بسم الله الرحمان الرحيم
السلاك عليكم ورحمة الله وبركاته
قال ابن كثير :" وقد سأل سائلٌ سؤالا، فقال: ما الحكمة في أن الدجال مع كثرة شره وفجوره، وانتشار أمره، ودعواه الربوبية، وهو في ذلك ظاهر الكذب والافتراء، وقد حذر منه جميع الأنبياء كيف لم يذكر في القرآن ويحذر منه، ويسرح باسمه، وينوه بكذبه وعناده؟
والجواب من وجوه؛ أحدهما: أنه قد أشير إلى ذكره في قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً) (الأنعام : 158 ) قال أبو عيسى الترمذي عند تفسيرها:" حدثنا عبد بن حميد ثنا يعلى ابن عبيد عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثٌ إذا خرجن ( لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً) الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من المغرب _ أو من مغربها- ثم قال هذا حديث حسن صحيح.
الثاني: أن عيسى ابن مريم ينزل من السماء الدنيا، ويقتل الدجال، كما تقدم وكما سيأتي وقد ذكر في القرآن نزوله في قوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (النساء : 158-159).
وقد قررنا في ( التفسير) أن الضمير في قوله تعالى :" قَبْلَ مَوْتِهِ " عائد على عيسى، أي سينزل إلى الأرض، ويؤمن به أهل الكتاب الذين اختلفوا فيه خلافا متباينا، فمِن مدعي الإلهية كالنصارى، ومن قائل فيه قولا عظيما وهو أنه ولد زَنْيَةٍ، وهم في اليهود، ومن قائل إنه قتل وصلب ومات. إلى غير ذلك، فإذا نزل قبل يوم القيامة تحقق كلٌّ من الفريقين كذب نفسه فيما يدَّعيه فيه من الافتراء، وسنقرر هذا قريبا.
وعلى هذا فيكون ذكر نزول المسيح عيسى ابن مريم بشارة إلى ذكر المسيح الدجال مسيح الضلالة، وهو ضد مسيح الهدى، ومن عادة العرب أنها تكتفي بذكر أحد الضِّدين عن ذكر الآخر، كما هو مقرر في موضعه.
الثالث: أنه لم يذكر بصريح اسمه في القرآن احتقارا له؛ حيث إنه يدعي الإلهية وهو بشر، وهو مع بشريَّته ناقص الخلق يُنافَى حالُه جلال الرب وعظمته وكبرياءه وتنزيهه عن النقص، فكان أمره عند الرب أحقر من أن يذكر، وأصغر وأدحَرَ من أن يُجْلى عن أمر دعواه ويحذَّر، ولكن انتصر الرسلُ لجانب الرب عز وجل، فجلَوْا لأُممهم عن أمره، وحذَّرُوهم ما معه من الفتن المُضِلَّة، والخوارق المنقضِية المُضمَحِلَّة، فاكتفى بإخبار الأنبياء، وتواتُرِ ذلك عن سيد ولد آدم إمام الأتقياء عن أن يذكُرَ أمرَه الحقيرَ بالنسبة إلى جلال الله في القرآن العظيم، ووَكَل بيانَ أمرَه إلى كل نبيٍّ كريمٍ.
فإن قلت: فقد ذُكر فرعون في القرآن وقد ادّعى ما ادّعاه من الإلهية والكذب والبهتان حيث قال: ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات : 24 ) ، وقال (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص : 38 ). فالجواب أن أمر فرعون قد انقضى وتبين كذبه لكل مؤمن وعاقل، وأمر الدجال سيأتي وهو كائن فيما يُستَقْبَل فتنةً واختبارًا للعباد فتُرك ذكره في القرآن احتقارا له وامتحانا به إذ أمره وكذبه أظهر من أن ينبه عليه ويحذر منه، وقد يترك ذكر الشيء لوضوحه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، في مرض موته قد عزم على أن يكتب كتابا بخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من بعده، ثم ترك ذلك وقال ( يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر) فترك نصه عليه لوضوح جلالته، وعظيم قدره عند الصحابة وعلم عليه الصلاة والسلام أنهم لا يعدلون به أحدا بعده وكذلك وقع الأمر، ولهذا يذكر هذا الحديث في دلائل النبوة، كما تقدم ذكرنا له غير مرة في مواضع من هذا الكتاب.
وهذا المقام الذي نحن فيه من هذا القبيل، وهو أن الشيء قد يكون ظهوره كافيا عن التنصيص عليه، وأن الأمر أظهر وأوضح وأجلى من أن يحتاج معه إلى زيادة إيضاح على ما في القلوب مستقر، فالدجال واضح الذم ظاهر النقص بالنسبة إلى المقام الذي يدعيه من الربوبية، فترك الله ذكره والنص عليه؛ لما يعلم تعالى من عباده المؤمنين أن مثل الدجال لا يخفى ضلاله عليهم ولا يَهِيضُهم ولا يزيدهم إلا إيمانا وتسليما لله ولرسوله، وتصديقا للحق وردا للباطل.
ولهذا يقول ذلك المؤمن الذي يسلط عليه الدجال فيقتله، ثم يحييه: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة أنت الأعور الكذاب الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يلزم من هذا أنه سمع خبر الدجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم شِفاها."
السلاك عليكم ورحمة الله وبركاته
قال ابن كثير :" وقد سأل سائلٌ سؤالا، فقال: ما الحكمة في أن الدجال مع كثرة شره وفجوره، وانتشار أمره، ودعواه الربوبية، وهو في ذلك ظاهر الكذب والافتراء، وقد حذر منه جميع الأنبياء كيف لم يذكر في القرآن ويحذر منه، ويسرح باسمه، وينوه بكذبه وعناده؟
والجواب من وجوه؛ أحدهما: أنه قد أشير إلى ذكره في قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً) (الأنعام : 158 ) قال أبو عيسى الترمذي عند تفسيرها:" حدثنا عبد بن حميد ثنا يعلى ابن عبيد عن فضيل بن غزوان عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ثلاثٌ إذا خرجن ( لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً) الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من المغرب _ أو من مغربها- ثم قال هذا حديث حسن صحيح.
الثاني: أن عيسى ابن مريم ينزل من السماء الدنيا، ويقتل الدجال، كما تقدم وكما سيأتي وقد ذكر في القرآن نزوله في قوله تعالى: (بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً، وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) (النساء : 158-159).
وقد قررنا في ( التفسير) أن الضمير في قوله تعالى :" قَبْلَ مَوْتِهِ " عائد على عيسى، أي سينزل إلى الأرض، ويؤمن به أهل الكتاب الذين اختلفوا فيه خلافا متباينا، فمِن مدعي الإلهية كالنصارى، ومن قائل فيه قولا عظيما وهو أنه ولد زَنْيَةٍ، وهم في اليهود، ومن قائل إنه قتل وصلب ومات. إلى غير ذلك، فإذا نزل قبل يوم القيامة تحقق كلٌّ من الفريقين كذب نفسه فيما يدَّعيه فيه من الافتراء، وسنقرر هذا قريبا.
وعلى هذا فيكون ذكر نزول المسيح عيسى ابن مريم بشارة إلى ذكر المسيح الدجال مسيح الضلالة، وهو ضد مسيح الهدى، ومن عادة العرب أنها تكتفي بذكر أحد الضِّدين عن ذكر الآخر، كما هو مقرر في موضعه.
الثالث: أنه لم يذكر بصريح اسمه في القرآن احتقارا له؛ حيث إنه يدعي الإلهية وهو بشر، وهو مع بشريَّته ناقص الخلق يُنافَى حالُه جلال الرب وعظمته وكبرياءه وتنزيهه عن النقص، فكان أمره عند الرب أحقر من أن يذكر، وأصغر وأدحَرَ من أن يُجْلى عن أمر دعواه ويحذَّر، ولكن انتصر الرسلُ لجانب الرب عز وجل، فجلَوْا لأُممهم عن أمره، وحذَّرُوهم ما معه من الفتن المُضِلَّة، والخوارق المنقضِية المُضمَحِلَّة، فاكتفى بإخبار الأنبياء، وتواتُرِ ذلك عن سيد ولد آدم إمام الأتقياء عن أن يذكُرَ أمرَه الحقيرَ بالنسبة إلى جلال الله في القرآن العظيم، ووَكَل بيانَ أمرَه إلى كل نبيٍّ كريمٍ.
فإن قلت: فقد ذُكر فرعون في القرآن وقد ادّعى ما ادّعاه من الإلهية والكذب والبهتان حيث قال: ( أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعات : 24 ) ، وقال (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص : 38 ). فالجواب أن أمر فرعون قد انقضى وتبين كذبه لكل مؤمن وعاقل، وأمر الدجال سيأتي وهو كائن فيما يُستَقْبَل فتنةً واختبارًا للعباد فتُرك ذكره في القرآن احتقارا له وامتحانا به إذ أمره وكذبه أظهر من أن ينبه عليه ويحذر منه، وقد يترك ذكر الشيء لوضوحه، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم، في مرض موته قد عزم على أن يكتب كتابا بخلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه من بعده، ثم ترك ذلك وقال ( يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر) فترك نصه عليه لوضوح جلالته، وعظيم قدره عند الصحابة وعلم عليه الصلاة والسلام أنهم لا يعدلون به أحدا بعده وكذلك وقع الأمر، ولهذا يذكر هذا الحديث في دلائل النبوة، كما تقدم ذكرنا له غير مرة في مواضع من هذا الكتاب.
وهذا المقام الذي نحن فيه من هذا القبيل، وهو أن الشيء قد يكون ظهوره كافيا عن التنصيص عليه، وأن الأمر أظهر وأوضح وأجلى من أن يحتاج معه إلى زيادة إيضاح على ما في القلوب مستقر، فالدجال واضح الذم ظاهر النقص بالنسبة إلى المقام الذي يدعيه من الربوبية، فترك الله ذكره والنص عليه؛ لما يعلم تعالى من عباده المؤمنين أن مثل الدجال لا يخفى ضلاله عليهم ولا يَهِيضُهم ولا يزيدهم إلا إيمانا وتسليما لله ولرسوله، وتصديقا للحق وردا للباطل.
ولهذا يقول ذلك المؤمن الذي يسلط عليه الدجال فيقتله، ثم يحييه: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة أنت الأعور الكذاب الذي حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا يلزم من هذا أنه سمع خبر الدجال من رسول الله صلى الله عليه وسلم شِفاها."
البداية والنهاية للحافظ عماد الدين ابن كثير