها أبدا بل ما أراده الله كونا فلا بد من وقوعه كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[15]، أما الإرادة الشرعية فقد يوجد مرادها من بعض الناس وقد يتخلف. وإيضاح ذلك أن الله سبحانه أخبر أنه يريد البيان للناس والهداية والتوبة ومع ذلك أكثر الخلق لم يهتد ولم يوفق للتوبة ولم يتبصر في الحق؛ لأنه سبحانه وتعالى قد أوضح الحجة والدليل وبين السبيل وشرع أسباب التوبة وبينها ولكنه لم يشأ لبعض الناس أن يهتدي أو يتوب أو يتبصر فذلك لم يقع منه ما أراده الله شرعا لما قد سبق في علم الله وإرادته الكونية من أن هذا الشخص المعين لا يكون من المهتدين ولا ممن يوفق للتوبة.
وهذا بحث عظيم ينبغي تفهمه وتعقله والتبصر في أدلته ليسلم المؤمن من إشكالات كثيرة وشبهات مضلة حار فيها الكثير من الناس لعدم تحقيقهم للفرق بين الإرادتين، ومما يزيد المقام بيانا أن الإرادتين تجتمعان في حق المؤمن فهو إنما آمن بمشيئة الله وإرادته الكونية وهو في نفس الوقت قد وافق بإيمانه وعمله الإرادة الشرعية وفعل ما أراده الله منه شرعا وأحبه منه، وتنفرد الإرادة الكونية في حق الكافر والعاصي فهو إنما كفر وعصى بمشيئة الله وإرادته الكونية، وقد تخلفت عنه الإرادة الشرعية لكونه لم يأت بمرادها وهو الإسلام والطاعة فتنبه وتأمل والله الموفق.
الأمر الرابع من مراتب الإيمان بالقدر: أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الموجد لجميع الأشياء من ذوات وصفات وأفعال فالجميع خلق الله سبحانه، وكل ذلك واقع بمشيئته وقدرته، فالعباد وأرزاقهم وطاعاتهم ومعاصيهم كلها خلق الله وأفعالهم تنسب إليهم فيستحقون الثواب على طيبها والعقاب على خبيثها، والعبد فاعل حقيقة وله مشيئة وله قدرة قد أعطاه الله إياها، والله سبحانه هو خالقه وخالق أفعاله، وقدرته ومشيئته كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[16]، وقال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وما تشاؤن إلا أن يشاء الله}[17] فلا يخرج شيء من أفعال العباد ولا غيرهم عن قدرة الله ولا عن مشيئته فعلم الله شامل ومشيئته نافذة وقدرته كاملة لا يعجزه سبحانه شيء ولا يفوته أحد كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[18]، والعرش وما دونه من سماوات وأرضين وملائكة وبحار وأنهار وحيوان وغير ذلك من الموجودات كلها وجدت بمشيئة الله وقدرته لا خالق غيره ولا رب سواه ولا شريك له في ذلك كله، كما أنه لا شريك له في عبادته ولا في أسمائه وصفاته كما قال تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[19]، وقال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[20]، وقال سبحانه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[21]، وقال سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}[22]، فالله سبحانه هو الخالق وما سواه مخلوق وصفاته كذاته ليست مخلوقة وكلامه من صفاته، والقرآن الكريم من كلامه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق بإجماع أهل السنة، وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن سلك سبيلهم إلى يوم القيامة.
وبما ذكرنا يتضح لطالب الحق أن مراتب القدر أربع من آمن بها وأحصاها فقد آمن بالقدر خيره وشره. وقد ذكر العلماء هذه المراتب في كتب العقائد وأوضحوها بأدلتها وممن ذكر ذلك باختصار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه: العقيدة الواسطية وذكرها وأوسع فيها الكلام تلميذه المحقق العلامة الكبير أبو عبد الله ابن القيم في كتابه: شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، وهو كتاب نفيس عظيم الفائدة نادر المثل أو معدومه ننصح بقراءته والاستفادة منه.
والله أسأل سبحانه أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والاستقامة عليه وأن يهدينا وسائر المسلمين صراطه المستقيم.. إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.


[1] سورة الحج الآية 70.
[2] سورة الحديد الآية 22.
[3] سورة القمر الآية 49.
[4] سورة العنكبوت الآية 62.
[5] سورة الطلاق الآية 12.
[6] سورة الأنعام الآية 59.
[7] سورة الحج الآية 70.
[8] سورة الليل الآيتان 5- 6.
[9] سورة التكوير الآيتان 28- 29.
[10] سورة المدثر الآيتان 55- 56.
[11] سورة الأنعام الآية 137.
[12] سورة الأنعام الآية 39.
[13] سورة الأنعام الآية 125.
[14] سورة النساء الآيات 26- 28.
[15] سورة يس الآية 82.
[16] سورة البقرة الآية 20.
[17] سورة التكوير الآيتان 28- 29.
[18] سورة الطلاق الآية 12.
[19] سورة الزمر الآية 62.
[20] سورة البقرة الآية 163.
[21] سورة الإخلاص كاملة.
[22] سورة الشورى الآية 11.


بارك الله فيكم أخونا أبو ليث ولكن حبذا لو تفضلت بذكر الكاتب وصاحب ماكتبت في موضوعك.





 
آخر تعديل:


بارك الله فيكم أخونا أبو ليث ولكن حبذا لو تفضلت بذكر الكاتب وصاحب ماكتبت في موضوعك.

أحسن الله اليك و الله لم أن أنتبه حتى نبهتني.
المقال بجمته منقول من موقع فضيلة لشيخ عبد الرحمان المحمود أحد تلاميذ الشيخ ابن باز و لعله مدير مكتبه، و كما لا يخفاك هو فارس من فرسان العقيدة.
 

روعــــــــــــــــــة موضوعك أفرحتني
سلمت أناملك وسلم إبداعك
ودمتي بحفظ الله ورعايته

 
رد: أهمية عقيدة القضاء والقدر

بارك الله فييك
 
العودة
Top