مقدمــة:
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أمَّا بعد: فإنَّ أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
فقد كنَّا في السنوات الأخيرة نسمع كلامًا يثير العجب من بعض المتطاولين، يتجنَّوْنَ به على الشيخ المرَبِّي الإمام عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- بالطعن والتبديع والإقصاء قصْدَ إخراجه من دائرة أهل السنَّة والجماعة والعقيدة السلفية، فها نحن اليوم نسمع ما هو أعجب من ذلك حيث يزعم بعضهم في مقالٍ نُشر في بعض المنتديات أنَّ الشيخ -رحمه الله- وإخوانَه أعضاء الجمعية كانوا على عقيدةٍ أشعريةٍ وأصولٍ صوفيةٍ.
ومن وراء هذه الدعوة العريضة، يحصل لمدَّعيها ومَن على مذهبه الانتسابُ إلى علماء الجمعية، وما هذا إلاَّ ليتمسَّحوا بهم لتسويغ ما يسلكونه من طرائقهم البِدْعِية، وتزكية ما ينتمون إليه من مناهجهم الخَلَفِيَّة، فتكون بذلك حجَّةً لهم على أهل السنَّة، وبالتالي تُسَوَّق بضائِعُهم الزائفة بين العامَّة من غير نكيرٍ، مستغلِّين ما كان لعلماء الجمعية من أثرٍ حسنٍ في الدعوة والإصلاح، وشهرةٍ دعويةٍ تجديديةٍ في شمال إفريقيا، جعلتْها تحظى بعد الاستقلال بالقبول بين العامَّة والخاصَّة، وايمن اللهِ من يقرأ كلام علماء الجمعية أو شيئًا منه فقط مما يتعلَّق بمنهجهم وعقيدتهم من كتبهم ومقالاتهم -رحمهم الله- مباشرةً أو بواسطة ما كتبه بعض الباحثين ليعلمنَّ عِلْمَ اليقين زيف دعوى صاحب المقال وصدْقَ شعر أبي نوَّاسٍ عليه إذ قال:
«بسم الله والصلاة والسلام على سيِّد خلق الله.
كثُر الحديث مؤخَّرًا حول منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العقيدة على وجه الخصوص، ومثله معه موقف رموز الجمعية من بعض القضايا التي كثُر فيها الجدال بين المؤيِّدين والمُثبتين لها من تراث الجمعية من ناحيةٍ، وبين المُعارضين لها والمستبعدين لأنْ تكون هذه الأمور مذهبًا للجمعية من جهةٍ أخرى!
فهل كان ابن باديس: ضدَّ الأشاعرة!؛ حارب التصوُّف حلوه ومرَّه!؛ يُبدِّع المتوسِّلين بالنبي ويرميهم بالشرك!؛ يُبدِّع إحياء المولد النبوي الشريف!...وغيرها من الأصليات عند سلفية اليوم ؟!
ماذا نجدُ في تراث الجمعية:
أوَّلاً: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقرِّر تدريس التوحيد وفق أصول الأشاعرة ومعلومٌ أنَّ الأشاعرة ليسوا من أهل السنَّة والجماعة عند السلفية المعاصرة!
وقد كان العلاَّمة ابن باديس أدرج ضمن قائمة العلوم التي كان يدرِّسها لطلبة العلم، المتون التي تحكي أصول الأشاعرة في العقائد وأصول التصوُّف الصحيح في السلوك؛ كمتن ابن عاشر المعروف ﺑ: "المرشد المعين على الضروريِّ من علوم الدين" للعلاَّمة عبد الواحد ابن عاشر الفاسي، الذي استفتح متنه بقوله:
ثانيًا: قال الشيخ حمَّاني تلميذ العلاَّمة ابن باديس -رحمهما الله- ومرآة جمعية علماء(٢- كذا قال صاحب المقال، والصواب: «العلماء».) المسلمين: «وقد قَبِل أسلافُنا تأويل الأشاعرة كما قبلوا تفويض السلف»(٣- «فتاوى الشيخ أحمد حمّاني» (2/597)، منشوارت وزارة الشؤون الدينية - الجزائر.)، اﻫ.
وقال أيضًا رحمه الله: «ومن تمعَّن في نصوص الشريعة جيِّدًا، ودرس حُجَجَ الفرق المتنازعة بإنصافٍ، حكم بأنَّ الحقَّ بجانب أهل السنَّة والجماعة، الذين منهم الأشاعرة»(٤- انظر: «فتاوى الشيخ أحمد حمّاني» (1/261)، منشوارت وزارة الشؤون الدينية - الجزائر.)، اﻫ.
وها هو تلميذ الجمعية البارُّ الشيخ حمَّاني يُقرِّر أنَّ:
أ- سلفنا قَبِلَ التأويل.
ب- سلفنا قَبِلَ التفويض،
ﺟ- الأشاعرة من أهل السنَّة والجماعة.
وكلٌّ من التأويل والتفويض رضي بهما كبار علماء الأمَّة؛ قال الإمام النووي في «المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجَّاج»:
«قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ» هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، سَبَقَ إِيضَاحُهمَا فِي كِتَابِ الإِيمَانِ وَمُخْتَصَرُهمَا أَنَّ أَحَدَهمَا وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ: أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ ظَاهِرَهَا الْمُتَعَارَفَ فِي حَقِّنَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ فِي تَأْوِيلِهَا مَعَ اِعْتِقَادِ تَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ، وَعَنِ الانْتِقَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَسَائِرِ سِمَاتِ الْخَلْقِ. وَالثَّانِي مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَاتٍ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ هُنَا عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهَا تُتَأَوَّلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا بِحَسَبِ مَوَاطِنِهَا. فَعَلَى هَذَا تَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدهمَا: تَأْوِيلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ مَعْنَاهُ: تَنْزِلُ رَحْمَتُهُ وَأَمْرُهُ وَمَلاَئِكَتُهُ كَمَا يُقَالُ: فَعَلَ السُّلْطَانُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ أَتْبَاعُهُ بِأَمْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الاسْتِعَارَةِ، وَمَعْنَاهُ: الإِقْبَالُ عَلَى الدَّاعِينَ بِالإِجَابَةِ وَاللُّطْفِ. وَاللهُ أَعْلَمُ»، اﻫ.
ومعلومٌ أنَّ التأويل والتفويض؛ عند السلفية المُعاصرة: (ضلال!) و(تعطيل!)
ومعلومٌ أيضًا أنَّ الأشاعرة من الفرق الضالَّة عند السلفية المُعاصرة! فتأمَّل!
ثالثًا: تلامذة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى يومنا هذا يُدرِّسون لطلبتهم العقيدة الأشعرية التي تلقَّوْها من شيوخهم؛ كما يفعل الفاضل الطاهر آيت علجت وغيره من إخوانه؛ وهم أعلم بمنهج الجمعية في العقيدة من غيرهم، مصداقه قوله تعالى [سورة فاطر: 14]:﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ وقوله أيضًا [سورة الفرقان: 59]: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ فكيف نعدل عن قول ابن الدار في الدار! فتأمَّل!
رابعًا: الشيخ ابن باديس -رحمه الله- أوَّل من طبع وقام بتحقيق كتاب «العواصم من القواصم» لقاضي قضاة المالكية الإمام ابن العربي الأشعري؛ فأثنى -ابن باديس- على الكتاب في مقالٍ حافلٍ وخصَّ بالذكر دَحْضَ صاحب الكتاب لعقائد الظاهرية والباطنية.
فإذا علمت أنَّ العلاَّمة ابن العربي أصَّل في كتابه هذا للعقيدة وفْق أصول الأشاعرة ونقض وفْق هذه الأصول مذاهب الظاهرية في العقيدة كالذين يحملون حديث النزول على ظاهره كما ذكر رحمه الله؛ ظهر جليًّا مذهب العلاَّمة ابن باديس رحمه الله.
قال الشيخ ابن باديس -رحمه الله- في التعريف بكتاب «العواصم من القواصم» للإمام ابن العربي [ابن باديس حياته وآثاره ؛ جمع و دراسة عمَّار طالبي الجزء 4 ص 129 طبعة دار الغرب الإسلامي]:
قد كتب هذا الإمام في علوم الإسلام الكتب الممتعة الواسعة وسار فيها كلِّها على خطَّة البحث والتحقيق والنظر والاستدلال، بعلمٍ صحيحٍ وفكرٍ ثاقبٍ وعارضةٍ واسعةٍ، وعبارةٍ راقيةٍ في البلاغة، وأسلوبٍ حلوٍ جذَّابٍ في التعبير.
وهذا كتاب (العواصم من القواصم) من آخر ما ألَّف قد سار فيه على تلك الخطَّة، وجمع فيه على صغر حجمه بين سائر كتبه العلمية فوائد جمَّة وعلومًا كثيرةً، فتعرَّض فيه لآراءٍ في العلم باطلةٍ، وعقائدَ في الدين ضالَّةٍ، وسمَّاها قواصم، وأعقبها بالآراء الصحيحة والعقائد الحقَّة المؤيَّدة بأدلَّتها النقلية، وبراهينها العقلية المزيِّفة لتلك الآراء والمبطلة لتلك العقائد وسمَّاها عواصم، فانتظم ذلك مناظرة السفسطائيين(٥- سقط من المقال قوله: «الفلاسفة» قبل «السفسطائيين».) والطبائعيين والإلاهيين، ومناظرة الباطنية والحلولية، وأرباب الإشارات من غلاة الصوفية وظاهرية العقائد، وظاهرية الأحكام، وغلاة الشيعة والفرقة المتعصِّبة للأشخاص باسم الاسلام، اﻫ.
ثم قال موضِّحًا طريقة الإمام ابن العربي -رحمه الله- في كتابه ذاك: [نفس المصدر 4 ص 129-130]:
سالكًا -ابن العربي- في سبيل الاحتجاج لعقائد الإسلام، وإبطال العقائد المحدثة عليه من المنتمين إليه السبيل الأقوم الأرشد، سبيل الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي أدلَّةٌ نقليةٌ في نصوصها عقليةٌ برهانيةٌ في مدلولها، وهذه الطريقة التي أرادها بقوله في هذا الكتاب: (وهكذا هي حقيقة الملَّة، من أراد أن يُدخل فيها داخلةً رُدَّ عنها إليها بأدلَّتها) وهي طريقة القرآن الذي اتَّضح به كمال الشريعة في عقائدها وأدلَّتها.
وإذ لم يكن بدٌّ من الخطإ لغير المعصوم فليس تفاضُل الناس في السلامة منه، وإنما تفاضُلهم في قلَّته وكثرة الصواب التي تغمره. وللإمام ابن العربي في كتابه هذا مما ذكرْناه في وصفه من كمالٍ ما يذهب بما قد يكون فيه من بعض خطإٍ يسيرٍ لا يسلم منه بشرٌ، وحسْبُ كتابه هذا أن يكون موردًا معينًا لطلاَّب العقائد الإسلامية الحقَّة بأدلَّتها القاطعة، وأصول الإسلام الخالية مما أحدثه المحدثون من خرابٍ وتدجيلٍ، وأن يكون أنموذجًا راقيًا في التحقيق في البحث، والتعمُّق في النظر، والاستقلال في الفكر، والرجوع إلى الدليل، والاعتضاد بأنظار الأئمَّة الكبار. وأن يكون صفحة تاريخٍ صادقٍ لِما كانت عليه الحالة الفكرية للمسلمين بالشرق والغرب في عصر المؤلِّف وهو القرن الخامس الهجري، وكفى بهذا كلِّه باعثًا لنا على طبعه ونشره وتعميم فائدته، اﻫ.
ومن رجع إلى الكتاب المذكور «العواصم من القواصم» يجدُ أنَّ العلاَّمة ابن العربي المالكي يقصد بظاهرية العقائد الذين يحملون المتشابه على ظاهره كحديث النزول وآيات الاستواء و... وغيرها، ومعلومٌ أنَّ هذا المذهب الذي نقضه ابن العربي هو مذهب السلفية المعاصرة، ومنه يُعلم منهج العلاَّمة ابن باديس في العقيدة الموافق لِما عليه جمهور علماء المسلمين، إذ لا يصحُّ شرعًا ولا عقلاً أن يُثنيَ الشيخ ابن باديس على عقائد (أهل البدع والضلال!) فتأمَّل!
خامسًا: الشيخ ابن باديس يتأوَّل في الأخبار الإضافية
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلاَثَةٌ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ».
قال الشيخ ابن باديس عند شرح الحديث [ابن باديس حياته وآثاره جمع ودراسة عمَّار الطالبي الجزء الثاني صفحة 293 طبعة دار الغرب الإسلامي]: فاستحيا الله منه: ترك عقابه ولم يحرمه من ثواب. أعرض: التفت إلى جهةٍ أخرى فذهب إليها. فأعرض الله عنه: حرمه من الثواب، اﻫ.
قال ربُّنا [الذاريات: 47]: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾، قال الشيخ ابن باديس [ابن باديس حياته وآثاره جمع ودراسة عمّار طالبي الجزء الثاني صفحة 90 طبعة دار الغرب الإسلامي]: بِأَيْدٍ: بقوَّةٍ، اﻫ.
تأويلاتٌ محضةٌ وفق أصول الأشاعرة. وهي عند السلفية المعاصرة من مذاهب (أهل البدع و المُعطِّلة!).
فتأمَّل!»، اﻫ.
هذا هو نصُّ المقال كاملاً، وقد حاول فيه صاحبه توضيح المنهج العقدي لعلماء الجمعية من تراثها -بزعمه- والناظر فيه يجد بعد تحليله وتمحيصه أنه يدور على مسألتين اثنتين:
الأولى: تتعلَّق بالأشعرية وأنَّ عقيدة الشيخ ابن باديس -رحمه الله- كانت موافِقةً لعقيدة الأشاعرة، ولم يكن الشيخ ضدَّها، وهكذا الجمعية، بل كانت تدرِّس التوحيد على أصول هذه العقيدة.
الثانية: تتعلَّق بالتصوُّف وأنَّ الشيخ ابن باديس -رحمه الله- لم يحاربْه، بل كان يدرِّسه للأجيال.
وقد أشار صاحبنا في أوَّل مقاله إلى هاتين المسألتين في إشكاليةٍ طرحها وهو يريد حلَّها، حيث قال: «كثُر الحديث مؤخَّرًا حول منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين في العقيدة على وجه الخصوص، ومثله معه موقف رموز الجمعية من بعض القضايا التي كثُر فيها الجدال بين المؤيِّدين والمُثبتين لها من تراث الجمعية -من ناحيةٍ-، وبين المُعارضين لها والمستبعدين لأنْ تكون هذه الأمور مذهبًا للجمعية -من جهةٍ أخرى-، فهل كان ابن باديس: ضدَّ الأشاعرة!؛ حارب التصوُّف حلوه ومرَّه!].
ثم قام وحشد لتعزيز دعواه جملةً من الشبه تتلخَّص فيما يلي:
الأولى: أنَّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقرِّر تدريس التوحيد وفق أصول الأشاعرة.
الثانية: أنَّ الشيخ حمَّاني الذي هو من تلاميذ ابن باديس -رحمه الله- ومرآة جمعية علماء المسلمين يُقرِّر في كلامٍ له أنَّ : أ- السلف قبلوا التأويل، ب- وقبلوا التفويض، ﺟ- الأشاعرة من أهل السنَّة والجماعة.
الثالثة: تلامذة الجمعية إلى اليوم يُدرِّسون طلبتهم العقيدة الأشعرية التي تلقَّوْها من شيوخهم كالفاضل آيت علجت.
الرابعة: ابن باديس أوَّل من طبع وحقَّق كتاب «العواصم والقواصم» لابن العربي المالكي الأشعري، وقد أثنى على الكتاب وعلى دحض صاحبه لعقائد الباطنية والعقائد الظاهرية، كالذين يحملون حديث النزول على ظاهره.
الخامسة: أنَّ الشيخ ابن باديس يتأوَّل في الأخبار الإضافية، ثم مثَّل بحديث أبي واقدٍ الليثي رضي الله عنه.
هذا مجمل ما جاء في المقال، ولقد سلكنا في الردِّ عليه مسلكين:
الأوَّل إجمالي: وتناولْنا فيه المسألتين اللَّتين عليهما بُني المقال، وهما: نسبة علماء الجمعية إلى الأشعرية والصوفية، وذلك بنقل ما هو صريح في نقضه من كلام علماء الجمعية مبتدئين بما يتعلَّق بالأشعرية، ومثنِّين بما يتعلَّق بالصوفية.
الثاني تفصيلي: وتناولْنا فيه الجواب عن الشبه التي أوردها واحدةً واحدةً.
وختمْنا البحث ببيان منهج أهل الأهواء في إرادة النيل من أهل السنَّة بتعييرهم ونبزهم بألقابٍ مشينةٍ.
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أنْ لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أمَّا بعد: فإنَّ أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
فقد كنَّا في السنوات الأخيرة نسمع كلامًا يثير العجب من بعض المتطاولين، يتجنَّوْنَ به على الشيخ المرَبِّي الإمام عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- بالطعن والتبديع والإقصاء قصْدَ إخراجه من دائرة أهل السنَّة والجماعة والعقيدة السلفية، فها نحن اليوم نسمع ما هو أعجب من ذلك حيث يزعم بعضهم في مقالٍ نُشر في بعض المنتديات أنَّ الشيخ -رحمه الله- وإخوانَه أعضاء الجمعية كانوا على عقيدةٍ أشعريةٍ وأصولٍ صوفيةٍ.
ومن وراء هذه الدعوة العريضة، يحصل لمدَّعيها ومَن على مذهبه الانتسابُ إلى علماء الجمعية، وما هذا إلاَّ ليتمسَّحوا بهم لتسويغ ما يسلكونه من طرائقهم البِدْعِية، وتزكية ما ينتمون إليه من مناهجهم الخَلَفِيَّة، فتكون بذلك حجَّةً لهم على أهل السنَّة، وبالتالي تُسَوَّق بضائِعُهم الزائفة بين العامَّة من غير نكيرٍ، مستغلِّين ما كان لعلماء الجمعية من أثرٍ حسنٍ في الدعوة والإصلاح، وشهرةٍ دعويةٍ تجديديةٍ في شمال إفريقيا، جعلتْها تحظى بعد الاستقلال بالقبول بين العامَّة والخاصَّة، وايمن اللهِ من يقرأ كلام علماء الجمعية أو شيئًا منه فقط مما يتعلَّق بمنهجهم وعقيدتهم من كتبهم ومقالاتهم -رحمهم الله- مباشرةً أو بواسطة ما كتبه بعض الباحثين ليعلمنَّ عِلْمَ اليقين زيف دعوى صاحب المقال وصدْقَ شعر أبي نوَّاسٍ عليه إذ قال:
قُلْ لِمَنْ يَدَّعِي سُلَيْمى سَفَاهًا * لَسْتَ مِنْهَا وَلاَ قُلاَمَةَ ظُفْرِ
إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ سُلَيْمَى كَوَاوٍ * أُلْحِقَتْ فِي الهِجَاءِ ظُلْمًا بِعَمْرِو
وقال:إِنَّمَا أَنْتَ مِنْ سُلَيْمَى كَوَاوٍ * أُلْحِقَتْ فِي الهِجَاءِ ظُلْمًا بِعَمْرِو
الحَمْدُ للهِ هَذَا أَعْجَبُ العَجَبِ * الهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ صَارَ فِي العَرَبِ
إِذَا نَسَبْتَ عَدِيًّا فِي بَنِي ثُعَلٍ * فَقَدِّمِ الدَّالَ قَبْلَ العَيْنِ فِي النَّسَبِ
فالقصد ظاهرٌ من نسبة صاحب المقال الجمعيةَ إلى ما سبق ذكرُه، وإلاَّ فما الذي جعله يتناسى الحرب التي كانت بين علماء الجمعية وبين أسلافه من شيوخ الصوفية، وما حمله على أن يكتم محكم ما خطَّته أناملُهم من صريح كلامهم في بيان صحيح اعتقادهم، مع كثرته في خطبهم ومقالاتهم التي منها: الانتساب إلى السلفية والدعوة إلى الكتاب والسنَّة على فهم السلف الصالح، وردُّ التصوُّف ومناهج المتكلِّمين(١- وسيأتي نقل شيءٍ منه موثَّقًا بالمرجع والصفحة.)، فقد ترك صاحب المقال كلَّ ما عليه من النصوص الصريحة والعبارات الفصيحة المفصَّلة والمحكمة، ثم جنح إلى شُبَهٍ مِنْ: قولٍ لهم مجملٍ، أو فعلٍ محتملٍ، أو خطإٍ صاحبُه فيه متأوِّلٌ، فجعله هو العمدةَ ليبنيَ عليه عقائدهم ويؤصِّلَ به مناهجهم على ما يحب هو ويرضى، دون أن يذكر في مقاله ولا كلمةً واحدةً -ولو عن واحدٍ من أعضائها الأصليِّين- فيها التبنِّي والانتسابُ الصريح إلى ما ألصقه بهم، وهذا وربِّ الكعبة لَمِنَ الظلم لعلماء الجمعية بإلزامهم ما لم يلتزموه -بل بما حاربوه طيلة حياتهم الدعوية-، والغشِّ والتدليس على العامَّة لينفروا من دعوة الحقِّ ويرجعوا إلى التصوُّف، ثم ليت صاحب المقال كان آخذًا بأسلوب الحوار العلميِّ في إثبات دعواه، بل على العكس من ذلك تمامًا فإنَّنا نجده يشحن مقاله هذا بعباراتٍ تهكُّميةٍ فيها لمزٌ ونبزٌ وانتقاصٌ لأصحاب العقيدة السلفية حيث قال: «وغيرها من الأصليَّات عند سلفيَّة اليوم ؟!»، «ومعلومٌ أنَّ الأشاعرة ليسوا من أهل السنَّة والجماعة عند السلفية المعاصرة»،«فهل جمعية العلماء المسلمين كانت تدرِّس الأجيال حملة دين الله إلينا «التصوُّفي الخرافي!» و«عقيدة التعطيل!»، و«كما تصفهما السلفية المعاصرة فتأمَّلْ!»، «ومعلومٌ أنَّ التأويل والتفويض؛ عند السلفية المُعاصرة: «ضلالٌ!!!» و«تعطيل!»، «ومعلومٌ -أيضًا- أنَّ الأشاعرة من الفرق الضالَّة عند السلفية المُعاصرة فتأمَّلْ!»، «ومعلومٌ أنَّ هذا المذهب الذي نقضه ابن العربي هو مذهب السلفية المعاصرة» و«تأويلات محضة وفق أصول الأشاعرة. وهي عند السلفية المعاصرة من مذاهب أهل البدع والمُعطِّلة»، فبكلامه هذا يجلو لنا غرضه المشار إليه آنفًا ويتَّضحُ، كما قال الشاعر أبو الفتح كشاجم:إِذَا نَسَبْتَ عَدِيًّا فِي بَنِي ثُعَلٍ * فَقَدِّمِ الدَّالَ قَبْلَ العَيْنِ فِي النَّسَبِ
وَيَأْبَى الَّذِي فِي القَلْبِ إِلاَّ تَبَيُّنًا * وَكُلُّ إِنَاءٍ بِالَّذِي فِيهِ يَنْضَحُ
وقبل الشروع في الردِّ عليه والجواب عن شبهه، يحسن بنا أن ننقل مقاله بعُجَره وبُجَره، ونعرضه كلَّه بشعره ونثره، حتى يتسنَّى للقارئ النبيل الاطِّلاعُ على كلِّ كلامه، والوقوفُ على جميع محتواه، فيسهل عليه حينئذٍ متابعة نقده وردِّه، إذ سنكتفي أثناء الردِّ بنقل مَقَاطِعَ منه فقط، فدونكم المقال المذكور:«بسم الله والصلاة والسلام على سيِّد خلق الله.
كثُر الحديث مؤخَّرًا حول منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في العقيدة على وجه الخصوص، ومثله معه موقف رموز الجمعية من بعض القضايا التي كثُر فيها الجدال بين المؤيِّدين والمُثبتين لها من تراث الجمعية من ناحيةٍ، وبين المُعارضين لها والمستبعدين لأنْ تكون هذه الأمور مذهبًا للجمعية من جهةٍ أخرى!
فهل كان ابن باديس: ضدَّ الأشاعرة!؛ حارب التصوُّف حلوه ومرَّه!؛ يُبدِّع المتوسِّلين بالنبي ويرميهم بالشرك!؛ يُبدِّع إحياء المولد النبوي الشريف!...وغيرها من الأصليات عند سلفية اليوم ؟!
ماذا نجدُ في تراث الجمعية:
أوَّلاً: جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقرِّر تدريس التوحيد وفق أصول الأشاعرة ومعلومٌ أنَّ الأشاعرة ليسوا من أهل السنَّة والجماعة عند السلفية المعاصرة!
وقد كان العلاَّمة ابن باديس أدرج ضمن قائمة العلوم التي كان يدرِّسها لطلبة العلم، المتون التي تحكي أصول الأشاعرة في العقائد وأصول التصوُّف الصحيح في السلوك؛ كمتن ابن عاشر المعروف ﺑ: "المرشد المعين على الضروريِّ من علوم الدين" للعلاَّمة عبد الواحد ابن عاشر الفاسي، الذي استفتح متنه بقوله:
فِي عَقْدِ الاشْعَرِي وَفِقْهِ مَالِكْ **** وَفِي طَرِيقَةِ الجُنَيْدِ السَّالِكْ
فهل جمعية العلماء المسلمين كانت تدرِّس الأجيال حملة دين الله إلينا (التصوُّفي الخرافي!!!) و(عقيدة التعطيل!) كما تصفهما السلفية المعاصرة! فتأمَّل!ثانيًا: قال الشيخ حمَّاني تلميذ العلاَّمة ابن باديس -رحمهما الله- ومرآة جمعية علماء(٢- كذا قال صاحب المقال، والصواب: «العلماء».) المسلمين: «وقد قَبِل أسلافُنا تأويل الأشاعرة كما قبلوا تفويض السلف»(٣- «فتاوى الشيخ أحمد حمّاني» (2/597)، منشوارت وزارة الشؤون الدينية - الجزائر.)، اﻫ.
وقال أيضًا رحمه الله: «ومن تمعَّن في نصوص الشريعة جيِّدًا، ودرس حُجَجَ الفرق المتنازعة بإنصافٍ، حكم بأنَّ الحقَّ بجانب أهل السنَّة والجماعة، الذين منهم الأشاعرة»(٤- انظر: «فتاوى الشيخ أحمد حمّاني» (1/261)، منشوارت وزارة الشؤون الدينية - الجزائر.)، اﻫ.
وها هو تلميذ الجمعية البارُّ الشيخ حمَّاني يُقرِّر أنَّ:
أ- سلفنا قَبِلَ التأويل.
ب- سلفنا قَبِلَ التفويض،
ﺟ- الأشاعرة من أهل السنَّة والجماعة.
وكلٌّ من التأويل والتفويض رضي بهما كبار علماء الأمَّة؛ قال الإمام النووي في «المنهاج شرح صحيح مسلم بن حجَّاج»:
«قَوْلُهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ» هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ، وَفِيهِ مَذْهَبَانِ مَشْهُورَانِ لِلْعُلَمَاءِ، سَبَقَ إِيضَاحُهمَا فِي كِتَابِ الإِيمَانِ وَمُخْتَصَرُهمَا أَنَّ أَحَدَهمَا وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ السَّلَفِ وَبَعْضِ الْمُتَكَلِّمِينَ: أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ عَلَى مَا يَلِيقُ بِاللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ ظَاهِرَهَا الْمُتَعَارَفَ فِي حَقِّنَا غَيْرُ مُرَادٍ، وَلاَ يَتَكَلَّمُ فِي تَأْوِيلِهَا مَعَ اِعْتِقَادِ تَنْزِيهِ اللهِ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِ، وَعَنِ الانْتِقَالِ وَالْحَرَكَاتِ وَسَائِرِ سِمَاتِ الْخَلْقِ. وَالثَّانِي مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَجَمَاعَاتٍ مِنَ السَّلَفِ وَهُوَ مَحْكِيٌّ هُنَا عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ: أَنَّهَا تُتَأَوَّلُ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا بِحَسَبِ مَوَاطِنِهَا. فَعَلَى هَذَا تَأَوَّلُوا هَذَا الْحَدِيثَ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدهمَا: تَأْوِيلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ مَعْنَاهُ: تَنْزِلُ رَحْمَتُهُ وَأَمْرُهُ وَمَلاَئِكَتُهُ كَمَا يُقَالُ: فَعَلَ السُّلْطَانُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ أَتْبَاعُهُ بِأَمْرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَلَى الاسْتِعَارَةِ، وَمَعْنَاهُ: الإِقْبَالُ عَلَى الدَّاعِينَ بِالإِجَابَةِ وَاللُّطْفِ. وَاللهُ أَعْلَمُ»، اﻫ.
ومعلومٌ أنَّ التأويل والتفويض؛ عند السلفية المُعاصرة: (ضلال!) و(تعطيل!)
ومعلومٌ أيضًا أنَّ الأشاعرة من الفرق الضالَّة عند السلفية المُعاصرة! فتأمَّل!
ثالثًا: تلامذة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى يومنا هذا يُدرِّسون لطلبتهم العقيدة الأشعرية التي تلقَّوْها من شيوخهم؛ كما يفعل الفاضل الطاهر آيت علجت وغيره من إخوانه؛ وهم أعلم بمنهج الجمعية في العقيدة من غيرهم، مصداقه قوله تعالى [سورة فاطر: 14]:﴿وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ وقوله أيضًا [سورة الفرقان: 59]: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ فكيف نعدل عن قول ابن الدار في الدار! فتأمَّل!
رابعًا: الشيخ ابن باديس -رحمه الله- أوَّل من طبع وقام بتحقيق كتاب «العواصم من القواصم» لقاضي قضاة المالكية الإمام ابن العربي الأشعري؛ فأثنى -ابن باديس- على الكتاب في مقالٍ حافلٍ وخصَّ بالذكر دَحْضَ صاحب الكتاب لعقائد الظاهرية والباطنية.
فإذا علمت أنَّ العلاَّمة ابن العربي أصَّل في كتابه هذا للعقيدة وفْق أصول الأشاعرة ونقض وفْق هذه الأصول مذاهب الظاهرية في العقيدة كالذين يحملون حديث النزول على ظاهره كما ذكر رحمه الله؛ ظهر جليًّا مذهب العلاَّمة ابن باديس رحمه الله.
قال الشيخ ابن باديس -رحمه الله- في التعريف بكتاب «العواصم من القواصم» للإمام ابن العربي [ابن باديس حياته وآثاره ؛ جمع و دراسة عمَّار طالبي الجزء 4 ص 129 طبعة دار الغرب الإسلامي]:
قد كتب هذا الإمام في علوم الإسلام الكتب الممتعة الواسعة وسار فيها كلِّها على خطَّة البحث والتحقيق والنظر والاستدلال، بعلمٍ صحيحٍ وفكرٍ ثاقبٍ وعارضةٍ واسعةٍ، وعبارةٍ راقيةٍ في البلاغة، وأسلوبٍ حلوٍ جذَّابٍ في التعبير.
وهذا كتاب (العواصم من القواصم) من آخر ما ألَّف قد سار فيه على تلك الخطَّة، وجمع فيه على صغر حجمه بين سائر كتبه العلمية فوائد جمَّة وعلومًا كثيرةً، فتعرَّض فيه لآراءٍ في العلم باطلةٍ، وعقائدَ في الدين ضالَّةٍ، وسمَّاها قواصم، وأعقبها بالآراء الصحيحة والعقائد الحقَّة المؤيَّدة بأدلَّتها النقلية، وبراهينها العقلية المزيِّفة لتلك الآراء والمبطلة لتلك العقائد وسمَّاها عواصم، فانتظم ذلك مناظرة السفسطائيين(٥- سقط من المقال قوله: «الفلاسفة» قبل «السفسطائيين».) والطبائعيين والإلاهيين، ومناظرة الباطنية والحلولية، وأرباب الإشارات من غلاة الصوفية وظاهرية العقائد، وظاهرية الأحكام، وغلاة الشيعة والفرقة المتعصِّبة للأشخاص باسم الاسلام، اﻫ.
ثم قال موضِّحًا طريقة الإمام ابن العربي -رحمه الله- في كتابه ذاك: [نفس المصدر 4 ص 129-130]:
سالكًا -ابن العربي- في سبيل الاحتجاج لعقائد الإسلام، وإبطال العقائد المحدثة عليه من المنتمين إليه السبيل الأقوم الأرشد، سبيل الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي هي أدلَّةٌ نقليةٌ في نصوصها عقليةٌ برهانيةٌ في مدلولها، وهذه الطريقة التي أرادها بقوله في هذا الكتاب: (وهكذا هي حقيقة الملَّة، من أراد أن يُدخل فيها داخلةً رُدَّ عنها إليها بأدلَّتها) وهي طريقة القرآن الذي اتَّضح به كمال الشريعة في عقائدها وأدلَّتها.
وإذ لم يكن بدٌّ من الخطإ لغير المعصوم فليس تفاضُل الناس في السلامة منه، وإنما تفاضُلهم في قلَّته وكثرة الصواب التي تغمره. وللإمام ابن العربي في كتابه هذا مما ذكرْناه في وصفه من كمالٍ ما يذهب بما قد يكون فيه من بعض خطإٍ يسيرٍ لا يسلم منه بشرٌ، وحسْبُ كتابه هذا أن يكون موردًا معينًا لطلاَّب العقائد الإسلامية الحقَّة بأدلَّتها القاطعة، وأصول الإسلام الخالية مما أحدثه المحدثون من خرابٍ وتدجيلٍ، وأن يكون أنموذجًا راقيًا في التحقيق في البحث، والتعمُّق في النظر، والاستقلال في الفكر، والرجوع إلى الدليل، والاعتضاد بأنظار الأئمَّة الكبار. وأن يكون صفحة تاريخٍ صادقٍ لِما كانت عليه الحالة الفكرية للمسلمين بالشرق والغرب في عصر المؤلِّف وهو القرن الخامس الهجري، وكفى بهذا كلِّه باعثًا لنا على طبعه ونشره وتعميم فائدته، اﻫ.
ومن رجع إلى الكتاب المذكور «العواصم من القواصم» يجدُ أنَّ العلاَّمة ابن العربي المالكي يقصد بظاهرية العقائد الذين يحملون المتشابه على ظاهره كحديث النزول وآيات الاستواء و... وغيرها، ومعلومٌ أنَّ هذا المذهب الذي نقضه ابن العربي هو مذهب السلفية المعاصرة، ومنه يُعلم منهج العلاَّمة ابن باديس في العقيدة الموافق لِما عليه جمهور علماء المسلمين، إذ لا يصحُّ شرعًا ولا عقلاً أن يُثنيَ الشيخ ابن باديس على عقائد (أهل البدع والضلال!) فتأمَّل!
خامسًا: الشيخ ابن باديس يتأوَّل في الأخبار الإضافية
عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلاَثَةٌ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَلَمَّا وَقَفَا عَلَى مَجْلِسِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَا، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللهِ فَآوَاهُ اللهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللهُ عَنْهُ».
قال الشيخ ابن باديس عند شرح الحديث [ابن باديس حياته وآثاره جمع ودراسة عمَّار الطالبي الجزء الثاني صفحة 293 طبعة دار الغرب الإسلامي]: فاستحيا الله منه: ترك عقابه ولم يحرمه من ثواب. أعرض: التفت إلى جهةٍ أخرى فذهب إليها. فأعرض الله عنه: حرمه من الثواب، اﻫ.
قال ربُّنا [الذاريات: 47]: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾، قال الشيخ ابن باديس [ابن باديس حياته وآثاره جمع ودراسة عمّار طالبي الجزء الثاني صفحة 90 طبعة دار الغرب الإسلامي]: بِأَيْدٍ: بقوَّةٍ، اﻫ.
تأويلاتٌ محضةٌ وفق أصول الأشاعرة. وهي عند السلفية المعاصرة من مذاهب (أهل البدع و المُعطِّلة!).
فتأمَّل!»، اﻫ.
هذا هو نصُّ المقال كاملاً، وقد حاول فيه صاحبه توضيح المنهج العقدي لعلماء الجمعية من تراثها -بزعمه- والناظر فيه يجد بعد تحليله وتمحيصه أنه يدور على مسألتين اثنتين:
الأولى: تتعلَّق بالأشعرية وأنَّ عقيدة الشيخ ابن باديس -رحمه الله- كانت موافِقةً لعقيدة الأشاعرة، ولم يكن الشيخ ضدَّها، وهكذا الجمعية، بل كانت تدرِّس التوحيد على أصول هذه العقيدة.
الثانية: تتعلَّق بالتصوُّف وأنَّ الشيخ ابن باديس -رحمه الله- لم يحاربْه، بل كان يدرِّسه للأجيال.
وقد أشار صاحبنا في أوَّل مقاله إلى هاتين المسألتين في إشكاليةٍ طرحها وهو يريد حلَّها، حيث قال: «كثُر الحديث مؤخَّرًا حول منهج جمعية العلماء المسلمين الجزائريِّين في العقيدة على وجه الخصوص، ومثله معه موقف رموز الجمعية من بعض القضايا التي كثُر فيها الجدال بين المؤيِّدين والمُثبتين لها من تراث الجمعية -من ناحيةٍ-، وبين المُعارضين لها والمستبعدين لأنْ تكون هذه الأمور مذهبًا للجمعية -من جهةٍ أخرى-، فهل كان ابن باديس: ضدَّ الأشاعرة!؛ حارب التصوُّف حلوه ومرَّه!].
ثم قام وحشد لتعزيز دعواه جملةً من الشبه تتلخَّص فيما يلي:
الأولى: أنَّ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تقرِّر تدريس التوحيد وفق أصول الأشاعرة.
الثانية: أنَّ الشيخ حمَّاني الذي هو من تلاميذ ابن باديس -رحمه الله- ومرآة جمعية علماء المسلمين يُقرِّر في كلامٍ له أنَّ : أ- السلف قبلوا التأويل، ب- وقبلوا التفويض، ﺟ- الأشاعرة من أهل السنَّة والجماعة.
الثالثة: تلامذة الجمعية إلى اليوم يُدرِّسون طلبتهم العقيدة الأشعرية التي تلقَّوْها من شيوخهم كالفاضل آيت علجت.
الرابعة: ابن باديس أوَّل من طبع وحقَّق كتاب «العواصم والقواصم» لابن العربي المالكي الأشعري، وقد أثنى على الكتاب وعلى دحض صاحبه لعقائد الباطنية والعقائد الظاهرية، كالذين يحملون حديث النزول على ظاهره.
الخامسة: أنَّ الشيخ ابن باديس يتأوَّل في الأخبار الإضافية، ثم مثَّل بحديث أبي واقدٍ الليثي رضي الله عنه.
هذا مجمل ما جاء في المقال، ولقد سلكنا في الردِّ عليه مسلكين:
الأوَّل إجمالي: وتناولْنا فيه المسألتين اللَّتين عليهما بُني المقال، وهما: نسبة علماء الجمعية إلى الأشعرية والصوفية، وذلك بنقل ما هو صريح في نقضه من كلام علماء الجمعية مبتدئين بما يتعلَّق بالأشعرية، ومثنِّين بما يتعلَّق بالصوفية.
الثاني تفصيلي: وتناولْنا فيه الجواب عن الشبه التي أوردها واحدةً واحدةً.
وختمْنا البحث ببيان منهج أهل الأهواء في إرادة النيل من أهل السنَّة بتعييرهم ونبزهم بألقابٍ مشينةٍ.